35/01/30
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الثالث
كان الكلام في تحديد مفاد أخبار(من بلغ) المتقدّمة، وهذه هي الجهة الأولى التي يقع الكلام فيها من هذا البحث، قلنا أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) في المصباح ذكر احتمالات ثلاثة: [1]
الاحتمال الأوّل: أنْ تكون الأخبار إرشادية، أي إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد والاحتياط.
الاحتمال الثاني: أنْ يكون مفادها استحباب العمل استحباباً نفسياً واقعياً، لكن بعنوان ثانوي، وهو بعنوان(البلوغ) العمل بعنوانه الأولي ليس مستحبّاً، لكن عندما يتعنون بعنوان(البلوغ) يكون مستحبّاً استحباباً واقعياً ثانوياً كما قد تتّصف بعض الأفعال التي لا تكون واجبة بعنوانها الأوّلي، لكنّها قد تتّصف بالوجوب بالعنوان الثانوي، كما إذا أمر بالفعل من تجب طاعته.
الاحتمال الثالث: أنْ يكون مفادها جعل الحجّيّة للخبر الضعيف في باب المستحبات.
ثمّ ذكر بأنّ المناسب لقاعدة التسامح في أدلّة السنن هو الاحتمال الثالث، يعني جعل الحجّية للخبر الضعيف. وبعبارة أخرى: اسقاط شرائط الحجّية في باب المستحبات، هذا الذي يناسب عنوان القاعدة الذي هو التسامح في أدلّة السنن، السنن والأحكام غير الإلزامية نتسامح في أدلّتها، فلا يُشترط فيها الشرائط التي تشترط في الأحكام الإلزامية. لكنّه استبعد هذا الاحتمال باعتبار أنّه لا يناسب لسان الحجّية، أي أنّ لسان الأخبار لا يناسب لسان الحجّية؛ إذ أنّ لسان الحجّية هو لسان الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، فلا يناسبه التصريح بفرض أنّ هذا قد يكون مخالفاً للواقع، هذا المطلب ذكره المحقق النائيني أيضاً[2] قبل السيد الخوئي(قدّس سرّهما)، ذكره بعد أنْ اختار الاحتمال الثالث في أحدى دورتيه، لكن رجع في الدورة الثانية واستشكل فيه بهذا الإشكال، وأنّ الاحتمال الثالث لا يناسب لسان الأخبار؛ لأنّ لسان الأخبار يقول(كان له ذلك وإنْ لم يقله) هذا التصريح بأنّه ثابت حتّى إذا لم يكن مطابقاً للواقع لسانه لا يناسب لسان جعل الحجّية، فلسان جعل الحجّية لسان إحراز الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، فلا يناسب هذا اللّسان، فلذلك يكون حمل الأخبار عليه خلافاً لظاهر الأخبار، أو لا أقل ـــــ كما يقول السيد الخوئي(قدّس سرّه) ــــــ من أنْ الأخبار لا تدل عليه، لا أقل من أنْ نقول أنّ الأخبار ليس فيها دلالة على هذا الاحتمال الثالث.
وهكذا الأمر في الاحتمال الثاني وهو الاستحباب النفسي الثانوي للعمل بعنوان البلوغ، مثل هذا الاحتمال الثاني أيضاً لا نلتزم به، ولا دلالة للأخبار على أنّ البلوغ ممّا يوجب حدوث مصلحة في العمل يصير بها العمل مستحبّاً كما هو مقتضى الاحتمال الثاني، حيث كان الاحتمال الثاني يقول بمجرّد أنْ يتعنون العمل بعنوان البلوغ؛ حينئذٍ تحدث فيه مصلحة، الاستحباب استحباب واقعي، لكنه ثانوي، بمعنى أنّه ثابت للفعل ليس بعنوانه الأوّلي، وإنّما بعنوانه الثانوي، هو استحباب واقعي ينشأ من مصلحة في العمل، هذه المصلحة ناشئة من تعنونه بعنوان البلوغ. قال(قدّس سرّه):(فالمتعيّن هو الاحتمال الأوّل، فأنّ مفادها مجرّد الإخبار عن فضل الله(سبحانه وتعالى) وأنّه سبحانه بفضله ورحمته يعطي الثواب الذي بلغ العامل، وإنْ كان غير مطابق للواقع، فهي ــــــ كما ترى ــــــ غير ناظرة إلى العمل وأنّه يصير مستحبّاً لأجل طرو عنوان البلوغ، ولا إلى إسقاط شرائط حجّية الخبر في باب المستحبّات).[3] يعني أنْ نحمل الأخبار على الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط وحسن الانقياد.
ثمّ أشار(قدّس سرّه) إلى أنّه يترتّب على ذلك ـــــ على اختيار الاحتمال الأوّل ونفي الاحتمال الثاني والثالث ـــــ انتفاء جملة من المباحث التي ذكروها؛ لأنّ هذه المباحث كلّها مبتنية على الاحتمالين الثاني والثالث، فإذا نفينا هذين الاحتمالين، فلا داعي للبحث في هذه المباحث، قال(قدّس سرّه):(فتحصّل أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ممّا لا أساس لها، وبما ذكرناه من عدم دلالة هذه الأخبار على الاستحباب الشرعي سقط كثير من المباحث التي تعرّضوا لها في المقام): [4]
(منها) أنّ المستفاد من الأخبار هل هو استحباب ذات العمل، أو استحبابه إذا أتى به بعنوان الرجاء، واضح أنّ هذا البحث يلغو بناءً على ما ذكره؛ لأنّه متفرّع على الاحتمال الثالث، متفرّع على الالتزام بأنّ الأخبار تدلّ على استحباب العمل، فيقع الكلام في أنّ هذا الاستحباب ثابت لذات العمل، أو ثابت للعمل المأتي به رجاءً، ولغرض التماس ذلك الثواب.
و(منها) ظهور ثمرة الاختلاف بين الاحتمالين الأخيرين، أنّه ما هي الثمرة التي تترتّب على الاحتمالين الأخيرين، الثاني والثالث، ذكر أنّ الثمرة هي إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب شيءٍ ثبتت حرمته بإطلاق، أو عموم، قال أنّ الثمرة في الاحتمالين الثاني والثالث تظهر في هذا المورد، وذلك باعتبار أنّه على الاحتمال الثالث الخبر الضعيف يكون مخصصاً للعموم، أو مقيّداً للإطلاق؛ لأنّه حجّة، فأنّ الخبر الضعيف في المستحبات حجّة، وحيث أنّه أخصّ مطلقاً من العموم، وأخصّ مطلقاً من المطلق؛ فحينئذٍ يقيّد المطلق، ويخصص العام، فنرفع اليد عن العام الدال على حرمة هذا الشيء بالخبر الضعيف الدال على استحبابه، ونلتزم باستحبابه. هذا على الاحتمال الثالث. وأمّا على الاحتمال الثاني، فهو يثبّت الاستحباب بعنوان البلوغ؛ فحينئذٍ يقع التزاحم بين الحكم التحريمي والحكم الاستحبابي، حكمان شرعيان يقع التزاحم بينهما؛ حينئذٍ النتيجة واضحة، حيث نقدّم الحكم الإلزامي التحريمي؛ لأنّ الحكم الاستحبابي لا يزاحم الحكم الإلزامي التحريمي، لكن لا يدخل في باب التخصيص والإطلاق وأمثاله، فلا نخصص العام، وإنّما هذا يدلّ على حرمة هذا، ودليل آخر يُثبت لنا استحباب هذا وليس حجّية الخبر الضعيف، وإنّما هو بعنوان البلوغ يصير مستحباً، فالعمل بمقتضى أخبار(من بلغ) مستحب، ومقتضى ذاك الإطلاق، أو العموم هو الحرام، فيتزاحمان، فيُقدم التحريم.
هذا أيضاً نقول لا داعي لبحثه؛ لأنّه مبتنٍ على بيان الثمرة للقول الثاني والثالث، والمفروض أنّ كلاً منهما غير ثابت، وإنّما أخبار(من بلغ) إنّما تدلّ على الاحتمال الأوّل.
و(منها) البحث عن معارضة أخبار(من بلغ) لما دلّ على اعتبار العدالة والوثاقة في حجّية الخبر، وقالوا أنّ هذه الأخبار تتقدّم على ما دلّ على اعتبار العدالة والوثاقة في حجّية الخبر بالأخصّية. هذا البحث أيضاً متفرّع على الاحتمال الثالث، هذا التقديم إنّما يمكن تصوّره إذا التزمنا بأنّ مفاد الأخبار هو جعل الحجّية للخبر الضعيف في باب المستحبات، تلك الأخبار تقول أنّه يُشترَط العدالة والوثاقة في حجّية الخبر، يخرج عن هذه الأخبار في باب المستحبّات بالخصوص؛ لأنّ أخبار(من بلغ) جعلت الحجّية للخبر الضعيف، وإنْ لم يكن عادلاً، وإنْ لم يكن ثقة، جعلت له الحجّية في باب المستحبات، فيُقدّم علبها بالأخصّية. هذا البحث أيضاً يلغو؛ لأنّه مبني على الاحتمال الثالث.
و(منها) البحث عن ثبوت الاستحباب بفتوى الفقيه، هل يثبت الاستحباب بفتوى الفقيه ؟ باعتبار صدق البلوغ؛ إذ لا يشترط في تحقق عنوان(البلوغ) أنْ يكون برواية، وإنّما يمكن أنْ يتحققّ بفتوى فقيه ، فلو افتى فقيه باستحباب فعل أيضاً يصدق أنّه بلغني ثواب عليه. هذا البحث أيضاً يلغو؛ لأنّه متفرّع على الاحتمال الثاني، متفرّع على الالتزام بأنّ أخبار(من بلغ) تدلّ على الاستحباب بعنوان البلوغ، فنتحدّث عن أنّ هذا هل يشمل فتوى الفقيه حتّى يكون الفعل الذي افتى الفقيه باستحبابه مستحبّاً بمجرّد البلوغ، أو لا ؟ هذا هو الموجود في المصباح.
لكن في التقريرات الأخرى للسيد الخوئي(قدّس سرّه) وهي(الدراسات) [5]جعل الاحتمال الثاني ليس ثبوت الاستحباب بعنوان(البلوغ)، وإنّما ثبوت الثواب على العمل بعنوان(البلوغ)، يقول: أنّ مفاد الأخبار هو أنّه إذا بلغك ثواب على عمل، فإذا عملته برجاء ذلك الثواب، فأنّه يحدث، وليس الاستحباب، وإنّما ذلك الثواب يثبت، فمفادها هو جعل الثواب، وإعطاء الثواب للمكلّف الذي بلغه ثواب على عمل وعمله لالتماس ذلك الثواب، وإنْ كان ذلك الثواب غير مطابق للواقع، لكن الشارع يُعطي ذلك الثواب للمكلّف. ثبوت الثواب على العمل بالعنوان الثانوي الطارئ، يعني عنوان البلوغ، وليس ثبوت الاستحباب النفسي كما هو الحال في الاحتمال الثاني في المصباح. ثمّ التزم في الدراسات بتعيّن هذا الاحتمال الثاني[6] في قبال الاحتمالين الأوّل والثالث، بينما هناك التزم بتعيّن الاحتمال الأوّل، يعني حمل الأخبار على الإرشاد، وهنا التزم بتعيّن الاحتمال الثاني ونفى الاحتمال الأوّل وهو الإرشاد، باعتبار أنّ الأخبار واردة في مقام الترغيب والحث على العمل لا في مقام الإرشاد، وإنّما هو يحثّ على العمل، لا أنّه يرشد إلى ما حكم العقل به من حسن الانقياد، فنفى الاحتمال الأوّل بذلك، والاحتمال الثالث أيضاً منفي بما تقدّم من أنّ لسان الأخبار لا يناسب لسان جعل الحجّية، وعيّن الثاني، لكنّه طرح الثاني في البداية بهذا الشكل: أنّه يستفاد من الأخبار جعل ثواب لهذا الشخص الذي بلغه ثواب على عمل، فعمله رجاء ذلك الثواب، مفاد الأخبار أنّه يعطى له ذلك الثواب، وإنْ كان ما بلغه غير مطابق للواقع.
ثمّ ذكر(قدّس سرّه) في مقام الاستدلال على الاحتمال الثاني الذي اختاره هنا أنّ هذا هو الذي يساعده الظهور العرفي والذوق الطبعي، قال(قدّس سرّه):(فالمتعيّن هو الاحتمال الثالث، وهو الذي يساعده الظهور العرفي والذوق الطبعي، فأنّ المناسب لعظمة الشخص أنّه إذا أسند إليه الوعد بشيء أنْ يُنجّزه، وإنْ لم يكن الإسناد مطابقاً للواقع).[7] هذا معنى الاحتمال الثاني الذي ذكره في الدراسات، أنّ الله(سبحانه وتعالى) يعطي ذلك الثواب وإنْ لم يكن ثابتاً. ومن هنا نستطيع أنْ نقول إلى هنا يظهر أنّ هناك فرقاً بين الاحتمال الثالث هنا وبين الاحتمال الثاني هناك، فالاحتمال الثاني هناك هو جعل استحباب واقعي ثانوي نفسي للعمل بعنوان البلوغ، بينما هنا مجرّد أشبه بإعطاء ثواب، والتزام بإعطاء ثواب في هذه الحالة لا أكثر من هذا، والدليل الذي ذكره أيضاً يؤيّد هذا الفهم، يؤيّد الفرق بين الاحتمال الثالث هنا وبين الاحتمال الثاني هناك، الدليل هنا هو مسألة أنّ المناسب لعظمة الشارع أنّه إذا أُسند إليه وعد أنْ يُنجّز هذا الوعد، القضية مرتبطة بالثواب، إذا بلغ شخصاً ثواب من الله(سبحانه وتعالى) فهو يعطي ذلك الثواب، لكن في الدراسات نفسها بعد أنْ طرح الثاني بهذا الشكل، عباراته الأخرى واضحة في أنّ المقصود من الاحتمال الثاني هو الاستحباب، وعبارته صريحة، قال:(وكيف كان فالظاهر من هذه الروايات هو استحباب العمل بمجرد بلوغ الثواب عليه)،[8] وبعد ذلك قال:(واما على ما اخترناه من ثبوت الاستحباب الشرعي بالبلوغ فيقع التزاحم بين الحكم الاستحبابي و التحريمي). بعد ذلك عقد جهة مستقلّة تكلّم فيها عن البحث الأوّل الذي قال عنه في المصباح بأنّه يلغو هذا البحث، بينما في الدراسات عقد جهة مستقلّة تكلّم فيها عن ذلك البحث الذي هو أنّ الاستحباب هل يثبت لذات العمل، أو يثبت للعمل إذا جيء به رجاء ذلك الثواب، وهنا عقد جهة مستقلّة تكلّم فيها عن هذه الجهة، وهذا يعني أنّه يختار القول بالاستحباب للعمل، غاية الأمر تكلّم في أنّ الاستحباب يثبت لذات العمل، أو يثبت للعمل المقيّد بما إذا جيء به بعنوان الالتماس والرجاء وأمثاله. وهذا يؤيّد أنّ المقصود بالاحتمال الثالث في الدراسات هو الاستحباب، ثمّ هناك أيضاً هو نفس المعنى السابق، لعلّه ذكر الثواب هنا في الدراسات لعلّه تقيّداً بأخبار(من بلغ)، فأنّ أخبار(من بلغ) لا تذكر الاستحباب وإنّما تذكر الثواب، ومن جهة أخرى لعلّه من باب أنّه يرى الملازمة بين ترتّب الثواب وبين الاستحباب، أفرض أنّ الروايات تحدّثت عن ترتب ثواب، لكن هذا ترتّب الثواب يكشف عن مطلوبية للعمل من قبل الشرع وهذا هو معنى الاستحباب، فتكون هناك ملازمة بين ترتّب الثواب وبين الاستحباب.
إذن: لا فرق بين أنْ نقول أنّ أخبار(من بلغ) تثبت الاستحباب، وبين أنْ نقول أنّها تثبت إعطاء الثواب الذي بلغه كما بلغه في هذه الحالة؛ لأنّ ترتب الثواب على العمل الذي بلغه وجاء به برجاء ذلك الثواب، يستلزم افتراض استحباب العمل شرعاً، فيثبت استحباب العمل شرعاً باعتبار هذه الملازمة، لعلّه من هذا الباب.
نعم، يبقى هناك تنافٍ بين ما ذكره في الدراسات وبين ما ذكره في المصباح، حيث قال في المصباح أنّ هذا البحث يلغو، وأنّه لا يرى الاستحباب، قال أنّ هذا البحث أنّه هل يثبت الاستحباب لذات العمل، أو للعمل بقيد الإتيان به رجاءً، قال يلغوا هذا البحث هناك، بينما هنا عقد جهة مستقلة تكلّم فيها عن ذلك، وهذا معناه أنّه يرى الاستحباب ويقول به. هذا مضافاً إلى أنّه في المصباح عيّن الاحتمال الأوّل وهو حمل الأخبار على الإرشاد، بينما هنا لغى الاحتمال الأوّل وناقش فيه بأنّه خلاف ظاهر الأخبار؛ لأنّ ظاهر الأخبار أنّها في مقام الحثّ والترغيب من قبل الشارع لا في مقام الإرشاد. دعوى الملازمة بين ترّتب الثواب والاستحباب هذه في المقام ليست واضحة، وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً، وأنّه هل توجد ملازمة بين ترتّب الثواب وبين الاستحباب، لا أقل في خصوص المقام ؟ سيأتي الحديث عنها مفصلاً إنْ شاء الله تعالى. هذا ما نُقل عن السيد الخوئي(قدّس سرّه) في تقريره.
السيد الشهيد الصدر(رضوان الله عليه) ذكر احتمالات أخرى ثبوتية غير الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة: [9]
الاحتمال الرابع: أنْ يكون مفاد أخبار(من بلغ) مجرّد الوعد لمصلحة في نفس الوعد بإعطاء ذلك الثواب الذي بلغ هذا المكلّف، وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء بلا إشكال، فالشارع كأنّه يعد من بلغه ثواب على عمل بإعطائه ذلك الثواب إذا عمله برجاء ذلك الثواب لمصلحةٍ في نفس الوعد من دون أنْ تكون هناك مصلحة في الفعل، ومن دون افتراض جعل حكم من قبل الشارع، ولا تحدث مصلحة في العمل، وإنّما هناك مصلحة في نفس الوعد، وأنّ هذا الثواب الذي أعدك أنا سوف أعطيه لك بالمقدار الذي بلغك، مجرّد وعد إلهي من قبل المولى بإعطاء هذا الثواب بهذه الشروط، إذا بلغه ثواب على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب، الله سبحانه يعده بإعطائه ذلك الثواب.
الاحتمال الخامس: أنْ يكون مفادها جعل الاحتياط الاستحبابي في موارد بلوغ الثواب، مفادها احتياط لكن في المستحبّات، الغرض منه التحفّظ على الملاكات الواقعية الراجحة الموجودة في المستحبات الواقعية في موارد التزاحم الحفظي، على أنّه هو يرى أنّ الأحكام الظاهرية كلّها تعبّر عن ترجيح ملاكات واقعية متزاحمة تزاحماً حفظياً في مقام حفظها عندما تتزاحم، الأحكام الظاهرية هي تعبير عن اهتمام الشارع ببعض الملاكات لأهميتها وترجيحها على ملاكات أخرى تزاحمها، مفاد أخبار(من بلغ) احتياط استحبابي، احتياط في باب المستحبّات لإدراك المستحبّات الواقعية وملاكاتها الواقعية، يقول له إذا بلغك ثواب على عمل، فاحتط وأتي بالعمل حتّى تدرك ملاكات المستحبات الواقعية إذا كان الشارع يهتمّ بها.
هذه عمدة المحتملات الثبوتية في أخبار(من بلغ). الفوارق بين هذه الاحتمالات واضحة من خلال ما تقدّم، الفرق بين الاحتمال الأوّل وبين باقي الاحتمالات واضح؛ إذ أنّ الاحتمال الأوّل إرشاد صرِف، وليس فيه إعمال مولوية، يعني الشارع لم يعمل مولويته في هذه الأخبار إطلاقاً، وإنّما هو إرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط، بينما في سائر الاحتمالات الأخرى هناك إعمال مولوية، جعل حجّية، وجعل استحباب، ووعد إلهي بإعطاء الثواب مثلاً، جعل احتياط في باب المستحبّات.
كان الكلام في تحديد مفاد أخبار(من بلغ) المتقدّمة، وهذه هي الجهة الأولى التي يقع الكلام فيها من هذا البحث، قلنا أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) في المصباح ذكر احتمالات ثلاثة: [1]
الاحتمال الأوّل: أنْ تكون الأخبار إرشادية، أي إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد والاحتياط.
الاحتمال الثاني: أنْ يكون مفادها استحباب العمل استحباباً نفسياً واقعياً، لكن بعنوان ثانوي، وهو بعنوان(البلوغ) العمل بعنوانه الأولي ليس مستحبّاً، لكن عندما يتعنون بعنوان(البلوغ) يكون مستحبّاً استحباباً واقعياً ثانوياً كما قد تتّصف بعض الأفعال التي لا تكون واجبة بعنوانها الأوّلي، لكنّها قد تتّصف بالوجوب بالعنوان الثانوي، كما إذا أمر بالفعل من تجب طاعته.
الاحتمال الثالث: أنْ يكون مفادها جعل الحجّيّة للخبر الضعيف في باب المستحبات.
ثمّ ذكر بأنّ المناسب لقاعدة التسامح في أدلّة السنن هو الاحتمال الثالث، يعني جعل الحجّية للخبر الضعيف. وبعبارة أخرى: اسقاط شرائط الحجّية في باب المستحبات، هذا الذي يناسب عنوان القاعدة الذي هو التسامح في أدلّة السنن، السنن والأحكام غير الإلزامية نتسامح في أدلّتها، فلا يُشترط فيها الشرائط التي تشترط في الأحكام الإلزامية. لكنّه استبعد هذا الاحتمال باعتبار أنّه لا يناسب لسان الحجّية، أي أنّ لسان الأخبار لا يناسب لسان الحجّية؛ إذ أنّ لسان الحجّية هو لسان الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، فلا يناسبه التصريح بفرض أنّ هذا قد يكون مخالفاً للواقع، هذا المطلب ذكره المحقق النائيني أيضاً[2] قبل السيد الخوئي(قدّس سرّهما)، ذكره بعد أنْ اختار الاحتمال الثالث في أحدى دورتيه، لكن رجع في الدورة الثانية واستشكل فيه بهذا الإشكال، وأنّ الاحتمال الثالث لا يناسب لسان الأخبار؛ لأنّ لسان الأخبار يقول(كان له ذلك وإنْ لم يقله) هذا التصريح بأنّه ثابت حتّى إذا لم يكن مطابقاً للواقع لسانه لا يناسب لسان جعل الحجّية، فلسان جعل الحجّية لسان إحراز الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، فلا يناسب هذا اللّسان، فلذلك يكون حمل الأخبار عليه خلافاً لظاهر الأخبار، أو لا أقل ـــــ كما يقول السيد الخوئي(قدّس سرّه) ــــــ من أنْ الأخبار لا تدل عليه، لا أقل من أنْ نقول أنّ الأخبار ليس فيها دلالة على هذا الاحتمال الثالث.
وهكذا الأمر في الاحتمال الثاني وهو الاستحباب النفسي الثانوي للعمل بعنوان البلوغ، مثل هذا الاحتمال الثاني أيضاً لا نلتزم به، ولا دلالة للأخبار على أنّ البلوغ ممّا يوجب حدوث مصلحة في العمل يصير بها العمل مستحبّاً كما هو مقتضى الاحتمال الثاني، حيث كان الاحتمال الثاني يقول بمجرّد أنْ يتعنون العمل بعنوان البلوغ؛ حينئذٍ تحدث فيه مصلحة، الاستحباب استحباب واقعي، لكنه ثانوي، بمعنى أنّه ثابت للفعل ليس بعنوانه الأوّلي، وإنّما بعنوانه الثانوي، هو استحباب واقعي ينشأ من مصلحة في العمل، هذه المصلحة ناشئة من تعنونه بعنوان البلوغ. قال(قدّس سرّه):(فالمتعيّن هو الاحتمال الأوّل، فأنّ مفادها مجرّد الإخبار عن فضل الله(سبحانه وتعالى) وأنّه سبحانه بفضله ورحمته يعطي الثواب الذي بلغ العامل، وإنْ كان غير مطابق للواقع، فهي ــــــ كما ترى ــــــ غير ناظرة إلى العمل وأنّه يصير مستحبّاً لأجل طرو عنوان البلوغ، ولا إلى إسقاط شرائط حجّية الخبر في باب المستحبّات).[3] يعني أنْ نحمل الأخبار على الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط وحسن الانقياد.
ثمّ أشار(قدّس سرّه) إلى أنّه يترتّب على ذلك ـــــ على اختيار الاحتمال الأوّل ونفي الاحتمال الثاني والثالث ـــــ انتفاء جملة من المباحث التي ذكروها؛ لأنّ هذه المباحث كلّها مبتنية على الاحتمالين الثاني والثالث، فإذا نفينا هذين الاحتمالين، فلا داعي للبحث في هذه المباحث، قال(قدّس سرّه):(فتحصّل أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ممّا لا أساس لها، وبما ذكرناه من عدم دلالة هذه الأخبار على الاستحباب الشرعي سقط كثير من المباحث التي تعرّضوا لها في المقام): [4]
(منها) أنّ المستفاد من الأخبار هل هو استحباب ذات العمل، أو استحبابه إذا أتى به بعنوان الرجاء، واضح أنّ هذا البحث يلغو بناءً على ما ذكره؛ لأنّه متفرّع على الاحتمال الثالث، متفرّع على الالتزام بأنّ الأخبار تدلّ على استحباب العمل، فيقع الكلام في أنّ هذا الاستحباب ثابت لذات العمل، أو ثابت للعمل المأتي به رجاءً، ولغرض التماس ذلك الثواب.
و(منها) ظهور ثمرة الاختلاف بين الاحتمالين الأخيرين، أنّه ما هي الثمرة التي تترتّب على الاحتمالين الأخيرين، الثاني والثالث، ذكر أنّ الثمرة هي إذا دلّ خبر ضعيف على استحباب شيءٍ ثبتت حرمته بإطلاق، أو عموم، قال أنّ الثمرة في الاحتمالين الثاني والثالث تظهر في هذا المورد، وذلك باعتبار أنّه على الاحتمال الثالث الخبر الضعيف يكون مخصصاً للعموم، أو مقيّداً للإطلاق؛ لأنّه حجّة، فأنّ الخبر الضعيف في المستحبات حجّة، وحيث أنّه أخصّ مطلقاً من العموم، وأخصّ مطلقاً من المطلق؛ فحينئذٍ يقيّد المطلق، ويخصص العام، فنرفع اليد عن العام الدال على حرمة هذا الشيء بالخبر الضعيف الدال على استحبابه، ونلتزم باستحبابه. هذا على الاحتمال الثالث. وأمّا على الاحتمال الثاني، فهو يثبّت الاستحباب بعنوان البلوغ؛ فحينئذٍ يقع التزاحم بين الحكم التحريمي والحكم الاستحبابي، حكمان شرعيان يقع التزاحم بينهما؛ حينئذٍ النتيجة واضحة، حيث نقدّم الحكم الإلزامي التحريمي؛ لأنّ الحكم الاستحبابي لا يزاحم الحكم الإلزامي التحريمي، لكن لا يدخل في باب التخصيص والإطلاق وأمثاله، فلا نخصص العام، وإنّما هذا يدلّ على حرمة هذا، ودليل آخر يُثبت لنا استحباب هذا وليس حجّية الخبر الضعيف، وإنّما هو بعنوان البلوغ يصير مستحباً، فالعمل بمقتضى أخبار(من بلغ) مستحب، ومقتضى ذاك الإطلاق، أو العموم هو الحرام، فيتزاحمان، فيُقدم التحريم.
هذا أيضاً نقول لا داعي لبحثه؛ لأنّه مبتنٍ على بيان الثمرة للقول الثاني والثالث، والمفروض أنّ كلاً منهما غير ثابت، وإنّما أخبار(من بلغ) إنّما تدلّ على الاحتمال الأوّل.
و(منها) البحث عن معارضة أخبار(من بلغ) لما دلّ على اعتبار العدالة والوثاقة في حجّية الخبر، وقالوا أنّ هذه الأخبار تتقدّم على ما دلّ على اعتبار العدالة والوثاقة في حجّية الخبر بالأخصّية. هذا البحث أيضاً متفرّع على الاحتمال الثالث، هذا التقديم إنّما يمكن تصوّره إذا التزمنا بأنّ مفاد الأخبار هو جعل الحجّية للخبر الضعيف في باب المستحبات، تلك الأخبار تقول أنّه يُشترَط العدالة والوثاقة في حجّية الخبر، يخرج عن هذه الأخبار في باب المستحبّات بالخصوص؛ لأنّ أخبار(من بلغ) جعلت الحجّية للخبر الضعيف، وإنْ لم يكن عادلاً، وإنْ لم يكن ثقة، جعلت له الحجّية في باب المستحبات، فيُقدّم علبها بالأخصّية. هذا البحث أيضاً يلغو؛ لأنّه مبني على الاحتمال الثالث.
و(منها) البحث عن ثبوت الاستحباب بفتوى الفقيه، هل يثبت الاستحباب بفتوى الفقيه ؟ باعتبار صدق البلوغ؛ إذ لا يشترط في تحقق عنوان(البلوغ) أنْ يكون برواية، وإنّما يمكن أنْ يتحققّ بفتوى فقيه ، فلو افتى فقيه باستحباب فعل أيضاً يصدق أنّه بلغني ثواب عليه. هذا البحث أيضاً يلغو؛ لأنّه متفرّع على الاحتمال الثاني، متفرّع على الالتزام بأنّ أخبار(من بلغ) تدلّ على الاستحباب بعنوان البلوغ، فنتحدّث عن أنّ هذا هل يشمل فتوى الفقيه حتّى يكون الفعل الذي افتى الفقيه باستحبابه مستحبّاً بمجرّد البلوغ، أو لا ؟ هذا هو الموجود في المصباح.
لكن في التقريرات الأخرى للسيد الخوئي(قدّس سرّه) وهي(الدراسات) [5]جعل الاحتمال الثاني ليس ثبوت الاستحباب بعنوان(البلوغ)، وإنّما ثبوت الثواب على العمل بعنوان(البلوغ)، يقول: أنّ مفاد الأخبار هو أنّه إذا بلغك ثواب على عمل، فإذا عملته برجاء ذلك الثواب، فأنّه يحدث، وليس الاستحباب، وإنّما ذلك الثواب يثبت، فمفادها هو جعل الثواب، وإعطاء الثواب للمكلّف الذي بلغه ثواب على عمل وعمله لالتماس ذلك الثواب، وإنْ كان ذلك الثواب غير مطابق للواقع، لكن الشارع يُعطي ذلك الثواب للمكلّف. ثبوت الثواب على العمل بالعنوان الثانوي الطارئ، يعني عنوان البلوغ، وليس ثبوت الاستحباب النفسي كما هو الحال في الاحتمال الثاني في المصباح. ثمّ التزم في الدراسات بتعيّن هذا الاحتمال الثاني[6] في قبال الاحتمالين الأوّل والثالث، بينما هناك التزم بتعيّن الاحتمال الأوّل، يعني حمل الأخبار على الإرشاد، وهنا التزم بتعيّن الاحتمال الثاني ونفى الاحتمال الأوّل وهو الإرشاد، باعتبار أنّ الأخبار واردة في مقام الترغيب والحث على العمل لا في مقام الإرشاد، وإنّما هو يحثّ على العمل، لا أنّه يرشد إلى ما حكم العقل به من حسن الانقياد، فنفى الاحتمال الأوّل بذلك، والاحتمال الثالث أيضاً منفي بما تقدّم من أنّ لسان الأخبار لا يناسب لسان جعل الحجّية، وعيّن الثاني، لكنّه طرح الثاني في البداية بهذا الشكل: أنّه يستفاد من الأخبار جعل ثواب لهذا الشخص الذي بلغه ثواب على عمل، فعمله رجاء ذلك الثواب، مفاد الأخبار أنّه يعطى له ذلك الثواب، وإنْ كان ما بلغه غير مطابق للواقع.
ثمّ ذكر(قدّس سرّه) في مقام الاستدلال على الاحتمال الثاني الذي اختاره هنا أنّ هذا هو الذي يساعده الظهور العرفي والذوق الطبعي، قال(قدّس سرّه):(فالمتعيّن هو الاحتمال الثالث، وهو الذي يساعده الظهور العرفي والذوق الطبعي، فأنّ المناسب لعظمة الشخص أنّه إذا أسند إليه الوعد بشيء أنْ يُنجّزه، وإنْ لم يكن الإسناد مطابقاً للواقع).[7] هذا معنى الاحتمال الثاني الذي ذكره في الدراسات، أنّ الله(سبحانه وتعالى) يعطي ذلك الثواب وإنْ لم يكن ثابتاً. ومن هنا نستطيع أنْ نقول إلى هنا يظهر أنّ هناك فرقاً بين الاحتمال الثالث هنا وبين الاحتمال الثاني هناك، فالاحتمال الثاني هناك هو جعل استحباب واقعي ثانوي نفسي للعمل بعنوان البلوغ، بينما هنا مجرّد أشبه بإعطاء ثواب، والتزام بإعطاء ثواب في هذه الحالة لا أكثر من هذا، والدليل الذي ذكره أيضاً يؤيّد هذا الفهم، يؤيّد الفرق بين الاحتمال الثالث هنا وبين الاحتمال الثاني هناك، الدليل هنا هو مسألة أنّ المناسب لعظمة الشارع أنّه إذا أُسند إليه وعد أنْ يُنجّز هذا الوعد، القضية مرتبطة بالثواب، إذا بلغ شخصاً ثواب من الله(سبحانه وتعالى) فهو يعطي ذلك الثواب، لكن في الدراسات نفسها بعد أنْ طرح الثاني بهذا الشكل، عباراته الأخرى واضحة في أنّ المقصود من الاحتمال الثاني هو الاستحباب، وعبارته صريحة، قال:(وكيف كان فالظاهر من هذه الروايات هو استحباب العمل بمجرد بلوغ الثواب عليه)،[8] وبعد ذلك قال:(واما على ما اخترناه من ثبوت الاستحباب الشرعي بالبلوغ فيقع التزاحم بين الحكم الاستحبابي و التحريمي). بعد ذلك عقد جهة مستقلّة تكلّم فيها عن البحث الأوّل الذي قال عنه في المصباح بأنّه يلغو هذا البحث، بينما في الدراسات عقد جهة مستقلّة تكلّم فيها عن ذلك البحث الذي هو أنّ الاستحباب هل يثبت لذات العمل، أو يثبت للعمل إذا جيء به رجاء ذلك الثواب، وهنا عقد جهة مستقلّة تكلّم فيها عن هذه الجهة، وهذا يعني أنّه يختار القول بالاستحباب للعمل، غاية الأمر تكلّم في أنّ الاستحباب يثبت لذات العمل، أو يثبت للعمل المقيّد بما إذا جيء به بعنوان الالتماس والرجاء وأمثاله. وهذا يؤيّد أنّ المقصود بالاحتمال الثالث في الدراسات هو الاستحباب، ثمّ هناك أيضاً هو نفس المعنى السابق، لعلّه ذكر الثواب هنا في الدراسات لعلّه تقيّداً بأخبار(من بلغ)، فأنّ أخبار(من بلغ) لا تذكر الاستحباب وإنّما تذكر الثواب، ومن جهة أخرى لعلّه من باب أنّه يرى الملازمة بين ترتّب الثواب وبين الاستحباب، أفرض أنّ الروايات تحدّثت عن ترتب ثواب، لكن هذا ترتّب الثواب يكشف عن مطلوبية للعمل من قبل الشرع وهذا هو معنى الاستحباب، فتكون هناك ملازمة بين ترتّب الثواب وبين الاستحباب.
إذن: لا فرق بين أنْ نقول أنّ أخبار(من بلغ) تثبت الاستحباب، وبين أنْ نقول أنّها تثبت إعطاء الثواب الذي بلغه كما بلغه في هذه الحالة؛ لأنّ ترتب الثواب على العمل الذي بلغه وجاء به برجاء ذلك الثواب، يستلزم افتراض استحباب العمل شرعاً، فيثبت استحباب العمل شرعاً باعتبار هذه الملازمة، لعلّه من هذا الباب.
نعم، يبقى هناك تنافٍ بين ما ذكره في الدراسات وبين ما ذكره في المصباح، حيث قال في المصباح أنّ هذا البحث يلغو، وأنّه لا يرى الاستحباب، قال أنّ هذا البحث أنّه هل يثبت الاستحباب لذات العمل، أو للعمل بقيد الإتيان به رجاءً، قال يلغوا هذا البحث هناك، بينما هنا عقد جهة مستقلة تكلّم فيها عن ذلك، وهذا معناه أنّه يرى الاستحباب ويقول به. هذا مضافاً إلى أنّه في المصباح عيّن الاحتمال الأوّل وهو حمل الأخبار على الإرشاد، بينما هنا لغى الاحتمال الأوّل وناقش فيه بأنّه خلاف ظاهر الأخبار؛ لأنّ ظاهر الأخبار أنّها في مقام الحثّ والترغيب من قبل الشارع لا في مقام الإرشاد. دعوى الملازمة بين ترّتب الثواب والاستحباب هذه في المقام ليست واضحة، وسيأتي الحديث عنها مفصّلاً، وأنّه هل توجد ملازمة بين ترتّب الثواب وبين الاستحباب، لا أقل في خصوص المقام ؟ سيأتي الحديث عنها مفصلاً إنْ شاء الله تعالى. هذا ما نُقل عن السيد الخوئي(قدّس سرّه) في تقريره.
السيد الشهيد الصدر(رضوان الله عليه) ذكر احتمالات أخرى ثبوتية غير الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة: [9]
الاحتمال الرابع: أنْ يكون مفاد أخبار(من بلغ) مجرّد الوعد لمصلحة في نفس الوعد بإعطاء ذلك الثواب الذي بلغ هذا المكلّف، وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء بلا إشكال، فالشارع كأنّه يعد من بلغه ثواب على عمل بإعطائه ذلك الثواب إذا عمله برجاء ذلك الثواب لمصلحةٍ في نفس الوعد من دون أنْ تكون هناك مصلحة في الفعل، ومن دون افتراض جعل حكم من قبل الشارع، ولا تحدث مصلحة في العمل، وإنّما هناك مصلحة في نفس الوعد، وأنّ هذا الثواب الذي أعدك أنا سوف أعطيه لك بالمقدار الذي بلغك، مجرّد وعد إلهي من قبل المولى بإعطاء هذا الثواب بهذه الشروط، إذا بلغه ثواب على عمل فعمله رجاء ذلك الثواب، الله سبحانه يعده بإعطائه ذلك الثواب.
الاحتمال الخامس: أنْ يكون مفادها جعل الاحتياط الاستحبابي في موارد بلوغ الثواب، مفادها احتياط لكن في المستحبّات، الغرض منه التحفّظ على الملاكات الواقعية الراجحة الموجودة في المستحبات الواقعية في موارد التزاحم الحفظي، على أنّه هو يرى أنّ الأحكام الظاهرية كلّها تعبّر عن ترجيح ملاكات واقعية متزاحمة تزاحماً حفظياً في مقام حفظها عندما تتزاحم، الأحكام الظاهرية هي تعبير عن اهتمام الشارع ببعض الملاكات لأهميتها وترجيحها على ملاكات أخرى تزاحمها، مفاد أخبار(من بلغ) احتياط استحبابي، احتياط في باب المستحبّات لإدراك المستحبّات الواقعية وملاكاتها الواقعية، يقول له إذا بلغك ثواب على عمل، فاحتط وأتي بالعمل حتّى تدرك ملاكات المستحبات الواقعية إذا كان الشارع يهتمّ بها.
هذه عمدة المحتملات الثبوتية في أخبار(من بلغ). الفوارق بين هذه الاحتمالات واضحة من خلال ما تقدّم، الفرق بين الاحتمال الأوّل وبين باقي الاحتمالات واضح؛ إذ أنّ الاحتمال الأوّل إرشاد صرِف، وليس فيه إعمال مولوية، يعني الشارع لم يعمل مولويته في هذه الأخبار إطلاقاً، وإنّما هو إرشاد إلى حكم العقل بحسن الاحتياط، بينما في سائر الاحتمالات الأخرى هناك إعمال مولوية، جعل حجّية، وجعل استحباب، ووعد إلهي بإعطاء الثواب مثلاً، جعل احتياط في باب المستحبّات.