35/04/29
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان الكلام في الإشكال الذي أورد على الالتزام بحرمة المخالفة القطعيةفي المقام الثاني في مسألة دوران الأمر بين المحذورين، وذكرنا بعض الأجوبة عنه. الإشكال أساساً يقول مفروض الكلام أنّ هناك تساوي بين المحتملين، ولا توجد ميزة لأحد المحتملين على الآخر، وهذا يعني أنّ الفعل ليس أرجح من الترك ومع عدم الأرجحية لا يمكن التقرّب بالفعل إلى المولى سبحانه وتعالى؛ لأنّ الفعل يساوي الترك، ويشترط في التقرّب أن يكون الفعل المتقرّب به أرجح بنظر المولى ومحبوباً له، بينما الفعل في محل الكلام لا يُحرز المكلّف أرجحيته؛ لعدم وجود ميزة لأحد المحتملين على الآخر بحسب الفرض، وذكرنا الجواب عن ذلك وكان حاصل الجواب هو أننا سلّمنا عدم وجود أرجحية للفعل على الترك، لكن احتمال الوجوب في هذا الطرف هو من الدواعي القربية، واحتمال القربي أيضاً هو داعٍ قربي، هذان الداعيان يتزاحمان، فلا يمكن أن يؤثرا معاً في آنٍ واحد؛ فحينئذٍ نحتاج إلى وجود مرجح.
ذُكر في الجواب أنّ انضمام داعٍ دنيوي إلى الداعي القربي في طرف الفعل، هذا يكفي في الترجيح وفي إمكان التقرّب بالفعل إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ المعتبر في الداعي القربي هو أن لا يكون هو المحرك للفعل، وإنّما أن تكون فيه صلاحية التحريك، والداعي القربي الموجود بالفعل بالرغم من المزاحمة مع الداعي القربي الموجود في الترك هو فيه صلاحية التحريك وإن لم يكن محركاً بالفعل لابتلائه بالمزاحم، لكن فيه هذه الصلاحية، فإذا انضم الداعي الدنيوي إلى هذا الداعي القربي يكفي هذا المقدار للتقرّب بالفعل ولعبادية الفعل الذي يأتي به المكلّف؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّ المكلّف قادر على امتثال الوجوب العبادي، فإذا كان قادراً على امتثاله؛ حينئذٍ يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه لا أنّه يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه كما ادُعي في الإشكال. إذا دخل في مسألة الاضطرار إلى أحدهما بعينه؛ حينئذٍ يجوز إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر وهذا معناه عدم الالتزام بحرمة المخالفة القطعية، لكن إذا قلنا أنّه يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، في هذه الحالة نقول بحرمة المخالفة القطعية ولا يمكن إجراء الأصل في الطرف الآخر.
قلنا أنّ هذا الجواب لا يتم في جميع الحالات، إذا قبلناه فأنّه يتم في بعض الحالات ولكنّه لا يتم في جميع الحالات، هذا ذكرناه سابقاً.
الملاحظة الثانية على هذا الجواب: أساساً كون الداعي قربي هو شيء غير واضح، باعتبار أنّ صدور الفعل من المكلّف كأنّه بحسب النتيجة يكون بسبب الداعي الدنيوي، بانضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي القربي؛ حينئذٍ صدر هذا الفعل من المكلّف، فصار الداعي الدنيوي هو المؤثّر في صدور الفعل من المكلّف، إذا لم نقل ذلك؛ فحينئذٍ نقول أنّ صدور الفعل من المكلّف يستند إلى مجموع الداعيين، الداعي الإلهي القربي والداعي الدنيوي المنضم إليه، لكن المفروض أنّ الداعي الإلهي القربي مُزاحم بالداعي الإلهي القربي الموجود في الترك، والذي يحرّك المكلّف نحو الترك، وهذه المزاحمة تمنعه من التأثير، إذن، كأنّ الفعل بالنتيجة صدر باعتبار انضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي القربي، بحسب النتيجة كأنّ الفعل صدر من المكلّف لانضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي، صحيح أنّه بالنتيجة هناك داعيان عند المكلّف أحدهما إلهي والآخر قربي، لكن هذا الداعي الإلهي مزاحم، وهذه المزاحمة تمنع من تأثيره في التحريك الفعلي نحو الفعل؛ لأنّه مزاحم بداعٍ إلهي مثله يدعو إلى الترك، وبالتالي كأنّ الفعل في صدوره استند إلى انضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي. هذا المقدار هل يكفي في عبادية العبادة وفي تحقق قصد القربة، أو لا يكفي ؟ هذا ليس واضحاً. أصل المطلب الذي ذُكر كأنّه مسلّم ليس واضحاً؛ لأنّه بحسب النتيجة كأنّ الفعل صدر من المكلّف باعتبار انضمام هذا الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي وهذا يمنع من التقرّب، أو لا أقل قد نتوقّف في أنّ هذا هل يحقق العبادية، أو لا يحقق العبادية ؟ ومن هنا يظهر أنّ هذا الجواب عن الإشكال ليس تامّاً في جميع موارد الإشكال وفي حدّ نفسه هو ليس واضحاً ولا يمكن الاقتناع به بهذا الشكل.
هناك جواب آخر عن الإشكال، لعلّه أحسن الأجوبة في المقام، وهو أن يقال: يمكن للمكلّف الإتيان بالفعل بقصد القربة وعلى نحو العبادة، حتّى مع التسليم بأنّه لا يحرز أرجحية الفعل بالنسبة إلى الترك، لا توجد أرجحية للفعل على الترك، بالرغم من هذا ندّعي أنّه يمكنه أن يأتي بالفعل بقصد القربة وعلى نحوٍ عبادي؛ وذلك بأن يقصد بالفعل عنوان التخلّص من المخالفة القطعية ولا إشكال أنّ عنوان التخلّص من المخالفة القطعية ينطبق على الإتيان بالفعل، صحيح أنّ التخلّص من المخالفة القطعية لا يتوقف على الفعل؛ لأنّ التخلّص من المخالفة القطعية يمكن أن يكون بالترك، الفعل يتخلّص به المكلّف عن المخالفة القطعية، والترك أيضاً يتخلّص به المكلّف عن المخالفة القطعية؛ لأنّ الترك موافقة للمحتمل الآخر وهو التحريم، فإذن، يتخلّص من المخالفة القطعية، فيه موافقة احتمالية، لكن التخلّص يتوقف على الفعل بلا إشكال، فإذا ضممنا إلى ذلك وضوح أنّ التخلّص من المخالفة القطعية للتكليف الإلهي المولوي المعلوم بالإجمال هو من القصود المقرّبة؛ إذ أنّه قصد قربي بلا إشكال، يعني يأتي بالفعل لكي يتخلّص من مخالفة المولى سبحانه وتعالى، لكي يتخلّص من مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال وهو قصد مقرّب، فإذا كان القصد مقرّباً، إذن: بإمكان المكلّف أن يأتي بالفعل بقصد التخلّص من المخالفة القطعية، وبذلك نتخلّص عن الإشكال؛ إذ أنّ الإشكال كان يقول لا أرجحية في الفعل على الترك، باعتبار أنّ المفروض عدم وجود مزية لأحدهما على الآخر. صحيح المكلّف لا يحرز أرجحية الفعل على الترك، لكن بإمكانه أن يأتي بالفعل على نحوٍ مقرّب؛ وذلك بأن يقصد بالإتيان به التخلّص من المخالفة القطعية، والتخلّص من المخالفة القطعية بلا إشكال هو من الدواعي القربية.
إذن: بالنتيجة يمكن للمكّلف أن يمتثل هذه المحتمل كما يمكنه أن يمتثل المحتمل الآخر. نعم، هو مضطر إلى مخالفة أحدهما، هذا اضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فلا تدخل المسألة في مسألة الاضطرار إلى أحدهما بعينه كما أدُعي في الإشكال. المهم عندنا أن ندخل المقام في مسألة الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه حتّى نقول لا مانع من منجّزية حرمة المخالفة القطعية، وهذا مُنع في الإشكال على أساس أنّه لا يمكن أن يمتثل هذا التكليف، أي الوجوب العبادي؛ لأنّه لا يتمكن من الإتيان بالفعل بقصد التقرّب لعدم إحراز أرجحية الفعل على الترك، إذن، هو مضطر إلى مخالفة هذا بالخصوص، هذا اضطرار إلى أحد الطرفين بعينه. نقول: بل هو يتمكن من الإتيان به على نحو قربي، إذن، هو يتمكن من امتثال كلا المحتملين، لكنّه مضطر إلى مخالفة أحدهما لا على التعيين، فيدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ وحينئذٍ يتم الكلام السابق.
لعل هذا أحسن الوجوه لدفع هذا الإشكال، وإلاّ، إن لم ندفع الإشكال بهذا الوجه؛ حينئذٍ الأمر في الحقيقة يدور بين أمرين: إمّا أن نلتزم في المقام بعدم حرمة المخالفة القطعية، لكن بهذه الشروط، المهم في هذه الشروط هو عدم وجود مزية لأحد الطرفين دون الآخر، في هذه الحالة نلتزم بعدم حرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ هذا بحسب الإشكال السابق يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحدهما بعينه، وهناك اتفقنا على جواز إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر، وهذا معناه عدم حرمة المخالفة القطعية. إمّا أن نلتزم بذلك، وهذا شيء ليس من السهل الالتزام به، أي نلتزم في حالة من هذا القبيل بجواز المخالفة القطعية، أو نلتزم بأنّه في مسألة دوران الأمر بين المحذورين وفي فرض التساوي وعدم وجود مزية لأحدهما على الآخر، نقول: أصلاً لا يمكن فرض كون أحدهما، أو كليهما عبادياً؛ باعتبار أنّ كون أحدهما عبادياً يتوقف على أن يكون أرجح من الآخر، أن يكون الوجوب عبادياً، هذا غير ممكن؛ لأنّه يتوقف على أن يكون الفعل أرجح من الترك، والمفروض عدم الأرجحية، إذن، لا يمكن أن يكون الوجوب عبادياً، وهكذا الحرمة، لا يمكن أن تكون الحرمة عبادية بنفس البيان السابق كما قلنا. ففي مسألة دوران الأمر بين المحذورين وفرض التساوي بين المحتملين وعدم وجود مزية لا احتمالاً، ولا محتملاً في أحدهما دون الآخر، في هذه الحالة لا يمكن فرض كون أحدهما عبادياً؛ بل كون كليهما عبادياً أيضاً غير ممكن، فلابدّ أن نفترض أنّ كلاً منهما توصلي، وافتراض أنّ كلاً منهما توصلي يعني أنّه ينحصر الأمر في المقام الأوّل؛ لأنّه في المقام الأوّل قلنا أنّ كلاً منهما يكون توصلياً، الوجوب توصّلي والحرمة أيضاً توصّلية، فينحصر في المقام الأوّل؛ وحينئذ لا يكون هناك مقام ثانٍ؛ لأننا حينئذٍ لا نستطيع أن نتصوّر أن يكون أحدهما عبادياً؛ لأنّ كون أحدهما عبادياً غير ممكن؛ لأنّ كون الوجوب عبادياً هكذا وجوب يكون ساقطاً؛ لأنّ المكلّف لا يتمكن من امتثاله، وكذلك كون الحرمة فقط عبادية أيضاً لا يمكن ذلك، وكون كل منهما عبادياً أيضاً لا يمكن ذلك، فلابدّ من أن يكون الأمر منحصراً بالمقام الأوّل وهو أن يكون كل منهما توصلياً حتّى نستطيع أن نتعقّل وجود وجوب محتمل يمكن امتثاله، ووجود حرمة محتملة يمكن امتثالها. فنحن بين هذين الأمرين: إمّا أن نلتزم بعدم حرمة المخالفة القطعية كعدم وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام. وإمّا أن نلتزم بأنّه في المقام لا يمكن افتراض كون أحدهما عبادياً، أو كون كليهما عبادياً.
لكن إذا تمّ الجواب السابق؛ حينئذٍ يرتفع الإشكال ويكون هناك عندنا مقام ثانٍ غير المقام الأوّل، ونفترض في المقام الثاني كما ذكرنا أن يكون على الأقل أحدهما عبادياً، أو يكون كلاهما عبادياً وندفع الإشكال بما تقدم.
هذا كلّه إذا فرضنا عدم وجود ميزة لأحد المحتملين على الآخر، وأمّا إذا فرضنا أنّ لأحدهما ميزة، إمّا في الاحتمال، وإمّا في المحتمل؛ حينئذٍ لابدّ من أخذ ذلك بنظر الاعتبار، إذا فرضنا أنّ الميزة موجودة في جانب التكليف التعبّدي، يعني نفترض أنّ أحدهما عبادي والميزة موجودة في جانب التكليف التعبّدي إمّا من حيث الاحتمال، أو المحتمل، ولنفترض الوجوب كما افترضنا سابقاً أن الوجوب المعيّن هو العبادي، وكانت الميزة موجودة فيه، ومفقودة في جانب احتمال التحريم، إذا كان كذلك في هذه الحالة يكون المكلّف قادراً على امتثاله باعتبار وجود المرجّح وهو الميزة، بأن يأتي بالفعل بقصد التقرّب؛ لأنّ شرط التقرّب بالفعل موجود وهو الأرجحية؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال السابق، فلا يستطيع المستشكل حينئذٍ أن يقول هنا لا يمكن امتثال هذا التكليف، وفي هذه الحالة يكون الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ لأنّه يتمكن من امتثال أحدهما لا بعينه، إمّا أن يخالف هذا، أو يخالف هذا، وليس مضطراً إلى مخالفة أحدهما بعينه حتّى يدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما بعينه، وإنّما هو مضطر إلى مخالفة أحدهما، فيدخل في باب الاضطرار إلى مخالفة أحدهما لا بعينه، وأشرنا سابقاً إلى أنّ حكم هذا الفرض هو أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية الذي هو التبعيض في التنجيز، أو التوسط في التنجيز، لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه غير قادر عليها، لكنّه قادر على المخالفة القطعية، فينجّز العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية. أمّا إذا فرضنا أنّ الميزة موجودة في الطرف الآخر، أي في جانب التحريم، ونفترض أنّ التحريم ليس عبادياً، وإنّما الوجوب هو العبادي، وكانت المزية موجودة في الجانب الآخر، أي في التكليف التوصّلي الذي هو في فرضنا الحرمة؛ لأنّ الوجوب عبادي بحسب الفرض، هنا الظاهر أنّ الإشكال السابق يبقى على حاله؛ وذلك لأنّ المكلّف عاجز عن امتثال الوجوب العبادي؛ بل لعل الإشكال هنا يكون أوضح حينئذٍ؛ لأنّ وجود الميزة في جانب التكليف التوصّلي الذي هو الحرمة قد يوجب مرجوحية للفعل وليس تساوياً؛ بل يكون الفعل مرجوحاً بالنسبة إلى الترك؛ لأنّ الترك أصبح له ميزة وهذا قد يوجب مرجوحية بالنسبة للفعل، فلا يمكن التقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيعود نفس الإشكال، أنّ المكلّف لا يتمكن من امتثال الوجوب العبادي، يعني هو مضطر إلى مخالفته، وهذا معناه أن التكليف يدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما بعينه، فيرد الإشكال السابق.
إذن: التخلّص من الإشكال في فرض وجود مزية إنّما يكون عندما نفترض أنّ المزية موجودة في التكليف العبادي المحتمل من دون فرقٍ بين أن يكون الوجوب، أو التحريم، المهم أنّ التكليف العبادي المحتمل يكون هو صاحب المزية؛ حينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّ هذه المزية توجب أرجحية؛ وحينئذٍ يتمكن أن يأتي بمتعلّقه بقصد التقرّب، فيكون قادراً على الامتثال وليس مضطراً إلى مخالفته، فيدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، والعلم الإجمالي هنا ينجّز حرمة المخالفة القطعية. أمّا إذا فرضنا أنّ الميزة كانت موجودة في الطرف الآخر، أي في التكليف التوصلي؛ حينئذٍ سوف يبقى الإشكال على حاله؛ لأنّه يبقى هذا التكليف التعبّدي لا يمكن للمكلّف امتثاله، وهذا معناه أنّه مضطر إلى مخالفته بالخصوص، وهذا اضطرار إلى أحدهما بعينه.
نعم، إذا دفعنا الإشكال السابق بما تقدّم بأحد الأجوبة السابقة بحيث انتهينا إلى نتيجة تمكن المكلّف من امتثال التكليف العبادي، فرضاً في الجواب الأخير بأن يقصد التخلّص من المخالفة القطعية، يتمكن المكلّف من امتثال الوجوب العبادي، وإن كانت الميزة موجودة في طرف التحريم، لكنّه تمكن أن يمتثل الوجوب العبادي، إذا تخلّصنا من الإشكال بهذا الجواب السابق، في هذه الحالة يكون الاضطرار من باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ لأنّه يمكن أن يمتثل كلا المحتملين، فهو ليس مضطراً إلى مخالفة هذا التكليف العبادي، فيدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ وحينئذٍ نطبّق عليه ما هو الصحيح في هذه المسألة من أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ونلتزم بها.
على كل حال، في كل الحالات التي يتمكن المكلّف فيها من امتثال التكليف العبادي المحتمل، سواء كان يتمكن من ذلك باعتبار وجود مزية فيه توجب أرجحيته، أو يتمكن من الامتثال لأننا أجبنا عن الإشكال السابق، بأنّه يتمكن من امتثاله بأن يقصد التخلّص من المخالفة القطعية، في كل موردٍ يتمكن المكلّف من امتثال التكليف العبادي كما يتمكن من امتثال التكليف التوصلي المحتمل الآخر في كل مورد، النتيجة هي أنّ الاضطرار يكون إلى أحدهما لا بعينه، وسيأتي كما قلنا أنّ الصحيح في تلك المسألة هو أنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته، لكن لحرمة المخالفة القطعية، وإن كان لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، وهو معنى التوسّط في التنجيز، فإذا كان الصحيح في تلك المسألة هو التوسّط في التنجيز، هذا يُطبّق في محل الكلام، والنتيجة هي أنّه تحرم على المكلّف المخالفة القطعية، ولا يمكنه إجراء الأصول في الطرف الآخر.
هناك بحث آخر طُرح هنا، أنّه بعد أن انتهينا إلى هذه النتيجة، أنّه يمكن للمكلّف امتثال التكليف العبادي المحتمل، إمّا لوجود مزية، وإمّا لأننا ندفع الإشكال بما تقدّم، في هذه الحالة التزمنا بأنّ الموافقة القطعية ليست واجبة؛ لعدم قدرته عليها، والمخالفة القطعية محرّمة عليه، هذا معناه الترخيص في مخالفة أحد المحتملين، فإمّا أن يخالف الوجوب فيترك، أو يخالف التحريم فيفعل؛ حينئذٍ، بعد أن ننتهي إلى أنّ المكلّف مرخّص في أن يخالف هذا التكليف، أو أن يخالف ذلك التكليف؛ لأنّه مضطر إلى مخالفة أحدهما، ولأجل الاضطرار يرخّص له في مخالفة أحد الطرفين لا بعينه. هنا وقع الكلام في أنّ هذا الترخيص في حالة وجود مزيّة لأحد المحتملين دون الآخر، هذا الترخيص هل هو ترخيص تخييري ؟ بمعنى أنّ المكلّف كما يجوز له مخالفة التكليف المحتمل الذي ليس فيه مزية ويأتي بالمحتمل الذي فيه المزية، كذلك يجوز له العكس، وهذا هو الترخيص التخييري، فأنت مخيّر في أن تخالف هذا التكليف وتأتي بالتكليف الآخر، أو تخالف هذا التكليف وتأتي بالتكليف الأوّل. تخالف هذا المحتمل وتوافق المحتمل الثاني، أو تخالف المحتمل الثاني وتوافق المحتمل الأوّل، أنت مرخّص بينهما، فيمكن للمكلّف أن يطبّق الترخيص على كل محتمل، وهذا معناه بحسب النتيجة أنّه بإمكانه أن يخالف التكليف المحتمل ذي المزية ويوافق المحتمل الفاقد للمزية، هل الأمر هكذا، أو أنّ الترخيص تعييني، بمعنى أنّه عند وجود مزية يُرخّص له في مخالفة التكليف الآخر، وفي مخالفة المحتمل الآخر الفاقد للمزية، هو يلزم بموافقة المحتمل الذي فيه مزية، فالترخيص موجود، لكنّه ليس تخييري، وإنّما الترخيص تعييني، المكلّف مرخّص في مخالفة المحتمل الذي ليست فيه مزية بشرط أن توافق المحتمل الذي فيه مزية، فالترخيص في هذا فقط، ولا ترخيص في العكس، فهل الصحيح هو الترخيص التخييري، أو الترخيص التعييني ؟
كان الكلام في الإشكال الذي أورد على الالتزام بحرمة المخالفة القطعيةفي المقام الثاني في مسألة دوران الأمر بين المحذورين، وذكرنا بعض الأجوبة عنه. الإشكال أساساً يقول مفروض الكلام أنّ هناك تساوي بين المحتملين، ولا توجد ميزة لأحد المحتملين على الآخر، وهذا يعني أنّ الفعل ليس أرجح من الترك ومع عدم الأرجحية لا يمكن التقرّب بالفعل إلى المولى سبحانه وتعالى؛ لأنّ الفعل يساوي الترك، ويشترط في التقرّب أن يكون الفعل المتقرّب به أرجح بنظر المولى ومحبوباً له، بينما الفعل في محل الكلام لا يُحرز المكلّف أرجحيته؛ لعدم وجود ميزة لأحد المحتملين على الآخر بحسب الفرض، وذكرنا الجواب عن ذلك وكان حاصل الجواب هو أننا سلّمنا عدم وجود أرجحية للفعل على الترك، لكن احتمال الوجوب في هذا الطرف هو من الدواعي القربية، واحتمال القربي أيضاً هو داعٍ قربي، هذان الداعيان يتزاحمان، فلا يمكن أن يؤثرا معاً في آنٍ واحد؛ فحينئذٍ نحتاج إلى وجود مرجح.
ذُكر في الجواب أنّ انضمام داعٍ دنيوي إلى الداعي القربي في طرف الفعل، هذا يكفي في الترجيح وفي إمكان التقرّب بالفعل إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ المعتبر في الداعي القربي هو أن لا يكون هو المحرك للفعل، وإنّما أن تكون فيه صلاحية التحريك، والداعي القربي الموجود بالفعل بالرغم من المزاحمة مع الداعي القربي الموجود في الترك هو فيه صلاحية التحريك وإن لم يكن محركاً بالفعل لابتلائه بالمزاحم، لكن فيه هذه الصلاحية، فإذا انضم الداعي الدنيوي إلى هذا الداعي القربي يكفي هذا المقدار للتقرّب بالفعل ولعبادية الفعل الذي يأتي به المكلّف؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّ المكلّف قادر على امتثال الوجوب العبادي، فإذا كان قادراً على امتثاله؛ حينئذٍ يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه لا أنّه يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه كما ادُعي في الإشكال. إذا دخل في مسألة الاضطرار إلى أحدهما بعينه؛ حينئذٍ يجوز إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر وهذا معناه عدم الالتزام بحرمة المخالفة القطعية، لكن إذا قلنا أنّه يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، في هذه الحالة نقول بحرمة المخالفة القطعية ولا يمكن إجراء الأصل في الطرف الآخر.
قلنا أنّ هذا الجواب لا يتم في جميع الحالات، إذا قبلناه فأنّه يتم في بعض الحالات ولكنّه لا يتم في جميع الحالات، هذا ذكرناه سابقاً.
الملاحظة الثانية على هذا الجواب: أساساً كون الداعي قربي هو شيء غير واضح، باعتبار أنّ صدور الفعل من المكلّف كأنّه بحسب النتيجة يكون بسبب الداعي الدنيوي، بانضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي القربي؛ حينئذٍ صدر هذا الفعل من المكلّف، فصار الداعي الدنيوي هو المؤثّر في صدور الفعل من المكلّف، إذا لم نقل ذلك؛ فحينئذٍ نقول أنّ صدور الفعل من المكلّف يستند إلى مجموع الداعيين، الداعي الإلهي القربي والداعي الدنيوي المنضم إليه، لكن المفروض أنّ الداعي الإلهي القربي مُزاحم بالداعي الإلهي القربي الموجود في الترك، والذي يحرّك المكلّف نحو الترك، وهذه المزاحمة تمنعه من التأثير، إذن، كأنّ الفعل بالنتيجة صدر باعتبار انضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي القربي، بحسب النتيجة كأنّ الفعل صدر من المكلّف لانضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي، صحيح أنّه بالنتيجة هناك داعيان عند المكلّف أحدهما إلهي والآخر قربي، لكن هذا الداعي الإلهي مزاحم، وهذه المزاحمة تمنع من تأثيره في التحريك الفعلي نحو الفعل؛ لأنّه مزاحم بداعٍ إلهي مثله يدعو إلى الترك، وبالتالي كأنّ الفعل في صدوره استند إلى انضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي. هذا المقدار هل يكفي في عبادية العبادة وفي تحقق قصد القربة، أو لا يكفي ؟ هذا ليس واضحاً. أصل المطلب الذي ذُكر كأنّه مسلّم ليس واضحاً؛ لأنّه بحسب النتيجة كأنّ الفعل صدر من المكلّف باعتبار انضمام هذا الداعي الدنيوي إلى الداعي الإلهي وهذا يمنع من التقرّب، أو لا أقل قد نتوقّف في أنّ هذا هل يحقق العبادية، أو لا يحقق العبادية ؟ ومن هنا يظهر أنّ هذا الجواب عن الإشكال ليس تامّاً في جميع موارد الإشكال وفي حدّ نفسه هو ليس واضحاً ولا يمكن الاقتناع به بهذا الشكل.
هناك جواب آخر عن الإشكال، لعلّه أحسن الأجوبة في المقام، وهو أن يقال: يمكن للمكلّف الإتيان بالفعل بقصد القربة وعلى نحو العبادة، حتّى مع التسليم بأنّه لا يحرز أرجحية الفعل بالنسبة إلى الترك، لا توجد أرجحية للفعل على الترك، بالرغم من هذا ندّعي أنّه يمكنه أن يأتي بالفعل بقصد القربة وعلى نحوٍ عبادي؛ وذلك بأن يقصد بالفعل عنوان التخلّص من المخالفة القطعية ولا إشكال أنّ عنوان التخلّص من المخالفة القطعية ينطبق على الإتيان بالفعل، صحيح أنّ التخلّص من المخالفة القطعية لا يتوقف على الفعل؛ لأنّ التخلّص من المخالفة القطعية يمكن أن يكون بالترك، الفعل يتخلّص به المكلّف عن المخالفة القطعية، والترك أيضاً يتخلّص به المكلّف عن المخالفة القطعية؛ لأنّ الترك موافقة للمحتمل الآخر وهو التحريم، فإذن، يتخلّص من المخالفة القطعية، فيه موافقة احتمالية، لكن التخلّص يتوقف على الفعل بلا إشكال، فإذا ضممنا إلى ذلك وضوح أنّ التخلّص من المخالفة القطعية للتكليف الإلهي المولوي المعلوم بالإجمال هو من القصود المقرّبة؛ إذ أنّه قصد قربي بلا إشكال، يعني يأتي بالفعل لكي يتخلّص من مخالفة المولى سبحانه وتعالى، لكي يتخلّص من مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال وهو قصد مقرّب، فإذا كان القصد مقرّباً، إذن: بإمكان المكلّف أن يأتي بالفعل بقصد التخلّص من المخالفة القطعية، وبذلك نتخلّص عن الإشكال؛ إذ أنّ الإشكال كان يقول لا أرجحية في الفعل على الترك، باعتبار أنّ المفروض عدم وجود مزية لأحدهما على الآخر. صحيح المكلّف لا يحرز أرجحية الفعل على الترك، لكن بإمكانه أن يأتي بالفعل على نحوٍ مقرّب؛ وذلك بأن يقصد بالإتيان به التخلّص من المخالفة القطعية، والتخلّص من المخالفة القطعية بلا إشكال هو من الدواعي القربية.
إذن: بالنتيجة يمكن للمكّلف أن يمتثل هذه المحتمل كما يمكنه أن يمتثل المحتمل الآخر. نعم، هو مضطر إلى مخالفة أحدهما، هذا اضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فلا تدخل المسألة في مسألة الاضطرار إلى أحدهما بعينه كما أدُعي في الإشكال. المهم عندنا أن ندخل المقام في مسألة الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه حتّى نقول لا مانع من منجّزية حرمة المخالفة القطعية، وهذا مُنع في الإشكال على أساس أنّه لا يمكن أن يمتثل هذا التكليف، أي الوجوب العبادي؛ لأنّه لا يتمكن من الإتيان بالفعل بقصد التقرّب لعدم إحراز أرجحية الفعل على الترك، إذن، هو مضطر إلى مخالفة هذا بالخصوص، هذا اضطرار إلى أحد الطرفين بعينه. نقول: بل هو يتمكن من الإتيان به على نحو قربي، إذن، هو يتمكن من امتثال كلا المحتملين، لكنّه مضطر إلى مخالفة أحدهما لا على التعيين، فيدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ وحينئذٍ يتم الكلام السابق.
لعل هذا أحسن الوجوه لدفع هذا الإشكال، وإلاّ، إن لم ندفع الإشكال بهذا الوجه؛ حينئذٍ الأمر في الحقيقة يدور بين أمرين: إمّا أن نلتزم في المقام بعدم حرمة المخالفة القطعية، لكن بهذه الشروط، المهم في هذه الشروط هو عدم وجود مزية لأحد الطرفين دون الآخر، في هذه الحالة نلتزم بعدم حرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ هذا بحسب الإشكال السابق يدخل في مسألة الاضطرار إلى أحدهما بعينه، وهناك اتفقنا على جواز إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر، وهذا معناه عدم حرمة المخالفة القطعية. إمّا أن نلتزم بذلك، وهذا شيء ليس من السهل الالتزام به، أي نلتزم في حالة من هذا القبيل بجواز المخالفة القطعية، أو نلتزم بأنّه في مسألة دوران الأمر بين المحذورين وفي فرض التساوي وعدم وجود مزية لأحدهما على الآخر، نقول: أصلاً لا يمكن فرض كون أحدهما، أو كليهما عبادياً؛ باعتبار أنّ كون أحدهما عبادياً يتوقف على أن يكون أرجح من الآخر، أن يكون الوجوب عبادياً، هذا غير ممكن؛ لأنّه يتوقف على أن يكون الفعل أرجح من الترك، والمفروض عدم الأرجحية، إذن، لا يمكن أن يكون الوجوب عبادياً، وهكذا الحرمة، لا يمكن أن تكون الحرمة عبادية بنفس البيان السابق كما قلنا. ففي مسألة دوران الأمر بين المحذورين وفرض التساوي بين المحتملين وعدم وجود مزية لا احتمالاً، ولا محتملاً في أحدهما دون الآخر، في هذه الحالة لا يمكن فرض كون أحدهما عبادياً؛ بل كون كليهما عبادياً أيضاً غير ممكن، فلابدّ أن نفترض أنّ كلاً منهما توصلي، وافتراض أنّ كلاً منهما توصلي يعني أنّه ينحصر الأمر في المقام الأوّل؛ لأنّه في المقام الأوّل قلنا أنّ كلاً منهما يكون توصلياً، الوجوب توصّلي والحرمة أيضاً توصّلية، فينحصر في المقام الأوّل؛ وحينئذ لا يكون هناك مقام ثانٍ؛ لأننا حينئذٍ لا نستطيع أن نتصوّر أن يكون أحدهما عبادياً؛ لأنّ كون أحدهما عبادياً غير ممكن؛ لأنّ كون الوجوب عبادياً هكذا وجوب يكون ساقطاً؛ لأنّ المكلّف لا يتمكن من امتثاله، وكذلك كون الحرمة فقط عبادية أيضاً لا يمكن ذلك، وكون كل منهما عبادياً أيضاً لا يمكن ذلك، فلابدّ من أن يكون الأمر منحصراً بالمقام الأوّل وهو أن يكون كل منهما توصلياً حتّى نستطيع أن نتعقّل وجود وجوب محتمل يمكن امتثاله، ووجود حرمة محتملة يمكن امتثالها. فنحن بين هذين الأمرين: إمّا أن نلتزم بعدم حرمة المخالفة القطعية كعدم وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام. وإمّا أن نلتزم بأنّه في المقام لا يمكن افتراض كون أحدهما عبادياً، أو كون كليهما عبادياً.
لكن إذا تمّ الجواب السابق؛ حينئذٍ يرتفع الإشكال ويكون هناك عندنا مقام ثانٍ غير المقام الأوّل، ونفترض في المقام الثاني كما ذكرنا أن يكون على الأقل أحدهما عبادياً، أو يكون كلاهما عبادياً وندفع الإشكال بما تقدم.
هذا كلّه إذا فرضنا عدم وجود ميزة لأحد المحتملين على الآخر، وأمّا إذا فرضنا أنّ لأحدهما ميزة، إمّا في الاحتمال، وإمّا في المحتمل؛ حينئذٍ لابدّ من أخذ ذلك بنظر الاعتبار، إذا فرضنا أنّ الميزة موجودة في جانب التكليف التعبّدي، يعني نفترض أنّ أحدهما عبادي والميزة موجودة في جانب التكليف التعبّدي إمّا من حيث الاحتمال، أو المحتمل، ولنفترض الوجوب كما افترضنا سابقاً أن الوجوب المعيّن هو العبادي، وكانت الميزة موجودة فيه، ومفقودة في جانب احتمال التحريم، إذا كان كذلك في هذه الحالة يكون المكلّف قادراً على امتثاله باعتبار وجود المرجّح وهو الميزة، بأن يأتي بالفعل بقصد التقرّب؛ لأنّ شرط التقرّب بالفعل موجود وهو الأرجحية؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال السابق، فلا يستطيع المستشكل حينئذٍ أن يقول هنا لا يمكن امتثال هذا التكليف، وفي هذه الحالة يكون الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ لأنّه يتمكن من امتثال أحدهما لا بعينه، إمّا أن يخالف هذا، أو يخالف هذا، وليس مضطراً إلى مخالفة أحدهما بعينه حتّى يدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما بعينه، وإنّما هو مضطر إلى مخالفة أحدهما، فيدخل في باب الاضطرار إلى مخالفة أحدهما لا بعينه، وأشرنا سابقاً إلى أنّ حكم هذا الفرض هو أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية الذي هو التبعيض في التنجيز، أو التوسط في التنجيز، لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه غير قادر عليها، لكنّه قادر على المخالفة القطعية، فينجّز العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية. أمّا إذا فرضنا أنّ الميزة موجودة في الطرف الآخر، أي في جانب التحريم، ونفترض أنّ التحريم ليس عبادياً، وإنّما الوجوب هو العبادي، وكانت المزية موجودة في الجانب الآخر، أي في التكليف التوصّلي الذي هو في فرضنا الحرمة؛ لأنّ الوجوب عبادي بحسب الفرض، هنا الظاهر أنّ الإشكال السابق يبقى على حاله؛ وذلك لأنّ المكلّف عاجز عن امتثال الوجوب العبادي؛ بل لعل الإشكال هنا يكون أوضح حينئذٍ؛ لأنّ وجود الميزة في جانب التكليف التوصّلي الذي هو الحرمة قد يوجب مرجوحية للفعل وليس تساوياً؛ بل يكون الفعل مرجوحاً بالنسبة إلى الترك؛ لأنّ الترك أصبح له ميزة وهذا قد يوجب مرجوحية بالنسبة للفعل، فلا يمكن التقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيعود نفس الإشكال، أنّ المكلّف لا يتمكن من امتثال الوجوب العبادي، يعني هو مضطر إلى مخالفته، وهذا معناه أن التكليف يدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما بعينه، فيرد الإشكال السابق.
إذن: التخلّص من الإشكال في فرض وجود مزية إنّما يكون عندما نفترض أنّ المزية موجودة في التكليف العبادي المحتمل من دون فرقٍ بين أن يكون الوجوب، أو التحريم، المهم أنّ التكليف العبادي المحتمل يكون هو صاحب المزية؛ حينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّ هذه المزية توجب أرجحية؛ وحينئذٍ يتمكن أن يأتي بمتعلّقه بقصد التقرّب، فيكون قادراً على الامتثال وليس مضطراً إلى مخالفته، فيدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، والعلم الإجمالي هنا ينجّز حرمة المخالفة القطعية. أمّا إذا فرضنا أنّ الميزة كانت موجودة في الطرف الآخر، أي في التكليف التوصلي؛ حينئذٍ سوف يبقى الإشكال على حاله؛ لأنّه يبقى هذا التكليف التعبّدي لا يمكن للمكلّف امتثاله، وهذا معناه أنّه مضطر إلى مخالفته بالخصوص، وهذا اضطرار إلى أحدهما بعينه.
نعم، إذا دفعنا الإشكال السابق بما تقدّم بأحد الأجوبة السابقة بحيث انتهينا إلى نتيجة تمكن المكلّف من امتثال التكليف العبادي، فرضاً في الجواب الأخير بأن يقصد التخلّص من المخالفة القطعية، يتمكن المكلّف من امتثال الوجوب العبادي، وإن كانت الميزة موجودة في طرف التحريم، لكنّه تمكن أن يمتثل الوجوب العبادي، إذا تخلّصنا من الإشكال بهذا الجواب السابق، في هذه الحالة يكون الاضطرار من باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ لأنّه يمكن أن يمتثل كلا المحتملين، فهو ليس مضطراً إلى مخالفة هذا التكليف العبادي، فيدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه؛ وحينئذٍ نطبّق عليه ما هو الصحيح في هذه المسألة من أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية ونلتزم بها.
على كل حال، في كل الحالات التي يتمكن المكلّف فيها من امتثال التكليف العبادي المحتمل، سواء كان يتمكن من ذلك باعتبار وجود مزية فيه توجب أرجحيته، أو يتمكن من الامتثال لأننا أجبنا عن الإشكال السابق، بأنّه يتمكن من امتثاله بأن يقصد التخلّص من المخالفة القطعية، في كل موردٍ يتمكن المكلّف من امتثال التكليف العبادي كما يتمكن من امتثال التكليف التوصلي المحتمل الآخر في كل مورد، النتيجة هي أنّ الاضطرار يكون إلى أحدهما لا بعينه، وسيأتي كما قلنا أنّ الصحيح في تلك المسألة هو أنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته، لكن لحرمة المخالفة القطعية، وإن كان لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، وهو معنى التوسّط في التنجيز، فإذا كان الصحيح في تلك المسألة هو التوسّط في التنجيز، هذا يُطبّق في محل الكلام، والنتيجة هي أنّه تحرم على المكلّف المخالفة القطعية، ولا يمكنه إجراء الأصول في الطرف الآخر.
هناك بحث آخر طُرح هنا، أنّه بعد أن انتهينا إلى هذه النتيجة، أنّه يمكن للمكلّف امتثال التكليف العبادي المحتمل، إمّا لوجود مزية، وإمّا لأننا ندفع الإشكال بما تقدّم، في هذه الحالة التزمنا بأنّ الموافقة القطعية ليست واجبة؛ لعدم قدرته عليها، والمخالفة القطعية محرّمة عليه، هذا معناه الترخيص في مخالفة أحد المحتملين، فإمّا أن يخالف الوجوب فيترك، أو يخالف التحريم فيفعل؛ حينئذٍ، بعد أن ننتهي إلى أنّ المكلّف مرخّص في أن يخالف هذا التكليف، أو أن يخالف ذلك التكليف؛ لأنّه مضطر إلى مخالفة أحدهما، ولأجل الاضطرار يرخّص له في مخالفة أحد الطرفين لا بعينه. هنا وقع الكلام في أنّ هذا الترخيص في حالة وجود مزيّة لأحد المحتملين دون الآخر، هذا الترخيص هل هو ترخيص تخييري ؟ بمعنى أنّ المكلّف كما يجوز له مخالفة التكليف المحتمل الذي ليس فيه مزية ويأتي بالمحتمل الذي فيه المزية، كذلك يجوز له العكس، وهذا هو الترخيص التخييري، فأنت مخيّر في أن تخالف هذا التكليف وتأتي بالتكليف الآخر، أو تخالف هذا التكليف وتأتي بالتكليف الأوّل. تخالف هذا المحتمل وتوافق المحتمل الثاني، أو تخالف المحتمل الثاني وتوافق المحتمل الأوّل، أنت مرخّص بينهما، فيمكن للمكلّف أن يطبّق الترخيص على كل محتمل، وهذا معناه بحسب النتيجة أنّه بإمكانه أن يخالف التكليف المحتمل ذي المزية ويوافق المحتمل الفاقد للمزية، هل الأمر هكذا، أو أنّ الترخيص تعييني، بمعنى أنّه عند وجود مزية يُرخّص له في مخالفة التكليف الآخر، وفي مخالفة المحتمل الآخر الفاقد للمزية، هو يلزم بموافقة المحتمل الذي فيه مزية، فالترخيص موجود، لكنّه ليس تخييري، وإنّما الترخيص تعييني، المكلّف مرخّص في مخالفة المحتمل الذي ليست فيه مزية بشرط أن توافق المحتمل الذي فيه مزية، فالترخيص في هذا فقط، ولا ترخيص في العكس، فهل الصحيح هو الترخيص التخييري، أو الترخيص التعييني ؟