36/04/11
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
كان الكلام في حالات الشُك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وعدم خروجها. قلنا أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذهب إلى عدم جواز التمسّك بالإطلاق لإثبات فعلية التكليف في الفرد المشكوك من حيث كونه خارجاً عن محل الابتلاء، أو داخلاً في محل الابتلاء في الشبهة المفهومية. واستدل على ذلك بالدليل المتقدّم في الدرس السابق، وقلنا أنّ هذا الدليل أجيب عنه بجوابٍ حلّي وجواب نقضي، وانتهى الكلام إلى مناقشة المحقق العراقي(قدّس سرّه)، وحاصل ما يُفهم من كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه) هو كأنّه يُسلّم بهذه الأجوبة، لكن على تقدير تفسير كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بالتفسير المتقدّم الذي مرجعه إلى أنّه يشترط في جواز التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات إحراز إمكان الإطلاق وصحّته ثبوتاً، فمع الشكّ في إمكانه وصحّته ثبوتاً لا يجوز التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات. إذا فُسّر كلامه بهذا التفسير يرد عليه الجوابان اللّذان ذكرهما المحقق النائيني(قدّس سرّه)، الحلّي والنقضي، لكن المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول أنّ مقصود صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ليس هو هذا المطروح، يعني لا يريد أن يمنع من التمسّك بالإطلاق لإثبات الإطلاق في مقام الثبوت عند الشكّ في صحّته وإمكانه، هو ليس ناظراً إلى هذه الجهة، وإنّما فسّر كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بتفسيرٍ آخر لا ترد عليه هذه الإيرادات النقضية والحلّية، وحاصل هذا التفسير هو: أنّ القدرة على موضوع التكليف سواء كانت قدرة عقلية أو قدرة عادية التي يُعبّر عنها بالدخول في محل الابتلاء، وبعبارة أخرى: فيما يرتبط بمحل كلامنا الدخول في محل الابتلاء، هذه كما هي شرط في التكليف الواقعي كذلك هي شرط في التكليف الظاهري، هذا التكليف الظاهري في محل كلامنا الدال على وجوب التعبّد بظهور الخطاب أيضاً مشروط بالقدرة على موضوع التكليف قدرة عقلية وقدرة عادية، وبناءً على هذا كما أنّ الخطاب الواقعي والتكليف الواقعي يكون مشكوكاً مع الشك في القدرة على موضوع التكليف كذلك الخطاب الظاهري يكون مشكوكاً يُشك في صحّة ثبوته عند الشك في القدرة على موضوع التكليف.
بعبارة أخرى: يريد أن يقول لا فرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، كما أنّ الحكم الواقعي بالاجتناب مشروط بالقدرة العادية على موضوع التكليف والدخول في محل الابتلاء كذلك وجوب الاجتناب الظاهري المستفاد من إطلاق الدليل أيضاً مشروط بالقدرة على موضوعه قدرة عقلية وقدرة عادية، أيضاً مشروط بالدخول في محل الابتلاء؛ فحينئذٍ لا فرق بينهما؛ لأنّ هذا الفرد المشكوك الذي يُشك في دخوله في محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء كما نشك في ثبوت الحكم الواقعي فيه، كذلك نشك في ثبوت الحكم الظاهري فيه؛ لأنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة العادية، أو بعبارة أكثر وضوحاً: مشروط بالدخول في محل الابتلاء، فعند الشك في الدخول في محل الابتلاء وعدم الدخول يُشك في ثبوت ذلك الحكم. إذن: الفرد المشكوك كما يُشك في ثبوت الحكم الواقعي فيه كذلك يُشك في ثبوت الحكم الظاهري فيه؛ إذ لا فرق بين وجوب الاجتناب الواقعي، أو وجوب الاجتناب الظاهري من هذه الجهة، فكما يُستهجن ـــــــــــــ مثلاً ـــــــــــــ توجيه وجوب الاجتناب الواقعي إلى المكلّف مع خروج متعلّقه وموضوعه عن محل الابتلاء، كذلك يُستهجن بنفس المقدار توجيه الخطاب بوجوب الاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل ابتلائه ظاهراً، التكليف الواقعي بالاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل الابتلاء مستهجن، والتكليف الظاهري بالاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل الابتلاء أيضاً مستهجن، نفس الوجوه التي ذُكرت لإثبات استحالة توجيه التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء لا يُفرّق فيه بين وجوب الاجتناب الظاهري أو وجوب الاجتناب الواقعي، بالنتيجة هذا الموضوع خارج عن محل ابتلاء المكلّف، ولا يبتلي به عادةً، فالتكليف به مستهجن، سواء كان واقعياً، أو كان ظاهرياً، فإذا ثبتت هذه النقطة، أنّ التكليف الظاهري بالموضوع الخارج عن محل الابتلاء مستهجن ويلزم منه تحصيل الحاصل ...... الخ المحاذير المتقدّمة، إذا ثبت هذا؛ حينئذٍ يقال أنّه لا مجال حينئذٍ للتمسّك بالإطلاق لإثبات صحّة التكليف الظاهري بالفرد المشكوك عند الشك في القدرة عليه وعدم القدرة، وعند الشكّ في دخوله في محل الابتلاء، أو في خروجه عن محل الابتلاء، لا يصحّ التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يجوز عندما نحرز صحّة هذا الإطلاق وحجّيته، وهذا واضح، التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات إنّما يصح عندما نحرز إمكان هذا الإطلاق وصحّته وحجّيته؛ فحينئذٍ يمكن التمسّك بهذا الإطلاق الإثباتي. أمّا حيث نشكّ في إمكانه وصحّته وحجّيته، فلا مجال للتمسّك بهذا الإطلاق الإثباتي، وفي محل الكلام نحن نشكّ في هذه الأمور بالنسبة إلى الخطاب الظاهري المستفاد الذي يتوجّه إلى المكلّف، نحن نشك في إمكانه بالنسبة إلى هذا الطرف المشكوك؛ لأننا نشك في القدرة عليه وعدم القدرة، نشك في دخوله في محل الابتلاء حتّى يكون مقدوراً عليه عادة وعرفاً، وبين خروجه عن محل الابتلاء حتّى لا يكون مقدوراً، على تقدير أن يكون خارجاً عن محل الابتلاء التكليف الظاهري به غير صحيح وغير ممكن، كما نقول بالنسبة للتكليف الواقعي الفرد الخارج عن محل الابتلاء غير ممكن؛ للزوم الاستهجان وتحصيل الحاصل ....الخ، التكليف الظاهري بما هو خارج عن محل الابتلاء غير ممكن، فعند الشك في دخوله في محل الابتلاء أو خروجه عنه، يعني أننا نشك في إمكانه وفي صحّته، ومع الشك في صحّة الإطلاق كيف يمكن التمسّك بالإطلاق ؟! مع الشك في صحّة الإطلاق الإثباتي في مقام الإثبات، كيف يمكن التمسّك به، نشك في صحّته يعني نشك في حجّيته وفي إمكانه، كيف يمكن التمسّك بهذا الإطلاق في مقام الثبوت ؟ فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق في محل الكلام عند الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء أو في خروجها عن محل الابتلاء؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق فرع إحرازه وإحراز إمكانه وصحّته، ومع الشكّ في ذلك لا يحرز هذا المعنى، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق. يقول: هذا هو مقصود صاحب الكفاية (قدّس سرّه) في العبارة المتقدّمة، لا يريد أن يقول لا يصح التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لإحراز الإطلاق في مقام الثبوت عند الشك في القدرة العقلية، أو العادية، هو لا يريد أن يدّعي هذه الدعوة حتّى ترد عليه الأجوبة السابقة؛ بل هو يسلّم بأنّه لا مانع من التمسّك بالإطلاق الإثباتي لإحراز الإطلاق الثبوتي، ليس لديه مشكلة في هذا حتّى عند الشك في الإمكان وعدم الإمكان، وحتّى عند احتمال الاستحالة، فاحتمال الاستحالة لا يمنع من التمسّك بالإطلاق الإثباتي على ما تقدّم في الدرس السابق. يقول: هو غير ناظر إلى هذا، انتم تريدون أن تتمسّكوا بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعلية التكليف في هذا الطرف المشكوك، هذا المدّعى في المقام، صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يقول هذا لا يصح؛ لأنّ الدخول في محل الابتلاء كما هو شرط في الخطاب الواقعي هو شرط في الخطاب الظاهري المستفاد من هذا الإطلاق، التكليف الظاهري بوجوب الاجتناب عن هذا الخمر مشروط بأن يكون داخلاً في محل الابتلاء، وصحّة التكليف الظاهري مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، وإمكان التكليف الظاهري مشروط بالدخول في محل الابتلاء، فعند الشك في الدخول في محل الابتلاء، يعني يُشك في إمكان الخطاب الظاهري وفي صحّته، يعني في صحّة الإطلاق، صحة الخطاب الظاهري تعني صحة الإطلاق وإمكان الإطلاق، ومع الشك في إمكان إطلاقٍ، وفي صحته لا يجوز التمسّك به؛ لأنّ الشك في إمكانه يعني الشك في حجيته، ومن الواضح أنّ التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات يتوقف على إحراز حجيته وصحته وإمكانه، وعند الشك في دخول موضوعه في محل الابتلاء وفي خروجه عن محل الابتلاء لا يُحرز صحة وإمكان وحجية هذا الإطلاق حتى يمكن التمسّك به في المقام، وهذه قضية لا علاقة لها بإحراز الإطلاق في مقام الثبوت، غير ناظر إلى هذا؛ ولذا لا يرد الجوابان المتقدّمان الحلّي والنقضي على التفسير الثاني لصاحب الكفاية(قدّس سرّه)، لا نمنع إطلاقاً من التمسّك بالإطلاق حيث يصح ونحرز صحته وحجّيته وإمكانه، فلا مانع من التمسّك به لإثبات الإطلاق الثبوتي حتى عند الشك في الاستحالة والإمكان، لكن التمسّك بالإطلاق مع الشك في صحته ومع الشك في إمكانه لا يصح، والإطلاق والخطاب الظاهري يشك في إمكانه وصحته عند الشك في دخول موضوعه ومتعلقه في محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء؛ لأنّ الخطاب الظاهري كالخطاب الواقعي مشروط بالدخول في محل الابتلاء، فعندما نشك في أنّ موضوع هذا الخطاب الظاهري داخل في محل الابتلاء، أو خارج عنه، نحن نشك في إمكان الخطاب الظاهري وعدم إمكانه، فلا نحرز إمكانه ولا صحته حتى نتمسّك به في محل الكلام، ومن هنا لا يصح التمسّك بالإطلاق، وهذه هي دعوى صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
قد يقال: لغرض توضيح التفسير الثاني لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، قد يُعترض عليه بأنّه يمكن لنا أن نحرز إمكان هذا الخطاب الظاهري في المقام ونحرز صحّته؛ وذلك بنفس دليله، المشكلة لدينا هي أنّه كيف يمكن التمسّك بالإطلاق مع الشك في إمكانه وصحته. الآن قد يقال: يمكن إحراز إمكانه وصحّته عن طريق التمسّك بدليل هذا الحكم الظاهري؛ لأنّه دليل قطعي، فإذا احتملنا عدم صحة الخطاب الظاهري وعدم إمكانه من جهة أنّ المفروض أنّ موضوع هذا الحكم الظاهري يُشكّ في دخوله في محل الابتلاء وخروجه، فإذا كان داخلاً في محل الابتلاء، فالخطاب الظاهري ممكن، وإذا كان خارجاً، فالخطاب الظاهري غير ممكنٍ، فمع احتمال إمكانه وعدم إمكانه، ومع احتمال صحته وعدم صحته يمكن إثبات صحة هذا الخطاب وإمكانه بنفس دليله؛ لأنّ دليله قطعي؛ لأننا نعلم بأنّ كل الأحكام الظاهرية لابدّ أن تنتهي إلى القطع، وإطلاق الدليل هذا يدخل في باب الظواهر، فلابدّ أن يكون هناك دليل قطعي يدلّ على حجّية هذا الظهور، وهذا الدليل القطعي الدال على حجّية هذا الظهور وإمكان هذا الظهور، أو الإطلاق، يمكن التمسّك به عندما نشك في هذا المورد باعتبار الشك في دخول موضوعه في محل الابتلاء وخروجه عنه، أنّ هذا ممكن وصحيح، أو غير صحيح، الدليل القطعي الدال على حجّية هذا الخطاب الظاهري يمكن التمسّك به لإثبات الإمكان والصحة.
والجواب عنه هو: ليس لدينا دليل قطعي يدلّ على صحة الخطاب الظاهري وإمكانه، عملاً في الخارج ليس لدينا هكذا دليل قطعي؛ لأنّ الدليل على حجّية هذا الخطاب الظاهري المستفاد من الإطلاق هو بناء العقلاء كما هو الحال في كل الظواهر، الدليل على حجّية الظهور هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية، والعقلاء عندما يلتفتون إلى هذه الجهة لا يوجد عندهم قطع بالحجّية؛ بل هم يشكون في الحجّية، إذا التفتوا إلى هذه الجهات:
الجهة الأولى: أنّ الخطاب الظاهري مشروط بالدخول في محل الابتلاء كالخطاب الواقعي.
الجهة الثانية: أنّه فعلاً نحن نفترض أنّ هناك شكّاً في أنّ موضوع الحكم الظاهري داخل في محل الابتلاء، أو غير داخل في محل الابتلاء؟
العقلاء إذا التفتوا إلى هذين الجهتين لا يحصل لهم قطع بحجّية هذا الخطاب الظاهري، لا يوجد دليل قطعي على حجّية الخطاب الظاهري حتى نتمسّك به لإثبات إمكانه في المقام وصحته؛ بل نفس الدليل الذي هو بناء العقلاء والسيرة هو يشك في حجّية هذا الخطاب وعدم حجّيته، لكن بعد الالتفات إلى هذين الجهتين، ففي المقام لا يوجد دليل قطعي على صحة هذا الخطاب الظاهري وإمكان الإطلاق في محل الكلام. هذا هو التفسير الثاني لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، أو نستطيع أن نقول التقريب الثاني لمنع التمسّك بالإطلاق في محل الكلام، يعني منع التمسّك بالإطلاق في محل الكلام التقريب الأوّل له هو المتقدّم، التفسير الأوّل لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، والتقريب الثاني له هو هذا، فيكون تقريباً ثانياً في محل الكلام.
هل التقريب الثاني تام، أو غير تام ؟ هل يصح أن نمنع من التمسّك بإطلاق دليل، ومن الأخذ بظاهر دليل، هل يمنع منه الشكّ في القدرة على متعلّقه ؟ الشكّ في القدرة على متعلّقه الناشئ من الشك في دخوله في محل الابتلاء وخروجه عن محل الابتلاء، هذا هل يمنع من الأخذ بظهور الدليل، وبإطلاق الدليل، أو لا ؟ المحقق العراقي(قدّس سرّه) نفسه أجاب عن التقريب الثاني الذي هو ذكره لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وحاصل ما ذكره هو: ذكر عبارة غامضة جواباً عن هذا التقريب الثاني، قال:(أنّ شرطية القدرة العادية ــــــــــــ المقصود بالقدرة هو الدخول في محل الابتلاء ــــــــــــ في الخطابات الظاهرية إنّما يتم على القول بالموضوعية ــــــــــــ أي السببية ـــــــــــ في الأحكام الظاهرية). وأمّا بناءً على ما هو التحقيق عنده وعند غيره أيضاً وهو القول بالطريقية، لا يتم هذا التقريب الثاني، ويكون هو الجواب عنه، قال:(وأمّا على ما هو التحقيق فيها ــــــــــــ في الأحكام الظاهرية ــــــــــــ من الطريقية الراجعة إلى مجرّد الأمر بالبناء العملي على مطابقة الظهور للواقع من غير جعل تكليف حقيقي في البين؛ لأنّ مرجع الأمر المذكور إلى كونه منجّزاً للواقع على تقدير الإصابة).[1] روح الحكم الظاهري هو تنجيز الواقع على تقدير الإصابة، وعلى تقدير عدم الإصابة يكون حكماً صورياً، فهو ينجّز الواقع على تقدير الإصابة ويكون حكماً صورياً على تقدير عدم الإصابة. فبالنتيجة ما يريد أن يقوله هو: أنّ الأحكام الظاهرية بناءً على ما هو الصحيح من أنّها مجعولة على نحو الطريقية هي مجرّد منجّز للواقع على تقدير الإصابة، وعلى تقدير عدم الإصابة تكون حكماً صورياً، ومن الواضح أنّه مع الشك في القدرة على موضوع التكليف لا محذور في توجيه مثل هذا التكليف إلى المكلّف. ونكتة الجواب هي منع أن يكون الخطاب الظاهري كالخطاب الواقعي مشروطاً بالدخول في محل الابتلاء، التقريب مبني على افتراض أنّ الخطاب الظاهري كالخطاب الواقعي مشروط بالقدرة العادية، أو الدخول في محل الابتلاء، فتترتب هذه الأمور السابقة كلّها على هذا المبنى، فهو يريد أن ينكر هذا ويقول أنّ هناك فرقاً بين الخطاب الظاهري والخطاب الواقعي، الخطاب الواقعي يوجد فيه تكليف يُطلب فيه تحقيق شيء في الخارج يترتب عليه تحقق الغرض؛ حينئذٍ يقال إذا كان هذا الغرض متحققاً، فالتكليف بذلك الشيء يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل ومستهجناً؛ لأنّ التكليف الواقعي جيء به لتحقيق غرضٍ، فإذا كان هذا الغرض متحققاً، باعتبار أنّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، فالغرض من النهي عن شرب الخمر الذي هو الامتناع عن شربه خارجاً، أو عدم الوقوع في مفسدته متحقق بافتراض خروجه عن محل الابتلاء، فالنهي عنه حينئذٍ يكون مستهجناً ولغواً، فهذا هو منشأ تقييد الخطاب الظاهري بالقدرة العادية، وهذا صحيح في الخطاب الواقعي، وأمّا الخطاب الظاهري، فإن قلنا في الخطاب الظاهري بالسببية يكون حاله حال الخطاب الواقعي، أمّا إذا لم نقل بالسببية كما هو الصحيح وقلنا بالطريقية وأنّ الخطاب الظاهري منجّز للواقع فقط وليس أكثر من هذا، ليس فيه تكليف ولا يكون الغرض منه تحقيق شيءٍ في الخارج حتّى يقال أنّ هذا الشيء المعيّن متحقق بافتراض الخروج عن محل الابتلاء، فلا معنى لهذا التكليف ويكون تحصيلاً للحاصل، أو لغواً ومستهجناً، كلّ هذا الحديث حينئذٍ لا يرد في الخطاب الظاهري، وإنّما هو خطاب الغرض منه فقط تنجيز الواقع على تقدير المصادفة، ومثل هذا الخطاب أيّ ضير في أن يتوجّه إلى المكلّف بموضوع خارج عن محل ابتلائه ؟ لأنّه لا يطلب منه تحقيق غرضٍ حتى يقال أنّ هذا الغرض متحقق، هو لا يتضمّن تكليفاً، ما هو الضير في أن يتوجّه هذا الخطاب إلى المكلّف مع افتراض خروج هذا التكليف الخارجي عن محل الابتلاء ؟ فليكن خارجاً عن محل الابتلاء، الخطاب الظاهري غرضه أن ينجّز عليه الواقع على تقدير مصادفته للواقع، فلا يلزم تحصيل الحاصل واللّغوية والاستهجان؛ لأنّ كل هذه المحاذير مبنية على افتراض وجود تكليف يطلب من المكلّف تحقيق شيء، وهذا الشيء إذا تحقق في الخارج يترتب عليه الغرض، فيقال أنّ هذا الشيء إذا كان متحققاً أساساً بنفس الخروج عن محل الابتلاء، فالتكليف يكون تحصيلاً للحاصل ومستهجناً، بينما في الخطاب الظاهري إذا فُسّر بناءً على الطريقية بهذا التفسير لا يلزم هذا المحذور.
فإذن: الخطاب الظاهري ليس مشروطاً بالقدرة العاديّة، فإذا لم يكن مشروطاً بالقدرة العادية؛ فحينئذٍ لا مانع من التمسّك فيه بإطلاق الدليل في محل الكلام حتى عند الشك في دخول موضوعه في محل الابتلاء، أو خروجه عنه؛ لأنّ هذا الشك لا يعني الشك في إمكان الإطلاق وصحته؛ لأنّ الإطلاق والخطاب الظاهري ليس مشروطاً بالدخول في محل الابتلاء. هذا هو الجواب عن التقريب الثاني.
كان الكلام في حالات الشُك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وعدم خروجها. قلنا أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذهب إلى عدم جواز التمسّك بالإطلاق لإثبات فعلية التكليف في الفرد المشكوك من حيث كونه خارجاً عن محل الابتلاء، أو داخلاً في محل الابتلاء في الشبهة المفهومية. واستدل على ذلك بالدليل المتقدّم في الدرس السابق، وقلنا أنّ هذا الدليل أجيب عنه بجوابٍ حلّي وجواب نقضي، وانتهى الكلام إلى مناقشة المحقق العراقي(قدّس سرّه)، وحاصل ما يُفهم من كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه) هو كأنّه يُسلّم بهذه الأجوبة، لكن على تقدير تفسير كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بالتفسير المتقدّم الذي مرجعه إلى أنّه يشترط في جواز التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات إحراز إمكان الإطلاق وصحّته ثبوتاً، فمع الشكّ في إمكانه وصحّته ثبوتاً لا يجوز التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات. إذا فُسّر كلامه بهذا التفسير يرد عليه الجوابان اللّذان ذكرهما المحقق النائيني(قدّس سرّه)، الحلّي والنقضي، لكن المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول أنّ مقصود صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ليس هو هذا المطروح، يعني لا يريد أن يمنع من التمسّك بالإطلاق لإثبات الإطلاق في مقام الثبوت عند الشكّ في صحّته وإمكانه، هو ليس ناظراً إلى هذه الجهة، وإنّما فسّر كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) بتفسيرٍ آخر لا ترد عليه هذه الإيرادات النقضية والحلّية، وحاصل هذا التفسير هو: أنّ القدرة على موضوع التكليف سواء كانت قدرة عقلية أو قدرة عادية التي يُعبّر عنها بالدخول في محل الابتلاء، وبعبارة أخرى: فيما يرتبط بمحل كلامنا الدخول في محل الابتلاء، هذه كما هي شرط في التكليف الواقعي كذلك هي شرط في التكليف الظاهري، هذا التكليف الظاهري في محل كلامنا الدال على وجوب التعبّد بظهور الخطاب أيضاً مشروط بالقدرة على موضوع التكليف قدرة عقلية وقدرة عادية، وبناءً على هذا كما أنّ الخطاب الواقعي والتكليف الواقعي يكون مشكوكاً مع الشك في القدرة على موضوع التكليف كذلك الخطاب الظاهري يكون مشكوكاً يُشك في صحّة ثبوته عند الشك في القدرة على موضوع التكليف.
بعبارة أخرى: يريد أن يقول لا فرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، كما أنّ الحكم الواقعي بالاجتناب مشروط بالقدرة العادية على موضوع التكليف والدخول في محل الابتلاء كذلك وجوب الاجتناب الظاهري المستفاد من إطلاق الدليل أيضاً مشروط بالقدرة على موضوعه قدرة عقلية وقدرة عادية، أيضاً مشروط بالدخول في محل الابتلاء؛ فحينئذٍ لا فرق بينهما؛ لأنّ هذا الفرد المشكوك الذي يُشك في دخوله في محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء كما نشك في ثبوت الحكم الواقعي فيه، كذلك نشك في ثبوت الحكم الظاهري فيه؛ لأنّ كلاً منهما مشروط بالقدرة العادية، أو بعبارة أكثر وضوحاً: مشروط بالدخول في محل الابتلاء، فعند الشك في الدخول في محل الابتلاء وعدم الدخول يُشك في ثبوت ذلك الحكم. إذن: الفرد المشكوك كما يُشك في ثبوت الحكم الواقعي فيه كذلك يُشك في ثبوت الحكم الظاهري فيه؛ إذ لا فرق بين وجوب الاجتناب الواقعي، أو وجوب الاجتناب الظاهري من هذه الجهة، فكما يُستهجن ـــــــــــــ مثلاً ـــــــــــــ توجيه وجوب الاجتناب الواقعي إلى المكلّف مع خروج متعلّقه وموضوعه عن محل الابتلاء، كذلك يُستهجن بنفس المقدار توجيه الخطاب بوجوب الاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل ابتلائه ظاهراً، التكليف الواقعي بالاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل الابتلاء مستهجن، والتكليف الظاهري بالاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل الابتلاء أيضاً مستهجن، نفس الوجوه التي ذُكرت لإثبات استحالة توجيه التكليف بما هو خارج عن محل الابتلاء لا يُفرّق فيه بين وجوب الاجتناب الظاهري أو وجوب الاجتناب الواقعي، بالنتيجة هذا الموضوع خارج عن محل ابتلاء المكلّف، ولا يبتلي به عادةً، فالتكليف به مستهجن، سواء كان واقعياً، أو كان ظاهرياً، فإذا ثبتت هذه النقطة، أنّ التكليف الظاهري بالموضوع الخارج عن محل الابتلاء مستهجن ويلزم منه تحصيل الحاصل ...... الخ المحاذير المتقدّمة، إذا ثبت هذا؛ حينئذٍ يقال أنّه لا مجال حينئذٍ للتمسّك بالإطلاق لإثبات صحّة التكليف الظاهري بالفرد المشكوك عند الشك في القدرة عليه وعدم القدرة، وعند الشكّ في دخوله في محل الابتلاء، أو في خروجه عن محل الابتلاء، لا يصحّ التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يجوز عندما نحرز صحّة هذا الإطلاق وحجّيته، وهذا واضح، التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات إنّما يصح عندما نحرز إمكان هذا الإطلاق وصحّته وحجّيته؛ فحينئذٍ يمكن التمسّك بهذا الإطلاق الإثباتي. أمّا حيث نشكّ في إمكانه وصحّته وحجّيته، فلا مجال للتمسّك بهذا الإطلاق الإثباتي، وفي محل الكلام نحن نشكّ في هذه الأمور بالنسبة إلى الخطاب الظاهري المستفاد الذي يتوجّه إلى المكلّف، نحن نشك في إمكانه بالنسبة إلى هذا الطرف المشكوك؛ لأننا نشك في القدرة عليه وعدم القدرة، نشك في دخوله في محل الابتلاء حتّى يكون مقدوراً عليه عادة وعرفاً، وبين خروجه عن محل الابتلاء حتّى لا يكون مقدوراً، على تقدير أن يكون خارجاً عن محل الابتلاء التكليف الظاهري به غير صحيح وغير ممكن، كما نقول بالنسبة للتكليف الواقعي الفرد الخارج عن محل الابتلاء غير ممكن؛ للزوم الاستهجان وتحصيل الحاصل ....الخ، التكليف الظاهري بما هو خارج عن محل الابتلاء غير ممكن، فعند الشك في دخوله في محل الابتلاء أو خروجه عنه، يعني أننا نشك في إمكانه وفي صحّته، ومع الشك في صحّة الإطلاق كيف يمكن التمسّك بالإطلاق ؟! مع الشك في صحّة الإطلاق الإثباتي في مقام الإثبات، كيف يمكن التمسّك به، نشك في صحّته يعني نشك في حجّيته وفي إمكانه، كيف يمكن التمسّك بهذا الإطلاق في مقام الثبوت ؟ فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق في محل الكلام عند الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء أو في خروجها عن محل الابتلاء؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق فرع إحرازه وإحراز إمكانه وصحّته، ومع الشكّ في ذلك لا يحرز هذا المعنى، فلا يجوز التمسّك بالإطلاق. يقول: هذا هو مقصود صاحب الكفاية (قدّس سرّه) في العبارة المتقدّمة، لا يريد أن يقول لا يصح التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات لإحراز الإطلاق في مقام الثبوت عند الشك في القدرة العقلية، أو العادية، هو لا يريد أن يدّعي هذه الدعوة حتّى ترد عليه الأجوبة السابقة؛ بل هو يسلّم بأنّه لا مانع من التمسّك بالإطلاق الإثباتي لإحراز الإطلاق الثبوتي، ليس لديه مشكلة في هذا حتّى عند الشك في الإمكان وعدم الإمكان، وحتّى عند احتمال الاستحالة، فاحتمال الاستحالة لا يمنع من التمسّك بالإطلاق الإثباتي على ما تقدّم في الدرس السابق. يقول: هو غير ناظر إلى هذا، انتم تريدون أن تتمسّكوا بإطلاق دليل التكليف لإثبات فعلية التكليف في هذا الطرف المشكوك، هذا المدّعى في المقام، صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يقول هذا لا يصح؛ لأنّ الدخول في محل الابتلاء كما هو شرط في الخطاب الواقعي هو شرط في الخطاب الظاهري المستفاد من هذا الإطلاق، التكليف الظاهري بوجوب الاجتناب عن هذا الخمر مشروط بأن يكون داخلاً في محل الابتلاء، وصحّة التكليف الظاهري مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، وإمكان التكليف الظاهري مشروط بالدخول في محل الابتلاء، فعند الشك في الدخول في محل الابتلاء، يعني يُشك في إمكان الخطاب الظاهري وفي صحّته، يعني في صحّة الإطلاق، صحة الخطاب الظاهري تعني صحة الإطلاق وإمكان الإطلاق، ومع الشك في إمكان إطلاقٍ، وفي صحته لا يجوز التمسّك به؛ لأنّ الشك في إمكانه يعني الشك في حجيته، ومن الواضح أنّ التمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات يتوقف على إحراز حجيته وصحته وإمكانه، وعند الشك في دخول موضوعه في محل الابتلاء وفي خروجه عن محل الابتلاء لا يُحرز صحة وإمكان وحجية هذا الإطلاق حتى يمكن التمسّك به في المقام، وهذه قضية لا علاقة لها بإحراز الإطلاق في مقام الثبوت، غير ناظر إلى هذا؛ ولذا لا يرد الجوابان المتقدّمان الحلّي والنقضي على التفسير الثاني لصاحب الكفاية(قدّس سرّه)، لا نمنع إطلاقاً من التمسّك بالإطلاق حيث يصح ونحرز صحته وحجّيته وإمكانه، فلا مانع من التمسّك به لإثبات الإطلاق الثبوتي حتى عند الشك في الاستحالة والإمكان، لكن التمسّك بالإطلاق مع الشك في صحته ومع الشك في إمكانه لا يصح، والإطلاق والخطاب الظاهري يشك في إمكانه وصحته عند الشك في دخول موضوعه ومتعلقه في محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء؛ لأنّ الخطاب الظاهري كالخطاب الواقعي مشروط بالدخول في محل الابتلاء، فعندما نشك في أنّ موضوع هذا الخطاب الظاهري داخل في محل الابتلاء، أو خارج عنه، نحن نشك في إمكان الخطاب الظاهري وعدم إمكانه، فلا نحرز إمكانه ولا صحته حتى نتمسّك به في محل الكلام، ومن هنا لا يصح التمسّك بالإطلاق، وهذه هي دعوى صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
قد يقال: لغرض توضيح التفسير الثاني لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، قد يُعترض عليه بأنّه يمكن لنا أن نحرز إمكان هذا الخطاب الظاهري في المقام ونحرز صحّته؛ وذلك بنفس دليله، المشكلة لدينا هي أنّه كيف يمكن التمسّك بالإطلاق مع الشك في إمكانه وصحته. الآن قد يقال: يمكن إحراز إمكانه وصحّته عن طريق التمسّك بدليل هذا الحكم الظاهري؛ لأنّه دليل قطعي، فإذا احتملنا عدم صحة الخطاب الظاهري وعدم إمكانه من جهة أنّ المفروض أنّ موضوع هذا الحكم الظاهري يُشكّ في دخوله في محل الابتلاء وخروجه، فإذا كان داخلاً في محل الابتلاء، فالخطاب الظاهري ممكن، وإذا كان خارجاً، فالخطاب الظاهري غير ممكنٍ، فمع احتمال إمكانه وعدم إمكانه، ومع احتمال صحته وعدم صحته يمكن إثبات صحة هذا الخطاب وإمكانه بنفس دليله؛ لأنّ دليله قطعي؛ لأننا نعلم بأنّ كل الأحكام الظاهرية لابدّ أن تنتهي إلى القطع، وإطلاق الدليل هذا يدخل في باب الظواهر، فلابدّ أن يكون هناك دليل قطعي يدلّ على حجّية هذا الظهور، وهذا الدليل القطعي الدال على حجّية هذا الظهور وإمكان هذا الظهور، أو الإطلاق، يمكن التمسّك به عندما نشك في هذا المورد باعتبار الشك في دخول موضوعه في محل الابتلاء وخروجه عنه، أنّ هذا ممكن وصحيح، أو غير صحيح، الدليل القطعي الدال على حجّية هذا الخطاب الظاهري يمكن التمسّك به لإثبات الإمكان والصحة.
والجواب عنه هو: ليس لدينا دليل قطعي يدلّ على صحة الخطاب الظاهري وإمكانه، عملاً في الخارج ليس لدينا هكذا دليل قطعي؛ لأنّ الدليل على حجّية هذا الخطاب الظاهري المستفاد من الإطلاق هو بناء العقلاء كما هو الحال في كل الظواهر، الدليل على حجّية الظهور هو بناء العقلاء والسيرة العقلائية، والعقلاء عندما يلتفتون إلى هذه الجهة لا يوجد عندهم قطع بالحجّية؛ بل هم يشكون في الحجّية، إذا التفتوا إلى هذه الجهات:
الجهة الأولى: أنّ الخطاب الظاهري مشروط بالدخول في محل الابتلاء كالخطاب الواقعي.
الجهة الثانية: أنّه فعلاً نحن نفترض أنّ هناك شكّاً في أنّ موضوع الحكم الظاهري داخل في محل الابتلاء، أو غير داخل في محل الابتلاء؟
العقلاء إذا التفتوا إلى هذين الجهتين لا يحصل لهم قطع بحجّية هذا الخطاب الظاهري، لا يوجد دليل قطعي على حجّية الخطاب الظاهري حتى نتمسّك به لإثبات إمكانه في المقام وصحته؛ بل نفس الدليل الذي هو بناء العقلاء والسيرة هو يشك في حجّية هذا الخطاب وعدم حجّيته، لكن بعد الالتفات إلى هذين الجهتين، ففي المقام لا يوجد دليل قطعي على صحة هذا الخطاب الظاهري وإمكان الإطلاق في محل الكلام. هذا هو التفسير الثاني لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، أو نستطيع أن نقول التقريب الثاني لمنع التمسّك بالإطلاق في محل الكلام، يعني منع التمسّك بالإطلاق في محل الكلام التقريب الأوّل له هو المتقدّم، التفسير الأوّل لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، والتقريب الثاني له هو هذا، فيكون تقريباً ثانياً في محل الكلام.
هل التقريب الثاني تام، أو غير تام ؟ هل يصح أن نمنع من التمسّك بإطلاق دليل، ومن الأخذ بظاهر دليل، هل يمنع منه الشكّ في القدرة على متعلّقه ؟ الشكّ في القدرة على متعلّقه الناشئ من الشك في دخوله في محل الابتلاء وخروجه عن محل الابتلاء، هذا هل يمنع من الأخذ بظهور الدليل، وبإطلاق الدليل، أو لا ؟ المحقق العراقي(قدّس سرّه) نفسه أجاب عن التقريب الثاني الذي هو ذكره لكلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وحاصل ما ذكره هو: ذكر عبارة غامضة جواباً عن هذا التقريب الثاني، قال:(أنّ شرطية القدرة العادية ــــــــــــ المقصود بالقدرة هو الدخول في محل الابتلاء ــــــــــــ في الخطابات الظاهرية إنّما يتم على القول بالموضوعية ــــــــــــ أي السببية ـــــــــــ في الأحكام الظاهرية). وأمّا بناءً على ما هو التحقيق عنده وعند غيره أيضاً وهو القول بالطريقية، لا يتم هذا التقريب الثاني، ويكون هو الجواب عنه، قال:(وأمّا على ما هو التحقيق فيها ــــــــــــ في الأحكام الظاهرية ــــــــــــ من الطريقية الراجعة إلى مجرّد الأمر بالبناء العملي على مطابقة الظهور للواقع من غير جعل تكليف حقيقي في البين؛ لأنّ مرجع الأمر المذكور إلى كونه منجّزاً للواقع على تقدير الإصابة).[1] روح الحكم الظاهري هو تنجيز الواقع على تقدير الإصابة، وعلى تقدير عدم الإصابة يكون حكماً صورياً، فهو ينجّز الواقع على تقدير الإصابة ويكون حكماً صورياً على تقدير عدم الإصابة. فبالنتيجة ما يريد أن يقوله هو: أنّ الأحكام الظاهرية بناءً على ما هو الصحيح من أنّها مجعولة على نحو الطريقية هي مجرّد منجّز للواقع على تقدير الإصابة، وعلى تقدير عدم الإصابة تكون حكماً صورياً، ومن الواضح أنّه مع الشك في القدرة على موضوع التكليف لا محذور في توجيه مثل هذا التكليف إلى المكلّف. ونكتة الجواب هي منع أن يكون الخطاب الظاهري كالخطاب الواقعي مشروطاً بالدخول في محل الابتلاء، التقريب مبني على افتراض أنّ الخطاب الظاهري كالخطاب الواقعي مشروط بالقدرة العادية، أو الدخول في محل الابتلاء، فتترتب هذه الأمور السابقة كلّها على هذا المبنى، فهو يريد أن ينكر هذا ويقول أنّ هناك فرقاً بين الخطاب الظاهري والخطاب الواقعي، الخطاب الواقعي يوجد فيه تكليف يُطلب فيه تحقيق شيء في الخارج يترتب عليه تحقق الغرض؛ حينئذٍ يقال إذا كان هذا الغرض متحققاً، فالتكليف بذلك الشيء يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل ومستهجناً؛ لأنّ التكليف الواقعي جيء به لتحقيق غرضٍ، فإذا كان هذا الغرض متحققاً، باعتبار أنّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، فالغرض من النهي عن شرب الخمر الذي هو الامتناع عن شربه خارجاً، أو عدم الوقوع في مفسدته متحقق بافتراض خروجه عن محل الابتلاء، فالنهي عنه حينئذٍ يكون مستهجناً ولغواً، فهذا هو منشأ تقييد الخطاب الظاهري بالقدرة العادية، وهذا صحيح في الخطاب الواقعي، وأمّا الخطاب الظاهري، فإن قلنا في الخطاب الظاهري بالسببية يكون حاله حال الخطاب الواقعي، أمّا إذا لم نقل بالسببية كما هو الصحيح وقلنا بالطريقية وأنّ الخطاب الظاهري منجّز للواقع فقط وليس أكثر من هذا، ليس فيه تكليف ولا يكون الغرض منه تحقيق شيءٍ في الخارج حتّى يقال أنّ هذا الشيء المعيّن متحقق بافتراض الخروج عن محل الابتلاء، فلا معنى لهذا التكليف ويكون تحصيلاً للحاصل، أو لغواً ومستهجناً، كلّ هذا الحديث حينئذٍ لا يرد في الخطاب الظاهري، وإنّما هو خطاب الغرض منه فقط تنجيز الواقع على تقدير المصادفة، ومثل هذا الخطاب أيّ ضير في أن يتوجّه إلى المكلّف بموضوع خارج عن محل ابتلائه ؟ لأنّه لا يطلب منه تحقيق غرضٍ حتى يقال أنّ هذا الغرض متحقق، هو لا يتضمّن تكليفاً، ما هو الضير في أن يتوجّه هذا الخطاب إلى المكلّف مع افتراض خروج هذا التكليف الخارجي عن محل الابتلاء ؟ فليكن خارجاً عن محل الابتلاء، الخطاب الظاهري غرضه أن ينجّز عليه الواقع على تقدير مصادفته للواقع، فلا يلزم تحصيل الحاصل واللّغوية والاستهجان؛ لأنّ كل هذه المحاذير مبنية على افتراض وجود تكليف يطلب من المكلّف تحقيق شيء، وهذا الشيء إذا تحقق في الخارج يترتب عليه الغرض، فيقال أنّ هذا الشيء إذا كان متحققاً أساساً بنفس الخروج عن محل الابتلاء، فالتكليف يكون تحصيلاً للحاصل ومستهجناً، بينما في الخطاب الظاهري إذا فُسّر بناءً على الطريقية بهذا التفسير لا يلزم هذا المحذور.
فإذن: الخطاب الظاهري ليس مشروطاً بالقدرة العاديّة، فإذا لم يكن مشروطاً بالقدرة العادية؛ فحينئذٍ لا مانع من التمسّك فيه بإطلاق الدليل في محل الكلام حتى عند الشك في دخول موضوعه في محل الابتلاء، أو خروجه عنه؛ لأنّ هذا الشك لا يعني الشك في إمكان الإطلاق وصحته؛ لأنّ الإطلاق والخطاب الظاهري ليس مشروطاً بالدخول في محل الابتلاء. هذا هو الجواب عن التقريب الثاني.