35/06/08
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
نكتفي بالمقدار السابق عن الحديث عن منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، والذي يبدو أنّ الصحيح هو أنّ العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعية بلا إشكال، وإنّما الكلام كان في أنّ اقتضائه هل كان على نحو العلّية على نحوٍ يمنع من جريان الأصول في جميع الأطراف، أو لا ؟ وتبيّن ممّا تقدّم أنّ الأقرب هو ما ذكروه من أنّه يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف.
البحث الثاني: في وجوب الموافقة القطعية. وقلنا أنّ البحث فيه أيضاً يقع من جهتين، في أصل الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالي هل يقتضي وجوب الموافقة القطعية، أو لا ؟ والثانية في أنّه هل يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف ؟ وعلى تحقيق الجهة الثانية يترتّب أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، أو لا ؟ فإن قلنا في الجهة الثانية بأنّه يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف، فهذا معناه أنّه يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية كما هو كذلك بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية. وإنّ قلنا أنّه لا يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالي هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة لذلك.
بالنسبة إلى الجهة الأولى في أصل الاقتضاء: هل العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، أو لا يقتضي ؟ هناك اتّجاهان:
الاتجاه الأوّل: ينكر الاقتضاء ويرى بأنّ العلم الإجمالي بنفسه بما هو علم إجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، وإن كان يقتضي حرمة المخالفة القطعية، لكنّه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية.
الاتجاه الثاني: أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية كما هو الحال في حرمة المخالفة القطعية. الجهة الثانية التي سيأتي البحث فيها مترتبة على القول بالاقتضاء، يعني عندما نفرغ عن الاقتضاء في الجهة الأولى يقع الكلام في أنّ هذا الاقتضاء هل هو على نحو العلّية التامّة، أو لا ؟ أمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء في الجهة الأولى؛ فحينئذٍ لا معنى للبحث عن هل أنّه بنحو العلّية، أو أنّه ليس بنحو العلّية؛ لأنّه اساساً لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، فلا معنى لأن نتكلّم عن أنّ الاقتضاء هل هو بنحو العلّية، أو لا ؟
فإذن: هناك ترتّب في الجهتين بين البحثين كما هو واضح.
بالنسبة إلى البحث الأوّل، أصل الاقتضاء، الذي يظهر من المحقق النائيني(قدّس سرّه) كما هو ظاهر(أجود التقريرات) [1]والذي يظهر أيضاً من السيد الخوئي(قدّس سرّه)[2] هو أنّهما يختاران عدم الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالي في نفسه ليس له اقتضاء وجوب الموافقة القطعية، هذا ظاهر كلامه، بينما الآخرون كالمحقق العراقي(قدّس سرّه)[3] وغيره ذهبوا إلى الاقتضاء؛ بل قيل بأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) في تقرير آخر له يظهر منه أيضاً القول بالاقتضاء.[4] على كل حال، الذي يظهر من المحقق النائيني في(أجود التقريرات) هو هذا الشيء الذي ذكرناه في الدرس السابق وكان يبتني على افتراض أنّ ما تمّ عليه البيان في العلم الإجمالي هو الجامع، وبالتبع يكون المنجّز الذي يتنجّز على المكلّف هو الجامع؛ لأنّه هو الذي تمّ عليه البيان، ما زاد على الجامع لم يتم عليه البيان، فلا يتنجّز على المكلّف؛ لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تنفي منجّزيته إلاّ بمقدار ما تمّ عليه البيان، البيان لم يتم إلاّ على الجامع؛ حينئذٍ هذا معناه أنّ الجامع يتنجّز على المكلّف، يدخل في عهدة المكلّف ويجب عليه امتثاله وموافقته وتحرم عليه مخالفته ومعصيته، هذا بلا إشكال، لكنّه يقول: هذا الذي تمّ عليه البيان يكفي الإتيان بأحد الطرفين، هو لا يستطيع أن ينجّز أكثر من أحد الطرفين؛ لأنّ الذي تمّ عليه البيان هو وجوب أحدى الصلاتين في مثال الظهر والجمعة، ويكفي في امتثال هذا الجامع الإتيان بأحد الطرفين، أمّا ما زاد على ذلك، يعني الإتيان بالطرف الآخر أيضاً الذي هو عبارة عن الموافقة القطعية فلا يقتضيه نفس العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ ما تمّ عليه البيان هو الجامع فقط، والجامع يُمتثل بالإتيان بأحد الطرفين، وما زاد على ذلك ليس ممّا تمّ عليه البيان وبالتالي لا يكون قد ثبت فيه التنجيز، فخصوصية الظهر وخصوصية الجمعة في المثال السابق ممّا لم يتمّ عليه البيان، البيان تمّ على الجامع فقط، فيجب عليه امتثال الجامع ويكفي في امتثاله الإتيان بأحد الطرفين وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية في حدّ نفسه. نعم ـــــــــــــ يستدرك المحقق النائيني(قدّس سرّه) ــــــــــــــ بأنّه لمّا كان العلم الإجمالي كما تقدّم مقتضياً لحرمة المخالفة القطعية على نحو العلّية التامّة؛ حينئذٍ هذا سوف يوقع التعارض بين الأصلين في الطرفين؛ لأنّه مبدئياً لا مانع من جريان الأصل في مورد العلم الإجمالي بلحاظ وجوب الموافقة القطعية، لكن هناك مسألة أخرى وهي أنّ هذا الأصل أين يجري ؟ إجراؤه في كلٍ منهما محال؛ لأنّه يستلزم المخالفة القطعية، والمفروض أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، حرمة المخالفة القطعية وكون العلم الإجمالي علّة لها يؤدّي بالتالي إلى أنّ إجراء هذا الأصل في كلا الطرفين محال، وإجراؤه في أحد الطرفين ترجيح بلا مرجّح، وهذا هو معنى تعارض الأصول في الطرفين وتساقطها، جريان الأصل في هذا الطرف يُعارض بجريان الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ كل طرف قابل لأن يجري فيه الأصل، فيُعارض جريانه في الطرف الآخر، وجريانه في كلا الطرفين محال، فيقع التعارض بين الأصلين في الطرفين، فيتساقطان، فإذا تساقطت الأصول المؤمّنة في كلٍ من الطرفين يبقى احتمال التكليف، ويبقى الاحتمال في كلٍ من الطرفين بلا مؤمّن، لا مؤمّن شرعي ولا مؤمّن عقلي، فيتنجّز الاحتمال في كلٍ من الطرفين، فتجب الموافقة القطعية، لكنّ وجوب الموافقة القطعية ليس باعتبار أنّ العلم الإجمالي اقتضاها، وإنّما باعتبار التعارض ولولا التعارض لما كان هناك مانع من إجراء الأصل في أحد الطرفين.
قد يُعترض على ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ هذا الذي ذكره مبني على رأيه وما يختاره في تفسير العلم الإجمالي، باعتبار أنّه يختار أنّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع وأنّ العلم الإجمالي يقف على الجامع ولا يتعلّق بالواقع، هذا البرهان الذي يذكره ـــــــــــــ إذا صحّ تسميته بالبرهان ـــــــــــــــ مبني على ما يختاره من العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع؛ حينئذٍ يجري هذا الكلام، فيقال أنّ ما يعلمه المكلّف وما تمّ عليه البيان هو الجامع لا أكثر من ذلك، فيكون هو المنجّز على المكلّف والداخل في عهدته، فإذا كان الجامع هو الداخل في عهدة المكلّف والمنجّز عليه، يكفي في امتثاله الاتيان بأحد الطرفين ولا يتوقّف على الإتيان بكلا الطرفين، فلا تجب الموافقة القطعيّة بلحاظ العلم الإجمالي. وأمّا لو قلنا بالقول الآخر في تفسير العلم الإجمالي، أي لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع، فهل يتم ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) ؟
قد يقال: أنّما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) لا يتم؛ لأنّ العلم الإجمالي بحسب هذا المبنى يتعلّق بالواقع لا بالجامع، فكأنّ البيان يتمّ على الواقع وما يتنجّز على المكلّف هو الواقع، وإذا تنجّز الواقع على المكلّف؛ فحينئذٍ تنقلب الآية؛ وحينئذٍ يجب الإتيان بالواقع، ومن الواضح أنّه لا يمكن للمكلّف الإتيان بالواقع إلاّ إذا جاء بكلا الطرفين، إلاّ بالموافقة القطعية، وإلاّ، إذا اقتصر على أحد الطرفين؛ فحينئذٍ لا يحرز أنّه قد جاء بما تنجّز عليه وما دخل في عهدته، فيكون العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الموافقة القطعية لا أنّه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية كما يقول، فإذن: عدم الاقتضاء إذا كان هو مختاره يكون مبنياً على أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع ولا يتعلّق بالواقع، أمّا إذا تعلّق بالواقع، فالمسألة تنقلب ويكون الصحيح هو أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الواقع إذا دخل في الذمّة وتنجّز؛ فحينئذٍ يحكم العقل بوجوب موافقته وحرمة معصيته، ولا يستطيع أن يوافقه على نحو الجزم واليقين إلاّ بأن يأتي بكلا الطرفين وهو معنى وجوب الموافقة القطعية.
لكن الظاهر أنّ البرهان الذي ذكره لا يبتني على القول بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع؛ بل يمكن جريان هذا البرهان ـــــــــــــ إذا كان تامّاً ـــــــــــــ حتّى إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع، وذلك لأنّ صاحب هذا القول ـــــــــــــ الذي هو المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ــــــــــــ يفسّره بهذا التفسير، هو لا يدّعي إطلاقاً بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع الخارجي حتّى يقال أنّ هذا الواقع الخارجي تنجّز على المكلّف، هو لا يدّعي ذلك؛ لأنّ هذا لا يُدّعى حتّى في العلم التفصيلي، فضلاً عن العلم الإجمالي، العلوم كلّها تتعلّق بصور ذهنية ولا تتعلّق بالواقع الخارجي الموضوعي، تتعلّق بصور ذهنية حاكية عن الواقع وتكون تلك الصور هي المعلومة بالذات وما تحكي عنه يكون معلوماً بالعرض، المعلوم بالذات أساساً هي الصور الذهنية هي التي يتعلّق بها العلم، فليس مقصوده بالواقع هو الواقع الخارجي، اي بعبارة ثانية: ليس مقصوده هو المعلوم بالعرض، وإنّما مراده من المبنى الذي اختاره هو أنّ الصورة التي يتعلّق بها العلم، تارةً تكون صورة واضحة لا غبار فيها ولا تشويش إطلاقاً كما في العلم التفصيلي، وأخرى تكون صورة مشوّشة ليست بذاك الوضوح الذي في العلم التفصيلي، هذا التشويش في الصورة التي يتعلّق بها العلم الذي هو مقصوده من تعلّق العلم بالواقع، في الحقيقة هذا التشويش والإبهام الموجود في تلك الصورة هو بالنسبة إلى الفرد، بالنسبة إلى الظهر والجمعة في مثالنا، والصورة الواضحة التي هي بالتحليل يكون لدينا في هذه الصورة جانب تشويش وجانب وضوح، جانب الوضوح هو بالنسبة إلى الجامع، هذا ليس فيه تشويش، وإنّما التشويش يكون بالنسبة إلى الفرد، بالنسبة إلى الظهر والجمعة، هذا هو الذي يكون فيه تشويش وإبهام، بناءً على البرهان الذي يذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، يمكن تتميمه حتّى بناءً على تعلّق العلم بالواقع بعد تفسيره بهذا التفسير؛ لأنّه بإمكان المحقق النائيني(قدّس سرّه) أن يقول أنّ الفرد لم يتم عليه البيان؛ لأنّ الصورة التي تعلّق بها العلم كان فيها غموض وإبهام وتشويش من ناحية الفرد، الظهر لم يتم فيه البيان، والجمعة بخصوصها لم يتم فيها البيان، ما تمّ عليه البيان هو الجامع لا أكثر منه؛ لأنّ الصورة التي تحكي عن الفرد بمقدار حكايتها عن الفرد هي صورة مشوّشة ومبهمة، فإذن يستطيع أن يقول لم يتم البيان عليه وإنّما ما تمّ عليه البيان هو الجامع؛ لأنّ الصورة التي تحكي عنه هي صورة واضحة وغير مشوّشة، فإذن ما تمّ عليه البيان هو الجامع، فيتنجّز على المكلّف، ويجري حينئذٍ برهان المحقق النائيني(قدّس سرّه) السابق وهو أنّ هذا الذي يتنجّز على المكلّف باعتبار أنّه تمّ البيان عليه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية والإتيان بكلا الطرفين، وإنّما يكفي في امتثاله الإتيان بأحدهما، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال على هذا الرأي الأوّل وهو عدم الاقتضاء في محل الكلام.
هناك ملاحظة على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) المتقدّم ترتبط ببعض عباراته التي يُفهم منها أنّ التعارض الذي ذكره في الأصول بلحاظ أطراف العلم الإجمالي لا يختص بالأصول الشرعية، وإنّما كل الأصول المؤمّنة تتعارض في الأطراف وتتساقط حتّى الأصل العملي العقلي، يعني أصالة البراءة العقلية أيضاً كأنّها تجري في الطرفين وتتعارض، فتتساقط، فيبقى الاحتمال في كل طرفٍ بلا مؤمّن عقلي ولا مؤمّن شرعي؛ لأنّ المؤمنات كلّها العقلية والنقلية تعارضت في الطرفين وتساقطت، فيبقى الاحتمال في الطرفين بلا مؤمّن، فيتنجّز، فتجب الموافقة القطعية؛ لأجل التعارض. هناك ملاحظة على هذا وهي: أساساً أنّ تصوّر التعارض في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مشكل، ما معنى وقوع التعارض في الحكم العقلي بين الطرفين ؟ يمكن افتراض وقوع التعارض بين الأصول الشرعية، موضوع الأصل الشرعي محفوظ في هذا الطرف، ومحفوظ في الطرف الآخر ومقتضى دليل هذا الأصل هو أنّه يجري في هذا الطرف، ومقتضى الدليل هو أنّه يجري في الطرف الآخر ولا يمكن جريانه في كلٍ من الطرفين؛ لأنّه محال، فيقع التعارض، لكن بالنسبة إلى الأصول العقلية، كيف يمكن تصوّر وقوع التعارض بين الأصول العقلية في الطرفين ؟ بعبارةٍ أخرى: أنّ الحكم العقلي حكم باتّ وقطعي ولابدّ أن يكون موضوعه واضحاً بنظر العقل؛ حينئذٍ موضوع الأصل العقلي الذي هو عدم البيان والمقصود به قبح العقاب بلا بيان، موضوعه عدم البيان، فالعقل بداية يرى أنّ هذا الموضوع هل هو تام في كلا الطرفين، أو لا ؟ إذا كان تامّاً في كلا الطرفين؛ حينئذٍ يجري في كلا الطرفين بلا تعارض، وإن لم يكن تامّاً، فهو لا يجري أساساً، وليس أنّه لا يجري لأجل التعارض، أصلاً لا يوجد مقتضٍ لجريانه؛ لأنّ الموضوع ليس محفوظاً في الطرفين، هذا شيء ينبغي أن يبتّ به العقل لا أن يبقى العقل متردداً، وإنّما العقل من البداية لابدّ أن يقرر أن موضوعه ـــــــــــ عدم البيان ـــــــــــ هل هو تام في أطراف العلم الإجمالي، أو ليس تامّاً، إذا كان تامّاً تجري الأصول بلا تعارض ومن دون أن تكون هناك منافاة بين جريانه في هذا الطرف وبين جريانه في ذاك الطرف، وإن لم يكن تامّاً في موارد العلم الإجمالي وإن كان تامّاً في الشبهات البدوية؛ حينئذٍ لا يجري الأصل العقلي، وعدم جريانه ليس للمعارضة، وإنّما هو لا يجري لعدم وجود مقتضٍ لجريانه. هذه ملاحظة جانبية على المحقق النائيني(قدّس سرّه) .
الملاحظة الأساسية في ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) هي: يبدو أنّ ما ذكره اشبه بالبرهان الذي يصطدم مع الوجدان والذي على أساس ذلك لا يمكن قبوله، ما ذكره من أنّ ما تمّ عليه البيان هو الجامع ويكفي في امتثاله الإتيان بأحد الطرفين، هذا المقدار فقط. الذي يبدو أنّ الأمر ليس هكذا، الوجدان لا يساعد على ذلك، الوجدان يساعد على أنّ ما يتنجّز على المكلّف ليس هو الجامع، الجامع الذي يمكن تطبيقه على هذا الفرد ويتحقق به امتثاله، ويمكن تطبيقه على ذاك الفرد ويتحقق به امتثاله، كلا، ليس هذا الذي يتنجّز على المكلّف؛ لأنّ الشارع لا يقبل الجامع، بمعنى أنّه يخيّر المكلّف بين أن يأتي بهذا الفرد، أو يأتي بذاك الفرد، هو يطلب منه صلاة واحدة، ما يتنجّز على المكلّف في هذا المورد بالوجدان هو عبارة عن صلاة، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة لا أنّ الذي يطلبه الشارع ويريده من المكلّف في هذا المثال هو إحدى الصلاتين، عنوان(إحدى الصلاتين) بحيث يمكن للمكلّف أن يطبّق هذا العنوان على صلاة الظهر ويمكن أنّ يطبّقه على صلاة الجمعة، ليس هذا هو المطلوب من المكلّف، الحكم الشرعي وارد قطعاً بعنوان(صلاة الظهر) ولكن أنا لا أدري، فاحتمل أنّه وارد بعنوان(صلاة الجمعة) هذا هو الذي كلّف به الشارع، وهذا هو الذي دخل في عهدة المكلّف وهو الذي يجب على المكلّف الإتيان به؛ لأنّه دخل في عهدنه وتنجّز عليه، هذا لا يكفي في امتثاله أن يأتي بإحدى الصلاتين، هذا ليس امتثالاً لما كُلّف به، وليس امتثالاً لما دخل في عهدته، امتثال ما دخل في عهدته بالرغم من ترددّه بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة لا يكون إلاّ بأن يأتي بكلا الطرفين لا بأن يأتي بأحد الطرفين، الشارع كلّف المكلّف إمّا بصلاة الظهر، أو بصلاة الجمعة والمكلّف يعلم بأنّ ذمته اشتغلت بهذا أو بهذا، وتنجّز عليه إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، أي دخلت في عهدته، هل يمكن للمكلّف أن يكتفي بأحد الطرفين ويقول هذا امتثال لما اشتغلت به الذمة، كلا، هذا ليس امتثالاً لما اشتغلت به الذمة، والسرّ هو أنّ الشارع لم يأمر بعنوان(إحدى الصلاتين) كما في كفارات التخيير، أمر إمّا بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، إحدى الخصال هي التي تكون واجبة على المكلّف وتتحقق بهذا، أو بهذا، أو بهذا، المسألة ليست مسألة تخيير، وإنّما الواجب أساساً في الشريعة هو صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، إحداهما هي الواجبة لا بعنوان(إحدى الصلاتين)، الشارع لم يوجب أحدى الصلاتين، وإنّما أوجب صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، ما يدخل في العهدة هو صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، هذا هو الذي يتنجّز على المكلّف ويدخل في عهدته؛ حينئذٍ يقول العقل يجب عليك إطاعة هذا التكليف وتقبح عليك معصيته، وإطاعة هذا التكليف لا تكون إلاّ بالإتيان بكلا الفردين ولا يكفي في الإطاعة الجزمية اليقينية لهذا التكليف المنجّز على المكلّف أن يأتي المكلّف بأحد الطرفين، الوجدان لا يساعد على افتراض أنّه في هذا الحال، في موارد العلم الإجمالي أن يُكتفى بأحد الطرفين، الأمر ليس هكذا، وإنّما المسألة تماماً بالعكس، بمعنى أنّه في موارد العلم الإجمالي هي عبارة عن الصلاة التي أمر بها الشارع التي هي مرددّة بنظر المكلّف بين صلاة الظهر وبين صلاة الجمعة، ويجب على المكلّف أن يمتثل ذلك وأن يحرز امتثاله، وامتثاله لا يكون إلاّ بالموافقة القطعية ولا تكفي الموافقة الاحتمالية، وادّعاء أنّ الواجب هو عنوان(أحدهما) هو ادّعاء غير صحيح ويخالفه الوجدان؛ لأنّ الواجب ليس هو عنوان(أحدهما) الذي يصح تطبيقه على هذا الفرد ويصح تطبيقه على هذا الفرد بحيث يكون المكلّف مخيّر في التطبيق بينهما، ليس هذا هو الواجب، ليس الواجب هو عنوان(إحدى الصلاتين) كما هو الحال في خصال الكفّارة؛ بل الواجب هو صلاة معينة في الواقع التي هي مرددّة بنظر المكلّف وهي صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، وذاك الواجب الذي يتعلّق به الوجوب ويأمر به الشارع هو الذي يتنجّز على المكلّف ويجب على المكلّف امتثاله ولا يكون امتثاله إلاّ بالإتيان بكلا الطرفين.
ومن هنا يظهر أنّ القول بعدم الاقتضاء أصلاً الظاهر أنّه ليس في محلّه، والصحيح هو الاقتضاء، أي أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية كما يقتضي حرمة المخالفة القطعية. أمّا مسألة جريان الأصول في بعض الأطراف، أو عدم جريانها هي مسألة أخرى سيأتي بحثها، أصل أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، أو لا، يعني إذا أنكرنا الاقتضاء يكون العلم الإجمالي حاله حال الشبهة البدوية وهذا خلاف الوجدان، أن نقول أنّ المكلّف عالم بالتكليف غاية الأمر أنّ التكليف مردد بين الظهر وبين الجمعة، ونقول لا يقتضي هذا العلم موافقته القطعية، على الأقل اقتضاءً حتّى إذا فرضنا أنّه لا مانع من ناحيته من إجراء الأصل في بعض الأطراف. يعني بعبارة أخرى: يكون اقتضاء لا على نحو العلّية، إنكار الاقتضاء لا على نحو العلية، هذا خلاف الوجدان؛ بل العلم الإجمالي ينجّز التكليف المعلوم بالإجمال على المكلّف، وكما تحرم مخالفته القطعية في الطرفين، كذلك هو يقتضي وجوب الموافقة القطعية بالإتيان بكلا الطرفين. هذا هو الرأي الثاني، بعد ذلك نتعرّض إلى مطلبٍ ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) إن شاء الله تعالى.
نكتفي بالمقدار السابق عن الحديث عن منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، والذي يبدو أنّ الصحيح هو أنّ العلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعية بلا إشكال، وإنّما الكلام كان في أنّ اقتضائه هل كان على نحو العلّية على نحوٍ يمنع من جريان الأصول في جميع الأطراف، أو لا ؟ وتبيّن ممّا تقدّم أنّ الأقرب هو ما ذكروه من أنّه يمنع من جريان الأصول في تمام الأطراف.
البحث الثاني: في وجوب الموافقة القطعية. وقلنا أنّ البحث فيه أيضاً يقع من جهتين، في أصل الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالي هل يقتضي وجوب الموافقة القطعية، أو لا ؟ والثانية في أنّه هل يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف ؟ وعلى تحقيق الجهة الثانية يترتّب أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، أو لا ؟ فإن قلنا في الجهة الثانية بأنّه يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف، فهذا معناه أنّه يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية كما هو كذلك بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية. وإنّ قلنا أنّه لا يمنع من جريان الأصول في بعض الأطراف، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالي هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة لذلك.
بالنسبة إلى الجهة الأولى في أصل الاقتضاء: هل العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، أو لا يقتضي ؟ هناك اتّجاهان:
الاتجاه الأوّل: ينكر الاقتضاء ويرى بأنّ العلم الإجمالي بنفسه بما هو علم إجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، وإن كان يقتضي حرمة المخالفة القطعية، لكنّه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية.
الاتجاه الثاني: أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية كما هو الحال في حرمة المخالفة القطعية. الجهة الثانية التي سيأتي البحث فيها مترتبة على القول بالاقتضاء، يعني عندما نفرغ عن الاقتضاء في الجهة الأولى يقع الكلام في أنّ هذا الاقتضاء هل هو على نحو العلّية التامّة، أو لا ؟ أمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء في الجهة الأولى؛ فحينئذٍ لا معنى للبحث عن هل أنّه بنحو العلّية، أو أنّه ليس بنحو العلّية؛ لأنّه اساساً لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، فلا معنى لأن نتكلّم عن أنّ الاقتضاء هل هو بنحو العلّية، أو لا ؟
فإذن: هناك ترتّب في الجهتين بين البحثين كما هو واضح.
بالنسبة إلى البحث الأوّل، أصل الاقتضاء، الذي يظهر من المحقق النائيني(قدّس سرّه) كما هو ظاهر(أجود التقريرات) [1]والذي يظهر أيضاً من السيد الخوئي(قدّس سرّه)[2] هو أنّهما يختاران عدم الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالي في نفسه ليس له اقتضاء وجوب الموافقة القطعية، هذا ظاهر كلامه، بينما الآخرون كالمحقق العراقي(قدّس سرّه)[3] وغيره ذهبوا إلى الاقتضاء؛ بل قيل بأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) في تقرير آخر له يظهر منه أيضاً القول بالاقتضاء.[4] على كل حال، الذي يظهر من المحقق النائيني في(أجود التقريرات) هو هذا الشيء الذي ذكرناه في الدرس السابق وكان يبتني على افتراض أنّ ما تمّ عليه البيان في العلم الإجمالي هو الجامع، وبالتبع يكون المنجّز الذي يتنجّز على المكلّف هو الجامع؛ لأنّه هو الذي تمّ عليه البيان، ما زاد على الجامع لم يتم عليه البيان، فلا يتنجّز على المكلّف؛ لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تنفي منجّزيته إلاّ بمقدار ما تمّ عليه البيان، البيان لم يتم إلاّ على الجامع؛ حينئذٍ هذا معناه أنّ الجامع يتنجّز على المكلّف، يدخل في عهدة المكلّف ويجب عليه امتثاله وموافقته وتحرم عليه مخالفته ومعصيته، هذا بلا إشكال، لكنّه يقول: هذا الذي تمّ عليه البيان يكفي الإتيان بأحد الطرفين، هو لا يستطيع أن ينجّز أكثر من أحد الطرفين؛ لأنّ الذي تمّ عليه البيان هو وجوب أحدى الصلاتين في مثال الظهر والجمعة، ويكفي في امتثال هذا الجامع الإتيان بأحد الطرفين، أمّا ما زاد على ذلك، يعني الإتيان بالطرف الآخر أيضاً الذي هو عبارة عن الموافقة القطعية فلا يقتضيه نفس العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ ما تمّ عليه البيان هو الجامع فقط، والجامع يُمتثل بالإتيان بأحد الطرفين، وما زاد على ذلك ليس ممّا تمّ عليه البيان وبالتالي لا يكون قد ثبت فيه التنجيز، فخصوصية الظهر وخصوصية الجمعة في المثال السابق ممّا لم يتمّ عليه البيان، البيان تمّ على الجامع فقط، فيجب عليه امتثال الجامع ويكفي في امتثاله الإتيان بأحد الطرفين وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية في حدّ نفسه. نعم ـــــــــــــ يستدرك المحقق النائيني(قدّس سرّه) ــــــــــــــ بأنّه لمّا كان العلم الإجمالي كما تقدّم مقتضياً لحرمة المخالفة القطعية على نحو العلّية التامّة؛ حينئذٍ هذا سوف يوقع التعارض بين الأصلين في الطرفين؛ لأنّه مبدئياً لا مانع من جريان الأصل في مورد العلم الإجمالي بلحاظ وجوب الموافقة القطعية، لكن هناك مسألة أخرى وهي أنّ هذا الأصل أين يجري ؟ إجراؤه في كلٍ منهما محال؛ لأنّه يستلزم المخالفة القطعية، والمفروض أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، حرمة المخالفة القطعية وكون العلم الإجمالي علّة لها يؤدّي بالتالي إلى أنّ إجراء هذا الأصل في كلا الطرفين محال، وإجراؤه في أحد الطرفين ترجيح بلا مرجّح، وهذا هو معنى تعارض الأصول في الطرفين وتساقطها، جريان الأصل في هذا الطرف يُعارض بجريان الأصل في الطرف الآخر؛ لأنّ كل طرف قابل لأن يجري فيه الأصل، فيُعارض جريانه في الطرف الآخر، وجريانه في كلا الطرفين محال، فيقع التعارض بين الأصلين في الطرفين، فيتساقطان، فإذا تساقطت الأصول المؤمّنة في كلٍ من الطرفين يبقى احتمال التكليف، ويبقى الاحتمال في كلٍ من الطرفين بلا مؤمّن، لا مؤمّن شرعي ولا مؤمّن عقلي، فيتنجّز الاحتمال في كلٍ من الطرفين، فتجب الموافقة القطعية، لكنّ وجوب الموافقة القطعية ليس باعتبار أنّ العلم الإجمالي اقتضاها، وإنّما باعتبار التعارض ولولا التعارض لما كان هناك مانع من إجراء الأصل في أحد الطرفين.
قد يُعترض على ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ هذا الذي ذكره مبني على رأيه وما يختاره في تفسير العلم الإجمالي، باعتبار أنّه يختار أنّ العلم الإجمالي هو علم بالجامع وأنّ العلم الإجمالي يقف على الجامع ولا يتعلّق بالواقع، هذا البرهان الذي يذكره ـــــــــــــ إذا صحّ تسميته بالبرهان ـــــــــــــــ مبني على ما يختاره من العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع؛ حينئذٍ يجري هذا الكلام، فيقال أنّ ما يعلمه المكلّف وما تمّ عليه البيان هو الجامع لا أكثر من ذلك، فيكون هو المنجّز على المكلّف والداخل في عهدته، فإذا كان الجامع هو الداخل في عهدة المكلّف والمنجّز عليه، يكفي في امتثاله الاتيان بأحد الطرفين ولا يتوقّف على الإتيان بكلا الطرفين، فلا تجب الموافقة القطعيّة بلحاظ العلم الإجمالي. وأمّا لو قلنا بالقول الآخر في تفسير العلم الإجمالي، أي لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع، فهل يتم ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) ؟
قد يقال: أنّما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) لا يتم؛ لأنّ العلم الإجمالي بحسب هذا المبنى يتعلّق بالواقع لا بالجامع، فكأنّ البيان يتمّ على الواقع وما يتنجّز على المكلّف هو الواقع، وإذا تنجّز الواقع على المكلّف؛ فحينئذٍ تنقلب الآية؛ وحينئذٍ يجب الإتيان بالواقع، ومن الواضح أنّه لا يمكن للمكلّف الإتيان بالواقع إلاّ إذا جاء بكلا الطرفين، إلاّ بالموافقة القطعية، وإلاّ، إذا اقتصر على أحد الطرفين؛ فحينئذٍ لا يحرز أنّه قد جاء بما تنجّز عليه وما دخل في عهدته، فيكون العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الموافقة القطعية لا أنّه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية كما يقول، فإذن: عدم الاقتضاء إذا كان هو مختاره يكون مبنياً على أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع ولا يتعلّق بالواقع، أمّا إذا تعلّق بالواقع، فالمسألة تنقلب ويكون الصحيح هو أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الواقع إذا دخل في الذمّة وتنجّز؛ فحينئذٍ يحكم العقل بوجوب موافقته وحرمة معصيته، ولا يستطيع أن يوافقه على نحو الجزم واليقين إلاّ بأن يأتي بكلا الطرفين وهو معنى وجوب الموافقة القطعية.
لكن الظاهر أنّ البرهان الذي ذكره لا يبتني على القول بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع؛ بل يمكن جريان هذا البرهان ـــــــــــــ إذا كان تامّاً ـــــــــــــ حتّى إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع لا بالجامع، وذلك لأنّ صاحب هذا القول ـــــــــــــ الذي هو المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يقول أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع ــــــــــــ يفسّره بهذا التفسير، هو لا يدّعي إطلاقاً بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع الخارجي حتّى يقال أنّ هذا الواقع الخارجي تنجّز على المكلّف، هو لا يدّعي ذلك؛ لأنّ هذا لا يُدّعى حتّى في العلم التفصيلي، فضلاً عن العلم الإجمالي، العلوم كلّها تتعلّق بصور ذهنية ولا تتعلّق بالواقع الخارجي الموضوعي، تتعلّق بصور ذهنية حاكية عن الواقع وتكون تلك الصور هي المعلومة بالذات وما تحكي عنه يكون معلوماً بالعرض، المعلوم بالذات أساساً هي الصور الذهنية هي التي يتعلّق بها العلم، فليس مقصوده بالواقع هو الواقع الخارجي، اي بعبارة ثانية: ليس مقصوده هو المعلوم بالعرض، وإنّما مراده من المبنى الذي اختاره هو أنّ الصورة التي يتعلّق بها العلم، تارةً تكون صورة واضحة لا غبار فيها ولا تشويش إطلاقاً كما في العلم التفصيلي، وأخرى تكون صورة مشوّشة ليست بذاك الوضوح الذي في العلم التفصيلي، هذا التشويش في الصورة التي يتعلّق بها العلم الذي هو مقصوده من تعلّق العلم بالواقع، في الحقيقة هذا التشويش والإبهام الموجود في تلك الصورة هو بالنسبة إلى الفرد، بالنسبة إلى الظهر والجمعة في مثالنا، والصورة الواضحة التي هي بالتحليل يكون لدينا في هذه الصورة جانب تشويش وجانب وضوح، جانب الوضوح هو بالنسبة إلى الجامع، هذا ليس فيه تشويش، وإنّما التشويش يكون بالنسبة إلى الفرد، بالنسبة إلى الظهر والجمعة، هذا هو الذي يكون فيه تشويش وإبهام، بناءً على البرهان الذي يذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، يمكن تتميمه حتّى بناءً على تعلّق العلم بالواقع بعد تفسيره بهذا التفسير؛ لأنّه بإمكان المحقق النائيني(قدّس سرّه) أن يقول أنّ الفرد لم يتم عليه البيان؛ لأنّ الصورة التي تعلّق بها العلم كان فيها غموض وإبهام وتشويش من ناحية الفرد، الظهر لم يتم فيه البيان، والجمعة بخصوصها لم يتم فيها البيان، ما تمّ عليه البيان هو الجامع لا أكثر منه؛ لأنّ الصورة التي تحكي عن الفرد بمقدار حكايتها عن الفرد هي صورة مشوّشة ومبهمة، فإذن يستطيع أن يقول لم يتم البيان عليه وإنّما ما تمّ عليه البيان هو الجامع؛ لأنّ الصورة التي تحكي عنه هي صورة واضحة وغير مشوّشة، فإذن ما تمّ عليه البيان هو الجامع، فيتنجّز على المكلّف، ويجري حينئذٍ برهان المحقق النائيني(قدّس سرّه) السابق وهو أنّ هذا الذي يتنجّز على المكلّف باعتبار أنّه تمّ البيان عليه لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية والإتيان بكلا الطرفين، وإنّما يكفي في امتثاله الإتيان بأحدهما، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام الاستدلال على هذا الرأي الأوّل وهو عدم الاقتضاء في محل الكلام.
هناك ملاحظة على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) المتقدّم ترتبط ببعض عباراته التي يُفهم منها أنّ التعارض الذي ذكره في الأصول بلحاظ أطراف العلم الإجمالي لا يختص بالأصول الشرعية، وإنّما كل الأصول المؤمّنة تتعارض في الأطراف وتتساقط حتّى الأصل العملي العقلي، يعني أصالة البراءة العقلية أيضاً كأنّها تجري في الطرفين وتتعارض، فتتساقط، فيبقى الاحتمال في كل طرفٍ بلا مؤمّن عقلي ولا مؤمّن شرعي؛ لأنّ المؤمنات كلّها العقلية والنقلية تعارضت في الطرفين وتساقطت، فيبقى الاحتمال في الطرفين بلا مؤمّن، فيتنجّز، فتجب الموافقة القطعية؛ لأجل التعارض. هناك ملاحظة على هذا وهي: أساساً أنّ تصوّر التعارض في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مشكل، ما معنى وقوع التعارض في الحكم العقلي بين الطرفين ؟ يمكن افتراض وقوع التعارض بين الأصول الشرعية، موضوع الأصل الشرعي محفوظ في هذا الطرف، ومحفوظ في الطرف الآخر ومقتضى دليل هذا الأصل هو أنّه يجري في هذا الطرف، ومقتضى الدليل هو أنّه يجري في الطرف الآخر ولا يمكن جريانه في كلٍ من الطرفين؛ لأنّه محال، فيقع التعارض، لكن بالنسبة إلى الأصول العقلية، كيف يمكن تصوّر وقوع التعارض بين الأصول العقلية في الطرفين ؟ بعبارةٍ أخرى: أنّ الحكم العقلي حكم باتّ وقطعي ولابدّ أن يكون موضوعه واضحاً بنظر العقل؛ حينئذٍ موضوع الأصل العقلي الذي هو عدم البيان والمقصود به قبح العقاب بلا بيان، موضوعه عدم البيان، فالعقل بداية يرى أنّ هذا الموضوع هل هو تام في كلا الطرفين، أو لا ؟ إذا كان تامّاً في كلا الطرفين؛ حينئذٍ يجري في كلا الطرفين بلا تعارض، وإن لم يكن تامّاً، فهو لا يجري أساساً، وليس أنّه لا يجري لأجل التعارض، أصلاً لا يوجد مقتضٍ لجريانه؛ لأنّ الموضوع ليس محفوظاً في الطرفين، هذا شيء ينبغي أن يبتّ به العقل لا أن يبقى العقل متردداً، وإنّما العقل من البداية لابدّ أن يقرر أن موضوعه ـــــــــــ عدم البيان ـــــــــــ هل هو تام في أطراف العلم الإجمالي، أو ليس تامّاً، إذا كان تامّاً تجري الأصول بلا تعارض ومن دون أن تكون هناك منافاة بين جريانه في هذا الطرف وبين جريانه في ذاك الطرف، وإن لم يكن تامّاً في موارد العلم الإجمالي وإن كان تامّاً في الشبهات البدوية؛ حينئذٍ لا يجري الأصل العقلي، وعدم جريانه ليس للمعارضة، وإنّما هو لا يجري لعدم وجود مقتضٍ لجريانه. هذه ملاحظة جانبية على المحقق النائيني(قدّس سرّه) .
الملاحظة الأساسية في ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) هي: يبدو أنّ ما ذكره اشبه بالبرهان الذي يصطدم مع الوجدان والذي على أساس ذلك لا يمكن قبوله، ما ذكره من أنّ ما تمّ عليه البيان هو الجامع ويكفي في امتثاله الإتيان بأحد الطرفين، هذا المقدار فقط. الذي يبدو أنّ الأمر ليس هكذا، الوجدان لا يساعد على ذلك، الوجدان يساعد على أنّ ما يتنجّز على المكلّف ليس هو الجامع، الجامع الذي يمكن تطبيقه على هذا الفرد ويتحقق به امتثاله، ويمكن تطبيقه على ذاك الفرد ويتحقق به امتثاله، كلا، ليس هذا الذي يتنجّز على المكلّف؛ لأنّ الشارع لا يقبل الجامع، بمعنى أنّه يخيّر المكلّف بين أن يأتي بهذا الفرد، أو يأتي بذاك الفرد، هو يطلب منه صلاة واحدة، ما يتنجّز على المكلّف في هذا المورد بالوجدان هو عبارة عن صلاة، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة لا أنّ الذي يطلبه الشارع ويريده من المكلّف في هذا المثال هو إحدى الصلاتين، عنوان(إحدى الصلاتين) بحيث يمكن للمكلّف أن يطبّق هذا العنوان على صلاة الظهر ويمكن أنّ يطبّقه على صلاة الجمعة، ليس هذا هو المطلوب من المكلّف، الحكم الشرعي وارد قطعاً بعنوان(صلاة الظهر) ولكن أنا لا أدري، فاحتمل أنّه وارد بعنوان(صلاة الجمعة) هذا هو الذي كلّف به الشارع، وهذا هو الذي دخل في عهدة المكلّف وهو الذي يجب على المكلّف الإتيان به؛ لأنّه دخل في عهدنه وتنجّز عليه، هذا لا يكفي في امتثاله أن يأتي بإحدى الصلاتين، هذا ليس امتثالاً لما كُلّف به، وليس امتثالاً لما دخل في عهدته، امتثال ما دخل في عهدته بالرغم من ترددّه بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة لا يكون إلاّ بأن يأتي بكلا الطرفين لا بأن يأتي بأحد الطرفين، الشارع كلّف المكلّف إمّا بصلاة الظهر، أو بصلاة الجمعة والمكلّف يعلم بأنّ ذمته اشتغلت بهذا أو بهذا، وتنجّز عليه إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، أي دخلت في عهدته، هل يمكن للمكلّف أن يكتفي بأحد الطرفين ويقول هذا امتثال لما اشتغلت به الذمة، كلا، هذا ليس امتثالاً لما اشتغلت به الذمة، والسرّ هو أنّ الشارع لم يأمر بعنوان(إحدى الصلاتين) كما في كفارات التخيير، أمر إمّا بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، إحدى الخصال هي التي تكون واجبة على المكلّف وتتحقق بهذا، أو بهذا، أو بهذا، المسألة ليست مسألة تخيير، وإنّما الواجب أساساً في الشريعة هو صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، إحداهما هي الواجبة لا بعنوان(إحدى الصلاتين)، الشارع لم يوجب أحدى الصلاتين، وإنّما أوجب صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، ما يدخل في العهدة هو صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، هذا هو الذي يتنجّز على المكلّف ويدخل في عهدته؛ حينئذٍ يقول العقل يجب عليك إطاعة هذا التكليف وتقبح عليك معصيته، وإطاعة هذا التكليف لا تكون إلاّ بالإتيان بكلا الفردين ولا يكفي في الإطاعة الجزمية اليقينية لهذا التكليف المنجّز على المكلّف أن يأتي المكلّف بأحد الطرفين، الوجدان لا يساعد على افتراض أنّه في هذا الحال، في موارد العلم الإجمالي أن يُكتفى بأحد الطرفين، الأمر ليس هكذا، وإنّما المسألة تماماً بالعكس، بمعنى أنّه في موارد العلم الإجمالي هي عبارة عن الصلاة التي أمر بها الشارع التي هي مرددّة بنظر المكلّف بين صلاة الظهر وبين صلاة الجمعة، ويجب على المكلّف أن يمتثل ذلك وأن يحرز امتثاله، وامتثاله لا يكون إلاّ بالموافقة القطعية ولا تكفي الموافقة الاحتمالية، وادّعاء أنّ الواجب هو عنوان(أحدهما) هو ادّعاء غير صحيح ويخالفه الوجدان؛ لأنّ الواجب ليس هو عنوان(أحدهما) الذي يصح تطبيقه على هذا الفرد ويصح تطبيقه على هذا الفرد بحيث يكون المكلّف مخيّر في التطبيق بينهما، ليس هذا هو الواجب، ليس الواجب هو عنوان(إحدى الصلاتين) كما هو الحال في خصال الكفّارة؛ بل الواجب هو صلاة معينة في الواقع التي هي مرددّة بنظر المكلّف وهي صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، وذاك الواجب الذي يتعلّق به الوجوب ويأمر به الشارع هو الذي يتنجّز على المكلّف ويجب على المكلّف امتثاله ولا يكون امتثاله إلاّ بالإتيان بكلا الطرفين.
ومن هنا يظهر أنّ القول بعدم الاقتضاء أصلاً الظاهر أنّه ليس في محلّه، والصحيح هو الاقتضاء، أي أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية كما يقتضي حرمة المخالفة القطعية. أمّا مسألة جريان الأصول في بعض الأطراف، أو عدم جريانها هي مسألة أخرى سيأتي بحثها، أصل أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، أو لا، يعني إذا أنكرنا الاقتضاء يكون العلم الإجمالي حاله حال الشبهة البدوية وهذا خلاف الوجدان، أن نقول أنّ المكلّف عالم بالتكليف غاية الأمر أنّ التكليف مردد بين الظهر وبين الجمعة، ونقول لا يقتضي هذا العلم موافقته القطعية، على الأقل اقتضاءً حتّى إذا فرضنا أنّه لا مانع من ناحيته من إجراء الأصل في بعض الأطراف. يعني بعبارة أخرى: يكون اقتضاء لا على نحو العلّية، إنكار الاقتضاء لا على نحو العلية، هذا خلاف الوجدان؛ بل العلم الإجمالي ينجّز التكليف المعلوم بالإجمال على المكلّف، وكما تحرم مخالفته القطعية في الطرفين، كذلك هو يقتضي وجوب الموافقة القطعية بالإتيان بكلا الطرفين. هذا هو الرأي الثاني، بعد ذلك نتعرّض إلى مطلبٍ ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) إن شاء الله تعالى.