36/04/17
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ خروج
بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
كان الكلام في محاولةٍ للمحقق العراقي(قدّس سرّه) لإثبات منجّزية العلم الإجمالي في موارد الشكّ في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو دخولها في محل الابتلاء بقطع النظر عن التمسّك بإطلاق دليل التكليف، يعني هذا طريق آخر غير مسألة التمسّك بإطلاق دليل التكليف، وكان حاصل هذه المحاولة على ما ذكرنا في الدرس السابق هو دعوى أننا وإن لم نكن نعلم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير؛ لأنّه لا يمكن التمسّك بإطلاق دليل التكليف في الفرد المشكوك لإثبات فعلية التكليف فيه، فلا علم لنا بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، لكن نحن نعلم بتكليفٍ فعليٍ على تقدير وتكليفٍ منجّزٍ على تقديرٍ آخر، فيكون هذا علماً بالتكليف المنجّز على كل تقدير وهذا يكفي لإثبات منجّزية العلم الإجمالي. أمّا أننا نعلم بتكليفٍ فعليٍ على تقدير، فواضح؛ لأنّه على تقدير أن يكون التكليف ثابت في الفرد الداخل في محل الابتلاء، فالتكليف فيه فعلي بلا إشكال، وعلى تقدير أن يكون التكليف ثابتاً في الفرد المشكوك هنا يدخله في باب الشكّ في القدرة، والشكّ في القدرة عندهم هو مورد للاحتياط ولحكم العقل بالتنجيز، وإدخاله الطرف المشكوك في باب الشك في القدرة، باعتبار أنّ الدخول في محل الابتلاء يعني القدرة على الامتثال، والخروج عن محل الابتلاء يعني عدم القدرة؛ لأنّه يُفسّر الخروج عن محل الابتلاء بعدم القدرة العرفية، والدخول في محل الابتلاء بالقدرة العرفية، فمع الشك في الدخول والخروج يُشكّ في القدرة العرفية على امتثال ذلك التكليف، فيكون ذاك الطرف داخلاً في موارد الشكّ في القدرة وهنا يحكم العقل بالتنجيز؛ لأنّ هذا هو الحكم المسلّم في باب الشكّ في القدرة، عندما يشك المكلّف في قدرته على امتثال التكليف، العقل يقول يجب عليك التصدّي لامتثاله، أو تحرز عدم القدرة عليه، أمّا بمجرّد أن تشكّ في القدرة على امتثال التكليف، هذا ليس مُعذّراً؛ بل لابدّ من التصدّي لامتثال ذلك التكليف، وهذا هو معنى المنجّزية. إذن: التكليف منجّز على كل تقدير.
الشيخ الكاظمي(قدّس سرّه) في فوائد الأصول نسب القول بالمنجّزية على هذا الأساس إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه)،[1] يعني ليس فقط المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول بالمنجّزية على اساس دخول المقام في باب الشكّ في القدرة، وإنّما قال أنّ هذا مختار شيخنا الأستاذ، يعني المحقق النائيني(قدّس سرّه)، لكنّه يقول أنا ناقشته في ذلك، ونقضت عليه بموارد الجزم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فتراجع عن رأيه وعدل عنه.
المهم في هذا الكلام هو أن نبيّن ما هو النقض الذي طرحه المحقق الكاظمي(قدّس سرّه) على هذه المحاولة. والنقض الذي ذكره هو: أنّه لو تمّ هذا الكلام وأردنا إثبات منجّزية العلم الإجمالي باعتبار الشكّ في القدرة لجرى عين هذا الكلام في موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أيضاً لابدّ أن نلتزم بمنجّزية العلم الإجمالي في موارد القطع بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والمفروض أنّهم لا يلتزمون بذلك، أساس البحث كلّه كان مبنياً على افتراض أنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء يوجب سقوط التكليف، فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، هو يقول أنّ نفس هذه الفكرة يمكن تطبيقها على موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، باعتبار أنّ الملاك معلوم إجمالاً، يعني ينتقل إلى مسألة الملاك لا إلى التكليف، يقول لنفترض أنّ التكليف معلوم العدم في الفرد الخارج عن محل الابتلاء، لكنّ الملاك ليس كذلك؛ لأنّ القدرة العادية التي هي محل كلامنا كالقدرة العقلية ليست دخيلة في الملاك، وإنّما هي دخيلة في التكليف وفي حسن توجيه الخطاب إلى المكلّف، المكلّف غير القادر لا يحسن توجيه التكليف إليه، لكنّها لا علاقة لها بالملاك، فهي ليست دخيلة في الملاك، حتّى لو فرضنا أنّ هذا عاجز عن امتثال التكليف عجزاً عرفياً، لكنّ هذا لا يعني انتفاء الملاك في ذاك الطرف على تقدير أن يكون التكليف فيه واقعاً، وإنّما يسقط التكليف ويسقط توجيه الخطاب إليه؛ لأنّه عاجز، لكن الملاك موجود، ولا يسقط الملاك بمجرّد العجز، وهذا معناه أنّ المكلّف يعلم علماً إجمالياً بثبوت الملاك، إمّا في هذا الطرف الداخل في محل الابتلاء، وإمّا في الطرف الذي يشك في خروجه أو دخوله في محل الابتلاء، فإذن: هو يعلم بالملاك، وبثبوت الملاك في محل الكلام، وإنّما يشك في قدرته على تحصيل ذلك الملاك وذلك الغرض للمولى، حيث أنّه لا يعلم أنّ هذا الغرض وذاك الملاك هل هو موجود في الطرف الداخل في محل الابتلاء، فهو قادر على الإتيان به، أو أنّ الملاك ثابت في الفرد الذي نعلم بخروجه عن محل الابتلاء حتّى لا يكون قادراً عليه، إذن: الشكّ يكون في القدرة مع العلم بالملاك في أحد الطرفين حتماً، مع العلم بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، لكن الملاك ثابت؛ لأنّ العجز ــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــ ليس دخيلاً في الملاك، وإنّما هو دخيل في الخطاب وفي التكليف. إذن: هو يعلم بثبوت الملاك في المقام في أحد الطرفين، وإنّما يشكّ في قدرته على تحصيله؛ لأنّ هذا الملاك إن كان موجوداً في الطرف الداخل في محل الابتلاء، فهو قادر على تحصيله، أمّا إن كان موجوداً في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فهو غير قادر على تحصيله. إذن: الشكّ في القدرة، فإذا كان الشكّ في القدرة؛ فحينئذٍ لابدّ أن نطبّق عليه نفس الفكرة ونلتزم بوجوب الاحتياط وبمنجّزية العلم الإجمالي بالرغم من العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. يقول: نقضت عليه بهذا النقض، فتراجع عن الفكرة، فإذن: هذا يُسجّل نقضاً على المحاولة التي ذكرها المحقق العراقي(قدّس سرّه)، أنّه ما هو الفرق بين موارد الشك في الخروج والدخول في محل الابتلاء التي هي محل كلامنا، وبين موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، في كلٍ منهما يكون هناك علم بالملاك وشك في القدرة على تحصيله؛ لأنّ الفكرة التي طرحها المحقق العراقي(قدّس سرّه) هي أنّ في هذا الطرف المشكوك المكلّف يشك في قدرته على الامتثال؛ لأنّ الفرد المشكوك إن كان داخلاً في محل الابتلاء، فهو قادر، وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو غير قادر. إذن: هو يشك في القدرة، والشكّ في القدرة لابدّ فيه من الاحتياط. هو يقول له: في موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أيضاً يكون شكاً في القدرة؛ لأنّ الملاك موجود ويعلم بوجوده في أحد الطرفين، وإنّما يشكّ في قدرته على تحصيله، فإذا دخل في باب الشك في القدرة، فلابدّ من الاحتياط ولابدّ من الالتزام بمنجّزية العلم الإجمالي، وهذا ما لا يلتزم به لا المحقق العراقي(قدّس سرّه)، ولا المحقق النائيني(قدّس سرّه)، كلٌ منهما يلتزم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية عند خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما تقدّم سابقاً. هذا هو النقض.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) في نهاية الأفكار ذكر هذا النقض وأجاب عنه: بأنّ هذا ناشئ من قلّة التأمّل،[2] يعني قياس ما نحن فيه على موارد القطع بخروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء هو قياس مع الفارق، باعتبار أنّ الشك في موارد القطع بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء هو شك في وجود الملاك في المقدور وليس شكّاً في القدرة، والعقل إنّما يحكم بالتنجيز وبالاحتياط في موارد الشكّ في القدرة لا في موارد الشك في وجود الملاك في المقدور.
توضيح ذلك: ما يحكم العقل بالتنجيز فيه هو الشكّ في موارد الشكّ في القدرة مع إحراز وجود الملاك، عندما نحرز وجود الملاك والمصلحة ونشكّ في القدرة؛ حينئذٍ هذا يكون من موارد حكم العقل بالتنجيز والاحتياط، لكن عندما نشكّ في القدرة على ما فيه الملاك، يعني إذا أحرزنا وجود الملاك والمصلحة في شيء وشككنا في أنّ المكلّف قادر على تحصيل هذه المصلحة والملاك، أو لا ؟ هذا يحكم العقل بعدم جوازه وبلزوم الاحتياط؛ لأنّ الملاك يمثّل غرض المولى، وغرض المولى لا يجوز تفويته بمجرّد الشك بقدرته على تحصيله؛ بل لابدّ أن يتصدّى لتحصيله إلى أنّ إما أن يُحصّله، أو يحصل له العلم بعدم القدرة، فيكون معذوراً، لكن ما دام شاكّاً في قدرته على تحصيل وعلى الإتيان بما فيه الملاك، العقل لا يعتبر هذا الشك مؤمّناً؛ بل يعتبره منجّزاً على المكلّف، فيجب عليه الاحتياط. هذا هو ما يحكم العقل بكونه منجّزاً. هذا المعنى متحقق في موارد الخروج عن محل الابتلاء والدخول في محل الابتلاء الذي هو محل كلامنا، الموضوع الذي يحكم فيه العقل بالتنجيز متحقق في محل الكلام، يعني في موارد الشك في الخروج عن محل الابتلاء، والدخول في محل الابتلاء، وذلك باعتبار أنّ الفرد المشكوك على تقدير أن يكون الملاك فيه، فهو يشكّ في القدرة عليه؛ لأنّ هذا الطرف المشكوك على تقدير أن يكون الملاك فيه هو يشك في أنّه داخل في محل الابتلاء حتّى يكون قادراً على تحصيله، أو خارج عن محل الابتلاء حتّى يكون عاجزاً عن تحصيله، فهو شك في القدرة في ما فيه الملاك والمصلحة، بمعنى أنّ الملاك على تقدير أن يكون موجوداً في الطرف المشكوك فهو يشكّ في القدرة عليه، فإذن: الشكّ في القدرة مع افتراض وجود الملاك. إذن: المكلّف عالم بوجود الملاك في أحد الطرفين ويشك في القدرة على تحصيله على تقدير وجوده في الطرف المشكوك، هذا هو مورد حكم العقل بالتنجيز وهو الذي يحكم فيه العقل بالاحتياط. وأمّا في مورد النقض، يعني في مورد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، يقول: موضوع حكم العقل بالتنجيز وبالاحتياط غير متحقق وهذا هو الفارق بينهما، في موارد العلم بخروج الطرف عن محل الابتلاء، موضوع الحكم العقلي الذي هو الشكّ في القدرة غير متحقق، في حالة العلم بخروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء لا يوجد شك في القدرة، وإنّما يوجد شك في وجود الملاك في المقدور؛ لأنّه على تقدير أن يكون الملاك متحققاً في الفرد الداخل في محل الابتلاء لا يوجد شك في القدرة؛ بل يوجد قطع بالقدرة على تحصيله، وعلى تقدير أن يكون الملاك متحققاً في الطرف الخارج عن محل الابتلاء أيضاً لا يوجد شك في القدرة، وإنّما هناك قطع بعدم القدرة عليه؛ لأنّ المفروض أنّه خارج عن محل الابتلاء ونعلم بخروجه عن محل الابتلاء، هذا هو مورد النقض. إذن: يدور الملاك بين أن يكون موجوداً في طرفٍ نعلم بالقدرة على تحصيله، أو موجوداً في طرفٍ نعلم بعدم القدرة على تحصيله، فأين الشكّ في القدرة حتّى يكون داخلاً في موضوع حكم العقل بالتنجيز وبالاحتياط؟ لا يوجد شك في القدرة، وإنّما مرجعه إلى أنّه يشك في وجود الملاك في الطرف المقدور، مثل هذا لا يحكم العقل بتنجيزه ولا يحكم بالاحتياط فيه، العقل إنّما يحكم بالاحتياط عند الشك في القدرة مع افتراض وجود الملاك؛ لأنّه يقول: مع افتراض وجود الملاك لابدّ من تحصيل ملاك المولى وتحقيق أغراضه، لا أنّه بمجرّد أن يشك في قدرته على تحصيله يجري البراءة، كلا، هنا مورد للاشتغال، لكن هذا يكون عند افتراض وجود الملاك والشك في القدرة على تحصيله، هذا المعنى متحقق في محل الكلام لأنّ المكلّف يشك في القدرة على تحصيل الغرض على تقدير أن يكون موجوداً في الطرف المشكوك، واقعاً يشك في قدرته على تحصيل الغرض على تقدير أن يكون الملاك موجوداً في الطرف المشكوك، لكن هذا المعنى غير متحقق في مورد النقض؛ لأنّه في مورد النقض لاشكّ في القدرة؛ لأنّه على أحد التقديرين هناك علم بالقدرة على تحقيق الغرض وعلى التقدير الآخر هناك علم بعدم القدرة على تحصيل الغرض، فأين الشكّ في القدرة ؟ فلا يمكن قياس مورد النقض على محل الكلام.
بناءً على تمامية هذا الجواب إلى هنا المحاولة التي ذكرها المحقق العراقي(قدّس سرّه) تكون تامّة، بمعنى أنّه يمكن الالتزام بمنجّزية العلم الإجمالي مع الشكّ في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بهذه المحاولة لا عن طريق التمسّك بإطلاق دليل الخطاب، وتثبت المنجّزية حينئذٍ في محل الكلام، ويفرّق حينئذٍ بين الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ودخوله، فيلتزم بالمنجّزية طبقاً لهذه المحاولة وبين العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فيُلتزم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية.
لكن هذه المحاولة التي ذكرها المحقق العراقي(قدّس سرّه) لإثبات منجّزية العلم الإجمالي في محل الكلام أجاب عنها السيد الشهيد(قدّس سرّه) بهذا الجواب،[3] قال: أنّ هذه المحاولة غير تامّة؛ لأنّه وقع فيها خلط بين الشك في القدرة على الامتثال وبين الشك في القدرة على العصيان، وهناك فرق بينهما، العقل إنّما يحكم بالتنجيز وبالاحتياط في موارد الشك في القدرة على الامتثال، أمّا في موارد الشكّ في العصيان، فلا معنى لفرض حكم العقل بالتنجيز وبالاحتياط، ومحل الكلام من قبيل الثاني، يعني في محل الكلام لا يوجد عندنا شك في القدرة على الامتثال حتّى يقال أنّ العقل يحكم فيه بالتنجيز وبالاحتياط، وإنّما يوجد عندنا شك في القدرة على العصيان لا على الامتثال.
توضيح الكلام: أنّ المكلّف إذا شكّ في قدرته على الغُسل، العقل هنا يحكم بلزوم التصدّي لتحصيل الغُسل، أي يحكم بالاشتغال، إلى أن إمّا أن يقدر عليه، فيأتي به، أو يتبيّن له أنّه غير قادر عليه، فيكون معذوراً، فإذا فرضنا أنّ وجوب الغُسل وقع طرفاً لعلم إجمالي، كما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً إمّا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو بوجوب الغُسل، وشكّ في قدرته على امتثال وجوب الغُسل، هنا الكلام الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) يكون تامّاً؛ لأنّ التكليف على أحد التقديرين يكون فعلياً، على تقدير أن يكون موجوداً في الدعاء عند رؤية الهلال؛ لأنّه مقدور وداخل في محل الابتلاء ولا يوجد شك في القدرة عليه، وإمّا أن يكون ثابتاً في الغُسل؛ وحينئذٍ أيضاً يكون منجّزاً؛ لأنّه شاك في القدرة على الامتثال، والعقل يحكم بتنجيزه ووجوب الاحتياط من ناحيته، فيكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزاً على كل حال، وإن كان شاكّاً في القدرة على امتثال هذا الطرف، والسر هو ما أشار إليه المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ القدرة العرفية كالقدرة العقلية غير دخيلة في الملاك، وإنّما هي دخيلة في الخطاب وفي حسن توجيه الخطاب. إذن: على تقدير عدم القدرة يسقط الخطاب لا الملاك، ومن هنا يكون الملاك موجوداً حتّى على تقدير عدم القدرة على الغُسل، فإذا شك في القدرة عليه، الملاك موجود والغرض موجود، فيحكم العقل بلزوم تحصيله، وحكم العقل بالتنجيز معناه لزوم التصدّي لتحصيل ذلك الغرض والإتيان بذلك الذي يشك في قدرته عليه إلى أن يُحصّله، أو يتبيّن له عدم القدرة، فيرتفع شكّه في القدرة. هذا هو معنى حكم العقل بالتنجيز، وهذا واضح جدّاً في موارد الشك في القدرة على الامتثال، لكنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، ما نحن فيه ليس من قبيل الشكّ في القدرة على الامتثال، وإنّما هو من قبيل الشكّ في القدرة على العصيان لا على الشك في القدرة على الامتثال، باعتبار أنّ في ما نحن فيه نحن لا نشك في القدرة على الامتثال، المكلّف على كل حال قادر على الامتثال حتّى مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، حتّى لو فرضنا أنّ هذا الطرف قطعاً كان خارجاً عن محل الابتلاء، الترك لا يحتاج إلى شيء فالمكلّف قادر على امتثاله، الشك ليس في قدرته على الامتثال في محل الكلام، هو يعلم بأنّ الحرام هو إمّا هذا الماء الموجود في هذا الإناء الداخل تحت محل ابتلائه، أو في الإناء الذي نعلم بخروجه عن محل الابتلاء، هذا التكليف على تقدير أن يكون ثابتاً في الخارج عن محل الابتلاء هو حرمة شرب الخمر، وهو قادر على ترك شرب الخمر، إذن: هو قادر على الامتثال حتّى مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، ليس الشك في المقام في القدرة على الامتثال أو عدم القدرة على الامتثال؛ لأنّه قادر على الامتثال حتماً في فرض العلم بخروج الطرف عن محل الابتلاء، فضلاً عن فرض الشك في خروجه ودخوله في محل الابتلاء، إذن: الشك في القدرة على الفعل، أي في القدرة على الشرب، يعني في القدرة على العصيان، بالنسبة إلى النهي الامتثال يكون بالترك، والعصيان يكون بالفعل، هو يشكّ في قدرته على شربه وليس في قدرته على ترك شربه، وإلاّ من الواضح أنّ ترك الشرب مقدور له بلا إشكال حتّى لو خرج عن محل الابتلاء. إذن: في محل الكلام المكلّف عندما يشك في أنّ هذا الطرف داخل في محل الابتلاء، أو خارج عن محل الابتلاء يعني يشكّ في قدرته على شرب ذلك المائع الموجود في ذلك الإناء؛ لأنّه على تقدير دخوله في محل الابتلاء، هو قادر على شربه، وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو ليس قادراً على شربه، وعدم القدرة هذه ليست عدم قدرة عقلية، وإنّما قدرة عرفية، أي ليس قادراً عرفاً على شربه؛ لأنّه موجود في مكان بعيد جدّاً، فالقدرة المشكوكة في محل الكلام ليست القدرة على الامتثال، وإنّما هي القدرة على العصيان، يقول : وفي حالة الشك في القدرة على العصيان لا معنى لأن يُلتزم بالتنجّز بحكم العقل على ضوء ما ذكره من أنّ التنجّز بحكم العقل معناه لزوم التصدّي لتحصيل الغرض، هذا معقول عند الشك في القدرة على الامتثال، وهذا المعنى لا يمكن تطبيقه عند الشك في العصيان؛ إذ ما معنى أن يقول عندما تشك في العصيان يجب عليك أن تتصدّى للعصيان ؟! هناك يمكن أن يقال أنّ هناك معنى لأن يحكم العقل بلزوم التصدّي للامتثال عند الشك في القدرة على الامتثال، أمّا عندما يشك المكلّف في القدرة على العصيان لا معنى لأن يحكم العقل بلزوم التصدّي للعصيان، لا معنى لذلك اصلاً. هذه هي الفكرة التي يقولها، أنّه في المقام ليس مورداً لحكم العقل بالاحتياط وبالتنجّز؛ لأنّ مورد حكم العقل بالاحتياط والتنجّز هو الشك في القدرة على الامتثال، وما نحن فيه ليس هكذا، وإنّما هو شك في القدرة على العصيان لا في القدرة على الامتثال. يقول: لو فرضنا أنّه بنا هناك في مورد الشك في القدرة على الامتثال في القدرة على الغُسل..... لو بنا على عدم القدرة من دون أن يتصدّى لتحصيله سوف يقع في محذور المخالفة، العقل يرفض هذا المعنى، بينما في موارد الشك في القدرة على العصيان لو بنا على عدم القدرة لا يوجد محذور المخالفة، هو شاك في أنّه قادر على العصيان بالنسبة إلى ذاك الإناء الموجود في أقصى بقاع الأرض، أو لا ؟ لو بنا على عدم القدرة، وتركه، فهل حينئذٍ يكون مخالفاً ؟ لا يكون مخالفاً كما كان يقع في محذور المخالفة عندما يشك في القدرة على الامتثال لو بنا على عدم القدرة، ومن هنا يكون هناك فارق بينهما، العقل لا يرى في هذا محذوراً ولا يحكم بلزوم الاحتياط والتنجّز؛ لأنّ غايته أن يبني على عدم القدرة، ويترك شرب ذلك الخمر لو بنا على عدم القدرة، هذا لا يوقعه في محذور المخالفة، بينما عند الشك في القدرة على الامتثال لو بنا على عدم القدرة سوف يقع في محذور المخالفة للتكليف المنجّز بحسب نظر العقل، ومن هنا يقول لا تكون هذه المحاولة تامّة.
كان الكلام في محاولةٍ للمحقق العراقي(قدّس سرّه) لإثبات منجّزية العلم الإجمالي في موارد الشكّ في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو دخولها في محل الابتلاء بقطع النظر عن التمسّك بإطلاق دليل التكليف، يعني هذا طريق آخر غير مسألة التمسّك بإطلاق دليل التكليف، وكان حاصل هذه المحاولة على ما ذكرنا في الدرس السابق هو دعوى أننا وإن لم نكن نعلم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير؛ لأنّه لا يمكن التمسّك بإطلاق دليل التكليف في الفرد المشكوك لإثبات فعلية التكليف فيه، فلا علم لنا بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، لكن نحن نعلم بتكليفٍ فعليٍ على تقدير وتكليفٍ منجّزٍ على تقديرٍ آخر، فيكون هذا علماً بالتكليف المنجّز على كل تقدير وهذا يكفي لإثبات منجّزية العلم الإجمالي. أمّا أننا نعلم بتكليفٍ فعليٍ على تقدير، فواضح؛ لأنّه على تقدير أن يكون التكليف ثابت في الفرد الداخل في محل الابتلاء، فالتكليف فيه فعلي بلا إشكال، وعلى تقدير أن يكون التكليف ثابتاً في الفرد المشكوك هنا يدخله في باب الشكّ في القدرة، والشكّ في القدرة عندهم هو مورد للاحتياط ولحكم العقل بالتنجيز، وإدخاله الطرف المشكوك في باب الشك في القدرة، باعتبار أنّ الدخول في محل الابتلاء يعني القدرة على الامتثال، والخروج عن محل الابتلاء يعني عدم القدرة؛ لأنّه يُفسّر الخروج عن محل الابتلاء بعدم القدرة العرفية، والدخول في محل الابتلاء بالقدرة العرفية، فمع الشك في الدخول والخروج يُشكّ في القدرة العرفية على امتثال ذلك التكليف، فيكون ذاك الطرف داخلاً في موارد الشكّ في القدرة وهنا يحكم العقل بالتنجيز؛ لأنّ هذا هو الحكم المسلّم في باب الشكّ في القدرة، عندما يشك المكلّف في قدرته على امتثال التكليف، العقل يقول يجب عليك التصدّي لامتثاله، أو تحرز عدم القدرة عليه، أمّا بمجرّد أن تشكّ في القدرة على امتثال التكليف، هذا ليس مُعذّراً؛ بل لابدّ من التصدّي لامتثال ذلك التكليف، وهذا هو معنى المنجّزية. إذن: التكليف منجّز على كل تقدير.
الشيخ الكاظمي(قدّس سرّه) في فوائد الأصول نسب القول بالمنجّزية على هذا الأساس إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه)،[1] يعني ليس فقط المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول بالمنجّزية على اساس دخول المقام في باب الشكّ في القدرة، وإنّما قال أنّ هذا مختار شيخنا الأستاذ، يعني المحقق النائيني(قدّس سرّه)، لكنّه يقول أنا ناقشته في ذلك، ونقضت عليه بموارد الجزم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فتراجع عن رأيه وعدل عنه.
المهم في هذا الكلام هو أن نبيّن ما هو النقض الذي طرحه المحقق الكاظمي(قدّس سرّه) على هذه المحاولة. والنقض الذي ذكره هو: أنّه لو تمّ هذا الكلام وأردنا إثبات منجّزية العلم الإجمالي باعتبار الشكّ في القدرة لجرى عين هذا الكلام في موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أيضاً لابدّ أن نلتزم بمنجّزية العلم الإجمالي في موارد القطع بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والمفروض أنّهم لا يلتزمون بذلك، أساس البحث كلّه كان مبنياً على افتراض أنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء يوجب سقوط التكليف، فلا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، هو يقول أنّ نفس هذه الفكرة يمكن تطبيقها على موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، باعتبار أنّ الملاك معلوم إجمالاً، يعني ينتقل إلى مسألة الملاك لا إلى التكليف، يقول لنفترض أنّ التكليف معلوم العدم في الفرد الخارج عن محل الابتلاء، لكنّ الملاك ليس كذلك؛ لأنّ القدرة العادية التي هي محل كلامنا كالقدرة العقلية ليست دخيلة في الملاك، وإنّما هي دخيلة في التكليف وفي حسن توجيه الخطاب إلى المكلّف، المكلّف غير القادر لا يحسن توجيه التكليف إليه، لكنّها لا علاقة لها بالملاك، فهي ليست دخيلة في الملاك، حتّى لو فرضنا أنّ هذا عاجز عن امتثال التكليف عجزاً عرفياً، لكنّ هذا لا يعني انتفاء الملاك في ذاك الطرف على تقدير أن يكون التكليف فيه واقعاً، وإنّما يسقط التكليف ويسقط توجيه الخطاب إليه؛ لأنّه عاجز، لكن الملاك موجود، ولا يسقط الملاك بمجرّد العجز، وهذا معناه أنّ المكلّف يعلم علماً إجمالياً بثبوت الملاك، إمّا في هذا الطرف الداخل في محل الابتلاء، وإمّا في الطرف الذي يشك في خروجه أو دخوله في محل الابتلاء، فإذن: هو يعلم بالملاك، وبثبوت الملاك في محل الكلام، وإنّما يشك في قدرته على تحصيل ذلك الملاك وذلك الغرض للمولى، حيث أنّه لا يعلم أنّ هذا الغرض وذاك الملاك هل هو موجود في الطرف الداخل في محل الابتلاء، فهو قادر على الإتيان به، أو أنّ الملاك ثابت في الفرد الذي نعلم بخروجه عن محل الابتلاء حتّى لا يكون قادراً عليه، إذن: الشكّ يكون في القدرة مع العلم بالملاك في أحد الطرفين حتماً، مع العلم بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، لكن الملاك ثابت؛ لأنّ العجز ــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــ ليس دخيلاً في الملاك، وإنّما هو دخيل في الخطاب وفي التكليف. إذن: هو يعلم بثبوت الملاك في المقام في أحد الطرفين، وإنّما يشكّ في قدرته على تحصيله؛ لأنّ هذا الملاك إن كان موجوداً في الطرف الداخل في محل الابتلاء، فهو قادر على تحصيله، أمّا إن كان موجوداً في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فهو غير قادر على تحصيله. إذن: الشكّ في القدرة، فإذا كان الشكّ في القدرة؛ فحينئذٍ لابدّ أن نطبّق عليه نفس الفكرة ونلتزم بوجوب الاحتياط وبمنجّزية العلم الإجمالي بالرغم من العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. يقول: نقضت عليه بهذا النقض، فتراجع عن الفكرة، فإذن: هذا يُسجّل نقضاً على المحاولة التي ذكرها المحقق العراقي(قدّس سرّه)، أنّه ما هو الفرق بين موارد الشك في الخروج والدخول في محل الابتلاء التي هي محل كلامنا، وبين موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، في كلٍ منهما يكون هناك علم بالملاك وشك في القدرة على تحصيله؛ لأنّ الفكرة التي طرحها المحقق العراقي(قدّس سرّه) هي أنّ في هذا الطرف المشكوك المكلّف يشك في قدرته على الامتثال؛ لأنّ الفرد المشكوك إن كان داخلاً في محل الابتلاء، فهو قادر، وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو غير قادر. إذن: هو يشك في القدرة، والشكّ في القدرة لابدّ فيه من الاحتياط. هو يقول له: في موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أيضاً يكون شكاً في القدرة؛ لأنّ الملاك موجود ويعلم بوجوده في أحد الطرفين، وإنّما يشكّ في قدرته على تحصيله، فإذا دخل في باب الشك في القدرة، فلابدّ من الاحتياط ولابدّ من الالتزام بمنجّزية العلم الإجمالي، وهذا ما لا يلتزم به لا المحقق العراقي(قدّس سرّه)، ولا المحقق النائيني(قدّس سرّه)، كلٌ منهما يلتزم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية عند خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما تقدّم سابقاً. هذا هو النقض.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) في نهاية الأفكار ذكر هذا النقض وأجاب عنه: بأنّ هذا ناشئ من قلّة التأمّل،[2] يعني قياس ما نحن فيه على موارد القطع بخروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء هو قياس مع الفارق، باعتبار أنّ الشك في موارد القطع بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء هو شك في وجود الملاك في المقدور وليس شكّاً في القدرة، والعقل إنّما يحكم بالتنجيز وبالاحتياط في موارد الشكّ في القدرة لا في موارد الشك في وجود الملاك في المقدور.
توضيح ذلك: ما يحكم العقل بالتنجيز فيه هو الشكّ في موارد الشكّ في القدرة مع إحراز وجود الملاك، عندما نحرز وجود الملاك والمصلحة ونشكّ في القدرة؛ حينئذٍ هذا يكون من موارد حكم العقل بالتنجيز والاحتياط، لكن عندما نشكّ في القدرة على ما فيه الملاك، يعني إذا أحرزنا وجود الملاك والمصلحة في شيء وشككنا في أنّ المكلّف قادر على تحصيل هذه المصلحة والملاك، أو لا ؟ هذا يحكم العقل بعدم جوازه وبلزوم الاحتياط؛ لأنّ الملاك يمثّل غرض المولى، وغرض المولى لا يجوز تفويته بمجرّد الشك بقدرته على تحصيله؛ بل لابدّ أن يتصدّى لتحصيله إلى أنّ إما أن يُحصّله، أو يحصل له العلم بعدم القدرة، فيكون معذوراً، لكن ما دام شاكّاً في قدرته على تحصيل وعلى الإتيان بما فيه الملاك، العقل لا يعتبر هذا الشك مؤمّناً؛ بل يعتبره منجّزاً على المكلّف، فيجب عليه الاحتياط. هذا هو ما يحكم العقل بكونه منجّزاً. هذا المعنى متحقق في موارد الخروج عن محل الابتلاء والدخول في محل الابتلاء الذي هو محل كلامنا، الموضوع الذي يحكم فيه العقل بالتنجيز متحقق في محل الكلام، يعني في موارد الشك في الخروج عن محل الابتلاء، والدخول في محل الابتلاء، وذلك باعتبار أنّ الفرد المشكوك على تقدير أن يكون الملاك فيه، فهو يشكّ في القدرة عليه؛ لأنّ هذا الطرف المشكوك على تقدير أن يكون الملاك فيه هو يشك في أنّه داخل في محل الابتلاء حتّى يكون قادراً على تحصيله، أو خارج عن محل الابتلاء حتّى يكون عاجزاً عن تحصيله، فهو شك في القدرة في ما فيه الملاك والمصلحة، بمعنى أنّ الملاك على تقدير أن يكون موجوداً في الطرف المشكوك فهو يشكّ في القدرة عليه، فإذن: الشكّ في القدرة مع افتراض وجود الملاك. إذن: المكلّف عالم بوجود الملاك في أحد الطرفين ويشك في القدرة على تحصيله على تقدير وجوده في الطرف المشكوك، هذا هو مورد حكم العقل بالتنجيز وهو الذي يحكم فيه العقل بالاحتياط. وأمّا في مورد النقض، يعني في مورد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، يقول: موضوع حكم العقل بالتنجيز وبالاحتياط غير متحقق وهذا هو الفارق بينهما، في موارد العلم بخروج الطرف عن محل الابتلاء، موضوع الحكم العقلي الذي هو الشكّ في القدرة غير متحقق، في حالة العلم بخروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء لا يوجد شك في القدرة، وإنّما يوجد شك في وجود الملاك في المقدور؛ لأنّه على تقدير أن يكون الملاك متحققاً في الفرد الداخل في محل الابتلاء لا يوجد شك في القدرة؛ بل يوجد قطع بالقدرة على تحصيله، وعلى تقدير أن يكون الملاك متحققاً في الطرف الخارج عن محل الابتلاء أيضاً لا يوجد شك في القدرة، وإنّما هناك قطع بعدم القدرة عليه؛ لأنّ المفروض أنّه خارج عن محل الابتلاء ونعلم بخروجه عن محل الابتلاء، هذا هو مورد النقض. إذن: يدور الملاك بين أن يكون موجوداً في طرفٍ نعلم بالقدرة على تحصيله، أو موجوداً في طرفٍ نعلم بعدم القدرة على تحصيله، فأين الشكّ في القدرة حتّى يكون داخلاً في موضوع حكم العقل بالتنجيز وبالاحتياط؟ لا يوجد شك في القدرة، وإنّما مرجعه إلى أنّه يشك في وجود الملاك في الطرف المقدور، مثل هذا لا يحكم العقل بتنجيزه ولا يحكم بالاحتياط فيه، العقل إنّما يحكم بالاحتياط عند الشك في القدرة مع افتراض وجود الملاك؛ لأنّه يقول: مع افتراض وجود الملاك لابدّ من تحصيل ملاك المولى وتحقيق أغراضه، لا أنّه بمجرّد أن يشك في قدرته على تحصيله يجري البراءة، كلا، هنا مورد للاشتغال، لكن هذا يكون عند افتراض وجود الملاك والشك في القدرة على تحصيله، هذا المعنى متحقق في محل الكلام لأنّ المكلّف يشك في القدرة على تحصيل الغرض على تقدير أن يكون موجوداً في الطرف المشكوك، واقعاً يشك في قدرته على تحصيل الغرض على تقدير أن يكون الملاك موجوداً في الطرف المشكوك، لكن هذا المعنى غير متحقق في مورد النقض؛ لأنّه في مورد النقض لاشكّ في القدرة؛ لأنّه على أحد التقديرين هناك علم بالقدرة على تحقيق الغرض وعلى التقدير الآخر هناك علم بعدم القدرة على تحصيل الغرض، فأين الشكّ في القدرة ؟ فلا يمكن قياس مورد النقض على محل الكلام.
بناءً على تمامية هذا الجواب إلى هنا المحاولة التي ذكرها المحقق العراقي(قدّس سرّه) تكون تامّة، بمعنى أنّه يمكن الالتزام بمنجّزية العلم الإجمالي مع الشكّ في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بهذه المحاولة لا عن طريق التمسّك بإطلاق دليل الخطاب، وتثبت المنجّزية حينئذٍ في محل الكلام، ويفرّق حينئذٍ بين الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ودخوله، فيلتزم بالمنجّزية طبقاً لهذه المحاولة وبين العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فيُلتزم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية.
لكن هذه المحاولة التي ذكرها المحقق العراقي(قدّس سرّه) لإثبات منجّزية العلم الإجمالي في محل الكلام أجاب عنها السيد الشهيد(قدّس سرّه) بهذا الجواب،[3] قال: أنّ هذه المحاولة غير تامّة؛ لأنّه وقع فيها خلط بين الشك في القدرة على الامتثال وبين الشك في القدرة على العصيان، وهناك فرق بينهما، العقل إنّما يحكم بالتنجيز وبالاحتياط في موارد الشك في القدرة على الامتثال، أمّا في موارد الشكّ في العصيان، فلا معنى لفرض حكم العقل بالتنجيز وبالاحتياط، ومحل الكلام من قبيل الثاني، يعني في محل الكلام لا يوجد عندنا شك في القدرة على الامتثال حتّى يقال أنّ العقل يحكم فيه بالتنجيز وبالاحتياط، وإنّما يوجد عندنا شك في القدرة على العصيان لا على الامتثال.
توضيح الكلام: أنّ المكلّف إذا شكّ في قدرته على الغُسل، العقل هنا يحكم بلزوم التصدّي لتحصيل الغُسل، أي يحكم بالاشتغال، إلى أن إمّا أن يقدر عليه، فيأتي به، أو يتبيّن له أنّه غير قادر عليه، فيكون معذوراً، فإذا فرضنا أنّ وجوب الغُسل وقع طرفاً لعلم إجمالي، كما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً إمّا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو بوجوب الغُسل، وشكّ في قدرته على امتثال وجوب الغُسل، هنا الكلام الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) يكون تامّاً؛ لأنّ التكليف على أحد التقديرين يكون فعلياً، على تقدير أن يكون موجوداً في الدعاء عند رؤية الهلال؛ لأنّه مقدور وداخل في محل الابتلاء ولا يوجد شك في القدرة عليه، وإمّا أن يكون ثابتاً في الغُسل؛ وحينئذٍ أيضاً يكون منجّزاً؛ لأنّه شاك في القدرة على الامتثال، والعقل يحكم بتنجيزه ووجوب الاحتياط من ناحيته، فيكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزاً على كل حال، وإن كان شاكّاً في القدرة على امتثال هذا الطرف، والسر هو ما أشار إليه المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ القدرة العرفية كالقدرة العقلية غير دخيلة في الملاك، وإنّما هي دخيلة في الخطاب وفي حسن توجيه الخطاب. إذن: على تقدير عدم القدرة يسقط الخطاب لا الملاك، ومن هنا يكون الملاك موجوداً حتّى على تقدير عدم القدرة على الغُسل، فإذا شك في القدرة عليه، الملاك موجود والغرض موجود، فيحكم العقل بلزوم تحصيله، وحكم العقل بالتنجيز معناه لزوم التصدّي لتحصيل ذلك الغرض والإتيان بذلك الذي يشك في قدرته عليه إلى أن يُحصّله، أو يتبيّن له عدم القدرة، فيرتفع شكّه في القدرة. هذا هو معنى حكم العقل بالتنجيز، وهذا واضح جدّاً في موارد الشك في القدرة على الامتثال، لكنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، ما نحن فيه ليس من قبيل الشكّ في القدرة على الامتثال، وإنّما هو من قبيل الشكّ في القدرة على العصيان لا على الشك في القدرة على الامتثال، باعتبار أنّ في ما نحن فيه نحن لا نشك في القدرة على الامتثال، المكلّف على كل حال قادر على الامتثال حتّى مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، حتّى لو فرضنا أنّ هذا الطرف قطعاً كان خارجاً عن محل الابتلاء، الترك لا يحتاج إلى شيء فالمكلّف قادر على امتثاله، الشك ليس في قدرته على الامتثال في محل الكلام، هو يعلم بأنّ الحرام هو إمّا هذا الماء الموجود في هذا الإناء الداخل تحت محل ابتلائه، أو في الإناء الذي نعلم بخروجه عن محل الابتلاء، هذا التكليف على تقدير أن يكون ثابتاً في الخارج عن محل الابتلاء هو حرمة شرب الخمر، وهو قادر على ترك شرب الخمر، إذن: هو قادر على الامتثال حتّى مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، ليس الشك في المقام في القدرة على الامتثال أو عدم القدرة على الامتثال؛ لأنّه قادر على الامتثال حتماً في فرض العلم بخروج الطرف عن محل الابتلاء، فضلاً عن فرض الشك في خروجه ودخوله في محل الابتلاء، إذن: الشك في القدرة على الفعل، أي في القدرة على الشرب، يعني في القدرة على العصيان، بالنسبة إلى النهي الامتثال يكون بالترك، والعصيان يكون بالفعل، هو يشكّ في قدرته على شربه وليس في قدرته على ترك شربه، وإلاّ من الواضح أنّ ترك الشرب مقدور له بلا إشكال حتّى لو خرج عن محل الابتلاء. إذن: في محل الكلام المكلّف عندما يشك في أنّ هذا الطرف داخل في محل الابتلاء، أو خارج عن محل الابتلاء يعني يشكّ في قدرته على شرب ذلك المائع الموجود في ذلك الإناء؛ لأنّه على تقدير دخوله في محل الابتلاء، هو قادر على شربه، وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو ليس قادراً على شربه، وعدم القدرة هذه ليست عدم قدرة عقلية، وإنّما قدرة عرفية، أي ليس قادراً عرفاً على شربه؛ لأنّه موجود في مكان بعيد جدّاً، فالقدرة المشكوكة في محل الكلام ليست القدرة على الامتثال، وإنّما هي القدرة على العصيان، يقول : وفي حالة الشك في القدرة على العصيان لا معنى لأن يُلتزم بالتنجّز بحكم العقل على ضوء ما ذكره من أنّ التنجّز بحكم العقل معناه لزوم التصدّي لتحصيل الغرض، هذا معقول عند الشك في القدرة على الامتثال، وهذا المعنى لا يمكن تطبيقه عند الشك في العصيان؛ إذ ما معنى أن يقول عندما تشك في العصيان يجب عليك أن تتصدّى للعصيان ؟! هناك يمكن أن يقال أنّ هناك معنى لأن يحكم العقل بلزوم التصدّي للامتثال عند الشك في القدرة على الامتثال، أمّا عندما يشك المكلّف في القدرة على العصيان لا معنى لأن يحكم العقل بلزوم التصدّي للعصيان، لا معنى لذلك اصلاً. هذه هي الفكرة التي يقولها، أنّه في المقام ليس مورداً لحكم العقل بالاحتياط وبالتنجّز؛ لأنّ مورد حكم العقل بالاحتياط والتنجّز هو الشك في القدرة على الامتثال، وما نحن فيه ليس هكذا، وإنّما هو شك في القدرة على العصيان لا في القدرة على الامتثال. يقول: لو فرضنا أنّه بنا هناك في مورد الشك في القدرة على الامتثال في القدرة على الغُسل..... لو بنا على عدم القدرة من دون أن يتصدّى لتحصيله سوف يقع في محذور المخالفة، العقل يرفض هذا المعنى، بينما في موارد الشك في القدرة على العصيان لو بنا على عدم القدرة لا يوجد محذور المخالفة، هو شاك في أنّه قادر على العصيان بالنسبة إلى ذاك الإناء الموجود في أقصى بقاع الأرض، أو لا ؟ لو بنا على عدم القدرة، وتركه، فهل حينئذٍ يكون مخالفاً ؟ لا يكون مخالفاً كما كان يقع في محذور المخالفة عندما يشك في القدرة على الامتثال لو بنا على عدم القدرة، ومن هنا يكون هناك فارق بينهما، العقل لا يرى في هذا محذوراً ولا يحكم بلزوم الاحتياط والتنجّز؛ لأنّ غايته أن يبني على عدم القدرة، ويترك شرب ذلك الخمر لو بنا على عدم القدرة، هذا لا يوقعه في محذور المخالفة، بينما عند الشك في القدرة على الامتثال لو بنا على عدم القدرة سوف يقع في محذور المخالفة للتكليف المنجّز بحسب نظر العقل، ومن هنا يقول لا تكون هذه المحاولة تامّة.