35/11/25
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم
الإجمالي/ انحلال العلم الإجمالي
ذكرنا في الدرس السابق أنّه في مسألة الانحلال الحكمي حيث لا يثبت انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، هذا شيء يرتبط بما يُختار في ما يدركه العقل، أنّ العقل هل يدرك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو لا يدركها، وإنّما يدرك منجّزية الاحتمال، وينكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإذا أنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فعدم الانحلال بلحاظ القواعد العقلية ينبغي أن يكون واضحاً؛ لأنّ احتمال التكليف منجّز. نعم بناءً على الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان قلنا بأنّ الأمر يرتبط بمسألة تقدّمت الإشارة إليها وهي كيفية تفسير العلم الإجمالي ؟ هل هو علم بالجامع فقط، بحيث لا ينجّز أكثر من الجامع بحدّه الجامعي ؟ وهذا معناه أنّه لا ينجّز ابتداءً وجوب الموافقة القطعية، وإنّما يتنجّز وجوب الموافقة القطعية باعتبار تعارض الأصول، أو أنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع على واقعه ويدخله في العهدة بحيث تجب الموافقة القطعية لأجل العلم الإجمالي بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّى إذا لم تتعارض الأصول وكان يمكن إجراء الأصل في أحد الطرفين بلا معارضٍ مع ذلك لا يمكن إجراء هذا الأصل.
فإن قلنا: أنّالعلم الإجمالي هو علمٌ بالجامع فقط، ذكرنا في الدرس السابق أنّه حينئذٍ يُلتزَم بالانحلال الحكمي، باعتبار أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع بحدّه الجامعي الذي ينطبق على كلّ واحد من الطرفين؛ ولذا لا تجب إلاّ الموافقة الاحتمالية، ولا تجب الموافقة القطعية، وأمّا ما عدا هذا الواحد الذي ينطبق عليه الجامع فهو مورد للتأمين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ العلم الإجمالي هو المنجّز، والمفروض أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع الذي ينطبق على واحدٍ من الطرفين، ما عدا الواحد من الطرفين هو مورد للأصل المؤمّن العقلي ــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ، قلنا في الدرس السابق بحيث أنّه لو ارتكبهما وكانا في الواقع محرمين، هو لا يستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما زاد على الواحد هو مؤمّن عنه بقاعدةٍ عقليةٍ ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ هو لا يستحق العقاب عليه حتّى لو صادف الحرام الواقعي، وهذا معناه الانحلال الحكمي، هذا معناه أنّ ما زاد على الواحد مورد للأصل المؤمّن، فيكون العلم الإجمالي منحلاً انحلالاً حكمياً. هذا بناءً على تفسير العلم الإجمالي بأنّه علم بالجامع.
وأمّا إذا قلنا: أنّالعلم الإجمالي هو علمٌ بالواقع، بحيث تجب موافقته القطعية بقطع النظر عن تعارض الأصول، فالظاهر في المقام هو عدم الانحلال، يعني يبقى العلم الإجمالي منجّزاً للطرف الآخر؛ لأنّه إذا نجّز العلم الإجمالي الواقع على واقعه الذي هو مجمل عندي ــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ أحد محتملات الواقع هو أنّه ينطبق على الطرف الآخر غير المعلوم بالتفصيل، بلا إشكال أنا احتمل أنّ الواقع الذي تنجّز عليّ بالعلم الإجمالي يحتمل انطباقه على الطرف الآخر غير المعلوم بالتفصيل، فيكون هو المنجّز بالعلم الإجمالي على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال المتحقق في الطرف الآخر، يكون الطرف الآخر هو المنجّز بالعلم الإجمالي، ما عدا ذلك الطرف الآخر ـــــــــــ المنجّز بالعلم الإجمالي على هذا التقدير ـــــــــــ الذي تعلّق به العلم التفصيلي، لولا العلم التفصيلي لكان مورداً للتأمين، لكنّ العلم التفصيلي نجّزه، لكن من الواضح أنّ تنجّز أحد الطرفين بالعلم التفصيلي لا يُخرِج الطرف الآخر عن كونه منجّزاً؛ إذ لا موجب لخروجه عن كونه منجّزاً، لا موجب لخروجه عن التنجيز بمجرد حصول علمٍ تفصيليٍ بأحد الطرفين بعينه، وهذا معناه أنّ الطرف الآخر يبقى على المنجّزية؛ لأنّ العلم الإجمالي هو علم بالواقع، وهو ينجّز الواقع، وينجّز وجوب الموافقة القطعية للمعلوم بالإجمال، على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال متحققاً في الطرف الآخر، والعلم الإجمالي ينجّز الطرف الآخر، وهذا الطرف تنجّز بالعلم الإجمالي، فلو ارتكبهما في هذه الحالة استحقّ عقابين، عقاب على مخالفة ما تنجّز بالعلم التفصيلي، وعقاب على مخالفة ما تنجّز بالعلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع على واقعه، وأحد محتملات ذلك أنّ المعلوم بالإجمال يتحققّ في الطرف الآخر، فالطرف الآخر يتلقّى التنجيز من العلم الإجمالي، وهذا الطرف يتلقّى التنجيز من العلم التفصيلي، فيستحق عقابين، ولا موجب لخروج الطرف الآخر عن التنجيز بمجرد أنّ قام العلم التفصيلي على هذا الطرف، العلم التفصيلي ينجّز هذا الطرف، والطرف الآخر يتنجّز بالعلم الإجمالي، وهذا هو معنى عدم الانحلال.
إذن: القضية ترتبط بما يُختار من أنّ العلم الإجمالي هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علمٌ بالواقع ؟ هذا كلّه بلحاظ الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي بلحاظ الأصول والقواعد العقلية، وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعية، تكلّمنا عن الانحلال الحقيقي، وتكلّمنا بعد ذلك عن الانحلال الحكمي بلحاظ القواعد العقلية، وبقطع النظر عن الأصول الشرعية.
الآن نتكلّم عن الانحلال الحكمي بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعية، هل يتحقق الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي ؟ حيث لا زلنا نتكلّم عن علمٍ إجماليٍ تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه المعيّن، تكلّمنا أولاً عن انّه هل ينحلّ انحلالاً حقيقياً، أو لا ؟ ثمّ تكلّمنا في موارد عدم الانحلال الحقيقي، هل ينحل بالعلم التفصيلي انحلالاً حكمياً بلحاظ الأصول والقواعد العقلية ؟ والآن نتكلّم عن انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالاً حكمياً بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعية. هذا الجواب عن السؤال أنّه ينحل حكماً، أو لا ينحل حكماً بلحاظ القواعد المؤمّنة الشرعية يرتبط بما يُختار في مسألة أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ؟ كما ذهب إلى ذلك المحقق العراقي(قدّس سرّه) على ما تقدّم، أو أنّه مقتضٍ لذلك ؟ بمعنى أنّه لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية ابتداءً، وإنّما ينجّزها بتوسّط تعارض الأصول في الأطراف ؟ هذان المسلكان المعروفان في هذا الباب، هل العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، أو هو مقتضٍ له ؟
فإذا قلنا بالاقتضاء، فالصحيح هو الانحلال الحكمي، أي ينحلّ العلم الإجمالي انحلالاً حكمياً بالعلم التفصيلي، باعتبار عدم تعارض الأصول مع افتراض تعلّق العلم التفصيلي بأحد الأطراف المعيّن، وهذا أمر واضح، باعتبار أنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي، باعتبار أنّ موضوع الأصل يرتفع مع العلم التفصيلي؛ لأنّ موضوع الأصل هو الشكّ، ومع العلم التفصيلي لاشكّ، فيرتفع موضوع الأصل، فلا يجري الأصل في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي.
يُضاف إلى ذلك أنّه لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر، هذا الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي لا يجري فيه الأصل لعدم تحقق موضوعه، وفي نفس الوقت لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر، ليس هناك مانع في مقام الإثبات يمنع من ذلك، باعتبار أنّ المفروض أنّ الأصل في الطرف الآخر ليس له معارض؛ لأنّنا قلنا أنّ الأصل لا يجري في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي لارتفاع موضوعه؛ لذا لا يوجد مانع يمنع إثباتاً من جريان الأصل في الطرف الآخر، ولا يوجد أيضاً قصور في لسان دليله يمنع من شموله للطرف الآخر، كما أنّه لا مانع ثبوتي يمنع من جريانه في الطرف الآخر؛ لأنّ المانع الوحيد المتصوّر الذي يمنع من جريانه في الطرف الآخر هو البناء على مسلك العلّية التامّة، إذا بنينا على مسلك العلّية التامّة، فأنّه يمنع من جريان الأصل في الطرف الآخر حتّى لو لم يكن له معارض؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فالمانع الثبوتي المتصوّر من جريان الأصل في الطرف الآخر هو البناء على مسلك العلّية التامّة، والمفروض أننا نتكلّم بناءً على مسلك الاقتضاء .
إذن: على مسلك الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحكمي للعلم الإجمالي، باعتبار جريان الأصل المؤمّن الشرعي في الطرف الآخر بلا معارضٍ؛ لأنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي بلا إشكال؛ لعدم تحقق موضوعه. فإذن، بناءً على الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحكمي، فيجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز حكماً.
وأمّا بناءً على مسلك العلّية التامّة، فالظاهر؛ بل الصحيح أنّه لا مجال للانحلال الحكمي بالأصل المؤمّن الشرعي؛ وذلك لوضوح أنّه على هذا المسلك لا يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر حتّى لو لم يكن له معارض، هناك مانع ثبوتي يمنع من جريان الأصل في الطرف الآخر حتّى لو لم يكن له معارض؛ لأنّ هذا هو معنى مسلك العلّية التامّة، أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فهو يمنع من إجراء الأصل في كلّ طرفٍ بقطع النظر عن التعارض، والسرّ فيه هو أنّه ما دام يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هذا يكون منجّزاً على المكلّف؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فإذن، بناءً على الاقتضاء لابدّ من الانحلال الحكمي، وبناءً على القول بالعلّية التامّة لا مجال للانحلال الحكمي، فالأصل لا يجري في الطرف الآخر بناءً على العلّية التامّة، ويجري في الطرف الآخر بناءً على القول بالاقتضاء.
نعم، المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يقول بمسلك العلّية التامّة حاول إثبات الانحلال الحكمي بناءً على مسلك العلّية التامّة بلحاظ القواعد العقلية وليس بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعية، يعني بقطع النظر عن الأصول المؤّمنة الشرعية هو حاول إثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، وفي البحث السابق ذكرنا أنّ هناك محاولة لإثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، وحاصل هذه المحاولة تقدّم نقلها مفصلاً، وحاصلها: أنّه يدّعي أنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي هو أنّه لابدّ أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، سواء كان في هذا الطرف، أو كان في ذاك الطرف، فإذا فرضنا أنّ أحد طرفيه كان منجّزاً بالعلم التفصيلي كما هو المفروض ـــــــــــ في محل الكلام ـــــــــــ فحينئذٍ لا يمكن للعلم الإجمالي أن ينجّز معلومه في ذلك الطرف؛ لاستحالة اجتماع منجّزين على شيءٍ واحد، هذا الطرف تلقّى التنجيز من العلم التفصيلي؛ حينئذٍ ليس للعلم الإجمالي قابلية تنجيز معلومه في هذا الطرف؛ لأنّه تلقّى التنجيز من العلم التفصيلي، والمتنجّز بالعلم التفصيلي لا يقبل التنجّز مرّةً أخرى.
فإذن: العلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير، وإنّما هو صالح لتنجيز معلومه على تقدير واحدٍ، وهو أن يكون معلومه في الطرف الآخر. أمّا إذا كان معلومه في هذا الطرف، فالعلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه فيه؛ لأنّه تلقّى التنجيز من العلم التفصيلي، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، فينحلّ انحلالاً حكمياً، لكن بلحاظ القواعد العقلية، وقبل الوصول إلى الأصول الشرعية.
هذه محاولة من المحقق العراقي(قدّس سرّه) لإثبات الانحلال الحكمي بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعية عن طريق إثبات قصور في العلم الإجمالي، أنّ العلم الإجمالي قاصر عن إثبات التنجيز؛ لأنّه لا يصلح لتنجيز معلومه على كل تقدير، بضميمة أنّ المتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، فحاول إثبات الانحلال الحكمي، لكن بلحاظ القواعد العقلية. وقد تقدّم مناقشة هذه المحاولة مفصّلاً ولا حاجة إلى الإعادة. قلنا أنّ هذا الدليل يبتني على مقدّمتين، وكلٌ منهما محل كلامٍ. وبناءً على هذا ينبغي أن نقول: بناءً على مسلك العلّية التامّة لا يوجد انحلالٌ حكمي. نعم بناءً على القول بالاقتضاء يتحقق الانحلال الحكمي.
قبل الانتقال إلى البحث الآخر، وهو في الانحلال بالإمارات والأصول وليس انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي الذي كنّا إلى الآن نتكلّم فيه، ننتقل إلى علمٍ إجمالي قامت إمارة على أحد طرفيه المعيّن، أو أصل شرعي، أو عقلي نجّز التكليف في طرفٍ بعينه، فيقع الكلام في أنّه هل ينحلّ العلم الإجمالي بقيام إمارةٍ، أو أصلٍ عقلي، أو شرعي على بعض أطرافه، أو لا ينحل ؟ قبل هذا لابدّ من بيان مطلبٍ مهمٍ وله ثمرة عملية، وهو أنّ هناك فرقاً بين الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وبين الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، وحاصل هذا الفرق هو: في موارد تحقق الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي يُشترط أن لا يكون المعلوم بالتفصيل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، وهذا شرط اساسي في الانحلال الحقيقي، وأمّا إذا كان المعلوم بالتفصيل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال هنا لا يتمّ الانحلال الحقيقي.
(مثلاً): إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد إناءين في أول النهار، وعلمنا تفصيلاً بنجاسة الإناء المعيّن منهما آخر النهار، هنا يكون المعلوم بالتفصيل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، في هذه الحالة لا يتمّ الانحلال الحقيقي؛ بل يبقى العلم الإجمالي على حاله ولا ينحلّ انحلالاً حقيقياً لوضوح أنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقاً للمعلوم بالإجمال، فلا ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، أو قل بعبارةٍ أخرى: لا يسري العلم من الجامع إلى الفرد؛ لأنّ شرط الانحلال الحقيقي هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، أن يكون المعلوم بالتفصيل مصداقاً حقيقياً للمعلوم بالإجمال، وهذا يُشترط فيه أن لا يتأخّر المعلوم بالتفصيل عن المعلوم بالإجمال، وإلاّ إذا تأخّر صار شيئاً آخر، ما أعلمه بالإجمال هو نجاسة أحد إناءين في أول النهار، وما أعلمه بالتفصيل هو نجاسة هذا الإناء بعد ذلك بعشر ساعات، نجاسة هذا الإناء المعلوم بالتفصيل في آخر النهار ليس مصداقاً حقيقياً للمعلوم بالإجمال، فلا ينطبق عليه المعلوم بالإجمال، ولا يسري العلم من الجامع إلى الفرد، وهذا معناه عدم تحقق الانحلال الحقيقي، إذا تأخّر عنه. أمّا إذا اتّحدا زماناً ولم يتأخّر عنه؛ حينئذٍ يكون الانحلال ممكناً؛ لأنّه بالشرائط السابقة يكون المعلوم بالتفصيل مصداقاً حقيقياً للمعلوم بالإجمال. هذا في الانحلال الحقيقي.
نعم، لا يُشترط في الانحلال الحقيقي عدم تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي؛ بل يتمّ الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي حتّى إذا فرضنا أنّ العلم التفصيلي تأخّر عن العلم الإجمالي زماناً ما دام معلومه التفصيلي غير متأخّر عن المعلوم بالإجمال زماناً. نفس المثال السابق: إذا فرضنا أنّه حصل لنا العلم التفصيلي في آخر النهار، لكن حصل العلم التفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه في أول النهار، هذا لا يمنع من الانحلال الحقيقي؛ لأنّ الانحلال الحقيقي لا يُشترط فيه تأخّر العلم التفصيلي، أي تأخّر نفس العلم عن العلم الإجمالي زماناً، وإنّما يُشترط فيه عدم تأخّر المعلوم بالتفصيل عن المعلوم بالإجمال زماناً.
ذكرنا في الدرس السابق أنّه في مسألة الانحلال الحكمي حيث لا يثبت انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، هذا شيء يرتبط بما يُختار في ما يدركه العقل، أنّ العقل هل يدرك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو لا يدركها، وإنّما يدرك منجّزية الاحتمال، وينكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإذا أنكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فعدم الانحلال بلحاظ القواعد العقلية ينبغي أن يكون واضحاً؛ لأنّ احتمال التكليف منجّز. نعم بناءً على الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان قلنا بأنّ الأمر يرتبط بمسألة تقدّمت الإشارة إليها وهي كيفية تفسير العلم الإجمالي ؟ هل هو علم بالجامع فقط، بحيث لا ينجّز أكثر من الجامع بحدّه الجامعي ؟ وهذا معناه أنّه لا ينجّز ابتداءً وجوب الموافقة القطعية، وإنّما يتنجّز وجوب الموافقة القطعية باعتبار تعارض الأصول، أو أنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع على واقعه ويدخله في العهدة بحيث تجب الموافقة القطعية لأجل العلم الإجمالي بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّى إذا لم تتعارض الأصول وكان يمكن إجراء الأصل في أحد الطرفين بلا معارضٍ مع ذلك لا يمكن إجراء هذا الأصل.
فإن قلنا: أنّالعلم الإجمالي هو علمٌ بالجامع فقط، ذكرنا في الدرس السابق أنّه حينئذٍ يُلتزَم بالانحلال الحكمي، باعتبار أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع بحدّه الجامعي الذي ينطبق على كلّ واحد من الطرفين؛ ولذا لا تجب إلاّ الموافقة الاحتمالية، ولا تجب الموافقة القطعية، وأمّا ما عدا هذا الواحد الذي ينطبق عليه الجامع فهو مورد للتأمين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ العلم الإجمالي هو المنجّز، والمفروض أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع الذي ينطبق على واحدٍ من الطرفين، ما عدا الواحد من الطرفين هو مورد للأصل المؤمّن العقلي ــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ، قلنا في الدرس السابق بحيث أنّه لو ارتكبهما وكانا في الواقع محرمين، هو لا يستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما زاد على الواحد هو مؤمّن عنه بقاعدةٍ عقليةٍ ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ هو لا يستحق العقاب عليه حتّى لو صادف الحرام الواقعي، وهذا معناه الانحلال الحكمي، هذا معناه أنّ ما زاد على الواحد مورد للأصل المؤمّن، فيكون العلم الإجمالي منحلاً انحلالاً حكمياً. هذا بناءً على تفسير العلم الإجمالي بأنّه علم بالجامع.
وأمّا إذا قلنا: أنّالعلم الإجمالي هو علمٌ بالواقع، بحيث تجب موافقته القطعية بقطع النظر عن تعارض الأصول، فالظاهر في المقام هو عدم الانحلال، يعني يبقى العلم الإجمالي منجّزاً للطرف الآخر؛ لأنّه إذا نجّز العلم الإجمالي الواقع على واقعه الذي هو مجمل عندي ــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ أحد محتملات الواقع هو أنّه ينطبق على الطرف الآخر غير المعلوم بالتفصيل، بلا إشكال أنا احتمل أنّ الواقع الذي تنجّز عليّ بالعلم الإجمالي يحتمل انطباقه على الطرف الآخر غير المعلوم بالتفصيل، فيكون هو المنجّز بالعلم الإجمالي على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال المتحقق في الطرف الآخر، يكون الطرف الآخر هو المنجّز بالعلم الإجمالي، ما عدا ذلك الطرف الآخر ـــــــــــ المنجّز بالعلم الإجمالي على هذا التقدير ـــــــــــ الذي تعلّق به العلم التفصيلي، لولا العلم التفصيلي لكان مورداً للتأمين، لكنّ العلم التفصيلي نجّزه، لكن من الواضح أنّ تنجّز أحد الطرفين بالعلم التفصيلي لا يُخرِج الطرف الآخر عن كونه منجّزاً؛ إذ لا موجب لخروجه عن كونه منجّزاً، لا موجب لخروجه عن التنجيز بمجرد حصول علمٍ تفصيليٍ بأحد الطرفين بعينه، وهذا معناه أنّ الطرف الآخر يبقى على المنجّزية؛ لأنّ العلم الإجمالي هو علم بالواقع، وهو ينجّز الواقع، وينجّز وجوب الموافقة القطعية للمعلوم بالإجمال، على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال متحققاً في الطرف الآخر، والعلم الإجمالي ينجّز الطرف الآخر، وهذا الطرف تنجّز بالعلم الإجمالي، فلو ارتكبهما في هذه الحالة استحقّ عقابين، عقاب على مخالفة ما تنجّز بالعلم التفصيلي، وعقاب على مخالفة ما تنجّز بالعلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع على واقعه، وأحد محتملات ذلك أنّ المعلوم بالإجمال يتحققّ في الطرف الآخر، فالطرف الآخر يتلقّى التنجيز من العلم الإجمالي، وهذا الطرف يتلقّى التنجيز من العلم التفصيلي، فيستحق عقابين، ولا موجب لخروج الطرف الآخر عن التنجيز بمجرد أنّ قام العلم التفصيلي على هذا الطرف، العلم التفصيلي ينجّز هذا الطرف، والطرف الآخر يتنجّز بالعلم الإجمالي، وهذا هو معنى عدم الانحلال.
إذن: القضية ترتبط بما يُختار من أنّ العلم الإجمالي هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علمٌ بالواقع ؟ هذا كلّه بلحاظ الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي بلحاظ الأصول والقواعد العقلية، وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعية، تكلّمنا عن الانحلال الحقيقي، وتكلّمنا بعد ذلك عن الانحلال الحكمي بلحاظ القواعد العقلية، وبقطع النظر عن الأصول الشرعية.
الآن نتكلّم عن الانحلال الحكمي بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعية، هل يتحقق الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي ؟ حيث لا زلنا نتكلّم عن علمٍ إجماليٍ تعلّق العلم التفصيلي ببعض أطرافه المعيّن، تكلّمنا أولاً عن انّه هل ينحلّ انحلالاً حقيقياً، أو لا ؟ ثمّ تكلّمنا في موارد عدم الانحلال الحقيقي، هل ينحل بالعلم التفصيلي انحلالاً حكمياً بلحاظ الأصول والقواعد العقلية ؟ والآن نتكلّم عن انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالاً حكمياً بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعية. هذا الجواب عن السؤال أنّه ينحل حكماً، أو لا ينحل حكماً بلحاظ القواعد المؤمّنة الشرعية يرتبط بما يُختار في مسألة أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ؟ كما ذهب إلى ذلك المحقق العراقي(قدّس سرّه) على ما تقدّم، أو أنّه مقتضٍ لذلك ؟ بمعنى أنّه لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية ابتداءً، وإنّما ينجّزها بتوسّط تعارض الأصول في الأطراف ؟ هذان المسلكان المعروفان في هذا الباب، هل العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، أو هو مقتضٍ له ؟
فإذا قلنا بالاقتضاء، فالصحيح هو الانحلال الحكمي، أي ينحلّ العلم الإجمالي انحلالاً حكمياً بالعلم التفصيلي، باعتبار عدم تعارض الأصول مع افتراض تعلّق العلم التفصيلي بأحد الأطراف المعيّن، وهذا أمر واضح، باعتبار أنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي، باعتبار أنّ موضوع الأصل يرتفع مع العلم التفصيلي؛ لأنّ موضوع الأصل هو الشكّ، ومع العلم التفصيلي لاشكّ، فيرتفع موضوع الأصل، فلا يجري الأصل في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي.
يُضاف إلى ذلك أنّه لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر، هذا الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي لا يجري فيه الأصل لعدم تحقق موضوعه، وفي نفس الوقت لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر، ليس هناك مانع في مقام الإثبات يمنع من ذلك، باعتبار أنّ المفروض أنّ الأصل في الطرف الآخر ليس له معارض؛ لأنّنا قلنا أنّ الأصل لا يجري في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي لارتفاع موضوعه؛ لذا لا يوجد مانع يمنع إثباتاً من جريان الأصل في الطرف الآخر، ولا يوجد أيضاً قصور في لسان دليله يمنع من شموله للطرف الآخر، كما أنّه لا مانع ثبوتي يمنع من جريانه في الطرف الآخر؛ لأنّ المانع الوحيد المتصوّر الذي يمنع من جريانه في الطرف الآخر هو البناء على مسلك العلّية التامّة، إذا بنينا على مسلك العلّية التامّة، فأنّه يمنع من جريان الأصل في الطرف الآخر حتّى لو لم يكن له معارض؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فالمانع الثبوتي المتصوّر من جريان الأصل في الطرف الآخر هو البناء على مسلك العلّية التامّة، والمفروض أننا نتكلّم بناءً على مسلك الاقتضاء .
إذن: على مسلك الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحكمي للعلم الإجمالي، باعتبار جريان الأصل المؤمّن الشرعي في الطرف الآخر بلا معارضٍ؛ لأنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف الذي تعلّق به العلم التفصيلي بلا إشكال؛ لعدم تحقق موضوعه. فإذن، بناءً على الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحكمي، فيجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز حكماً.
وأمّا بناءً على مسلك العلّية التامّة، فالظاهر؛ بل الصحيح أنّه لا مجال للانحلال الحكمي بالأصل المؤمّن الشرعي؛ وذلك لوضوح أنّه على هذا المسلك لا يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر حتّى لو لم يكن له معارض، هناك مانع ثبوتي يمنع من جريان الأصل في الطرف الآخر حتّى لو لم يكن له معارض؛ لأنّ هذا هو معنى مسلك العلّية التامّة، أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فهو يمنع من إجراء الأصل في كلّ طرفٍ بقطع النظر عن التعارض، والسرّ فيه هو أنّه ما دام يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف هذا يكون منجّزاً على المكلّف؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فإذن، بناءً على الاقتضاء لابدّ من الانحلال الحكمي، وبناءً على القول بالعلّية التامّة لا مجال للانحلال الحكمي، فالأصل لا يجري في الطرف الآخر بناءً على العلّية التامّة، ويجري في الطرف الآخر بناءً على القول بالاقتضاء.
نعم، المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يقول بمسلك العلّية التامّة حاول إثبات الانحلال الحكمي بناءً على مسلك العلّية التامّة بلحاظ القواعد العقلية وليس بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعية، يعني بقطع النظر عن الأصول المؤّمنة الشرعية هو حاول إثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، وفي البحث السابق ذكرنا أنّ هناك محاولة لإثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، وحاصل هذه المحاولة تقدّم نقلها مفصلاً، وحاصلها: أنّه يدّعي أنّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي هو أنّه لابدّ أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، سواء كان في هذا الطرف، أو كان في ذاك الطرف، فإذا فرضنا أنّ أحد طرفيه كان منجّزاً بالعلم التفصيلي كما هو المفروض ـــــــــــ في محل الكلام ـــــــــــ فحينئذٍ لا يمكن للعلم الإجمالي أن ينجّز معلومه في ذلك الطرف؛ لاستحالة اجتماع منجّزين على شيءٍ واحد، هذا الطرف تلقّى التنجيز من العلم التفصيلي؛ حينئذٍ ليس للعلم الإجمالي قابلية تنجيز معلومه في هذا الطرف؛ لأنّه تلقّى التنجيز من العلم التفصيلي، والمتنجّز بالعلم التفصيلي لا يقبل التنجّز مرّةً أخرى.
فإذن: العلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير، وإنّما هو صالح لتنجيز معلومه على تقدير واحدٍ، وهو أن يكون معلومه في الطرف الآخر. أمّا إذا كان معلومه في هذا الطرف، فالعلم الإجمالي ليس صالحاً لتنجيز معلومه فيه؛ لأنّه تلقّى التنجيز من العلم التفصيلي، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، فينحلّ انحلالاً حكمياً، لكن بلحاظ القواعد العقلية، وقبل الوصول إلى الأصول الشرعية.
هذه محاولة من المحقق العراقي(قدّس سرّه) لإثبات الانحلال الحكمي بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعية عن طريق إثبات قصور في العلم الإجمالي، أنّ العلم الإجمالي قاصر عن إثبات التنجيز؛ لأنّه لا يصلح لتنجيز معلومه على كل تقدير، بضميمة أنّ المتنجّز لا يتنجّز مرّة أخرى، فحاول إثبات الانحلال الحكمي، لكن بلحاظ القواعد العقلية. وقد تقدّم مناقشة هذه المحاولة مفصّلاً ولا حاجة إلى الإعادة. قلنا أنّ هذا الدليل يبتني على مقدّمتين، وكلٌ منهما محل كلامٍ. وبناءً على هذا ينبغي أن نقول: بناءً على مسلك العلّية التامّة لا يوجد انحلالٌ حكمي. نعم بناءً على القول بالاقتضاء يتحقق الانحلال الحكمي.
قبل الانتقال إلى البحث الآخر، وهو في الانحلال بالإمارات والأصول وليس انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي الذي كنّا إلى الآن نتكلّم فيه، ننتقل إلى علمٍ إجمالي قامت إمارة على أحد طرفيه المعيّن، أو أصل شرعي، أو عقلي نجّز التكليف في طرفٍ بعينه، فيقع الكلام في أنّه هل ينحلّ العلم الإجمالي بقيام إمارةٍ، أو أصلٍ عقلي، أو شرعي على بعض أطرافه، أو لا ينحل ؟ قبل هذا لابدّ من بيان مطلبٍ مهمٍ وله ثمرة عملية، وهو أنّ هناك فرقاً بين الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي وبين الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، وحاصل هذا الفرق هو: في موارد تحقق الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي يُشترط أن لا يكون المعلوم بالتفصيل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، وهذا شرط اساسي في الانحلال الحقيقي، وأمّا إذا كان المعلوم بالتفصيل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال هنا لا يتمّ الانحلال الحقيقي.
(مثلاً): إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد إناءين في أول النهار، وعلمنا تفصيلاً بنجاسة الإناء المعيّن منهما آخر النهار، هنا يكون المعلوم بالتفصيل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، في هذه الحالة لا يتمّ الانحلال الحقيقي؛ بل يبقى العلم الإجمالي على حاله ولا ينحلّ انحلالاً حقيقياً لوضوح أنّ المعلوم التفصيلي ليس مصداقاً للمعلوم بالإجمال، فلا ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، أو قل بعبارةٍ أخرى: لا يسري العلم من الجامع إلى الفرد؛ لأنّ شرط الانحلال الحقيقي هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، أن يكون المعلوم بالتفصيل مصداقاً حقيقياً للمعلوم بالإجمال، وهذا يُشترط فيه أن لا يتأخّر المعلوم بالتفصيل عن المعلوم بالإجمال، وإلاّ إذا تأخّر صار شيئاً آخر، ما أعلمه بالإجمال هو نجاسة أحد إناءين في أول النهار، وما أعلمه بالتفصيل هو نجاسة هذا الإناء بعد ذلك بعشر ساعات، نجاسة هذا الإناء المعلوم بالتفصيل في آخر النهار ليس مصداقاً حقيقياً للمعلوم بالإجمال، فلا ينطبق عليه المعلوم بالإجمال، ولا يسري العلم من الجامع إلى الفرد، وهذا معناه عدم تحقق الانحلال الحقيقي، إذا تأخّر عنه. أمّا إذا اتّحدا زماناً ولم يتأخّر عنه؛ حينئذٍ يكون الانحلال ممكناً؛ لأنّه بالشرائط السابقة يكون المعلوم بالتفصيل مصداقاً حقيقياً للمعلوم بالإجمال. هذا في الانحلال الحقيقي.
نعم، لا يُشترط في الانحلال الحقيقي عدم تأخّر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي؛ بل يتمّ الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي حتّى إذا فرضنا أنّ العلم التفصيلي تأخّر عن العلم الإجمالي زماناً ما دام معلومه التفصيلي غير متأخّر عن المعلوم بالإجمال زماناً. نفس المثال السابق: إذا فرضنا أنّه حصل لنا العلم التفصيلي في آخر النهار، لكن حصل العلم التفصيلي بنجاسة أحد الإناءين بعينه في أول النهار، هذا لا يمنع من الانحلال الحقيقي؛ لأنّ الانحلال الحقيقي لا يُشترط فيه تأخّر العلم التفصيلي، أي تأخّر نفس العلم عن العلم الإجمالي زماناً، وإنّما يُشترط فيه عدم تأخّر المعلوم بالتفصيل عن المعلوم بالإجمال زماناً.