35/03/02
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ قاعدة التسامح في أدلّة السنن
بعد أنْ أكملنا الكلام عن أصل قاعدة التسامح في أدلّة السنن يقع الكلام في بعض الأمور المرتبطة بهذه القاعدة:
الأمر الأوّل: لا إشكال في شمول أخبار(من بلغ) لحالة بلوغ الثواب بالدلالة المطابقية كما إذا قام خبر ضعيف على ترتّب الثواب على عمل بحيث يدل بالمطابقة على ترتّب الثواب على العمل، هذا هو القدر المتيقّن من هذه الأخبار، لكن هل تشمل الأخبار حالة بلوغ الثواب بالدلالة الالتزامية ؟ كما إذا قام خبر ضعيف على استحباب فعل، هناك فرق بين أنْ يقوم الخبر الضعيف على ترتّب الثواب على عمل، هذا يدل على ترتّب الثواب بالدلالة المطابقية، وتارة يقوم الخبر الضعيف على استحباب عمل، المدلول المطابقي للخبر هو استحباب الفعل، لكن المدلول الإلتزامي للخبر هو ترتّب الثواب عليه، فيكون الخبر دالاًّ على ترتب الثواب لكن بالدلالة الالتزامية، باعتبار الملازمة بين استحباب الفعل وبين ترتب الثواب عليه؛ فحينئذٍ هل يكون هذا أيضاً مشمولاً للأخبار، فيجري فيه الكلام السابق، أو لا ؟
الظاهر كما ذكر المحققون أنّه مشمول لتلك الأخبار، فلا فرق بين أنْ يقوم الخبر الضعيف على ترتّب الثواب على عمل، وبين أنْ يقوم الخبر الضعيف على استحباب العمل، كلٌ منهما يكون داخلاً في هذه الأخبار ومشمولاً لها، وذلك باعتبار أنّ الإخبار عن استحباب الفعل هو إخبار بالدلالة الالتزامية عن ترتب الثواب عليه، فيصدق على هذا أنّه بلغه ثواب على عمل، فعمله كان له ذلك الثواب، فيدخل في الأخبار؛ وحينئذٍ يجري فيه الكلام السابق.
لكن يبقى سؤال: وهو هل تشمل الأخبار حالة أخرى وهي حالة قيام الخبر الضعيف على الوجوب، الحالة الأولى التي هي القدر المتيقّن من الأخبار هي أنْ يقوم الخبر الضعيف على ترتب الثواب على عمل، الحالة الثانية هي أنْ يقوم الخبر الضعيف على استحباب الفعل، هذا أيضاً قلنا أنّه مشمول للأخبار؛ لأنّ الإخبار عن الاستحباب إخبار عن ترتب الثواب على العمل المستحب، لكن لو دلّ الخبر الضعيف على وجوب فعلٍ، هل تشمله هذه الأخبار، أو لا ؟
قد يقال: أنّه مشمول لتلك الأخبار، باعتبار أنّ الإخبار عن الوجوب أيضاً هو أخبار عن ترتّب الثواب على الفعل بحكم الملازمة بين وجوب شيءٍ وبين رجحانه وترتب الثواب عليه كما هو الحال في الإخبار عن الاستحباب لو قام الخبر الضعيف على الاستحباب، كيف هناك جعلنا هذه الحالة داخلة في الأخبار باعتبار الملازمة بين استحباب الفعل وبين رجحانه وترتّب الثواب عليه، كذلك ما إذا قام الخبر الضعيف على وجوب شيءٍ، هنا أيضاً توجد ملازمة بين وجوب الشيء وبين ترتّب الثواب على فعله، غاية الأمر أنّه في هذه الحالة الأخيرة الخبر الضعيف على الوجوب كما هو إخبار عن ترتّب الثواب على الفعل، كذلك هو إخبار عن ترتّب العقاب على الترك؛ لأنّه يدلّ على الوجوب، وبالملازمة هو يدلّ على ترتّب العقاب على الترك كما يدلّ بالملازمة على ترتّب الثواب على الفعل، فيقال: إنّه وإنْ كان إخباراً عن ترتّب العقاب على الترك، لكنّ هذا العقاب لا يثبت بالخبر الضعيف، وإنّما الذي يثبت على تقدير تماميّة أخبار(من بلغ) وأنْ نستفيد منها شيء هو إخبار عن الثواب لا الإخبار عن العقاب، فالخبر الضعيف الدال على الوجوب وإنْ كان هو إخبار عن ترتّب العقاب على الترك، لكنّ العقاب لا يثبت بالخبر الضعيف كما هو واضح، باعتبار أنّ القاعدة مختصّة بالإخبار عن الثواب لا الإخبار عن العقاب، وكون الخبر إخبار عن ترتب العقاب على الترك لا يمنع من شمول القاعدة وأخبار(من بلغ) للخبر الضعيف الدال على الوجوب باعتباره إخباراً عن ترتّب الثواب على الفعل، فيترتب الثواب على الفعل، وهذا الخبر يكون إخباراً عن ترتّب الثواب على هذا الفعل، هو حكم بلسان الوجوب لا بلسان الاستحباب، فيكون مشمولاً للقاعدة ويُلتزم ــــــ بناءً على بعض التفسيرات السابقة لأخبار(من بلغ) ـــــــ أيضاً باستحباب الفعل الذي قام خبر ضعيف على وجوبه، باعتبار أنّ أخبار(من بلغ) تشمله وتقول هذا بلغه ثواب على عمل، فعمله كان له ذلك الثواب، فإذا استفدنا من تلك الأخبار بعض الاحتمالات السابقة وهو الاستحباب النفسي للفعل بعنوان البلوغ يُلتزم هنا باستحباب هذا الفعل الذي قام الخبر الضعيف على وجوبه، ولعلّه لذلك أفتى بعض الفقهاء باستحباب الفعل إذا قام على وجوبه خبر ضعيف، لعلّ الالتزام بالاستحباب هو من هذا الباب، باعتبار أنّهم يرون أنّ هذا الخبر الضعيف مشمول للقاعدة وبناءً على بعض الاحتمالات السابقة يثبت به استحباب العمل.
هذا الذي يقال في ما إذا قام الخبر الضعيف على الوجوب وأنّ هذه الحالة أيضاً مشمولة للأخبار، هذا يمكن التأمّل فيه، باعتبار أنّ ما تقدّم سابقاً من أنّ ظاهر جميع الأخبار، المطلقة والمقيّدة هو الإتيان بالعمل بداعي تحصيل الثواب، إمّا باعتبار تصريح الروايات بالتماس ذلك الثواب، وإمّا باعتبار التفريع الموجود في المطلقات(فعمله) حيث قلنا أنّ الروايات فرّعت العمل على بلوغ الثواب بحيث أنّ بلوغ الثواب يكون مؤثراً في العمل، وقلنا أنّه لا معنى لتأثير بلوغ الثواب في العمل إلاّ باعتبار أنّ بلوغ الثواب يورث الاحتمال أو الظنّ، ويكون المكلّف قد جاء بالعمل بداعي ذلك الظن، وذلك الاحتمال؛ لأنّ بلوغ الثواب يورث احتمال الثواب، صدر العمل بداعي ذلك الاحتمال، فيكون العمل صادراً بداعي تحصيل الثواب أو برجاء إدراك ذلك الثواب، باعتبار أنّ بلوغ الثواب يورث احتمال الثواب، هذا معناه أنّ موضوع الأخبار هو العمل الذي يصدر من المكلّف بداعي تحصيل الثواب الذي بلغه، وهذا صدقه واضح جدّاً في المستحبّات، يعني عندما يقوم الخبر الضعيف على الاستحباب وعلى ترتب الثواب صدقه واضح؛ لأنّ الذي بلغه الاستحباب بالخبر الضعيف يصدق عليه أنّه عمل ذلك العمل رجاء تحصيل ذلك الثواب؛ لأنّ الذي يأتي بالمستحب الذي قام عليه الخبر الضعيف يأتي به بداعي تحصيل ثوابه، وأمّا صدقه على الخبر الضعيف الدال على الوجوب، فليس واضحاً، على الأقل نشكك في شمول الأخبار لهذه الحالة؛ لأنّ العمل الذي يصدر من المكلّف الذي دلّ الخبر الضعيف على وجوبه عندما يصدر منه لا يصدر العمل منه عادة بداعي تحصيل الثواب، وإنْ كان يمكن فرض صدوره منه بداعي تحصيل الثواب، الامتثال والإتيان بالفعل في الواجبات لا يصدر بداعي تحصيل الثواب على الفعل، وإنّما عادة يصدر بداعي التخلّص وتجنّب العقاب الذي يثبت على مخالفة هذا التكليف؛ ولذا هناك فرق بين المستحبّات وبين الواجبات، امتثال المستحبّات عادة يكون بداعي تحصيل الثواب، الواجبات يأتي بها المكلّف عادة، وليس دائماً، بداعي التخلّص من العقاب المترتب على المخالفة. إذن: هو يمتثل ويأتي بالفعل للتخلّص من العقاب لا لتحصيل الثواب على الفعل. هذا الشيء الذي نقوله أنّ المستحبّات تختلف عن الواجبات، العادة جارية على الإتيان بالمستحب برجاء تحصيل الثواب؛ ولذا يكون مشمولاً للأخبار؛ لأنّ موضوع الأخبار كما قلنا هو الإتيان بالفعل بداعي تحصيل الثواب، وفي الواجبات المكلّف لا يأتي بالفعل بداعي تحصيل الثواب، وإنّما يمتثل ويأتي بالفعل للفرار عن العقاب الذي يترتب على المخالفة، فلا يكون صدق الأخبار عليه واضحاً، موضوع الأخبار هو العمل الذي يصدر من المكلّف بداعي تحصيل الثواب، هذا لا يأتي بالفعل بداعي تحصيل الثواب، وإنّما يأتي بالفعل الذي قام عليه الخبر الضعيف ودلّ على وجوبه للتخلّص من العقاب على المخالفة، للفرار من العقاب الذي يترتب على المخالفة، ومن هنا يكون صدق الأخبار وشمولها له ليس واضحاً، على الأقل نشكك في شمول الأخبار لهذه الحالة الثالثة، وهي حالة ما إذا قام الخبر الضعيف على الوجوب، وإثبات الاستحباب لو قلنا ببعض الاحتمالات السابقة يكون مشكلاً حينئذٍ، ومن هنا يظهر الحال في الحالة الرابعة وهي حالة ما إذا قام الخبر الضعيف على الحرمة. قد يُتخيّل أنّ هذه الحالة أيضاً مشمولة للأخبار، غاية الأمر أننّا لا نثبت بذلك استحباب الفعل كما هو واضح، وإنمّا نثبت بذلك استحباب الترك؛ لأنّ حرمة الشيء والنهي عنه تعني طلب تركه، ومن هنا يكون ترك الشيء الحرام راجحاً ومطلوباً، والملازمة ثابتة بين رجحان الشيء ومطلوبيته وبين ترتب الثواب عليه، ولا فلاق بين مطلوبية الفعل ومطلوبية الترك، الملازمة لا تفرّق بينهما، كما أنّ رجحان الفعل ومطلوبيته يلازم ترتب الثواب على الفعل، رجحان الترك ومطلوبيته أيضاً تلازم ترتّب الثواب على الترك، فكأنّه هذا بلغه ترتّب الثواب على الترك، لكن بالدلالة الالتزامية، فيكون مشمولاً للأخبار التي تقول(من بلغه ثواب على شيء فجاء به، أو بلغه الثواب على الترك، فتركه كان له ذلك) فيكون مشمولاً بالأخبار، فإن قلنا أنّ هذا يثبت الاستحباب، فهذا يثبت استحباب الترك، أو يثبت كراهة الفعل، لكن بالنتيجة هو يكون مشمولاً بالأخبار ببيان أنّ النهي والتحريم يعني طلب الترك، وهذا يعني أنّ ترك الحرام راجح ومطلوب، والمطلوبية والرجحان يلازم ترتب الثواب على الأمر الراجح، سواء كان فعلاً، أو كان تركاً. الأمر الراجح في محل الكلام هو الترك، والمطلوبية ثابتة للترك، وترك الحرام مطلوب للشارع، وراجح، وعندما يكون راجحاً يكون ملازماً لترتّب الثواب عليه، فتشمله الأخبار، وإذا قلنا باستفادة الاستحباب النفسي؛ حينئذٍ نستفيد استحباب الترك، فيثبت أنّ الترك مستحب.
أقول: قد يُتخيّل هذا الكلام، لكنّ الذي يدفعه عموماً، يعني أنّ الصحيح في هذا الفرض الرابع هو عدم شمول الأخبار لحالة ما إذا قام الخبر الضعيف على التحريم، وذلك لعدّة أمور منها:
الأمر الأوّل: ما أشرنا إليه في الحالة السابقة وهي حالة ما إذا قام الخبر الضعيف على الوجوب، فأننّا هناك إذا توقّفنا وتأملنا في شمول الأخبار لهذه الحالة، فأنّ عدم الشمول في المقام يكون أوضح، باعتبار أنّ في المحرمات واضح أنّ الامتثال لا يكون لغرض تحصيل الثواب على الترك، وإنّما يكون لغرض الفرار من العقاب المترتب على الفعل، فالمكلّف إنّما يمتثل النهي ويترك الحرام لا لأجل أنْ يحصل على مصلحة وثواب على الترك، وإنّما لكي يتجنّب العقاب المترتب على الفعل، هنا عدم شمول الأخبار لهذه الحالة أوضح من عدم شمولها للحالة السابقة، باعتبار أنّ من الواضح في باب المحرّمات أنّ الامتثال يكون لغرض الفرار من العقوبة المترتبة على الفعل، وليس لأجل تحصيل الثواب، هذا بناءً على تسليم تحصيل الثواب ـــــ وستأتي مناقشته ـــــ المترتب على ترك الحرام، ومن هنا يكون شمول الأخبار لهذه الحالة خلاف الظاهر جدّاً، فأنّ ظاهر الأخبار هو أنّ الإتيان بالعمل هو لغرض تحصيل الثواب، وهذا هو موضوع الأخبار، وهذا لا يصدق في باب المحرّمات، يعني في باب قيام الخبر الضعيف على حرمة شيء.
الأمر الثاني: التشكيك في صدق بلوغ الثواب في هذه الحالة حتّى لو سلّمنا تفسير النهي والتحريم بطلب الترك ولم نفسّره بالزجر على الفعل، لكن طلب الترك في المحرّمات هل هو لأجل وجود مصلحة في الترك تقتضي رجحانه، أو لأجل وجود مفسدة في الفعل تقتضي مرجوحية الفعل ؟ من الواضح أنّ الجواب هو الثاني، حتّى لو فسّرنا النهي والتحريم بطلب الترك، بمعنى أنّ الشارع يطلب ترك شرب الخمر، لكن يطلبه ليس لأجل وجود مصلحة في الترك بحيث تقتضي رجحان الترك لوجود مصلحة فيه، وإنّما هو يطلب تركه باعتبار وجود مفسدة في الفعل تقتضي مرجوحيته، فطلب الترك في المحرّمات ليس لأجل وجود مصلحة في الترك ليس لأجل وجود مصلحة في الترك ورجحان فيه حتّى نستفيد من ذلك ترتب الثواب عليه باعتبار الملازمة بين مطلوبية الترك وبين ترتب الثواب عليه، وندخله حينئذٍ في أخبار(من بلغ)؛ لأنّ هذا يدل على رجحان الترك ومطلوبيته وهي تلازم ترتب الثواب عليه، فيصدق عليه أنّه بلغه الثواب على الترك؛ وحينئذٍ تشمله الأخبار ويثبت استحباب الترك. كلا، طلب الترك في باب المحرّمات لو سلّمناه، فهو ليس لأجل وجود مصلحة في الترك؛ بل لأجل مفسدة في الفعل تقتضي مرجوحيته؛ ولذلك طُلب تركه، فصدق بلوغ الثواب في هذا الفرض ممنوع؛ بل لا يصدق أنّه بلغه ثواب على هذا العمل، على الأقل بالنظر العرفي في ما نفهم عرفاً من هذا الدليل أنّ موضوعه، بلوغ الثواب على شيء، عندما يقوم الخبر الضعيف على حرمة شيءٍ، لا يصدق عليه أنّه بلغه الثواب على ترك ذلك الحرام؛ لأنّه إنْ فسّرنا النهي بالزجر، فواضح أنّه لا يوجد طلب الترك، والترك أصلاً ليس مطلوباً، وإنّما هو يزجر عن الفعل لمفسدةٍ فيه؛ بل حتّى إذا فسّرناه بطلب الترك فنقول أنّ طلب الترك ليس لأجل وجود ملاكٍ في الترك اقتضى طلبه، ومحبوبية ورجحان في الترك، وإنّما هو لأجل وجود مفسدة ومرجوحية في الفعل اقتضت أنْ ينهى عنه، أي أنْ يطلب تركه، فصدق بلوغ الثواب في محل الكلام لأيضاً ليس واضحاً.
الأمر الثالث: وعلى ضوئه أيضاً نستبعد شمول الأخبار لحالة قيام الخبر الضعيف على التحريم هو مسألة أنّ الذي يوجد في الأخبار هو بلوغ الثواب على العمل، والعمل ظاهر في الأمر الوجودي، وتعميمه للترك هذا غير واضح، خصوصاً بعد هذا التفريع(من بلغه ثواب على عمل، فعمله) صدقه واضح جدّاً في باب المستحبّات، والواجبات، أي قيام الخبر الضعيف على الاستحباب أو على الوجوب، أو على بلوغ الثواب؛ لأنّ العمل أمر وجودي بلغه ثواب عليه، فجاء به، فيصدق عليه. وأمّا عندما يقوم الخبر الضعيف على تحريم شيء، فلكي تكون الأخبار شاملة له لابدّ أنْ نقول(من بلغه ثواب على الترك) ثمّ يقال(فعمله) أي فعمل الترك، هذا خلاف الظاهر، فأنّ الظاهر من العمل، خصوصاً بعد تفريع(فعمله) على ما قبلها، هو أنّ المقصود بالعمل الذي بلغه ثواب عليه هو الأمر الوجودي، أي الفعل كما هو الحال في الواجبات والمستحبات، وأمّا في التحريم، فشمول الأخبار له خلاف الظاهر، فلهذه الأمور يمكن أنْ نقول أنّ شمول الأخبار للخبر الضعيف الدال على التحريم ممنوع.
يبقى الكلام في حالة أخيرة، وهي الحالة الخامسة، وهي حالة قيام الخبر الضعيف على الكراهة، هنا أيضاً قد يُتوهّم على غرار ما في الحالة السابقة أنّ هذه الحالة مشمولة لأخبار(من بلغ) بنفس البيان السابق، باعتبار أنّ الكراهة تعني طلب الترك ورجحانه، وبالملازمة بين رجحان الترك وطلبه، ولو على مستوى الكراهة، يثبت ترتّب الثواب على الترك، لأجل كونه مطلوباً وراجحاً، فيصدق عليه أنّه بلغه ثواب على الترك، فتشمله الأخبار، وقد ـــــ على بعض التفسيرات ــــــ يثبت استحباب الترك، فإذا قام خبر ضعيف على الكراهة نثبت به استحباب الترك، أو نثبت به الكراهة.
أقول: هذا الفرض الخامس أيضاً حاله حال الفرض الرابع؛ لأنّ كل النكات التي ذكرت هناك والتي منعت من شمول الأخبار للفرض الرابع تجري في المقام وتمنع من شمول الأخبار للفرض الخامس أيضاً. النكتة الأخيرة التي ذكرناها جريانها في المقام واضح؛ لأننّا قلنا أنّ ظاهر الأخبار هو من بلغه ثواب على عمل، فعمله، هذا ظاهر في أنّ المقصود به هو الأمر الوجودي وشمول ذلك للترك هو خلاف الظاهر من دون فرق بين أنْ يكون الترك لازم كما في المحرمات، أو الترك غير لازم كما في المكروهات، الظاهر من الأخبار هو الأمر الوجودي، إذا بلغه ثواب عليه؛ فحينئذٍ يكون مشمولاً للأخبار، أمّا في هذا الفرض فلم يبلغه ثواب على الأمر الوجودي، وإنّما بلغه ثواب على الترك، فشمول الأخبار له ليس واضحاً. والنكتة الثانية أيضاً تجري في المقام، وهي نكتة التشكيك في صدق البلوغ، بقطع النظر عن العمل وكون الظاهر منه هو الأمر الوجودي، وإنّما أصل بلوغ الثواب في المقام غير واضح كما قلنا في بحث التحريم، باعتبار أنّ الكراهة حتّى إذا فسّرناها بطلب الترك بمستوى الكراهة، هذه لم تنشأ من مصلحة في الترك تقتضي طلبه على مستوى الكراهة، وإنّما نشأت من مفسدة وحزازة في الفعل، وهذا هو السبب في النهي عنه نهياً كراهتياً، أو بعبارة أخرى: طلب تركه بنحو الكراهة، هو يطلب تركه لا لمصلحة في الترك، وإنّما يطلب تركه لحزازة ومفسدة في الفعل، فيكون نظير الحرام، صدق بلوغ الثواب عليه يكون غير واضح. والنكتة الأولى أيضاً تجري في المقام، وهي نكتة التفريع، أنّ الأخبار ظاهرة في أنّ العمل فُرّع على بلوغ الثواب، واستفدنا من هذا أنّ موضوع الأخبار هو الإتيان بالعمل بداعي تحصيل الثواب، شمولها للمكروهات غير واضح، وشمولها للمستحبّات غير واضح؛ بل شككنا في شمولها حتّى للواجبات؛ لأنّ من الواضح أنّه في المكروهات والمحرمات ـــــ على الأقل ـــــ الإنسان لا يترك المكروه بداعي تحصيل الثواب، وإنّما يترك المكروه بداعي الفرار عن الحزازة الموجودة في الفعل كما هو الحال في المحرّمات، يترك الحرام للفرار عن المفسدة الموجودة في الفعل لا أنّه يترك الحرام لغرض تحصيل الثواب، هذا الشيء لو اتّفق حصوله، فهو نادر جدّاً، عادة المكلّف في المحرّمات والمكروهات يمتثل، يعني يترك الفعل لغرض الفرار عن المفسدة والحزازة الموجودة فيه لا لتحصيل الثواب الثابت في الترك، لو سلّمنا ثبوته وتنزّلنا عن الملاحظات السابقة، مع ذلك نقول لا يكون مشمولاً للأخبار؛ لأنّ موضوع الأخبار هو من يأتي بما بلغه عليه الثواب لغرض تحصيل الثواب، هذا حتّى لو فرضنا أنّه بلغه الثواب على الترك، لو تنزلّنا وسلّمنا ذلك، لكن هذا عادة لا يأتي بما بلغه عليه الثواب وهو الترك لغرض تحصيل الثواب، وإنّما يأتي به لغرض الفرار من المفسدة والعقاب الذي يترب على الفعل.
بعد أنْ أكملنا الكلام عن أصل قاعدة التسامح في أدلّة السنن يقع الكلام في بعض الأمور المرتبطة بهذه القاعدة:
الأمر الأوّل: لا إشكال في شمول أخبار(من بلغ) لحالة بلوغ الثواب بالدلالة المطابقية كما إذا قام خبر ضعيف على ترتّب الثواب على عمل بحيث يدل بالمطابقة على ترتّب الثواب على العمل، هذا هو القدر المتيقّن من هذه الأخبار، لكن هل تشمل الأخبار حالة بلوغ الثواب بالدلالة الالتزامية ؟ كما إذا قام خبر ضعيف على استحباب فعل، هناك فرق بين أنْ يقوم الخبر الضعيف على ترتّب الثواب على عمل، هذا يدل على ترتّب الثواب بالدلالة المطابقية، وتارة يقوم الخبر الضعيف على استحباب عمل، المدلول المطابقي للخبر هو استحباب الفعل، لكن المدلول الإلتزامي للخبر هو ترتّب الثواب عليه، فيكون الخبر دالاًّ على ترتب الثواب لكن بالدلالة الالتزامية، باعتبار الملازمة بين استحباب الفعل وبين ترتب الثواب عليه؛ فحينئذٍ هل يكون هذا أيضاً مشمولاً للأخبار، فيجري فيه الكلام السابق، أو لا ؟
الظاهر كما ذكر المحققون أنّه مشمول لتلك الأخبار، فلا فرق بين أنْ يقوم الخبر الضعيف على ترتّب الثواب على عمل، وبين أنْ يقوم الخبر الضعيف على استحباب العمل، كلٌ منهما يكون داخلاً في هذه الأخبار ومشمولاً لها، وذلك باعتبار أنّ الإخبار عن استحباب الفعل هو إخبار بالدلالة الالتزامية عن ترتب الثواب عليه، فيصدق على هذا أنّه بلغه ثواب على عمل، فعمله كان له ذلك الثواب، فيدخل في الأخبار؛ وحينئذٍ يجري فيه الكلام السابق.
لكن يبقى سؤال: وهو هل تشمل الأخبار حالة أخرى وهي حالة قيام الخبر الضعيف على الوجوب، الحالة الأولى التي هي القدر المتيقّن من الأخبار هي أنْ يقوم الخبر الضعيف على ترتب الثواب على عمل، الحالة الثانية هي أنْ يقوم الخبر الضعيف على استحباب الفعل، هذا أيضاً قلنا أنّه مشمول للأخبار؛ لأنّ الإخبار عن الاستحباب إخبار عن ترتب الثواب على العمل المستحب، لكن لو دلّ الخبر الضعيف على وجوب فعلٍ، هل تشمله هذه الأخبار، أو لا ؟
قد يقال: أنّه مشمول لتلك الأخبار، باعتبار أنّ الإخبار عن الوجوب أيضاً هو أخبار عن ترتّب الثواب على الفعل بحكم الملازمة بين وجوب شيءٍ وبين رجحانه وترتب الثواب عليه كما هو الحال في الإخبار عن الاستحباب لو قام الخبر الضعيف على الاستحباب، كيف هناك جعلنا هذه الحالة داخلة في الأخبار باعتبار الملازمة بين استحباب الفعل وبين رجحانه وترتّب الثواب عليه، كذلك ما إذا قام الخبر الضعيف على وجوب شيءٍ، هنا أيضاً توجد ملازمة بين وجوب الشيء وبين ترتّب الثواب على فعله، غاية الأمر أنّه في هذه الحالة الأخيرة الخبر الضعيف على الوجوب كما هو إخبار عن ترتّب الثواب على الفعل، كذلك هو إخبار عن ترتّب العقاب على الترك؛ لأنّه يدلّ على الوجوب، وبالملازمة هو يدلّ على ترتّب العقاب على الترك كما يدلّ بالملازمة على ترتّب الثواب على الفعل، فيقال: إنّه وإنْ كان إخباراً عن ترتّب العقاب على الترك، لكنّ هذا العقاب لا يثبت بالخبر الضعيف، وإنّما الذي يثبت على تقدير تماميّة أخبار(من بلغ) وأنْ نستفيد منها شيء هو إخبار عن الثواب لا الإخبار عن العقاب، فالخبر الضعيف الدال على الوجوب وإنْ كان هو إخبار عن ترتّب العقاب على الترك، لكنّ العقاب لا يثبت بالخبر الضعيف كما هو واضح، باعتبار أنّ القاعدة مختصّة بالإخبار عن الثواب لا الإخبار عن العقاب، وكون الخبر إخبار عن ترتب العقاب على الترك لا يمنع من شمول القاعدة وأخبار(من بلغ) للخبر الضعيف الدال على الوجوب باعتباره إخباراً عن ترتّب الثواب على الفعل، فيترتب الثواب على الفعل، وهذا الخبر يكون إخباراً عن ترتّب الثواب على هذا الفعل، هو حكم بلسان الوجوب لا بلسان الاستحباب، فيكون مشمولاً للقاعدة ويُلتزم ــــــ بناءً على بعض التفسيرات السابقة لأخبار(من بلغ) ـــــــ أيضاً باستحباب الفعل الذي قام خبر ضعيف على وجوبه، باعتبار أنّ أخبار(من بلغ) تشمله وتقول هذا بلغه ثواب على عمل، فعمله كان له ذلك الثواب، فإذا استفدنا من تلك الأخبار بعض الاحتمالات السابقة وهو الاستحباب النفسي للفعل بعنوان البلوغ يُلتزم هنا باستحباب هذا الفعل الذي قام الخبر الضعيف على وجوبه، ولعلّه لذلك أفتى بعض الفقهاء باستحباب الفعل إذا قام على وجوبه خبر ضعيف، لعلّ الالتزام بالاستحباب هو من هذا الباب، باعتبار أنّهم يرون أنّ هذا الخبر الضعيف مشمول للقاعدة وبناءً على بعض الاحتمالات السابقة يثبت به استحباب العمل.
هذا الذي يقال في ما إذا قام الخبر الضعيف على الوجوب وأنّ هذه الحالة أيضاً مشمولة للأخبار، هذا يمكن التأمّل فيه، باعتبار أنّ ما تقدّم سابقاً من أنّ ظاهر جميع الأخبار، المطلقة والمقيّدة هو الإتيان بالعمل بداعي تحصيل الثواب، إمّا باعتبار تصريح الروايات بالتماس ذلك الثواب، وإمّا باعتبار التفريع الموجود في المطلقات(فعمله) حيث قلنا أنّ الروايات فرّعت العمل على بلوغ الثواب بحيث أنّ بلوغ الثواب يكون مؤثراً في العمل، وقلنا أنّه لا معنى لتأثير بلوغ الثواب في العمل إلاّ باعتبار أنّ بلوغ الثواب يورث الاحتمال أو الظنّ، ويكون المكلّف قد جاء بالعمل بداعي ذلك الظن، وذلك الاحتمال؛ لأنّ بلوغ الثواب يورث احتمال الثواب، صدر العمل بداعي ذلك الاحتمال، فيكون العمل صادراً بداعي تحصيل الثواب أو برجاء إدراك ذلك الثواب، باعتبار أنّ بلوغ الثواب يورث احتمال الثواب، هذا معناه أنّ موضوع الأخبار هو العمل الذي يصدر من المكلّف بداعي تحصيل الثواب الذي بلغه، وهذا صدقه واضح جدّاً في المستحبّات، يعني عندما يقوم الخبر الضعيف على الاستحباب وعلى ترتب الثواب صدقه واضح؛ لأنّ الذي بلغه الاستحباب بالخبر الضعيف يصدق عليه أنّه عمل ذلك العمل رجاء تحصيل ذلك الثواب؛ لأنّ الذي يأتي بالمستحب الذي قام عليه الخبر الضعيف يأتي به بداعي تحصيل ثوابه، وأمّا صدقه على الخبر الضعيف الدال على الوجوب، فليس واضحاً، على الأقل نشكك في شمول الأخبار لهذه الحالة؛ لأنّ العمل الذي يصدر من المكلّف الذي دلّ الخبر الضعيف على وجوبه عندما يصدر منه لا يصدر العمل منه عادة بداعي تحصيل الثواب، وإنْ كان يمكن فرض صدوره منه بداعي تحصيل الثواب، الامتثال والإتيان بالفعل في الواجبات لا يصدر بداعي تحصيل الثواب على الفعل، وإنّما عادة يصدر بداعي التخلّص وتجنّب العقاب الذي يثبت على مخالفة هذا التكليف؛ ولذا هناك فرق بين المستحبّات وبين الواجبات، امتثال المستحبّات عادة يكون بداعي تحصيل الثواب، الواجبات يأتي بها المكلّف عادة، وليس دائماً، بداعي التخلّص من العقاب المترتب على المخالفة. إذن: هو يمتثل ويأتي بالفعل للتخلّص من العقاب لا لتحصيل الثواب على الفعل. هذا الشيء الذي نقوله أنّ المستحبّات تختلف عن الواجبات، العادة جارية على الإتيان بالمستحب برجاء تحصيل الثواب؛ ولذا يكون مشمولاً للأخبار؛ لأنّ موضوع الأخبار كما قلنا هو الإتيان بالفعل بداعي تحصيل الثواب، وفي الواجبات المكلّف لا يأتي بالفعل بداعي تحصيل الثواب، وإنّما يمتثل ويأتي بالفعل للفرار عن العقاب الذي يترتب على المخالفة، فلا يكون صدق الأخبار عليه واضحاً، موضوع الأخبار هو العمل الذي يصدر من المكلّف بداعي تحصيل الثواب، هذا لا يأتي بالفعل بداعي تحصيل الثواب، وإنّما يأتي بالفعل الذي قام عليه الخبر الضعيف ودلّ على وجوبه للتخلّص من العقاب على المخالفة، للفرار من العقاب الذي يترتب على المخالفة، ومن هنا يكون صدق الأخبار وشمولها له ليس واضحاً، على الأقل نشكك في شمول الأخبار لهذه الحالة الثالثة، وهي حالة ما إذا قام الخبر الضعيف على الوجوب، وإثبات الاستحباب لو قلنا ببعض الاحتمالات السابقة يكون مشكلاً حينئذٍ، ومن هنا يظهر الحال في الحالة الرابعة وهي حالة ما إذا قام الخبر الضعيف على الحرمة. قد يُتخيّل أنّ هذه الحالة أيضاً مشمولة للأخبار، غاية الأمر أننّا لا نثبت بذلك استحباب الفعل كما هو واضح، وإنمّا نثبت بذلك استحباب الترك؛ لأنّ حرمة الشيء والنهي عنه تعني طلب تركه، ومن هنا يكون ترك الشيء الحرام راجحاً ومطلوباً، والملازمة ثابتة بين رجحان الشيء ومطلوبيته وبين ترتب الثواب عليه، ولا فلاق بين مطلوبية الفعل ومطلوبية الترك، الملازمة لا تفرّق بينهما، كما أنّ رجحان الفعل ومطلوبيته يلازم ترتب الثواب على الفعل، رجحان الترك ومطلوبيته أيضاً تلازم ترتّب الثواب على الترك، فكأنّه هذا بلغه ترتّب الثواب على الترك، لكن بالدلالة الالتزامية، فيكون مشمولاً للأخبار التي تقول(من بلغه ثواب على شيء فجاء به، أو بلغه الثواب على الترك، فتركه كان له ذلك) فيكون مشمولاً بالأخبار، فإن قلنا أنّ هذا يثبت الاستحباب، فهذا يثبت استحباب الترك، أو يثبت كراهة الفعل، لكن بالنتيجة هو يكون مشمولاً بالأخبار ببيان أنّ النهي والتحريم يعني طلب الترك، وهذا يعني أنّ ترك الحرام راجح ومطلوب، والمطلوبية والرجحان يلازم ترتب الثواب على الأمر الراجح، سواء كان فعلاً، أو كان تركاً. الأمر الراجح في محل الكلام هو الترك، والمطلوبية ثابتة للترك، وترك الحرام مطلوب للشارع، وراجح، وعندما يكون راجحاً يكون ملازماً لترتّب الثواب عليه، فتشمله الأخبار، وإذا قلنا باستفادة الاستحباب النفسي؛ حينئذٍ نستفيد استحباب الترك، فيثبت أنّ الترك مستحب.
أقول: قد يُتخيّل هذا الكلام، لكنّ الذي يدفعه عموماً، يعني أنّ الصحيح في هذا الفرض الرابع هو عدم شمول الأخبار لحالة ما إذا قام الخبر الضعيف على التحريم، وذلك لعدّة أمور منها:
الأمر الأوّل: ما أشرنا إليه في الحالة السابقة وهي حالة ما إذا قام الخبر الضعيف على الوجوب، فأننّا هناك إذا توقّفنا وتأملنا في شمول الأخبار لهذه الحالة، فأنّ عدم الشمول في المقام يكون أوضح، باعتبار أنّ في المحرمات واضح أنّ الامتثال لا يكون لغرض تحصيل الثواب على الترك، وإنّما يكون لغرض الفرار من العقاب المترتب على الفعل، فالمكلّف إنّما يمتثل النهي ويترك الحرام لا لأجل أنْ يحصل على مصلحة وثواب على الترك، وإنّما لكي يتجنّب العقاب المترتب على الفعل، هنا عدم شمول الأخبار لهذه الحالة أوضح من عدم شمولها للحالة السابقة، باعتبار أنّ من الواضح في باب المحرّمات أنّ الامتثال يكون لغرض الفرار من العقوبة المترتبة على الفعل، وليس لأجل تحصيل الثواب، هذا بناءً على تسليم تحصيل الثواب ـــــ وستأتي مناقشته ـــــ المترتب على ترك الحرام، ومن هنا يكون شمول الأخبار لهذه الحالة خلاف الظاهر جدّاً، فأنّ ظاهر الأخبار هو أنّ الإتيان بالعمل هو لغرض تحصيل الثواب، وهذا هو موضوع الأخبار، وهذا لا يصدق في باب المحرّمات، يعني في باب قيام الخبر الضعيف على حرمة شيء.
الأمر الثاني: التشكيك في صدق بلوغ الثواب في هذه الحالة حتّى لو سلّمنا تفسير النهي والتحريم بطلب الترك ولم نفسّره بالزجر على الفعل، لكن طلب الترك في المحرّمات هل هو لأجل وجود مصلحة في الترك تقتضي رجحانه، أو لأجل وجود مفسدة في الفعل تقتضي مرجوحية الفعل ؟ من الواضح أنّ الجواب هو الثاني، حتّى لو فسّرنا النهي والتحريم بطلب الترك، بمعنى أنّ الشارع يطلب ترك شرب الخمر، لكن يطلبه ليس لأجل وجود مصلحة في الترك بحيث تقتضي رجحان الترك لوجود مصلحة فيه، وإنّما هو يطلب تركه باعتبار وجود مفسدة في الفعل تقتضي مرجوحيته، فطلب الترك في المحرّمات ليس لأجل وجود مصلحة في الترك ليس لأجل وجود مصلحة في الترك ورجحان فيه حتّى نستفيد من ذلك ترتب الثواب عليه باعتبار الملازمة بين مطلوبية الترك وبين ترتب الثواب عليه، وندخله حينئذٍ في أخبار(من بلغ)؛ لأنّ هذا يدل على رجحان الترك ومطلوبيته وهي تلازم ترتب الثواب عليه، فيصدق عليه أنّه بلغه الثواب على الترك؛ وحينئذٍ تشمله الأخبار ويثبت استحباب الترك. كلا، طلب الترك في باب المحرّمات لو سلّمناه، فهو ليس لأجل وجود مصلحة في الترك؛ بل لأجل مفسدة في الفعل تقتضي مرجوحيته؛ ولذلك طُلب تركه، فصدق بلوغ الثواب في هذا الفرض ممنوع؛ بل لا يصدق أنّه بلغه ثواب على هذا العمل، على الأقل بالنظر العرفي في ما نفهم عرفاً من هذا الدليل أنّ موضوعه، بلوغ الثواب على شيء، عندما يقوم الخبر الضعيف على حرمة شيءٍ، لا يصدق عليه أنّه بلغه الثواب على ترك ذلك الحرام؛ لأنّه إنْ فسّرنا النهي بالزجر، فواضح أنّه لا يوجد طلب الترك، والترك أصلاً ليس مطلوباً، وإنّما هو يزجر عن الفعل لمفسدةٍ فيه؛ بل حتّى إذا فسّرناه بطلب الترك فنقول أنّ طلب الترك ليس لأجل وجود ملاكٍ في الترك اقتضى طلبه، ومحبوبية ورجحان في الترك، وإنّما هو لأجل وجود مفسدة ومرجوحية في الفعل اقتضت أنْ ينهى عنه، أي أنْ يطلب تركه، فصدق بلوغ الثواب في محل الكلام لأيضاً ليس واضحاً.
الأمر الثالث: وعلى ضوئه أيضاً نستبعد شمول الأخبار لحالة قيام الخبر الضعيف على التحريم هو مسألة أنّ الذي يوجد في الأخبار هو بلوغ الثواب على العمل، والعمل ظاهر في الأمر الوجودي، وتعميمه للترك هذا غير واضح، خصوصاً بعد هذا التفريع(من بلغه ثواب على عمل، فعمله) صدقه واضح جدّاً في باب المستحبّات، والواجبات، أي قيام الخبر الضعيف على الاستحباب أو على الوجوب، أو على بلوغ الثواب؛ لأنّ العمل أمر وجودي بلغه ثواب عليه، فجاء به، فيصدق عليه. وأمّا عندما يقوم الخبر الضعيف على تحريم شيء، فلكي تكون الأخبار شاملة له لابدّ أنْ نقول(من بلغه ثواب على الترك) ثمّ يقال(فعمله) أي فعمل الترك، هذا خلاف الظاهر، فأنّ الظاهر من العمل، خصوصاً بعد تفريع(فعمله) على ما قبلها، هو أنّ المقصود بالعمل الذي بلغه ثواب عليه هو الأمر الوجودي، أي الفعل كما هو الحال في الواجبات والمستحبات، وأمّا في التحريم، فشمول الأخبار له خلاف الظاهر، فلهذه الأمور يمكن أنْ نقول أنّ شمول الأخبار للخبر الضعيف الدال على التحريم ممنوع.
يبقى الكلام في حالة أخيرة، وهي الحالة الخامسة، وهي حالة قيام الخبر الضعيف على الكراهة، هنا أيضاً قد يُتوهّم على غرار ما في الحالة السابقة أنّ هذه الحالة مشمولة لأخبار(من بلغ) بنفس البيان السابق، باعتبار أنّ الكراهة تعني طلب الترك ورجحانه، وبالملازمة بين رجحان الترك وطلبه، ولو على مستوى الكراهة، يثبت ترتّب الثواب على الترك، لأجل كونه مطلوباً وراجحاً، فيصدق عليه أنّه بلغه ثواب على الترك، فتشمله الأخبار، وقد ـــــ على بعض التفسيرات ــــــ يثبت استحباب الترك، فإذا قام خبر ضعيف على الكراهة نثبت به استحباب الترك، أو نثبت به الكراهة.
أقول: هذا الفرض الخامس أيضاً حاله حال الفرض الرابع؛ لأنّ كل النكات التي ذكرت هناك والتي منعت من شمول الأخبار للفرض الرابع تجري في المقام وتمنع من شمول الأخبار للفرض الخامس أيضاً. النكتة الأخيرة التي ذكرناها جريانها في المقام واضح؛ لأننّا قلنا أنّ ظاهر الأخبار هو من بلغه ثواب على عمل، فعمله، هذا ظاهر في أنّ المقصود به هو الأمر الوجودي وشمول ذلك للترك هو خلاف الظاهر من دون فرق بين أنْ يكون الترك لازم كما في المحرمات، أو الترك غير لازم كما في المكروهات، الظاهر من الأخبار هو الأمر الوجودي، إذا بلغه ثواب عليه؛ فحينئذٍ يكون مشمولاً للأخبار، أمّا في هذا الفرض فلم يبلغه ثواب على الأمر الوجودي، وإنّما بلغه ثواب على الترك، فشمول الأخبار له ليس واضحاً. والنكتة الثانية أيضاً تجري في المقام، وهي نكتة التشكيك في صدق البلوغ، بقطع النظر عن العمل وكون الظاهر منه هو الأمر الوجودي، وإنّما أصل بلوغ الثواب في المقام غير واضح كما قلنا في بحث التحريم، باعتبار أنّ الكراهة حتّى إذا فسّرناها بطلب الترك بمستوى الكراهة، هذه لم تنشأ من مصلحة في الترك تقتضي طلبه على مستوى الكراهة، وإنّما نشأت من مفسدة وحزازة في الفعل، وهذا هو السبب في النهي عنه نهياً كراهتياً، أو بعبارة أخرى: طلب تركه بنحو الكراهة، هو يطلب تركه لا لمصلحة في الترك، وإنّما يطلب تركه لحزازة ومفسدة في الفعل، فيكون نظير الحرام، صدق بلوغ الثواب عليه يكون غير واضح. والنكتة الأولى أيضاً تجري في المقام، وهي نكتة التفريع، أنّ الأخبار ظاهرة في أنّ العمل فُرّع على بلوغ الثواب، واستفدنا من هذا أنّ موضوع الأخبار هو الإتيان بالعمل بداعي تحصيل الثواب، شمولها للمكروهات غير واضح، وشمولها للمستحبّات غير واضح؛ بل شككنا في شمولها حتّى للواجبات؛ لأنّ من الواضح أنّه في المكروهات والمحرمات ـــــ على الأقل ـــــ الإنسان لا يترك المكروه بداعي تحصيل الثواب، وإنّما يترك المكروه بداعي الفرار عن الحزازة الموجودة في الفعل كما هو الحال في المحرّمات، يترك الحرام للفرار عن المفسدة الموجودة في الفعل لا أنّه يترك الحرام لغرض تحصيل الثواب، هذا الشيء لو اتّفق حصوله، فهو نادر جدّاً، عادة المكلّف في المحرّمات والمكروهات يمتثل، يعني يترك الفعل لغرض الفرار عن المفسدة والحزازة الموجودة فيه لا لتحصيل الثواب الثابت في الترك، لو سلّمنا ثبوته وتنزّلنا عن الملاحظات السابقة، مع ذلك نقول لا يكون مشمولاً للأخبار؛ لأنّ موضوع الأخبار هو من يأتي بما بلغه عليه الثواب لغرض تحصيل الثواب، هذا حتّى لو فرضنا أنّه بلغه الثواب على الترك، لو تنزلّنا وسلّمنا ذلك، لكن هذا عادة لا يأتي بما بلغه عليه الثواب وهو الترك لغرض تحصيل الثواب، وإنّما يأتي به لغرض الفرار من المفسدة والعقاب الذي يترب على الفعل.