36/03/01
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف
قلنا أنّ الجواب الصحيح عن الوجه الأوّل الذي استُدلّ به على المنجّزية في الصورة الثالثة هو أن يقال أنّ العلم الإجمالي المتأخّر المتعلّق بالتكليف السابق لا ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، العلم الإجمالي لا ينجّز التكليف إلاّ في وقت حدوثه، أمّا أنّه ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، فقلنا أنّ هذا لا معنى له؛ بل قلنا لعلّه يلزم منه التفكيك بين العلّة والمعلول.
نعم، في بعض الأحيان لابدّ من استثناء هذا، أنّه في بعض الأحيان قد يترتب شرعاً على التكليف في زمانٍ سابقٍ أثر وتكليف شرعي في الزمان الّلاحق ومن هذا القبيل باب القضاء، القضاء هو أثر شرعي يترتّب على تكليفٍ سابقٍ، فيكون العلم بالتكليف السابق كما هو المفروض، موجباً لترتّب الأثر في زمان لاحق، فيجب القضاء، لكن هذا شيء آخر غير محل الكلام، نحن لا نريد أن نثبت أثراً في الزمان اللاحق يكون العلم بالتكليف موجباً له، وإنّما نحن نتكلّم عن أنّ العلم الإجمالي المتأخّر هل يؤثّر في تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، أو لا ؟ هذا هو محل كلامنا. هذا الذي نقول لا معنى له، أنّ العلم الإجمالي المتأخّر هل يؤثّر في تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ ؟ لكنّ ما ذُكر ليس من هذا القبيل، ما ذُكر هو عبارة عن أنّ موضوع وجوب القضاء هو التكليف السابق، فإذا علم المكلّف بالتكليف السابق، يعني علم بموضوع وجوب القضاء، فيجب القضاء بلا إشكال، هذا اثر ترتّب شرعاً على التكليف السابق، فعند العلم بالتكليف السابق، كما هو المفروض؛ حينئذٍ يترتّب هذا الأثر في الوقت اللاحق، الآن يترتّب وجوب القضاء، وهذا شيء آخر غير محل الكلام، نحن نتكلّم عن أنّ العلم الإجمالي المتأخّر هل يوجب تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، أو لا يوجبه ؟ هذا شيء ووجوب القضاء شيء آخر، ومنه يظهر أنّ هذا الكلام لا يختص بالعلم الإجمالي؛ بل يشمل حتّى العلم التفصيلي، في المثال السابق الذي ذكرناه وهو ما إذا علم بنجاسة الماء الذي اغتسل به قبل عدّة ايام ـــــــــ مثلاً ـــــــــ هنا لا مانع من أن نلتزم بوجوب قضاء الصلوات التي صلاّها اعتماداً على الغسل بذلك الماء الذي علم الآن بأنّه نجس، لكن هذا لا يعني أنّ العلم التفصيلي المتأخّر يوجب تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، كلا، هذا العلم التفصيلي ليس موجباً لتنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، وإنّما العلم التفصيلي بنجاسة الماء يترّتب عليه أثر شرعي وهو نجاسة الماء الذي اغتسل به سابقاً، وهذا الأثر الشرعي هو وجوب قضاء الصلاة التي صلّاها بذلك الماء الذي ثبت وعلم أنّه نجس، فيترتّب هذا الأثر، الآن يترتّب هذا الأثر وهو وجوب القضاء، وهذا شيء آخر غير أنّ العلم التفصيلي المتأخّر يكون موجباً لتنجيز التكليف في زمانٍ سابقٍ، لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي من هذه الجهة في أنّ كلاً منهما لا يكون موجباً لتنجيز التكليف الذي يتعلّق به إلاّ من حين حدوثه، وأمّا قبل ذلك فهو ليس موجباً لتنجيز ذلك التكليف.
وخلاصة الجواب هو: أنّ العلم الإجمالي المتأخّر عن الاضطرار لا يكون موجباً لتنجيز التكليف، لا قبل الاضطرار ولا بعد الاضطرار. أمّا أنّه لا يوجب تنجيز التكليف قبل الاضطرار، فلما قلناه من أنّ العلم الإجمالي المتأخّر لا يوجب تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، ولا يوجب تنجيز التكليف بعد الاضطرار باعتبار أنّ الاضطرار مانع من هذا التنجيز؛ لاحتمال أن تكون النجاسة ساقطة في الإناء المضطر إليه ومعه لا تكليف، فكيف يتنجّز عليه التكليف مع وجود هذا الاحتمال، وهذا هو الجواب الصحيح، وهذا هو الفارق في الحقيقة بين الصورة الثانية والصورة الثالثة، في الصورة الثانية العلم الإجمالي كان متقدّماً على الاضطرار بحسب الفرض؛ حينئذٍ لا مانع من أن يكون هذا العلم الإجمالي ينجّز التكليف قبل الاضطرار، وتقدّم أنّ الاضطرار المتأخّر لا يمنع من هذا التنجيز، العلم الإجمالي المتقدّم على الاضطرار نجّز التكليف، سواء كان في هذا الطرف، أو كان في ذاك الطرف، الاضطرار المتأخّر لا يمنع من هذا التنجيز؛ بل يبقى التنجيز على حاله، وغاية ما يمكن أن يقال هو أنّ عمر أحد التكليفين يكون أقصر من عمر التكليف الآخر، فيتحوّل إلى تكليفٍ قصير العمر، وتكليفٍ طويل العمر، النجاسة على تقدير أن تكون ساقطة في الإناء الذي اضطر إليه بعد ذلك يكون عمر هذا التكليف قصيراً، لفترة ما قبل الاضطرار، وعلى تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الفرد الآخر، فعمر هذا التكليف يكون طويلاً، العلم الإجمالي قبل الاضطرار ينجّز التكليف على كل تقدير، وبعد تنجيز التكليف على كل تقدير، الاضطرار إلى أحد الطرفين لا يسقط هذه المنجّزية؛ بل يبقى العلم الإجمالي على منجّزيته للطرف الآخر ويمنع من جريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر. هذا في الصورة الثانية.
بينما في الصورة الثالثة الأمر ليس هكذا، المفروض في الصورة الثالثة أنّ العلم الإجمالي متأخّر عن الاضطرار، تنجيز التكليف قبل الاضطرار يتوقّف على أن نقول أنّ العلم الإجمالي المتأخّر ينجّز التكليف في وقتٍ سابق، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي المتأخّر ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ يكون حال الصورة الثالثة حال الصورة الثانية؛ لأنّ هذا العلم نجّز التكليف قبل الاضطرار، فالاضطرار المتأخّر لا يمنع من هذا التنجيز كما يقال في الصورة الثانية. وأمّا إذا قلنا كما هو الصحيح أنّ العلم الإجمالي المتأخّر لا ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، فالتكليف لا منجّز له قبل الاضطرار، وإنّما تكون أشبه بالشبهة البدوية لا منجّز فيها؛ وحينئذٍ بعد طرو الاضطرار أيضاً لا يكون هناك علم بالتكليف، أو بعبارة أخرى: حين حدوث العلم الإجمالي في الصورة الثالثة لا يكون هناك علم بالتكليف؛ لاحتمال أن تكون النجاسة ساقطة في الإناء الذي اضطر إليه والتكليف فيها يكون ساقطاً حتماً، واحتمال أن تكون النجاسة ساقطة في الإناء الآخر هو مجرّد احتمال ومجرّد شكّ يمكن إجراء الأصول المؤمّنة بلحاظه، فلا يكون هذا موجباً لتنجيز العلم الإجمالي. هذا هو الوجه الأوّل لإثبات المنجّزية في الصورة الثالثة وقد تبيّن أنّه غير تام.
الوجه الثاني لإثبات المنجّزية في الصورة الثالثة: هو الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) وأجاب عنه،[1] وحاصل ما ذكره أنّه يقول: في الصورة الثالثة بعد فرض حصول العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين سابقاً، هذا هو محل كلامنا، النجاسة سقطت في أحد الإناءين ولم يكن المكلّف يعلم بها، اضطر إلى أحد الطرفين بعينه، ثمّ علم إجمالاً بهذه النجاسة؛ بعد حدوث العلم الإجمالي، المكلّف حينئذٍ يعلم بثبوت تكليفٍ قبل زمان الاضطرار، ولكنّه لا يعلم بأنّ هذا التكليف، هل هو الفرد القصير من التكليف في الطرف المضطر إليه والذي سقط بسبب الاضطرار ـــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ أو أنّه الفرد الطويل في الطرف الآخر ؟ هو علم بالتكليف قبل الاضطرار، لكنّه لا يعلم بأنّ هذا التكليف هل هو في هذا الطرف الذي اضطر إليه وسقط التكليف فيه بسبب الاضطرار، أو أنّه في الطرف الآخر ؟ ويقول: بأنّ هذا الشكّ في أنّ التكليف الذي علم به إجمالاً المردد بين الطرفين، الطويل والقصير، يكون موجباً للشكّ في بقاء الجامع الذي علم به، المردد بين الفردين، فكأنّه يشكّ في بقاء الجامع، يقول: في هذه الحالة يمكنه إجراء الاستصحاب في الجامع، فيستصحب بقاء الجامع إلى الآن، أركان الاستصحاب متوفرة في هذا الجامع؛ لأنّه علم بوجوده قبل الاضطرار ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ ؛ لأنّه علم إجمالاً بسقوط نجاسة في أحد الشيئين، يعني علم بثبوت تكليف، وهذا التكليف مردد بين تكليفٍ قصير العمر، وبين تكليفٍ طويل العمر، إن كان التكليف الذي علم به إجمالاً قصير العمر، فأنّه ارتفع بسبب الاضطرار، لكن إن كان التكليف الذي علم به إجمالاً هو التكليف الطويل العمر فهو باقٍ.
إذن: هو يشكّ في بقاء الجامع إلى الآن، باعتبار شكّه في أنّ هذا الجامع الذي علم به هل هو متحقق في الفرد الزائل حتماً، أو متحقق في الفرد الباقي حتماً، هذا شكٌّ في بقاء الجامع مع سبق العلم به، فتتوفّر أركان الاستصحاب في الجامع، فيجري استصحاب الجامع ويكون هذا من قبيل استصحاب الكلّي من القسم الثاني، الكلّي المردد بين الفرد الذي يُقطع بزواله والفرد الذي يُقطع ببقائه نظير مثال الحدث، إذا تيقّن بالحدث المردد بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر بعد أن توضأ، بعد الوضوء يكون هو متيقناً بكلّي الحدث سابقاً وشاكّاً في بقائه؛ لأنّ الحدث الذي تيقن به قبل الوضوء سابقاً إن كان هو الأكبر، فهو باقٍ حتماً؛ لأنّه لا يرتفع بالوضوء، وإن كان هو الأصغر، فهو مرتفع قطعاً بالوضوء، وهو يشكّ في بقاء كلّي الحدث، فيمكنه أن يجري الاستصحاب في هذا الجامع، ما نحن فيه من هذا القبيل بالضبط؛ لأنّه علم إجمالاً بالتكليف قبل الاضطرار، وهذا التكليف مردد بين التكليف القصير والتكليف الطويل، القصير مرتفع حتماً على تقديره، والطويل على تقديره يكون باقياً قطعاً، فيكون من استصحاب الكلّي من القسم الثاني.
يقول: بأنّ هذا الاستصحاب ــــــــــ استصحاب الجامع ـــــــــــ وإن كان لا يمكننا أن نثبت به الفرد الطويل العمر؛ لأنّه يكون أصلاً مثبتاً، استصحاب بقاء الجامع مع القطع بانتفاء هذا الفرد لازمه العقلي أنّه متحقق في ضمن الفرد الطويل العمر، لكن إثبات هذا الفرد الطويل باستصحاب الجامع يكون أصلاً مثبتاً وهو ليس حجّة. يقول: هذا صحيح، أنّ استصحاب الجامع لا ينفع لإثبات أنّ التكليف متحقق في الفرد الطويل؛ لأنّه يكون أصلاً مثبتاً، لكن بعد أن ثبت بالاستصحاب توجّه التكليف بالجامع إلى المكلّف؛ حينئذٍ العقل يحكم من دون أن نثبت الفرد الطويل؛ لأنّه اصل مثبت بالاستصحاب، لكن بعد أن ثبت التكليف بالجامع، وبعد أن توجّه التكليف بالجامع إلى المكلّف بواسطة استصحاب الجامع، العقل حينئذٍ يستقل بلزوم الخروج عن عهدة هذا التكليف بالجامع الثابت بالاستصحاب، ومن الواضح أنّه لا يمكن الجزم بالخروج عن عهدة هذا التكليف الثابت بالاستصحاب، والذي اشتغلت به الذمّة، إلاّ بامتثال الفرد الطويل، فلابدّ حينئذٍ من الإتيان بالفرد الطويل حتّى يقطع بالخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت به الذمّة بواسطة الاستصحاب، وبالتالي وصلنا إلى نفس النتيجة، وهي تنجّز التكليف على المكلّف ووجوب الإتيان بالطرف الآخر وعدم إمكان إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر الذي هو معنى التنجيز الذي نريد إثباته. غاية الأمر أنّ هذا التنجيز لم نثبته كما يُدّعى في الوجه الأوّل من أننا نقول أنّ هذا العلم المتأخّر ينجّز التكليف في زمانٍ سابقٍ، فيكون حاله حال الصورة الثانية، كلا ليس بهذه الطريقة، وإنّما نقول لا ينجّزه في زمانٍ سابقٍ، لكن نحن علمنا بهذا التكليف في زمانٍ سابقٍ، فعندنا يقين بالتكليف الجامع المردد بين الفردين، ونشكّ في بقائه بعد الاضطرار، فنستصحب هذا الجامع، استصحاب الجامع هذا يُدخل الجامع في عهدة المكلّف، فإذا دخل التكليف الجامع في عهدة المكلّف، فلابدّ من الخروج عن عهدته جزماً، ولا جزم بالخروج عن عهدته إلاّ عن طريق الاحتياط، فيجب على المكلّف الاحتياط، فيجب عليه أن يجتنب الطرف الآخر الذي لم يضطر إلى شربه، في المثال السابق هو علم بسقوط النجاسة في أحد شيئين، إمّا في هذا الماء الذي اضطر إلى شربه، أو هذا الثوب الذي هو غير مضطر إلى استعماله، هنا يجب عليه أن يجتنب استعمال هذا الثوب احتياطاً؛ لأنّ الجامع دخل في العهدة باعتبار الاستصحاب، والعقل يحكم بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني عندما يقطع المكلّف باشتغال الذمّة يقيناً، والذمّة اشتغلت يقيناً بالجامع. هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) لإثبات التنجيز في الصورة الثالثة.
لوحظ على هذا الوجه الثاني: بأنّ استصحاب الكلّي لا يجري في محل الكلام، وإن كان يجري في مثال الحدث المردد بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر، والسر في ذلك هو أنّ استصحاب الجامع في محل الكلام، والمقصود بالجامع كما قلنا هو الجامع بين التكليف الطويل والتكليف القصير. هذا لا يجري فيه الاستصحاب؛ لأنّ الجامع المستصحب غير قابلٍ لأن يتنجّز على المكلّف، وذلك باعتبار أنّ هذا الجامع على أحد تقديريه ليس قابلاً للتنجيز، ليس قابلاً لأن يدخل في العهدة وليس قابلاً لأن يكون مشمولاً لحق المولوية وحق الطاعة؛ لأنّه على أحد تقديريه هو خارج عن قدرة المكلّف باعتبار الاضطرار، هو غير مقدور للمكلّف ولا يتمكّن المكلّف أن يمتثله؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف مضطر إلى ارتكابه، فإذن امتثال هذا التكليف غير مقدور للمكلّف بسبب الاضطرار، من الواضح أنّ التكليف الذي لا يقدر المكلّف على امتثاله غير قابل للتنجيز، وأن يدخل في حق الطاعة، وأن يدخل في عهدة المكلّف، هذا الجامع بين تكليفٍ يقبل التنجيز والدخول في عهدة المكلّف، ويقبل أن يكون مشمولاً لحق الطاعة وحق المولوية، وبين تكليفٍ لا يقبل ذلك، الجامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل التنجيز غير قابل للتنجيز؛ لأنّه على أحد تقديريه لا يقبل التنجيز، فكيف يكون الاستصحاب جارياً في مثل هذا الجامع، والحال أنّه غير قابلٍ للتنجيز؛ لأنّه على أحد تقديريه لا يكون قابلاً للتنجيز ولا يكون قابلاً للدخول في عهدة المكلّف، فكيف يُعقل أن يكون الجامع بينه وبين ما يقبل التنجيز؛ لأن التكليف الطويل يقبل التنجيز، بينما التكليف القصير لا يقبل التنجيز، كيف يكون الجامع بينهما قابلاً للتنجيز بالاستصحاب؟! فأساساً استصحاب الكلّي في محل الكلام لا يجري؛ لأنّه جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز.
ويمكن أن تُصاغ هذه الملاحظة بعبارةٍ أخرى، فيقال: أنّ استصحاب الكلّي من القسم الثاني إنّما يجري حينما يترتّب أثر شرعي على المستصحب نفسه الذي هو الجامع في محل الكلام؛ عندئذٍ لا مانع من جريان الاستصحاب، وهذا متحقق في مثال الحدث؛ لأننا في مثال الحدث عندما نستصحب كلّي الحدث الذي تيقنّا به سابقاً وشككنا في بقائه بعد الوضوء، الغرض من استصحاب كلّي الحدث هو ترتيب الأثر الشرعي المترتّب على كلّي الحدث من قبيل حرمة مسّ المصحف الذي هو مترتّب على كلّي الحدث الأعمّ من الحدث الأصغر والحدث الأكبر ولا نريد بذلك أن نثبت به وجوب الغُسل على المكلّف، إثبات وجوب الغُسل باستصحاب كلّي الحدث أصل مثبت؛ لأنّ استصحاب كلّي الحدث مع القطع بزوال الحدث الأصغر بعد الوضوء لازمه العقلي أنّ الحدث أكبر، فيترتب عليه وجوب الغُسل، ليس الغرض من استصحاب كلّي الحدث هو إثبات وجوب الغُسل على المكلّف؛ لأنّ هذا فرع إثبات أنّ حدثه حدثاً أكبر، واستصحاب جامع الحدث لا يثبت كون الحدث أكبر إلاّ بناءً على الأصل المثبت، كلا، نحن نريد أن نثبت الأثر المترتب على كلّي الحدث من قبيل حرمة مسّ المصحف؛ حينئذٍ لا مانع من جريان الاستصحاب في هذا الكلّي لإثبات هذا الأثر، وهذا متحقق في مثال الحدث. وأمّا في محل الكلام نحن نريد أن نستصحب جامع التكليف المردد بين الفرد الطويل والفرد القصير، إن كان الغرض من استصحاب هذا الجامع هو إثبات الفرد الطويل، فهو كما قلنا أصل مثبت؛ لأنّ اللازم العقلي لبقاء الجامع إلى الآن بعد الوضوء وبعد القطع بزوال أحد التكليفين، التكليف القصير العمر، لازمه بقاء التكليف الطويل، وهذا أصل مثبت. وإن كان الغرض هو إثبات الجامع نفسه، فهذا الجامع كما قلنا غير قابلٍ للتنجيز؛ لأنّه لا يقبل التنجيز، والجامع بين ما يقبل الدخول في العهدة وما لا يقبل الدخول في العهدة غير قابل للدخول في العهدة، وغير قابل لأن يكون منجّزاً على المكلف. إذن: على كلا التقديرين الاستصحاب في محل الكلام لا يجري. هذا هو الوجه الثاني الذي ذُكر مع جوابه.
السيّد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر هذا الوجه وأجاب عنه بجوابٍ آخر غير هذا الجواب، هو ذكر بأنّ هذا الوجه يمكن الجواب عنه بجوابٍ آخر، وحاصل هذا الجواب الذي ذكره هو كجواب عن هذا الوجه هو: أنّه يقول أنّ هناك فرقاً بين محل الكلام وبين استصحاب كلّي الحدث في مثال الحدث، والفرق هو أنّ استصحاب كلّي الحدث، وهكذا أصالة الاشتغال أيضاً عطفها على الاستصحاب، إنّما تصل النوبة إليه عندما تتعارض الأصول في الأطراف؛ عندئذٍ تصل النوبة إلى التمسّك بالاستصحاب، أو تصل النوبة إلى التمسّك بالاشتغال، كما هو الحال في مثال الحدث، في مثال الحدث لا إشكال في أنّ أصالة كون الحدث أكبر تكون مُعارضة بأصالة كون الحدث أصغر، المكلّف لا يعلم، لا بهذا ولا بهذا ويشكّ في كون الحدث أصغر ويشكّ في كون الحدث أكبر، وكل منهما أمر مسبوق بالعدم، فيجري فيه استصحاب العدم، ويتعارض الأصلان، أصالة عدم كون الحدث أصغر معارض بأصالة عدم كون الحدث أكبر، فيتعارضان ويتساقطان؛ وحينئذٍ يمكن الرجوع إلى الاستصحاب، فنستصحب كلّي الحدث، تصل النوبة إليه ولا مانع منه إذا كان يترتب عليه الأثر كما ذكرنا.
وأمّا في محل الكلام، يقول: النوبة لا تصل إلى الاستصحاب؛ لأنّ أصالة البراءة عن التكليف الطويل ليست معارضة بأصالة البراءة عن التكليف القصير؛ لأنّه أساساً لا تجري أصالة البراءة في التكليف القصير؛ لأننا نقطع بانتفاء التكليف القصير بعد عروض الاضطرار، بعد عروض الاضطرار قطعاً التكليف مرتفع، ومع القطع بارتفاع التكليف لا معنى لجريان البراءة، فإذن، لاشك عندنا في بقاء التكليف القصير حتّى نجري فيه أصالة البراءة، بينما عندنا شكّ في بقاء التكليف الطويل، فتجري فيه البراءة بلا معارض، فإذا جرت البراءة في الفرد الطويل بلا معارض؛ فحينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب الجامع؛ لأنّه لا توجد عندنا إلاّ أصالة براءة تنفي لنا التكليف الطويل؛ وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الاستصحاب ولا أصالة الاشتغال، فلا يصح إجراء الاستصحاب في محل الكلام، وهذا هو جوابه عن هذا الوجه، وذكر أنّ أصالة البراءة حينئذٍ تكون حاكمة على استصحاب الجامع ومقدّمة عليه، ويُلتزم بجريان أصالة البراءة من التكليف الطويل، وهذا يثبت عدم منجّزية العلم الإجمالي في محل الكلام.
قلنا أنّ الجواب الصحيح عن الوجه الأوّل الذي استُدلّ به على المنجّزية في الصورة الثالثة هو أن يقال أنّ العلم الإجمالي المتأخّر المتعلّق بالتكليف السابق لا ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، العلم الإجمالي لا ينجّز التكليف إلاّ في وقت حدوثه، أمّا أنّه ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، فقلنا أنّ هذا لا معنى له؛ بل قلنا لعلّه يلزم منه التفكيك بين العلّة والمعلول.
نعم، في بعض الأحيان لابدّ من استثناء هذا، أنّه في بعض الأحيان قد يترتب شرعاً على التكليف في زمانٍ سابقٍ أثر وتكليف شرعي في الزمان الّلاحق ومن هذا القبيل باب القضاء، القضاء هو أثر شرعي يترتّب على تكليفٍ سابقٍ، فيكون العلم بالتكليف السابق كما هو المفروض، موجباً لترتّب الأثر في زمان لاحق، فيجب القضاء، لكن هذا شيء آخر غير محل الكلام، نحن لا نريد أن نثبت أثراً في الزمان اللاحق يكون العلم بالتكليف موجباً له، وإنّما نحن نتكلّم عن أنّ العلم الإجمالي المتأخّر هل يؤثّر في تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، أو لا ؟ هذا هو محل كلامنا. هذا الذي نقول لا معنى له، أنّ العلم الإجمالي المتأخّر هل يؤثّر في تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ ؟ لكنّ ما ذُكر ليس من هذا القبيل، ما ذُكر هو عبارة عن أنّ موضوع وجوب القضاء هو التكليف السابق، فإذا علم المكلّف بالتكليف السابق، يعني علم بموضوع وجوب القضاء، فيجب القضاء بلا إشكال، هذا اثر ترتّب شرعاً على التكليف السابق، فعند العلم بالتكليف السابق، كما هو المفروض؛ حينئذٍ يترتّب هذا الأثر في الوقت اللاحق، الآن يترتّب وجوب القضاء، وهذا شيء آخر غير محل الكلام، نحن نتكلّم عن أنّ العلم الإجمالي المتأخّر هل يوجب تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، أو لا يوجبه ؟ هذا شيء ووجوب القضاء شيء آخر، ومنه يظهر أنّ هذا الكلام لا يختص بالعلم الإجمالي؛ بل يشمل حتّى العلم التفصيلي، في المثال السابق الذي ذكرناه وهو ما إذا علم بنجاسة الماء الذي اغتسل به قبل عدّة ايام ـــــــــ مثلاً ـــــــــ هنا لا مانع من أن نلتزم بوجوب قضاء الصلوات التي صلاّها اعتماداً على الغسل بذلك الماء الذي علم الآن بأنّه نجس، لكن هذا لا يعني أنّ العلم التفصيلي المتأخّر يوجب تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، كلا، هذا العلم التفصيلي ليس موجباً لتنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، وإنّما العلم التفصيلي بنجاسة الماء يترّتب عليه أثر شرعي وهو نجاسة الماء الذي اغتسل به سابقاً، وهذا الأثر الشرعي هو وجوب قضاء الصلاة التي صلّاها بذلك الماء الذي ثبت وعلم أنّه نجس، فيترتّب هذا الأثر، الآن يترتّب هذا الأثر وهو وجوب القضاء، وهذا شيء آخر غير أنّ العلم التفصيلي المتأخّر يكون موجباً لتنجيز التكليف في زمانٍ سابقٍ، لا فرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي من هذه الجهة في أنّ كلاً منهما لا يكون موجباً لتنجيز التكليف الذي يتعلّق به إلاّ من حين حدوثه، وأمّا قبل ذلك فهو ليس موجباً لتنجيز ذلك التكليف.
وخلاصة الجواب هو: أنّ العلم الإجمالي المتأخّر عن الاضطرار لا يكون موجباً لتنجيز التكليف، لا قبل الاضطرار ولا بعد الاضطرار. أمّا أنّه لا يوجب تنجيز التكليف قبل الاضطرار، فلما قلناه من أنّ العلم الإجمالي المتأخّر لا يوجب تنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ، ولا يوجب تنجيز التكليف بعد الاضطرار باعتبار أنّ الاضطرار مانع من هذا التنجيز؛ لاحتمال أن تكون النجاسة ساقطة في الإناء المضطر إليه ومعه لا تكليف، فكيف يتنجّز عليه التكليف مع وجود هذا الاحتمال، وهذا هو الجواب الصحيح، وهذا هو الفارق في الحقيقة بين الصورة الثانية والصورة الثالثة، في الصورة الثانية العلم الإجمالي كان متقدّماً على الاضطرار بحسب الفرض؛ حينئذٍ لا مانع من أن يكون هذا العلم الإجمالي ينجّز التكليف قبل الاضطرار، وتقدّم أنّ الاضطرار المتأخّر لا يمنع من هذا التنجيز، العلم الإجمالي المتقدّم على الاضطرار نجّز التكليف، سواء كان في هذا الطرف، أو كان في ذاك الطرف، الاضطرار المتأخّر لا يمنع من هذا التنجيز؛ بل يبقى التنجيز على حاله، وغاية ما يمكن أن يقال هو أنّ عمر أحد التكليفين يكون أقصر من عمر التكليف الآخر، فيتحوّل إلى تكليفٍ قصير العمر، وتكليفٍ طويل العمر، النجاسة على تقدير أن تكون ساقطة في الإناء الذي اضطر إليه بعد ذلك يكون عمر هذا التكليف قصيراً، لفترة ما قبل الاضطرار، وعلى تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الفرد الآخر، فعمر هذا التكليف يكون طويلاً، العلم الإجمالي قبل الاضطرار ينجّز التكليف على كل تقدير، وبعد تنجيز التكليف على كل تقدير، الاضطرار إلى أحد الطرفين لا يسقط هذه المنجّزية؛ بل يبقى العلم الإجمالي على منجّزيته للطرف الآخر ويمنع من جريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر. هذا في الصورة الثانية.
بينما في الصورة الثالثة الأمر ليس هكذا، المفروض في الصورة الثالثة أنّ العلم الإجمالي متأخّر عن الاضطرار، تنجيز التكليف قبل الاضطرار يتوقّف على أن نقول أنّ العلم الإجمالي المتأخّر ينجّز التكليف في وقتٍ سابق، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي المتأخّر ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ يكون حال الصورة الثالثة حال الصورة الثانية؛ لأنّ هذا العلم نجّز التكليف قبل الاضطرار، فالاضطرار المتأخّر لا يمنع من هذا التنجيز كما يقال في الصورة الثانية. وأمّا إذا قلنا كما هو الصحيح أنّ العلم الإجمالي المتأخّر لا ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، فالتكليف لا منجّز له قبل الاضطرار، وإنّما تكون أشبه بالشبهة البدوية لا منجّز فيها؛ وحينئذٍ بعد طرو الاضطرار أيضاً لا يكون هناك علم بالتكليف، أو بعبارة أخرى: حين حدوث العلم الإجمالي في الصورة الثالثة لا يكون هناك علم بالتكليف؛ لاحتمال أن تكون النجاسة ساقطة في الإناء الذي اضطر إليه والتكليف فيها يكون ساقطاً حتماً، واحتمال أن تكون النجاسة ساقطة في الإناء الآخر هو مجرّد احتمال ومجرّد شكّ يمكن إجراء الأصول المؤمّنة بلحاظه، فلا يكون هذا موجباً لتنجيز العلم الإجمالي. هذا هو الوجه الأوّل لإثبات المنجّزية في الصورة الثالثة وقد تبيّن أنّه غير تام.
الوجه الثاني لإثبات المنجّزية في الصورة الثالثة: هو الوجه الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) وأجاب عنه،[1] وحاصل ما ذكره أنّه يقول: في الصورة الثالثة بعد فرض حصول العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين سابقاً، هذا هو محل كلامنا، النجاسة سقطت في أحد الإناءين ولم يكن المكلّف يعلم بها، اضطر إلى أحد الطرفين بعينه، ثمّ علم إجمالاً بهذه النجاسة؛ بعد حدوث العلم الإجمالي، المكلّف حينئذٍ يعلم بثبوت تكليفٍ قبل زمان الاضطرار، ولكنّه لا يعلم بأنّ هذا التكليف، هل هو الفرد القصير من التكليف في الطرف المضطر إليه والذي سقط بسبب الاضطرار ـــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ أو أنّه الفرد الطويل في الطرف الآخر ؟ هو علم بالتكليف قبل الاضطرار، لكنّه لا يعلم بأنّ هذا التكليف هل هو في هذا الطرف الذي اضطر إليه وسقط التكليف فيه بسبب الاضطرار، أو أنّه في الطرف الآخر ؟ ويقول: بأنّ هذا الشكّ في أنّ التكليف الذي علم به إجمالاً المردد بين الطرفين، الطويل والقصير، يكون موجباً للشكّ في بقاء الجامع الذي علم به، المردد بين الفردين، فكأنّه يشكّ في بقاء الجامع، يقول: في هذه الحالة يمكنه إجراء الاستصحاب في الجامع، فيستصحب بقاء الجامع إلى الآن، أركان الاستصحاب متوفرة في هذا الجامع؛ لأنّه علم بوجوده قبل الاضطرار ـــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ ؛ لأنّه علم إجمالاً بسقوط نجاسة في أحد الشيئين، يعني علم بثبوت تكليف، وهذا التكليف مردد بين تكليفٍ قصير العمر، وبين تكليفٍ طويل العمر، إن كان التكليف الذي علم به إجمالاً قصير العمر، فأنّه ارتفع بسبب الاضطرار، لكن إن كان التكليف الذي علم به إجمالاً هو التكليف الطويل العمر فهو باقٍ.
إذن: هو يشكّ في بقاء الجامع إلى الآن، باعتبار شكّه في أنّ هذا الجامع الذي علم به هل هو متحقق في الفرد الزائل حتماً، أو متحقق في الفرد الباقي حتماً، هذا شكٌّ في بقاء الجامع مع سبق العلم به، فتتوفّر أركان الاستصحاب في الجامع، فيجري استصحاب الجامع ويكون هذا من قبيل استصحاب الكلّي من القسم الثاني، الكلّي المردد بين الفرد الذي يُقطع بزواله والفرد الذي يُقطع ببقائه نظير مثال الحدث، إذا تيقّن بالحدث المردد بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر بعد أن توضأ، بعد الوضوء يكون هو متيقناً بكلّي الحدث سابقاً وشاكّاً في بقائه؛ لأنّ الحدث الذي تيقن به قبل الوضوء سابقاً إن كان هو الأكبر، فهو باقٍ حتماً؛ لأنّه لا يرتفع بالوضوء، وإن كان هو الأصغر، فهو مرتفع قطعاً بالوضوء، وهو يشكّ في بقاء كلّي الحدث، فيمكنه أن يجري الاستصحاب في هذا الجامع، ما نحن فيه من هذا القبيل بالضبط؛ لأنّه علم إجمالاً بالتكليف قبل الاضطرار، وهذا التكليف مردد بين التكليف القصير والتكليف الطويل، القصير مرتفع حتماً على تقديره، والطويل على تقديره يكون باقياً قطعاً، فيكون من استصحاب الكلّي من القسم الثاني.
يقول: بأنّ هذا الاستصحاب ــــــــــ استصحاب الجامع ـــــــــــ وإن كان لا يمكننا أن نثبت به الفرد الطويل العمر؛ لأنّه يكون أصلاً مثبتاً، استصحاب بقاء الجامع مع القطع بانتفاء هذا الفرد لازمه العقلي أنّه متحقق في ضمن الفرد الطويل العمر، لكن إثبات هذا الفرد الطويل باستصحاب الجامع يكون أصلاً مثبتاً وهو ليس حجّة. يقول: هذا صحيح، أنّ استصحاب الجامع لا ينفع لإثبات أنّ التكليف متحقق في الفرد الطويل؛ لأنّه يكون أصلاً مثبتاً، لكن بعد أن ثبت بالاستصحاب توجّه التكليف بالجامع إلى المكلّف؛ حينئذٍ العقل يحكم من دون أن نثبت الفرد الطويل؛ لأنّه اصل مثبت بالاستصحاب، لكن بعد أن ثبت التكليف بالجامع، وبعد أن توجّه التكليف بالجامع إلى المكلّف بواسطة استصحاب الجامع، العقل حينئذٍ يستقل بلزوم الخروج عن عهدة هذا التكليف بالجامع الثابت بالاستصحاب، ومن الواضح أنّه لا يمكن الجزم بالخروج عن عهدة هذا التكليف الثابت بالاستصحاب، والذي اشتغلت به الذمّة، إلاّ بامتثال الفرد الطويل، فلابدّ حينئذٍ من الإتيان بالفرد الطويل حتّى يقطع بالخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت به الذمّة بواسطة الاستصحاب، وبالتالي وصلنا إلى نفس النتيجة، وهي تنجّز التكليف على المكلّف ووجوب الإتيان بالطرف الآخر وعدم إمكان إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر الذي هو معنى التنجيز الذي نريد إثباته. غاية الأمر أنّ هذا التنجيز لم نثبته كما يُدّعى في الوجه الأوّل من أننا نقول أنّ هذا العلم المتأخّر ينجّز التكليف في زمانٍ سابقٍ، فيكون حاله حال الصورة الثانية، كلا ليس بهذه الطريقة، وإنّما نقول لا ينجّزه في زمانٍ سابقٍ، لكن نحن علمنا بهذا التكليف في زمانٍ سابقٍ، فعندنا يقين بالتكليف الجامع المردد بين الفردين، ونشكّ في بقائه بعد الاضطرار، فنستصحب هذا الجامع، استصحاب الجامع هذا يُدخل الجامع في عهدة المكلّف، فإذا دخل التكليف الجامع في عهدة المكلّف، فلابدّ من الخروج عن عهدته جزماً، ولا جزم بالخروج عن عهدته إلاّ عن طريق الاحتياط، فيجب على المكلّف الاحتياط، فيجب عليه أن يجتنب الطرف الآخر الذي لم يضطر إلى شربه، في المثال السابق هو علم بسقوط النجاسة في أحد شيئين، إمّا في هذا الماء الذي اضطر إلى شربه، أو هذا الثوب الذي هو غير مضطر إلى استعماله، هنا يجب عليه أن يجتنب استعمال هذا الثوب احتياطاً؛ لأنّ الجامع دخل في العهدة باعتبار الاستصحاب، والعقل يحكم بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني عندما يقطع المكلّف باشتغال الذمّة يقيناً، والذمّة اشتغلت يقيناً بالجامع. هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) لإثبات التنجيز في الصورة الثالثة.
لوحظ على هذا الوجه الثاني: بأنّ استصحاب الكلّي لا يجري في محل الكلام، وإن كان يجري في مثال الحدث المردد بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر، والسر في ذلك هو أنّ استصحاب الجامع في محل الكلام، والمقصود بالجامع كما قلنا هو الجامع بين التكليف الطويل والتكليف القصير. هذا لا يجري فيه الاستصحاب؛ لأنّ الجامع المستصحب غير قابلٍ لأن يتنجّز على المكلّف، وذلك باعتبار أنّ هذا الجامع على أحد تقديريه ليس قابلاً للتنجيز، ليس قابلاً لأن يدخل في العهدة وليس قابلاً لأن يكون مشمولاً لحق المولوية وحق الطاعة؛ لأنّه على أحد تقديريه هو خارج عن قدرة المكلّف باعتبار الاضطرار، هو غير مقدور للمكلّف ولا يتمكّن المكلّف أن يمتثله؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف مضطر إلى ارتكابه، فإذن امتثال هذا التكليف غير مقدور للمكلّف بسبب الاضطرار، من الواضح أنّ التكليف الذي لا يقدر المكلّف على امتثاله غير قابل للتنجيز، وأن يدخل في حق الطاعة، وأن يدخل في عهدة المكلّف، هذا الجامع بين تكليفٍ يقبل التنجيز والدخول في عهدة المكلّف، ويقبل أن يكون مشمولاً لحق الطاعة وحق المولوية، وبين تكليفٍ لا يقبل ذلك، الجامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل التنجيز غير قابل للتنجيز؛ لأنّه على أحد تقديريه لا يقبل التنجيز، فكيف يكون الاستصحاب جارياً في مثل هذا الجامع، والحال أنّه غير قابلٍ للتنجيز؛ لأنّه على أحد تقديريه لا يكون قابلاً للتنجيز ولا يكون قابلاً للدخول في عهدة المكلّف، فكيف يُعقل أن يكون الجامع بينه وبين ما يقبل التنجيز؛ لأن التكليف الطويل يقبل التنجيز، بينما التكليف القصير لا يقبل التنجيز، كيف يكون الجامع بينهما قابلاً للتنجيز بالاستصحاب؟! فأساساً استصحاب الكلّي في محل الكلام لا يجري؛ لأنّه جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز.
ويمكن أن تُصاغ هذه الملاحظة بعبارةٍ أخرى، فيقال: أنّ استصحاب الكلّي من القسم الثاني إنّما يجري حينما يترتّب أثر شرعي على المستصحب نفسه الذي هو الجامع في محل الكلام؛ عندئذٍ لا مانع من جريان الاستصحاب، وهذا متحقق في مثال الحدث؛ لأننا في مثال الحدث عندما نستصحب كلّي الحدث الذي تيقنّا به سابقاً وشككنا في بقائه بعد الوضوء، الغرض من استصحاب كلّي الحدث هو ترتيب الأثر الشرعي المترتّب على كلّي الحدث من قبيل حرمة مسّ المصحف الذي هو مترتّب على كلّي الحدث الأعمّ من الحدث الأصغر والحدث الأكبر ولا نريد بذلك أن نثبت به وجوب الغُسل على المكلّف، إثبات وجوب الغُسل باستصحاب كلّي الحدث أصل مثبت؛ لأنّ استصحاب كلّي الحدث مع القطع بزوال الحدث الأصغر بعد الوضوء لازمه العقلي أنّ الحدث أكبر، فيترتب عليه وجوب الغُسل، ليس الغرض من استصحاب كلّي الحدث هو إثبات وجوب الغُسل على المكلّف؛ لأنّ هذا فرع إثبات أنّ حدثه حدثاً أكبر، واستصحاب جامع الحدث لا يثبت كون الحدث أكبر إلاّ بناءً على الأصل المثبت، كلا، نحن نريد أن نثبت الأثر المترتب على كلّي الحدث من قبيل حرمة مسّ المصحف؛ حينئذٍ لا مانع من جريان الاستصحاب في هذا الكلّي لإثبات هذا الأثر، وهذا متحقق في مثال الحدث. وأمّا في محل الكلام نحن نريد أن نستصحب جامع التكليف المردد بين الفرد الطويل والفرد القصير، إن كان الغرض من استصحاب هذا الجامع هو إثبات الفرد الطويل، فهو كما قلنا أصل مثبت؛ لأنّ اللازم العقلي لبقاء الجامع إلى الآن بعد الوضوء وبعد القطع بزوال أحد التكليفين، التكليف القصير العمر، لازمه بقاء التكليف الطويل، وهذا أصل مثبت. وإن كان الغرض هو إثبات الجامع نفسه، فهذا الجامع كما قلنا غير قابلٍ للتنجيز؛ لأنّه لا يقبل التنجيز، والجامع بين ما يقبل الدخول في العهدة وما لا يقبل الدخول في العهدة غير قابل للدخول في العهدة، وغير قابل لأن يكون منجّزاً على المكلف. إذن: على كلا التقديرين الاستصحاب في محل الكلام لا يجري. هذا هو الوجه الثاني الذي ذُكر مع جوابه.
السيّد الخوئي(قدّس سرّه) ذكر هذا الوجه وأجاب عنه بجوابٍ آخر غير هذا الجواب، هو ذكر بأنّ هذا الوجه يمكن الجواب عنه بجوابٍ آخر، وحاصل هذا الجواب الذي ذكره هو كجواب عن هذا الوجه هو: أنّه يقول أنّ هناك فرقاً بين محل الكلام وبين استصحاب كلّي الحدث في مثال الحدث، والفرق هو أنّ استصحاب كلّي الحدث، وهكذا أصالة الاشتغال أيضاً عطفها على الاستصحاب، إنّما تصل النوبة إليه عندما تتعارض الأصول في الأطراف؛ عندئذٍ تصل النوبة إلى التمسّك بالاستصحاب، أو تصل النوبة إلى التمسّك بالاشتغال، كما هو الحال في مثال الحدث، في مثال الحدث لا إشكال في أنّ أصالة كون الحدث أكبر تكون مُعارضة بأصالة كون الحدث أصغر، المكلّف لا يعلم، لا بهذا ولا بهذا ويشكّ في كون الحدث أصغر ويشكّ في كون الحدث أكبر، وكل منهما أمر مسبوق بالعدم، فيجري فيه استصحاب العدم، ويتعارض الأصلان، أصالة عدم كون الحدث أصغر معارض بأصالة عدم كون الحدث أكبر، فيتعارضان ويتساقطان؛ وحينئذٍ يمكن الرجوع إلى الاستصحاب، فنستصحب كلّي الحدث، تصل النوبة إليه ولا مانع منه إذا كان يترتب عليه الأثر كما ذكرنا.
وأمّا في محل الكلام، يقول: النوبة لا تصل إلى الاستصحاب؛ لأنّ أصالة البراءة عن التكليف الطويل ليست معارضة بأصالة البراءة عن التكليف القصير؛ لأنّه أساساً لا تجري أصالة البراءة في التكليف القصير؛ لأننا نقطع بانتفاء التكليف القصير بعد عروض الاضطرار، بعد عروض الاضطرار قطعاً التكليف مرتفع، ومع القطع بارتفاع التكليف لا معنى لجريان البراءة، فإذن، لاشك عندنا في بقاء التكليف القصير حتّى نجري فيه أصالة البراءة، بينما عندنا شكّ في بقاء التكليف الطويل، فتجري فيه البراءة بلا معارض، فإذا جرت البراءة في الفرد الطويل بلا معارض؛ فحينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب الجامع؛ لأنّه لا توجد عندنا إلاّ أصالة براءة تنفي لنا التكليف الطويل؛ وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الاستصحاب ولا أصالة الاشتغال، فلا يصح إجراء الاستصحاب في محل الكلام، وهذا هو جوابه عن هذا الوجه، وذكر أنّ أصالة البراءة حينئذٍ تكون حاكمة على استصحاب الجامع ومقدّمة عليه، ويُلتزم بجريان أصالة البراءة من التكليف الطويل، وهذا يثبت عدم منجّزية العلم الإجمالي في محل الكلام.