14-07-1435
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
35/07/14
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضـوع:-مسألة
( 428 )
/ الواجب الثاني عشر من واجبات حج التمتع ( المبيت بمنى ).
ثم إنه توجد بعض الأمور المرتبطة بهذه الطائفة الثانية التي استثنيت من وجوب المبيت:-
الأمر الأوّل:- يظهر من ابن ادريس(قده) أنه يبني على استثناء هذه الطائفة من وجوب المبيت فإن المشغول بالعبادة تمام ليليته لا يجب عليه المبيت بمنى فهذا يسلّمه، ولكن يظهر منه وجوب الشاة عليه، فالطائفة المذكورة - وهذا لعلّه لا يخصّصه بهذه الطائفة بل في الثانية والثالثة أيضاً - وإن استثنيت من وجوب المبيت ولكن ليست مستثناة من وجوب الشاة، وعبارته في السرائر كما يلي:- ( وإذا فرغ الانسان من الطواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التشريق إلا بها فإن بات في غيرها كان عليه دم شاة وقد روي أنّه إن بات بمكة مشتغلاً بالعبادة والطواف لم يكن عليه شيءٌ وإن لم يكن مشتغلاً بهما كان عليه ما ذكرناه والأوّل أظهر )[1]، وقوله ( الأوّل أظهر ) يرجع إلى قوله ( فإن بات في غيرها كان عليه دم شاة ) . إذن هو يبني على أنّ الشاة ثابتة حتى في حقّ من اشتغل في مكة بالعبادة، ولذلك قال في المدارك:- ( ونقل عن ابن ادريس أنّه أوجب الكفّارة على المشتغل بالعبادة كغيره )[2].
ولكن ما هو مستنده في ذلك ؟
والجواب:- ينحصر مستنده بالعموم الدال على أنّ من بات في غير منى فعليه شاة، فلابد وأنه تمسّك بهذا العموم وقال إنّ الذي خرج من هذا العموم هو هذه الطوائف لكن من حيث وجوب المبيت لا من حيث وجوب الكفّارة فوجوب الكفارة مشمولة به هذه الطوائف لهذا العموم.
ولكن يمكن أن يردّ:- بأنه لو رجعنا إلى الروايات أمكن أن نفهم منها نفي المطلبين معاً - يعني نفي وجوب المبيت في حقّ من اشتغل بالعبادة في مكة ونفي وجوب الكفارة -، وعلى سبيل المثال لاحظ صحيحة معاوية الأولى المتقدّمة:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعاءه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، فقال:- ليس عليه شيء كان في طاعة الله عز وجل ) فهي واضحة في أنه ليس عليه كفارة حيث قال عليه السلام:- ( ليس عليه شيء ) والقدر المتيقّن من ذلك هو الكفارة، ويستفاد أيضاً نفي الوجوب التكليفي من قوله:- ( كان في طاعة الله عز وجل ) فقوله ( كان في طاعة الله ) نفيٌ للإثم والوجوب التكليفي - يعني أن هذا ليس مخالفاً بل هو مشغولٌ بالطاعة - ونستفيد من قوله ( ليس عليه شيء ) أنّه لا كفارة عليه.
وهكذا يدلّ على ذلك صحيحة صفوان:- ( قال أبو الحسن عليه السلام:- سألني بعضهم عن رجل .... فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال:- عليه دم شاةٍ إذا بات، فقلت:- إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه ....فقال:- ما هذا بمنزلة هذا ) فالحديث كان عن وجوب الدم والإمام عليه السلام قال ( ما هذا بمنزلة هذا ).
إذن الروايات واضحة في نفي وجوب الكفّارة فما صدر من ابن إدريس(قده) غريبٌ.
الأمر الثاني:- إن المشتغل بالعبادة تمام الليل يستثنى في حقّه الأمور الضرورية كالأكل والشرب والنوم القليل، وقد نقل صاحب المدارك ما نصّه:- ( وقد نصّ الشهيدان على أنه يجب استيعاب الليلة بالعبادة إلا ما يضطر إليه من غذاءٍ أو شرابٍ أو نومٍ يغلب عليه )[3].
والسؤال:- ما هو التخريج الفنّي لاستثناء مثل هذه الأمور ؟
والجواب:- علّل صاحب الرياض(قده) استثناء الأكل والشرب بالغلبة، بمعنى أنّ لغالب هو ذلك، يعني أنّ الانشغال طيلة الليل يكون مصاحباً للعطش فيشرب الماء أو يجوع فيأكل فالفرد الغالب هو هذا.
ثم نضمّ مقدّمة أخرى:- وهي أنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الغالب، فحينما أقول لك ( جئني برجلٍ ) فالغالب أنّ الرجل هو من له رأس واحد فلو جيء برجلٍ له رأسان فهذا ليس مقبولاً، ولماذا ؟ لأنَّ الاطلاق ينصرف إلى الفرد الغالب - هكذا قالوا -، فحينئذٍ هذا هو الفرد الغالب أيضاً وهو أنّ الاشتغال يكون مصاحباً لمثل هذه الأمور.
ولكنه(قده) قال:- إن الأكل والشرب لا بأس به أمّا النوم فلا.
فهو(قده) قد أنكر الغلبة بالنسبة إلى النوم وكأنّه فهم من النوم ما هو أزيد من الخفقة فكأنه أنكر الغلبة آنذاك، وهذا خلافٌ في المصداق وليس بمهم.
وعلى أيّ حال علّل(قده) بالغلبة ونصّ عبارته:- ( نعم يستثنى منه ما يضطر إليه من عذاء وشرابٍ كما ذكره الشهيدان ولكن زادا " ونومٍ يغلب عليه " وفيه نظر إذ ليس في الخبر ما يرشد إليه بل ولا إلى الأوّلَين وإنما استثنيا حملاً لإطلاق النصّ على الغالب، وليس في الخبر ما يخالف في النوم لظهوره في عدمه )[4].
وبالجملة:- إنه يريد أن يقول:- نحن سلّمنا الغلبة في الأكل والشرب أمّا في النوم فلا يوجد ما يمنع من الأخذ بظاهر النصّ فظاهر النصّ هو أنّه كلّ الليل يكون مشغولاً بالعبادة فيلزم أن يكون بلا نومٍ فالنوم لا يجتمع مع الانشغال بالعبادة ولا يوجد ما يوجب رفع اليد عن ظاهر النصّ - وكأنّه يريد أن يمنع الغلبة - هذا ما أفاده(قده).
وفيه:- إنّه على المباني التي قرأناها من أنّ المانع من التمسّك بالاطلاق هو الغلبة في الاستعمال وليس الغلبة الوجوديّة فالإطلاق يبقى محكّماً لا أنّه يحصل انصراف، فهذا انصرافٌ بدويٌّ، فإذا قيل ( جئني بإنسانٍ ) وجئت برجلٍ له رأسان عُدَّ ذلك امتثالاً ولا موجب للانصراف لأنّ هذا غلبة وجوديّة وليست غلبة استعماليّة - هكذا تعلمنا - . نعم بناءً على ما أشرنا إليه في باب الاطلاق يشكل التمسّك بالاطلاق ولكن على مباني القوم لا معنى للتمسّك بالغلبة هنا لأنها غلبة وجوديّة، اللهم إلّا أن يقصد صاحب الرياض ما سوف نشير إليه فانتظر.
هذا وقد ذكر الشيخ النراقي[5] :- أنه نمنع نحن هذه الغلبة بالشكل الموجب للانصراف.
وكأن أصل الغلبة هنا قد منعها وقال هناك طريقٌ آخر نتمسّك به وهو الصدق العرفي فإن تخلّل فتراتٍ قصيرةٍ بشرب ماءٍ أو بأكل شيءٍ لا ينافي عرفاً أنه في تمام الليلة مشغولاً بالعبادة وهذه الفترات الصغيرة بحكم العدم بنظر العرف.
ثم ذكر شيئاً آخر وهي طريقة شرعيّة للتخلّص من كلّ هذه المشكلة:- وهي أن يأكل ويشرب بقصد التّقوّي على العبادة، فمادام ينوي بالأكل والشرب ذاك فهذا بنفسه عبادة والانشغال بالعبادة كافٍ - وهذا الكلام الأخير ليس مهماً لنا والمهم هو كلامه الأوّل -، قال(قده):- ( وفيه منع تلك الغلبة بحيث توجب انصراف المطلق إليه نعم يمكن أن يقال إن هذا القدر من اشتغال لا ينافي الاستيعاب العرفي بالعبادة . ولو نوى بالأكل والشرب التّقوّي على العبادة يرتفع الإشكال ).
وممن سلك هذا الطريق السيد الخوئي(قده)[6].
ويمكن التعليق على ذلك:- بأنه إذا التزمنا هنا بذلك وقلنا إنه يصدق الاستيعاب رغم الانشغال الجزئي بالأكل أو الشرب فيلزم أن نلتزم في باب الوضوء بأن من غسل وجهه وترك مقدار رأس ابرة يلزم أن نلتزم بأنه استوعب تمام وجهه فإنهما من وادٍ واحد، فإذا التزمنا في مقامنا في صدق استيعاب الليلة بالعبادة رغم هذا الانشغال الجزئي فلنلتزم في باب الوضوء بما أشرنا إليه ؟!! والحال أنّهم يذكرون في الرسائل العمليّة أنه يجب غسل الوجه بتمامه ومن ترك غسل مقدارٍ منه ولو يسيراً بمقدار رأس ابرة لا يصح[7]، وما هو المدرك لهم ؟ قالوا:- لأنه لا يصدق أنّك غسلت تمام وجهك، ولو قيل:- إنّ العرف يقول هو قد غسل تمام وجهه ؟!! اجابوا عن ذلك:- بأن الاستعمال العرفي والصدق العرفي هو بنحوين نحوٌ يشعر العرف بأنّه إطلاقٌ حقيقيٌّ لا مسامحة فيه ونحوٌ يشعرون بوجود المسامحة فيه، وإبقاء مقدار رأس الابرة هو من الثاني، يعني أنَّ العرف حينما نقول لهم أوليس بقي مقدار رأس ابرة ؟ فهو يسلّم بالمسامحة ويقول نعم ولكن لا بأس فهو يشعر بالمسامحة، وهكذا في مسألة الكرّ فلو فرضنا أنَّ الكرّ نقض عن مقداره المحدّد بمقدار نصف ملعقة شاي فهذا يضرّ بترتيب أحكام الكرّ عليه - هكذا قالوا - والحال أنّه يصدق عليه عرفاً أنّه كرّ، فإذا أشكلنا على الفقهاء أجابوا وقالوا إنَّ هذا إطلاقٌ مسامحيٌّ يعني أن نفس العرف يشعر بالمسامحة ويقول إنَّ هذا ليس كرّاً كاملاً وإنما هو في الحقيقة أقل من الكرّ بمقدارٍ يسير وأنا اتسامح في تعبيري، إنَّ مثل هذه الاطلاقات المسامحيّة ليست حجّة وإنما الحجّة هو الإطلاق العرفي الذي يرى العرف أنّه لا مسامحة فيه.
ونحن نقول لهم:- سلّمنا أنَّ المدار على الاطلاق العرفي الذي لا مسامحة فيه ولكن ما الفرق بين مثال غسل الوجه وبين مثالنا الذي هو محلّ كلامنا في موردنا ؟ فإذا فرض أنَّ ذلك الإطلاق كان مسامحيّاً في الوجه كان هذا مسامحيّاً أيضاً، يعني أنّ العرف بالتالي حينما نقول له هل هذا قد اشتغل بتمام الليلة بالعبادة حتى في الوقت الذي كان يشرب فيه الماء ؟ فيقول كلّا فيشعر بالمسامحة، وإذا قلت إنه حقيقيٌّ في موردنا فقل هو حقيقيٌّ في مورد غسل الوجه ايضاً.
والخلاصة:- إن التفرقة بين الموردين لا نرى لها وجهاً . وهذا إشكالٌ ليس على أصل الاستدلال بهذا الوجه وإنما هو إشكالٌ على التفرقة بين المقامين، فلو فرض أنَّ فقيهاً قال أنا حتى في غسل الوجه ألتزم بأنَّ مقدار رأس الابرة لا يؤثر فلا إشكال حينئذٍ.
والأنسب في توجيه استثناء مثل هذه الأمور:- التمسّك بمحذور اللغوية بأن يقال:- إن هذه الأمور هي مصاحبة عادةً ولا تنفكُّ عن ذلك، فمن اشتغل بالعبادة طيلة الليلة لا ينفكّ عادةً عن حاجته إلى شرب الماء ولا ينفك عادةً عن السِنَةِ ولا ينفكّ عن قضاء الحاجة، والدليل الدال على جواز الاجتزاء بالاشتغال تمام الليلة يدلّ بالالتزام على أنَّ تلك الأمور لا تضرّ إذ لو كانت تضرّ فيلزم لغويّة هذا التشريع، فمِن الذي يستطيع أن لا يذهب إلى الخلاء طيلة الليلة خصوصاً إذا كان الجوّ بارداً أو لا يشرب قليلاً من الماء أو ما شاكل ذلك ؟!! نعم تبقى هناك اختلافات جزئية صغروية ولكن مثل هذه الأمور التي هي غالباً لا تنفكّ فنفس ذلك الدليل الدال على الاجتزاء بالاشتغال بالعبادة هو يدلّ بالالتزام على ذلك، ولعلّ مقصود صاحب الرياض(قده) من الغلبة هذا المعنى لا ذلك المعنى - أي الغلبة الموجبة للانصراف في باب الاطلاق - حتى يرد الاشكال من أنَّ الغلبة الوجوديّة لا تمنع من الاطلاق، كلّا بل لعل مقصوده هو هذا المعنى وإذا كان مقصوده هذا المعنى فهو شيءٌ وجيهٌ ولا بأس به.
ثم إنه توجد بعض الأمور المرتبطة بهذه الطائفة الثانية التي استثنيت من وجوب المبيت:-
الأمر الأوّل:- يظهر من ابن ادريس(قده) أنه يبني على استثناء هذه الطائفة من وجوب المبيت فإن المشغول بالعبادة تمام ليليته لا يجب عليه المبيت بمنى فهذا يسلّمه، ولكن يظهر منه وجوب الشاة عليه، فالطائفة المذكورة - وهذا لعلّه لا يخصّصه بهذه الطائفة بل في الثانية والثالثة أيضاً - وإن استثنيت من وجوب المبيت ولكن ليست مستثناة من وجوب الشاة، وعبارته في السرائر كما يلي:- ( وإذا فرغ الانسان من الطواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التشريق إلا بها فإن بات في غيرها كان عليه دم شاة وقد روي أنّه إن بات بمكة مشتغلاً بالعبادة والطواف لم يكن عليه شيءٌ وإن لم يكن مشتغلاً بهما كان عليه ما ذكرناه والأوّل أظهر )[1]، وقوله ( الأوّل أظهر ) يرجع إلى قوله ( فإن بات في غيرها كان عليه دم شاة ) . إذن هو يبني على أنّ الشاة ثابتة حتى في حقّ من اشتغل في مكة بالعبادة، ولذلك قال في المدارك:- ( ونقل عن ابن ادريس أنّه أوجب الكفّارة على المشتغل بالعبادة كغيره )[2].
ولكن ما هو مستنده في ذلك ؟
والجواب:- ينحصر مستنده بالعموم الدال على أنّ من بات في غير منى فعليه شاة، فلابد وأنه تمسّك بهذا العموم وقال إنّ الذي خرج من هذا العموم هو هذه الطوائف لكن من حيث وجوب المبيت لا من حيث وجوب الكفّارة فوجوب الكفارة مشمولة به هذه الطوائف لهذا العموم.
ولكن يمكن أن يردّ:- بأنه لو رجعنا إلى الروايات أمكن أن نفهم منها نفي المطلبين معاً - يعني نفي وجوب المبيت في حقّ من اشتغل بالعبادة في مكة ونفي وجوب الكفارة -، وعلى سبيل المثال لاحظ صحيحة معاوية الأولى المتقدّمة:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعاءه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، فقال:- ليس عليه شيء كان في طاعة الله عز وجل ) فهي واضحة في أنه ليس عليه كفارة حيث قال عليه السلام:- ( ليس عليه شيء ) والقدر المتيقّن من ذلك هو الكفارة، ويستفاد أيضاً نفي الوجوب التكليفي من قوله:- ( كان في طاعة الله عز وجل ) فقوله ( كان في طاعة الله ) نفيٌ للإثم والوجوب التكليفي - يعني أن هذا ليس مخالفاً بل هو مشغولٌ بالطاعة - ونستفيد من قوله ( ليس عليه شيء ) أنّه لا كفارة عليه.
وهكذا يدلّ على ذلك صحيحة صفوان:- ( قال أبو الحسن عليه السلام:- سألني بعضهم عن رجل .... فقلت له:- جعلت فداك ما تقول فيها ؟ فقال:- عليه دم شاةٍ إذا بات، فقلت:- إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه ....فقال:- ما هذا بمنزلة هذا ) فالحديث كان عن وجوب الدم والإمام عليه السلام قال ( ما هذا بمنزلة هذا ).
إذن الروايات واضحة في نفي وجوب الكفّارة فما صدر من ابن إدريس(قده) غريبٌ.
الأمر الثاني:- إن المشتغل بالعبادة تمام الليل يستثنى في حقّه الأمور الضرورية كالأكل والشرب والنوم القليل، وقد نقل صاحب المدارك ما نصّه:- ( وقد نصّ الشهيدان على أنه يجب استيعاب الليلة بالعبادة إلا ما يضطر إليه من غذاءٍ أو شرابٍ أو نومٍ يغلب عليه )[3].
والسؤال:- ما هو التخريج الفنّي لاستثناء مثل هذه الأمور ؟
والجواب:- علّل صاحب الرياض(قده) استثناء الأكل والشرب بالغلبة، بمعنى أنّ لغالب هو ذلك، يعني أنّ الانشغال طيلة الليل يكون مصاحباً للعطش فيشرب الماء أو يجوع فيأكل فالفرد الغالب هو هذا.
ثم نضمّ مقدّمة أخرى:- وهي أنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الغالب، فحينما أقول لك ( جئني برجلٍ ) فالغالب أنّ الرجل هو من له رأس واحد فلو جيء برجلٍ له رأسان فهذا ليس مقبولاً، ولماذا ؟ لأنَّ الاطلاق ينصرف إلى الفرد الغالب - هكذا قالوا -، فحينئذٍ هذا هو الفرد الغالب أيضاً وهو أنّ الاشتغال يكون مصاحباً لمثل هذه الأمور.
ولكنه(قده) قال:- إن الأكل والشرب لا بأس به أمّا النوم فلا.
فهو(قده) قد أنكر الغلبة بالنسبة إلى النوم وكأنّه فهم من النوم ما هو أزيد من الخفقة فكأنه أنكر الغلبة آنذاك، وهذا خلافٌ في المصداق وليس بمهم.
وعلى أيّ حال علّل(قده) بالغلبة ونصّ عبارته:- ( نعم يستثنى منه ما يضطر إليه من عذاء وشرابٍ كما ذكره الشهيدان ولكن زادا " ونومٍ يغلب عليه " وفيه نظر إذ ليس في الخبر ما يرشد إليه بل ولا إلى الأوّلَين وإنما استثنيا حملاً لإطلاق النصّ على الغالب، وليس في الخبر ما يخالف في النوم لظهوره في عدمه )[4].
وبالجملة:- إنه يريد أن يقول:- نحن سلّمنا الغلبة في الأكل والشرب أمّا في النوم فلا يوجد ما يمنع من الأخذ بظاهر النصّ فظاهر النصّ هو أنّه كلّ الليل يكون مشغولاً بالعبادة فيلزم أن يكون بلا نومٍ فالنوم لا يجتمع مع الانشغال بالعبادة ولا يوجد ما يوجب رفع اليد عن ظاهر النصّ - وكأنّه يريد أن يمنع الغلبة - هذا ما أفاده(قده).
وفيه:- إنّه على المباني التي قرأناها من أنّ المانع من التمسّك بالاطلاق هو الغلبة في الاستعمال وليس الغلبة الوجوديّة فالإطلاق يبقى محكّماً لا أنّه يحصل انصراف، فهذا انصرافٌ بدويٌّ، فإذا قيل ( جئني بإنسانٍ ) وجئت برجلٍ له رأسان عُدَّ ذلك امتثالاً ولا موجب للانصراف لأنّ هذا غلبة وجوديّة وليست غلبة استعماليّة - هكذا تعلمنا - . نعم بناءً على ما أشرنا إليه في باب الاطلاق يشكل التمسّك بالاطلاق ولكن على مباني القوم لا معنى للتمسّك بالغلبة هنا لأنها غلبة وجوديّة، اللهم إلّا أن يقصد صاحب الرياض ما سوف نشير إليه فانتظر.
هذا وقد ذكر الشيخ النراقي[5] :- أنه نمنع نحن هذه الغلبة بالشكل الموجب للانصراف.
وكأن أصل الغلبة هنا قد منعها وقال هناك طريقٌ آخر نتمسّك به وهو الصدق العرفي فإن تخلّل فتراتٍ قصيرةٍ بشرب ماءٍ أو بأكل شيءٍ لا ينافي عرفاً أنه في تمام الليلة مشغولاً بالعبادة وهذه الفترات الصغيرة بحكم العدم بنظر العرف.
ثم ذكر شيئاً آخر وهي طريقة شرعيّة للتخلّص من كلّ هذه المشكلة:- وهي أن يأكل ويشرب بقصد التّقوّي على العبادة، فمادام ينوي بالأكل والشرب ذاك فهذا بنفسه عبادة والانشغال بالعبادة كافٍ - وهذا الكلام الأخير ليس مهماً لنا والمهم هو كلامه الأوّل -، قال(قده):- ( وفيه منع تلك الغلبة بحيث توجب انصراف المطلق إليه نعم يمكن أن يقال إن هذا القدر من اشتغال لا ينافي الاستيعاب العرفي بالعبادة . ولو نوى بالأكل والشرب التّقوّي على العبادة يرتفع الإشكال ).
وممن سلك هذا الطريق السيد الخوئي(قده)[6].
ويمكن التعليق على ذلك:- بأنه إذا التزمنا هنا بذلك وقلنا إنه يصدق الاستيعاب رغم الانشغال الجزئي بالأكل أو الشرب فيلزم أن نلتزم في باب الوضوء بأن من غسل وجهه وترك مقدار رأس ابرة يلزم أن نلتزم بأنه استوعب تمام وجهه فإنهما من وادٍ واحد، فإذا التزمنا في مقامنا في صدق استيعاب الليلة بالعبادة رغم هذا الانشغال الجزئي فلنلتزم في باب الوضوء بما أشرنا إليه ؟!! والحال أنّهم يذكرون في الرسائل العمليّة أنه يجب غسل الوجه بتمامه ومن ترك غسل مقدارٍ منه ولو يسيراً بمقدار رأس ابرة لا يصح[7]، وما هو المدرك لهم ؟ قالوا:- لأنه لا يصدق أنّك غسلت تمام وجهك، ولو قيل:- إنّ العرف يقول هو قد غسل تمام وجهه ؟!! اجابوا عن ذلك:- بأن الاستعمال العرفي والصدق العرفي هو بنحوين نحوٌ يشعر العرف بأنّه إطلاقٌ حقيقيٌّ لا مسامحة فيه ونحوٌ يشعرون بوجود المسامحة فيه، وإبقاء مقدار رأس الابرة هو من الثاني، يعني أنَّ العرف حينما نقول لهم أوليس بقي مقدار رأس ابرة ؟ فهو يسلّم بالمسامحة ويقول نعم ولكن لا بأس فهو يشعر بالمسامحة، وهكذا في مسألة الكرّ فلو فرضنا أنَّ الكرّ نقض عن مقداره المحدّد بمقدار نصف ملعقة شاي فهذا يضرّ بترتيب أحكام الكرّ عليه - هكذا قالوا - والحال أنّه يصدق عليه عرفاً أنّه كرّ، فإذا أشكلنا على الفقهاء أجابوا وقالوا إنَّ هذا إطلاقٌ مسامحيٌّ يعني أن نفس العرف يشعر بالمسامحة ويقول إنَّ هذا ليس كرّاً كاملاً وإنما هو في الحقيقة أقل من الكرّ بمقدارٍ يسير وأنا اتسامح في تعبيري، إنَّ مثل هذه الاطلاقات المسامحيّة ليست حجّة وإنما الحجّة هو الإطلاق العرفي الذي يرى العرف أنّه لا مسامحة فيه.
ونحن نقول لهم:- سلّمنا أنَّ المدار على الاطلاق العرفي الذي لا مسامحة فيه ولكن ما الفرق بين مثال غسل الوجه وبين مثالنا الذي هو محلّ كلامنا في موردنا ؟ فإذا فرض أنَّ ذلك الإطلاق كان مسامحيّاً في الوجه كان هذا مسامحيّاً أيضاً، يعني أنّ العرف بالتالي حينما نقول له هل هذا قد اشتغل بتمام الليلة بالعبادة حتى في الوقت الذي كان يشرب فيه الماء ؟ فيقول كلّا فيشعر بالمسامحة، وإذا قلت إنه حقيقيٌّ في موردنا فقل هو حقيقيٌّ في مورد غسل الوجه ايضاً.
والخلاصة:- إن التفرقة بين الموردين لا نرى لها وجهاً . وهذا إشكالٌ ليس على أصل الاستدلال بهذا الوجه وإنما هو إشكالٌ على التفرقة بين المقامين، فلو فرض أنَّ فقيهاً قال أنا حتى في غسل الوجه ألتزم بأنَّ مقدار رأس الابرة لا يؤثر فلا إشكال حينئذٍ.
والأنسب في توجيه استثناء مثل هذه الأمور:- التمسّك بمحذور اللغوية بأن يقال:- إن هذه الأمور هي مصاحبة عادةً ولا تنفكُّ عن ذلك، فمن اشتغل بالعبادة طيلة الليلة لا ينفكّ عادةً عن حاجته إلى شرب الماء ولا ينفك عادةً عن السِنَةِ ولا ينفكّ عن قضاء الحاجة، والدليل الدال على جواز الاجتزاء بالاشتغال تمام الليلة يدلّ بالالتزام على أنَّ تلك الأمور لا تضرّ إذ لو كانت تضرّ فيلزم لغويّة هذا التشريع، فمِن الذي يستطيع أن لا يذهب إلى الخلاء طيلة الليلة خصوصاً إذا كان الجوّ بارداً أو لا يشرب قليلاً من الماء أو ما شاكل ذلك ؟!! نعم تبقى هناك اختلافات جزئية صغروية ولكن مثل هذه الأمور التي هي غالباً لا تنفكّ فنفس ذلك الدليل الدال على الاجتزاء بالاشتغال بالعبادة هو يدلّ بالالتزام على ذلك، ولعلّ مقصود صاحب الرياض(قده) من الغلبة هذا المعنى لا ذلك المعنى - أي الغلبة الموجبة للانصراف في باب الاطلاق - حتى يرد الاشكال من أنَّ الغلبة الوجوديّة لا تمنع من الاطلاق، كلّا بل لعل مقصوده هو هذا المعنى وإذا كان مقصوده هذا المعنى فهو شيءٌ وجيهٌ ولا بأس به.