35/08/04
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي
كان الكلام في جواب المحقق العراقي(قدّس سرّه): على النقض الذي أورده على نفسه وعلى القول بالعلّية بشكلٍ عام، هو فَرَض ثلاثة فروض لكن جعلناهما فرضين، الفرض الأوّل هو ما إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان موقوفاً على عدم أداء الدين واقعاً، أو موقوفاً على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، في هذا الفرض ذكر بأنّ الاستصحاب الترخيصي في طرف الدَين يجري ولا محذور في جريانه ولا يكون جريانه منافياً للقول بالعلّية؛ لأنّ استصحاب عدم وجوب أداء الدَين له مدلول التزامي يثبت به وجوب الحج، فالاستصحاب بلحاظ أحد مدلوليه يكون أصلاً ترخيصياً، وبلحاظ المدلول الآخر يكون أصلاً إلزامياً، وأيّ ضير في أن نأخذ بكلا الدليلين معاً ؟ فنلتزم بوجوب الحج عملاً بالدلالة المطابقية للاستصحاب والذي يكون الأصل بلحاظها أصل الزامي، فينحل العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ لا مانع من الأخذ بالدلالة المطابقية والالتزام بعدم وجوب أداء الدَين.
عبارته(قدّس سرّه) تساعد على هذا الفهم؛ لأنّه يقول: أنّ بناء الفقهاء على جريان الأصل النافي الذي هو في مثالنا استصحاب عدم وجوب أداء الدَين، إنّما هو بالنظر إلى ما يترتب عليه من الأثر الوجودي وهو ثبوت التكليف بالحج، ما يترتب على نفس هذا الأصل النافي الذي هو استصحاب عدم وجوب أداء الدَين، بنا الفقهاء على جريانه باعتبار ما يترتب عليه من الأثر الوجودي وهو ثبوت التكليف بالحج الموجب لسقوط العلم الإجمالي عن التأثير بالنسبة إلى طرفه، ومن الواضح أنّ مثله لا ينافي علّية العلم الإجمالي؛ لأنّه بهذه الجهة يكون من قبيل الأصول المثبتة للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي الموجبة لسقوطه عن التأثير بالنسبة إلى الطرف الآخر ورجوع الشك فيه بدوياً. ظاهر العبارة هو أنّ الفقهاء بنوا على وجوب الحج باعتبار ما يترتب على هذا الأصل النافي الذي هو الاستصحاب من الأثر الوجودي الذي هو ثبوت التكليف بالحج، وهذا في عين الوقت يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن المنجّزية؛ حينئذٍ لا محذور في الرجوع إلى الأصل النافي في الدَين في نفس الآن الذي يثبت فيه التكليف بالحج عملاً بالاستصحاب بلحاظ مدلوله الالتزامي، وهذا لا ينافي القول بالعلّية، القائل بالعلّية يقول لا يجوز الرجوع إلى الأصل المؤمّن في أحد الأطراف عندما يكون العلم الإجمالي باقياً على منجزيته، أمّا إذا سقط عن المنجزية؛ فحينئذٍ حتّى على القول بالعلّية، لا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي والترخيصي في بعض الأطراف.
هو يريد أن يقول: أنّ الرجوع إلى الأصل النافي في الدَين يكون في نفس الآن الذي يسقط فيه العلم الإجمالي عن التنجيز؛ باعتبار ما قاله من أنّ الاستصحاب له مفادان، بلحاظ أحد مفاديه يكون أصلاً إلزامياً مثبتاً للتكليف الذي هو وجوب الحج في ذاك الطرف؛ فحينئذ لا ينافي، يعني فتوى الفقهاء ورجوعهم إلى الأصل الترخيصي في الدَين وفتواهم بوجوب الحج، يقول: هذا لا ينافي المباني المتقدّمة المثبتة للقول بالعلّية. هذا ما يُفهم من كلامه(قدّس سرّه).
وأمّا الفرض الثاني: وهو ما إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان مترتباً على مطلق المعذورية من أداء الدين ولو كانت المعذورية معذورية عقلية. إذا كان الشخص معذوراً من أداء الدَين ولم يكن عدم وجوب أداء الدَين ثابتاً لا واقعاً ولا ظاهراً، لكن المكلّف معذور منه ولديه معذورية عقلية، يقول هذا يكفي في ثبوت وجوب الحج. بناءً على هذا الفرض، يقول: أنّ جريان البراءة عن التكليف بالدَين، الذي هو الأصل الترخيصي الذي يجري في أحد الطرفين الذي هو على القول بالعلّية غير جائز، يقول: جريان البراءة عن التكليف بالدَين في هذا الفرض الثاني إنّما هو من جهة عدم منجّزية العلم الإجمالي في المقام لوجوب أداء الدَين؛ إذ يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون كلا طرفيه قابلاً للتنجيز في عرضٍ واحد، والعلم الإجمالي في محل الكلام وفي الفرض الثاني ليس قابلاً لذلك، ليس قابلاً لأن ينجّز كلا طرفيه في عرضٍ واحد؛ ولذا هو يختلف عن العلوم الإجمالية العادية، في مثال الإناءين العلم الإجمالي لا يسقط عن التأثير؛ لأنّه قابل لأن ينجّز تكليفه في كلا طرفيه في عرضٍ واحد، فيقول يحرم عليك هذا وفي نفس الوقت ينجّز التكليف في الطرف الآخر، ولا محذور في ذلك، مثل هذا العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته، في محل الكلام لا يُعقل أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لكلا الطرفين في عرضٍ واحد؛ وذلك لأنّه لا يمكن أن نفترض اجتماع منجّزية العلم الإجمالي للتكليف بالحج مع منجّزية العلم الإجمالي بالتكليف بأداء الدَين، باعتبار أنّه في فرض منجّزية العلم الإجمالي للتكليف بأداء الدين يُقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّه في الفرض الثاني المفروض أنّ وجوب الحج مترتب على مطلق المعذورية من أداء الدين ولو كانت عقلية، فمع منجّزية العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين يرتفع وجوب الحج قطعاً؛ لأنّ وجوب الحج معلّق على أن يكون المكلّف معذوراً من أداء الدَين، بينما نحن فرضنا أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب أداء الدين عليه، فمع تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين عليه يرتفع موضوع وجوب الحج قطعاً ويرتفع وجوب الحج قطعاً، ومع القطع بارتفاع وجوب الحج لا يُعقل أن يقال أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الحج على المكلّف، ولا يُعقل الجمع بين هاتين المنجّزيتين، أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف في هذا الطرف ومنجّزاً للتكليف في الطرف الآخر، كما هو الحال في مثال الإناءين؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي إن نجّز عقلاً التكليف بوجوب أداء الدَين يستحيل افتراض أنّه ينجّز التكليف بوجوب الحج؛ لأنّه في حال تنجيز العلم الإجمالي للتكليف بوجوب أداء الدَين نقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج بحسب الفرض الثاني مترتب على مطلق المعذورية عن أداء الدَين، وهنا لا يوجد معذورية عن أداء الدَين؛ لأنّ العقل نجّز عليه التكليف بأداء الدَين. إذن: هو ليس معذوراً عن التخلّف عن أداء الدَين، فإذن عدم المعذورية عن أداء الدَين متحقق، ومعه يُقطع بعدم وجوب الحج، فلا يُعقل أن ينجّز هذا العلم الإجمالي التكليف بوجوب الحج في عرض تنجيزه لتكليفه بأداء الدين. يقول: أنّ مثل هذا العلم الإجمالي ليس منجّزاً؛ وحينئذٍ لا مانع من الرجوع إلى الأصل الترخيصي الذي هو البراءة في الدَين؛ لأنّه ليس فيه منافاة للقول بالعلّية؛ لما قلناه من أنّ القول بالعلّية إنّما يمنع من إجراء الأصل الترخيصي في بعض الأطراف عندما يكون العلم الإجمالي باقياً ومنجّزاً لكلا الطرفين، أمّا عندما يستحيل أن ينجّز كلا الطرفين في عرضٍ واحد فيسقط عن المنجّزية، وإذا سقط عن المنجّزية، فلا مانع من التمسّك بالبراءة في الدَين، وبالتالي إثبات عدم وجوب أداء الدَين، وإذا ثبت عدم وجوب أداء الدَين بالأصل الترخيصي يثبت حينئذٍ وجوب الحج، ولا محذور في الرجوع إلى الأصل المؤمّن؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزية وليس له اثر.
قد يُقال: لماذا هذا يختص بالفرض الثاني ؟ يعني لماذا نقول بأنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز ولا يمنع من الرجوع إلى البراءة في الدين في الفرض الثاني، يعني عندما يكون وجوب الحج مترتباً على مطلق المعذورية ولو كانت عقلية، لماذا لا نقوله في الفرض الأوّل، يعني عندما يكون وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، فهناك يمكن قول هذا الكلام دون التمسّك بالاستصحاب وأنّ الاستصحاب له مدلول مطابقي ومدلول التزامي.....الخ الكلام المتقدّم، فيمكن أن نقول هناك أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية؛ لأنّه يستحيل أن ينجّز كلا التكليفين في الطرفين في عرضٍ واحد كما قاله هنا، وبالتالي لا مانع من الرجوع إلى الأصل المؤمن في الدَين، ففتوى المشهور على القاعدة وليس فيها منافاة للقول بالعلّية، فلا يرد النقض .
هو يقول: هناك فرق بين الفرضين، هذا الذي ذكرناه يختص بالفرض الثاني، والنكتة هي أنّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين يستلزم القطع بعدم وجوب الحج، ومع القطع بعدم وجوب الحج يستحيل أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لوجوب الحج، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز؛ لأنّه لا يمكنه أن ينجّز كلا الطرفين في آنٍ واحد؛ لأنّه إذا نجّز وجوب أداء الدَين ارتفعت المعذورية مطلقاً، الشرعية والعقلية، وهذا يستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب على المعذورية ولو كانت عقلية، فإذا ارتفع موضوعها؛ حينئذٍ يرتفع وجوب الحج، فنقطع بعدم وجوب الحج. هذا موجود في الفرض الثاني.
وأمّا في الفرض الأوّل، فهذا الشيء غير متحقق؛ لأنّ وجوب الحج مترتّب في الفرض الأوّل على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، فإذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي نجّز التكليف بالدَين، هل تستلزم منجّزية العلم الإجمالي للتكليف بالدّين القطع بعدم وجوب الحج، أو لا ؟ هو يقول: في الفرض الأوّل لا يستلزم القطع بعدم وجوب الحج، باعتبار أنّه من المحتمل براءة ذمته من الدَين واقعاً، صحيح أنّ العلم الإجمالي نجّز عليه وجوب أداء الدَين، لكن هذا لا يستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، كان يجب عليه بمقتضى العلم الإجمالي أن يؤدي الدَين؛ لأنّه نجّزه عليه، لكن يبقى احتمال تحقق موضوع وجوب الحج موجوداً كاحتمال؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وهو يحتمل أنّ ذمّته بريئة من الدَين، فيتحقق عدم وجوب أداء الدَين واقعاً وإن كان العلم الإجمالي نجّز عليه وجوب أداء الدَين، ما دام يحتمل واقعاً تحقق موضوع وجوب الحج، إذن، لا قطع عنده بعدم وجوب الحج، ومن هنا يفترق الفرض الأوّل عن الفرض الثاني، في الفرض الثاني تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين يستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّه يستلزم القطع بارتفاع موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو مطلق المعذورية بحسب الفرض الثاني، وبتنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين تنقطع المعذورية مطلقاً، فيقطع بعدم وجوب الحج، بينما في الفرض الأوّل، لمّا كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وهو يحتمل عدم وجوب أداء الدَين في ذمّته واقعاً، وإن نجّز عليه العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين، فمادام هناك احتمال، إذن: يمكن أن يكون العلم الإجمالي في حدّ نفسه منجّزاً لكلا التكليفين في عرضٍ واحدٍ بقطع النظر عن مسألة أنّ الأصل الترخيصي الذي يجري في أحد الطرفين يثبت التكليف بوجوب الحج، هو كعلمٍ إجمالي صالح لأن ينجّز كلا التكليفين في آنٍ واحدٍ، فيكون حاله حال العلم الإجمالي في مثال الإناءين؛ لأنّ تنجيزه لأحد الطرفين لا يستلزم القطع بانتفاء التكليف في الطرف الآخر، فإذا لم يستلزم القطع، يعني يبقى احتمال التكليف قائم في الطرف الآخر، يأتي العلم الإجمالي أيضاً ينجّز التكليف في الطرف الآخر؛ يقول: ولذا احتجنا إلى تخريج فتوى المشهور إلى الدخول في مسألة الاستصحاب وغيرها. هذا هو جواب المحقق العراقي(قدّس سرّه) على النقض الذي أورده على نفسه.
وأعتُرض على هذا الجواب بعدّة اعتراضات:
الاعتراض الأوّل: يرتبط بما ذكره من أننا نأخذ بدلالة الاستصحاب الذي هو الأصل الترخيصي الذي ذكره في كلامه، .....نأخذ بدلالة الاستصحاب على الأثر الوجودي الإلزامي، يعني على وجوب الحج الذي قلنا أنّه المدلول الالتزامي لدليل الاستصحاب، ثمّ نأخذ بدلالته على المدلول المطابقي الذي يكون الاستصحاب بلحاظه أصلاً ترخيصياً، هذا الكلام، أن نأخذ بالدلالتين المطابقية والالتزامية يتمّ بشكلٍ واضح عندما نفترض أنّ دليل الأصل يتكفّل بيان كلا الأمرين، إذا تكفّل دليل الأصل بنفسه بيان كلا الأمرين، ودليل الأصل يعني دليل الاستصحاب، روايات زرارة التي تجعل الاستصحاب حجّة يتكفّل هذين الأمرين، يعني يتكفّل بإثبات الأثر الوجودي والأثر العدمي، أو بعبارةٍ أخرى: في المثال المذكور يتكفّل بوجوب الحج، ويتكفّل بعدم وجوب أداء الدَين، الاستصحاب يجري في الدَين، استصحاب عدم وجوب أداء الدَين، مدلوله المطابقي هو عدم وجوب أداء الدَين، ومدلوله الالتزامي هو وجوب الحج، إذا كان يتكفّل بيان كلا الأمرين، هذا الكلام لا مانع منه، لكنّ ذلك ممنوع في دليل الاستصحاب. قبل الاستصحاب نأتي إلى البراءة التي هو أدخلها في البين، هذا ممنوع بشكلٍ واضح في دليل البراءة، لماذا هو أدخل البراءة ؟ ذكرنا في الدرس السابق أنّه قال لا فرق بين أن يكون وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، أو ظاهراً، سوى أنّه في الثاني تجري أصالة البراءة، يعني إذا كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، يقول: هنا بدل الاستصحاب يمكن أن نتمسّك بالبراءة، فكأنّه يعتبر أنّ البراءة كأصلٍ ترخيصي تجري في الدّين حالها حال استصحاب عدم وجوب أداء الدَين في أنّه يمكن الاستناد إليها لإثبات كلا الأمرين، البراءة من وجوب أداء الدَين ووجوب الحج، هذا الكلام إنّما يتمّ إذا كان دليل الأصل يتكفّل ببيان كلا الأمرين، لكنّ هذا ممنوع في أصالة البراءة بشكلٍ قطعي، باعتبار أنّ اصالة البراءة لا تتكفل إلاّ ببيان حكم واحد وهو رفع وجوب أداء الدَين ظاهراً، وأمّا وجوب الحج، صحيح أنّ وجوب الحج يترتّب عليها؛ لأنّ موضوعه هو عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، والبراءة تثبت عدم وجوب أداء الدَين ظاهراً، فيتحقق موضوع وجوب الحج، فيترتّب وجوب الحج، لكن هل معنى ذلك أنّ نفس دليل البراءة يتكفّل بيان وجوب الحج حتّى نتمسّك بدليل الاستصحاب لإثبات وجوب الحج ؟ ونقول بأنّ دليل الاستصحاب له مدلولان، أحدهما: عدم وجوب أداء الدَين، والثاني: وجوب الحج ؟ كلا، دليل البراءة ليس فيه هكذا لسان، وإنّما هو يرفع وجوب الحج رفعاً ظاهرياً وليس أكثر من هذا، يمكن؛ بل لابدّ من إثبات وجوب الحج، لكن إثبات وجوب الحج يكون تمسّكاً بدليله الدال على وجوب الحج المترتب على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، فيثبت وجوب الحج، لكن يثبت بدليله لا بالاستصحاب، وإنّما يثبت بدليله باعتبار تحقق موضوعه، البراءة نقّحت له موضوعه الذي هو عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، والبراءة أثبتت عدم وجوب أداء الدَين ظاهراً، فتنقّح موضوع وجوب الحج، فثبت وجوبه، يعني ثبوت وجوب الحج ليس بالبراءة، وإنّما ثبت بدليله الدال على وجوب الحج على المستطيع الذي لا يجب عليه أداء الدَين؛ لأنّه لا يكون مستطيعاً إلاّ إذا لم يجب عليه أداء الدين، ولو ظاهراً، فيثبت وجوب الحج بدليله لا بالاستصحاب كما ذكر، فلا معنى لأن يقال أنّ دليل الأصل في المقام يُتمسّك به لإثبات مفاده الثاني وهو وجوب الحج، كأنّه يستند في إثبات وجوب الحج إلى البراءة، إلى دليل هذا الأصل، بينما دليل هذا الأصل لا يتكفّل إثبات ذلك، وإنّما يتكفّل إثبات حكم واحد وهو البراءة عن وجوب أداء الدَين لا أكثر من ذلك، فإذن: هذا الكلام لا يصحّ في البراءة.
وأمّا في الاستصحاب، فتمامية هذا الكلام في الاستصحاب تكون موقوفة على أن يُدّعى بأنّ دليل الاستصحاب يتكفّل بيان كلا الأمرين، يتكفّل بيان ذات المستحب الذي هو عبارة عن عدم وجوب أداء الدَين، ويتكفّل بيان اثره الشرعي، والأثر الشرعي لعدم وجوب أداء الدَين هو وجوب الحج. إذا قلنا: أنّ دليل الاستصحاب يتكفّل إثبات المستصحب واثره الشرعي وليس الأثر العقلي؛ لأنّه بلحاظه يكون أصلاً مثبتاً، لكن يتكفّل إثبات المستصحب وآثاره الشرعية، وفي المقام الأثر الشرعي لعدم وجوب أداء الدَين ــــــــــــــ الذي هو المستصحب ـــــــــــــ هو وجوب الحج. إذن: دليل الاستصحاب يتكفّل بيان كلا الأمرين، فيتمّ الكلام الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه)؛ لأنّ دليل الاستصحاب يتكفّل ببيان كلا الأمرين، فيأتي الكلام السابق، فنأخذ بهذا ونأخذ بهذا في عرضٍ واحد ويندفع النقض.
وأمّا إذا أنكرنا هذه الدعوى، وقلنا بأنّ دليل الاستصحاب لا يتكفّل ببيان كلا الأمرين، وإنّما هو يتكفّل فقط جعل المستصحب ولا يتكفّل جعل آثاره، هو ليس في مقام بيان آثاره، حتّى الشرعية منها، فضلاً عن العقلية، وإنّما تترتب الآثار الشرعية بنفس أدلّتها لا بالاستصحاب كما قلنا في البراءة، الاستصحاب فقط هو يأمر بالبناء على المستصحب الذي كنت على يقينٍ منه سابقاً، لكن هو لا يقول رتّب الآثار الشرعية عليه، وإنّما بمجرّد أن يأمر بالبناء على بقاء المتيقّن سابقاً؛ حينئذٍ يتنقّح موضوع وجوب الحج الثابت بدليله؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم وجوب أداء الدَين، فباعتبار أنّك كنت على يقين من عدم وجوب أداء الدَين سابقاً الاستصحاب ثبّت لك عدم وجوب أداء الدَين، فإذا ثبت عدم وجوب أداء الدَين يثبت وجوب الحج، لكن لا يثبت وجوب الحج بنفس الاستصحاب، وإنّما يثبت بدليله، الاستصحاب فقط يأمر بالبناء على بقاء الحالة السابقة، ترتيب الآثار الشرعية على بقاء الحالة السابقة يتكفّل بها دليل الأثر الشرعي نفسه لا نفس الاستصحاب. إذا قلنا بذلك؛ حينئذٍ لا يتمّ كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه)؛ لأنّه حتّى دليل الاستصحاب هو لا يتكفّل بيان أمرين، حتّى يقال: أيّ ضيرٍ في أن نأخذ بمدلوله الالتزامي، وأحد مدلوليه، فنثبت وجوب الحج، فينحلّ العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ لا مانع من الأخذ بمدلوله الآخر الذي يكون بلحاظه أصلاً ترخيصياً، فلا يختلّ بذلك مبنى العلّية؛ لأنّ العلم الإجمالي سقط عن المنجّزية، هذا الكلام إنّما يصح عندما يكون دليل الأصل يتكفّل بيان كلا الأمرين، بأن يكون له مدلولان، أحدهما عدم وجوب أداء الدَين، والآخر وجوب الحج، فإذا كان له مدلولان في عرضٍ واحد، فهذا الكلام صحيح، لكن إذا أنكرنا ذلك، فلا يتم هذا الكلام.
كان الكلام في جواب المحقق العراقي(قدّس سرّه): على النقض الذي أورده على نفسه وعلى القول بالعلّية بشكلٍ عام، هو فَرَض ثلاثة فروض لكن جعلناهما فرضين، الفرض الأوّل هو ما إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان موقوفاً على عدم أداء الدين واقعاً، أو موقوفاً على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، في هذا الفرض ذكر بأنّ الاستصحاب الترخيصي في طرف الدَين يجري ولا محذور في جريانه ولا يكون جريانه منافياً للقول بالعلّية؛ لأنّ استصحاب عدم وجوب أداء الدَين له مدلول التزامي يثبت به وجوب الحج، فالاستصحاب بلحاظ أحد مدلوليه يكون أصلاً ترخيصياً، وبلحاظ المدلول الآخر يكون أصلاً إلزامياً، وأيّ ضير في أن نأخذ بكلا الدليلين معاً ؟ فنلتزم بوجوب الحج عملاً بالدلالة المطابقية للاستصحاب والذي يكون الأصل بلحاظها أصل الزامي، فينحل العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ لا مانع من الأخذ بالدلالة المطابقية والالتزام بعدم وجوب أداء الدَين.
عبارته(قدّس سرّه) تساعد على هذا الفهم؛ لأنّه يقول: أنّ بناء الفقهاء على جريان الأصل النافي الذي هو في مثالنا استصحاب عدم وجوب أداء الدَين، إنّما هو بالنظر إلى ما يترتب عليه من الأثر الوجودي وهو ثبوت التكليف بالحج، ما يترتب على نفس هذا الأصل النافي الذي هو استصحاب عدم وجوب أداء الدَين، بنا الفقهاء على جريانه باعتبار ما يترتب عليه من الأثر الوجودي وهو ثبوت التكليف بالحج الموجب لسقوط العلم الإجمالي عن التأثير بالنسبة إلى طرفه، ومن الواضح أنّ مثله لا ينافي علّية العلم الإجمالي؛ لأنّه بهذه الجهة يكون من قبيل الأصول المثبتة للتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي الموجبة لسقوطه عن التأثير بالنسبة إلى الطرف الآخر ورجوع الشك فيه بدوياً. ظاهر العبارة هو أنّ الفقهاء بنوا على وجوب الحج باعتبار ما يترتب على هذا الأصل النافي الذي هو الاستصحاب من الأثر الوجودي الذي هو ثبوت التكليف بالحج، وهذا في عين الوقت يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن المنجّزية؛ حينئذٍ لا محذور في الرجوع إلى الأصل النافي في الدَين في نفس الآن الذي يثبت فيه التكليف بالحج عملاً بالاستصحاب بلحاظ مدلوله الالتزامي، وهذا لا ينافي القول بالعلّية، القائل بالعلّية يقول لا يجوز الرجوع إلى الأصل المؤمّن في أحد الأطراف عندما يكون العلم الإجمالي باقياً على منجزيته، أمّا إذا سقط عن المنجزية؛ فحينئذٍ حتّى على القول بالعلّية، لا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي والترخيصي في بعض الأطراف.
هو يريد أن يقول: أنّ الرجوع إلى الأصل النافي في الدَين يكون في نفس الآن الذي يسقط فيه العلم الإجمالي عن التنجيز؛ باعتبار ما قاله من أنّ الاستصحاب له مفادان، بلحاظ أحد مفاديه يكون أصلاً إلزامياً مثبتاً للتكليف الذي هو وجوب الحج في ذاك الطرف؛ فحينئذ لا ينافي، يعني فتوى الفقهاء ورجوعهم إلى الأصل الترخيصي في الدَين وفتواهم بوجوب الحج، يقول: هذا لا ينافي المباني المتقدّمة المثبتة للقول بالعلّية. هذا ما يُفهم من كلامه(قدّس سرّه).
وأمّا الفرض الثاني: وهو ما إذا فرضنا أنّ وجوب الحج كان مترتباً على مطلق المعذورية من أداء الدين ولو كانت المعذورية معذورية عقلية. إذا كان الشخص معذوراً من أداء الدَين ولم يكن عدم وجوب أداء الدَين ثابتاً لا واقعاً ولا ظاهراً، لكن المكلّف معذور منه ولديه معذورية عقلية، يقول هذا يكفي في ثبوت وجوب الحج. بناءً على هذا الفرض، يقول: أنّ جريان البراءة عن التكليف بالدَين، الذي هو الأصل الترخيصي الذي يجري في أحد الطرفين الذي هو على القول بالعلّية غير جائز، يقول: جريان البراءة عن التكليف بالدَين في هذا الفرض الثاني إنّما هو من جهة عدم منجّزية العلم الإجمالي في المقام لوجوب أداء الدَين؛ إذ يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون كلا طرفيه قابلاً للتنجيز في عرضٍ واحد، والعلم الإجمالي في محل الكلام وفي الفرض الثاني ليس قابلاً لذلك، ليس قابلاً لأن ينجّز كلا طرفيه في عرضٍ واحد؛ ولذا هو يختلف عن العلوم الإجمالية العادية، في مثال الإناءين العلم الإجمالي لا يسقط عن التأثير؛ لأنّه قابل لأن ينجّز تكليفه في كلا طرفيه في عرضٍ واحد، فيقول يحرم عليك هذا وفي نفس الوقت ينجّز التكليف في الطرف الآخر، ولا محذور في ذلك، مثل هذا العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته، في محل الكلام لا يُعقل أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لكلا الطرفين في عرضٍ واحد؛ وذلك لأنّه لا يمكن أن نفترض اجتماع منجّزية العلم الإجمالي للتكليف بالحج مع منجّزية العلم الإجمالي بالتكليف بأداء الدَين، باعتبار أنّه في فرض منجّزية العلم الإجمالي للتكليف بأداء الدين يُقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّه في الفرض الثاني المفروض أنّ وجوب الحج مترتب على مطلق المعذورية من أداء الدين ولو كانت عقلية، فمع منجّزية العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين يرتفع وجوب الحج قطعاً؛ لأنّ وجوب الحج معلّق على أن يكون المكلّف معذوراً من أداء الدَين، بينما نحن فرضنا أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب أداء الدين عليه، فمع تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين عليه يرتفع موضوع وجوب الحج قطعاً ويرتفع وجوب الحج قطعاً، ومع القطع بارتفاع وجوب الحج لا يُعقل أن يقال أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الحج على المكلّف، ولا يُعقل الجمع بين هاتين المنجّزيتين، أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف في هذا الطرف ومنجّزاً للتكليف في الطرف الآخر، كما هو الحال في مثال الإناءين؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي إن نجّز عقلاً التكليف بوجوب أداء الدَين يستحيل افتراض أنّه ينجّز التكليف بوجوب الحج؛ لأنّه في حال تنجيز العلم الإجمالي للتكليف بوجوب أداء الدَين نقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج بحسب الفرض الثاني مترتب على مطلق المعذورية عن أداء الدَين، وهنا لا يوجد معذورية عن أداء الدَين؛ لأنّ العقل نجّز عليه التكليف بأداء الدَين. إذن: هو ليس معذوراً عن التخلّف عن أداء الدَين، فإذن عدم المعذورية عن أداء الدَين متحقق، ومعه يُقطع بعدم وجوب الحج، فلا يُعقل أن ينجّز هذا العلم الإجمالي التكليف بوجوب الحج في عرض تنجيزه لتكليفه بأداء الدين. يقول: أنّ مثل هذا العلم الإجمالي ليس منجّزاً؛ وحينئذٍ لا مانع من الرجوع إلى الأصل الترخيصي الذي هو البراءة في الدَين؛ لأنّه ليس فيه منافاة للقول بالعلّية؛ لما قلناه من أنّ القول بالعلّية إنّما يمنع من إجراء الأصل الترخيصي في بعض الأطراف عندما يكون العلم الإجمالي باقياً ومنجّزاً لكلا الطرفين، أمّا عندما يستحيل أن ينجّز كلا الطرفين في عرضٍ واحد فيسقط عن المنجّزية، وإذا سقط عن المنجّزية، فلا مانع من التمسّك بالبراءة في الدَين، وبالتالي إثبات عدم وجوب أداء الدَين، وإذا ثبت عدم وجوب أداء الدَين بالأصل الترخيصي يثبت حينئذٍ وجوب الحج، ولا محذور في الرجوع إلى الأصل المؤمّن؛ لأنّ العلم الإجمالي ساقط عن المنجّزية وليس له اثر.
قد يُقال: لماذا هذا يختص بالفرض الثاني ؟ يعني لماذا نقول بأنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز ولا يمنع من الرجوع إلى البراءة في الدين في الفرض الثاني، يعني عندما يكون وجوب الحج مترتباً على مطلق المعذورية ولو كانت عقلية، لماذا لا نقوله في الفرض الأوّل، يعني عندما يكون وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، فهناك يمكن قول هذا الكلام دون التمسّك بالاستصحاب وأنّ الاستصحاب له مدلول مطابقي ومدلول التزامي.....الخ الكلام المتقدّم، فيمكن أن نقول هناك أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية؛ لأنّه يستحيل أن ينجّز كلا التكليفين في الطرفين في عرضٍ واحد كما قاله هنا، وبالتالي لا مانع من الرجوع إلى الأصل المؤمن في الدَين، ففتوى المشهور على القاعدة وليس فيها منافاة للقول بالعلّية، فلا يرد النقض .
هو يقول: هناك فرق بين الفرضين، هذا الذي ذكرناه يختص بالفرض الثاني، والنكتة هي أنّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين يستلزم القطع بعدم وجوب الحج، ومع القطع بعدم وجوب الحج يستحيل أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً لوجوب الحج، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز؛ لأنّه لا يمكنه أن ينجّز كلا الطرفين في آنٍ واحد؛ لأنّه إذا نجّز وجوب أداء الدَين ارتفعت المعذورية مطلقاً، الشرعية والعقلية، وهذا يستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب على المعذورية ولو كانت عقلية، فإذا ارتفع موضوعها؛ حينئذٍ يرتفع وجوب الحج، فنقطع بعدم وجوب الحج. هذا موجود في الفرض الثاني.
وأمّا في الفرض الأوّل، فهذا الشيء غير متحقق؛ لأنّ وجوب الحج مترتّب في الفرض الأوّل على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، فإذا فرضنا أنّ العلم الإجمالي نجّز التكليف بالدَين، هل تستلزم منجّزية العلم الإجمالي للتكليف بالدّين القطع بعدم وجوب الحج، أو لا ؟ هو يقول: في الفرض الأوّل لا يستلزم القطع بعدم وجوب الحج، باعتبار أنّه من المحتمل براءة ذمته من الدَين واقعاً، صحيح أنّ العلم الإجمالي نجّز عليه وجوب أداء الدَين، لكن هذا لا يستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، كان يجب عليه بمقتضى العلم الإجمالي أن يؤدي الدَين؛ لأنّه نجّزه عليه، لكن يبقى احتمال تحقق موضوع وجوب الحج موجوداً كاحتمال؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وهو يحتمل أنّ ذمّته بريئة من الدَين، فيتحقق عدم وجوب أداء الدَين واقعاً وإن كان العلم الإجمالي نجّز عليه وجوب أداء الدَين، ما دام يحتمل واقعاً تحقق موضوع وجوب الحج، إذن، لا قطع عنده بعدم وجوب الحج، ومن هنا يفترق الفرض الأوّل عن الفرض الثاني، في الفرض الثاني تنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين يستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّه يستلزم القطع بارتفاع موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو مطلق المعذورية بحسب الفرض الثاني، وبتنجيز العلم الإجمالي لوجوب أداء الدَين تنقطع المعذورية مطلقاً، فيقطع بعدم وجوب الحج، بينما في الفرض الأوّل، لمّا كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، وهو يحتمل عدم وجوب أداء الدَين في ذمّته واقعاً، وإن نجّز عليه العلم الإجمالي وجوب أداء الدَين، فمادام هناك احتمال، إذن: يمكن أن يكون العلم الإجمالي في حدّ نفسه منجّزاً لكلا التكليفين في عرضٍ واحدٍ بقطع النظر عن مسألة أنّ الأصل الترخيصي الذي يجري في أحد الطرفين يثبت التكليف بوجوب الحج، هو كعلمٍ إجمالي صالح لأن ينجّز كلا التكليفين في آنٍ واحدٍ، فيكون حاله حال العلم الإجمالي في مثال الإناءين؛ لأنّ تنجيزه لأحد الطرفين لا يستلزم القطع بانتفاء التكليف في الطرف الآخر، فإذا لم يستلزم القطع، يعني يبقى احتمال التكليف قائم في الطرف الآخر، يأتي العلم الإجمالي أيضاً ينجّز التكليف في الطرف الآخر؛ يقول: ولذا احتجنا إلى تخريج فتوى المشهور إلى الدخول في مسألة الاستصحاب وغيرها. هذا هو جواب المحقق العراقي(قدّس سرّه) على النقض الذي أورده على نفسه.
وأعتُرض على هذا الجواب بعدّة اعتراضات:
الاعتراض الأوّل: يرتبط بما ذكره من أننا نأخذ بدلالة الاستصحاب الذي هو الأصل الترخيصي الذي ذكره في كلامه، .....نأخذ بدلالة الاستصحاب على الأثر الوجودي الإلزامي، يعني على وجوب الحج الذي قلنا أنّه المدلول الالتزامي لدليل الاستصحاب، ثمّ نأخذ بدلالته على المدلول المطابقي الذي يكون الاستصحاب بلحاظه أصلاً ترخيصياً، هذا الكلام، أن نأخذ بالدلالتين المطابقية والالتزامية يتمّ بشكلٍ واضح عندما نفترض أنّ دليل الأصل يتكفّل بيان كلا الأمرين، إذا تكفّل دليل الأصل بنفسه بيان كلا الأمرين، ودليل الأصل يعني دليل الاستصحاب، روايات زرارة التي تجعل الاستصحاب حجّة يتكفّل هذين الأمرين، يعني يتكفّل بإثبات الأثر الوجودي والأثر العدمي، أو بعبارةٍ أخرى: في المثال المذكور يتكفّل بوجوب الحج، ويتكفّل بعدم وجوب أداء الدَين، الاستصحاب يجري في الدَين، استصحاب عدم وجوب أداء الدَين، مدلوله المطابقي هو عدم وجوب أداء الدَين، ومدلوله الالتزامي هو وجوب الحج، إذا كان يتكفّل بيان كلا الأمرين، هذا الكلام لا مانع منه، لكنّ ذلك ممنوع في دليل الاستصحاب. قبل الاستصحاب نأتي إلى البراءة التي هو أدخلها في البين، هذا ممنوع بشكلٍ واضح في دليل البراءة، لماذا هو أدخل البراءة ؟ ذكرنا في الدرس السابق أنّه قال لا فرق بين أن يكون وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين واقعاً، أو ظاهراً، سوى أنّه في الثاني تجري أصالة البراءة، يعني إذا كان وجوب الحج مترتباً على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، يقول: هنا بدل الاستصحاب يمكن أن نتمسّك بالبراءة، فكأنّه يعتبر أنّ البراءة كأصلٍ ترخيصي تجري في الدّين حالها حال استصحاب عدم وجوب أداء الدَين في أنّه يمكن الاستناد إليها لإثبات كلا الأمرين، البراءة من وجوب أداء الدَين ووجوب الحج، هذا الكلام إنّما يتمّ إذا كان دليل الأصل يتكفّل ببيان كلا الأمرين، لكنّ هذا ممنوع في أصالة البراءة بشكلٍ قطعي، باعتبار أنّ اصالة البراءة لا تتكفل إلاّ ببيان حكم واحد وهو رفع وجوب أداء الدَين ظاهراً، وأمّا وجوب الحج، صحيح أنّ وجوب الحج يترتّب عليها؛ لأنّ موضوعه هو عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، والبراءة تثبت عدم وجوب أداء الدَين ظاهراً، فيتحقق موضوع وجوب الحج، فيترتّب وجوب الحج، لكن هل معنى ذلك أنّ نفس دليل البراءة يتكفّل بيان وجوب الحج حتّى نتمسّك بدليل الاستصحاب لإثبات وجوب الحج ؟ ونقول بأنّ دليل الاستصحاب له مدلولان، أحدهما: عدم وجوب أداء الدَين، والثاني: وجوب الحج ؟ كلا، دليل البراءة ليس فيه هكذا لسان، وإنّما هو يرفع وجوب الحج رفعاً ظاهرياً وليس أكثر من هذا، يمكن؛ بل لابدّ من إثبات وجوب الحج، لكن إثبات وجوب الحج يكون تمسّكاً بدليله الدال على وجوب الحج المترتب على عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، فيثبت وجوب الحج، لكن يثبت بدليله لا بالاستصحاب، وإنّما يثبت بدليله باعتبار تحقق موضوعه، البراءة نقّحت له موضوعه الذي هو عدم وجوب أداء الدَين ولو ظاهراً، والبراءة أثبتت عدم وجوب أداء الدَين ظاهراً، فتنقّح موضوع وجوب الحج، فثبت وجوبه، يعني ثبوت وجوب الحج ليس بالبراءة، وإنّما ثبت بدليله الدال على وجوب الحج على المستطيع الذي لا يجب عليه أداء الدَين؛ لأنّه لا يكون مستطيعاً إلاّ إذا لم يجب عليه أداء الدين، ولو ظاهراً، فيثبت وجوب الحج بدليله لا بالاستصحاب كما ذكر، فلا معنى لأن يقال أنّ دليل الأصل في المقام يُتمسّك به لإثبات مفاده الثاني وهو وجوب الحج، كأنّه يستند في إثبات وجوب الحج إلى البراءة، إلى دليل هذا الأصل، بينما دليل هذا الأصل لا يتكفّل إثبات ذلك، وإنّما يتكفّل إثبات حكم واحد وهو البراءة عن وجوب أداء الدَين لا أكثر من ذلك، فإذن: هذا الكلام لا يصحّ في البراءة.
وأمّا في الاستصحاب، فتمامية هذا الكلام في الاستصحاب تكون موقوفة على أن يُدّعى بأنّ دليل الاستصحاب يتكفّل بيان كلا الأمرين، يتكفّل بيان ذات المستحب الذي هو عبارة عن عدم وجوب أداء الدَين، ويتكفّل بيان اثره الشرعي، والأثر الشرعي لعدم وجوب أداء الدَين هو وجوب الحج. إذا قلنا: أنّ دليل الاستصحاب يتكفّل إثبات المستصحب واثره الشرعي وليس الأثر العقلي؛ لأنّه بلحاظه يكون أصلاً مثبتاً، لكن يتكفّل إثبات المستصحب وآثاره الشرعية، وفي المقام الأثر الشرعي لعدم وجوب أداء الدَين ــــــــــــــ الذي هو المستصحب ـــــــــــــ هو وجوب الحج. إذن: دليل الاستصحاب يتكفّل بيان كلا الأمرين، فيتمّ الكلام الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه)؛ لأنّ دليل الاستصحاب يتكفّل ببيان كلا الأمرين، فيأتي الكلام السابق، فنأخذ بهذا ونأخذ بهذا في عرضٍ واحد ويندفع النقض.
وأمّا إذا أنكرنا هذه الدعوى، وقلنا بأنّ دليل الاستصحاب لا يتكفّل ببيان كلا الأمرين، وإنّما هو يتكفّل فقط جعل المستصحب ولا يتكفّل جعل آثاره، هو ليس في مقام بيان آثاره، حتّى الشرعية منها، فضلاً عن العقلية، وإنّما تترتب الآثار الشرعية بنفس أدلّتها لا بالاستصحاب كما قلنا في البراءة، الاستصحاب فقط هو يأمر بالبناء على المستصحب الذي كنت على يقينٍ منه سابقاً، لكن هو لا يقول رتّب الآثار الشرعية عليه، وإنّما بمجرّد أن يأمر بالبناء على بقاء المتيقّن سابقاً؛ حينئذٍ يتنقّح موضوع وجوب الحج الثابت بدليله؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم وجوب أداء الدَين، فباعتبار أنّك كنت على يقين من عدم وجوب أداء الدَين سابقاً الاستصحاب ثبّت لك عدم وجوب أداء الدَين، فإذا ثبت عدم وجوب أداء الدَين يثبت وجوب الحج، لكن لا يثبت وجوب الحج بنفس الاستصحاب، وإنّما يثبت بدليله، الاستصحاب فقط يأمر بالبناء على بقاء الحالة السابقة، ترتيب الآثار الشرعية على بقاء الحالة السابقة يتكفّل بها دليل الأثر الشرعي نفسه لا نفس الاستصحاب. إذا قلنا بذلك؛ حينئذٍ لا يتمّ كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه)؛ لأنّه حتّى دليل الاستصحاب هو لا يتكفّل بيان أمرين، حتّى يقال: أيّ ضيرٍ في أن نأخذ بمدلوله الالتزامي، وأحد مدلوليه، فنثبت وجوب الحج، فينحلّ العلم الإجمالي؛ وحينئذٍ لا مانع من الأخذ بمدلوله الآخر الذي يكون بلحاظه أصلاً ترخيصياً، فلا يختلّ بذلك مبنى العلّية؛ لأنّ العلم الإجمالي سقط عن المنجّزية، هذا الكلام إنّما يصح عندما يكون دليل الأصل يتكفّل بيان كلا الأمرين، بأن يكون له مدلولان، أحدهما عدم وجوب أداء الدَين، والآخر وجوب الحج، فإذا كان له مدلولان في عرضٍ واحد، فهذا الكلام صحيح، لكن إذا أنكرنا ذلك، فلا يتم هذا الكلام.