36/05/05
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ ملاقي
أحد أطراف العلم الإجمالي.
بقي الكلام في الاعتراض الثالث على الوجه الأوّل وقد تقدّم الاستدلال عليه، كان الاعتراض يرتبط بعدم وجود طولية وعدم وجود حكومة بين الأصل في الملاقي والملاقى، فضلاً عن الطولية بين الأصل في الملاقي والأصل في الطرف الآخر، حتّى الأصل في الملاقي لا توجد طولية بينه وبين الأصل في الملاقى ولا حكومة؛ لأننّا قلنا أنّ الطولية هي من نتائج الحكومة ولا حكومة بين الأصلين لخصوصية في محل الكلام، وهي أنّ الأصل الذي نتكلّم عنه هو أصالة الطهارة، وأصالة الطهارة في الملاقى لا تحكم على أصالة الطهارة في الملاقي؛ لأنّ ملاك الحكومة إمّا النظر وإمّا رفع الموضوع تعبّداً، وكلٌ منهما غير ثابتٍ بالنسبة إلى أصالة الطهارة، فيكون هذا هو الاعتراض الثالث على الوجه الأوّل، ومن هنا يظهر أنّ الوجه الأوّل غير تام.
الوجه الثاني: للمانع عن تنجيز العلم الإجمالي الثاني لوجوب الاجتناب عن الملاقي. قلنا أنّ لدينا علم إجمالي ثانٍ، والملاقي طرف فيه، ومقتضى القواعد العامّة أنّ هذا العلم الإجمالي الثاني ينجّز وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّه طرف في هذا العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي ينجز كلا الطرفين، هذه القاعدة الأوّلية، فهل هناك ما يمنع من هذا التنجيز ؟ قلنا أنّ المانع قد يبيّن بوجوه، الوجه الأوّل لبيان المانع تقدّم.
الوجه الثاني: لبيان المانع، وهو ما عن المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ذُكر في تقريرات درسه بيان المانع بهذا الشكل:[1] أنّ العلم الإجمالي الثاني يشترك مع العلم الإجمالي الأوّل في طرفٍ وهو الطرف الآخر، فالطرف الآخر طرف في العلم الإجمالي الأوّل، وهو طرف في العلم الإجمالي الثاني، إذن: هذان علمان إجماليان يشتركان في طرفٍ؛ وحينئذٍ يدخل في كبرى كلّية يذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه) وطبّقها في محل الكلام، هذه الكبرى تقول: أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً وصالحاً للتنجيز إذا كان في بعض أطرافه ما يثبت التكليف، سواء كان دليلاً، أو أصلاً شرعياً، أو حتى إذا كان أصلاً عقلياً كقاعدة الاشتغال، وممّا يثبت التكليف في أحد الطرفين هو كون ذلك الطرف طرفاً لعلمٍ إجمالي ثانٍ. طبّق هذه الكبرى في محل الكلام، وذكر أنّ هذا الشيء الذي يثبت التكليف في أحد الطرفين حتّى لو كان أصلاً عقلياً، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي إذا كان أحد أطرافه فيه ما يثبت التكليف، باعتبار أنّ هذا الطرف الذي فيه ما يثبت التكليف لا يجري فيه الأصل المؤمّن، فإذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي يجري فيه استصحاب التكليف، أو الأمارة على التكليف، فهذا يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز؛ لأنّ هذا الطرف الذي فيه ما يثبت التكليف لا يمكن أن يجري فيه الأصل المؤمّن، فإذا لم يجرِ فيه الأصل المؤمّن جري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارض، طبّق هذا في محل الكلام بأن افترض أنّ كون أحد الطرفين طرفاً لعلمٍ إجمالي سابقٍ معناه أنّ هذا الطرف تنجّز فيه التكليف في مرحلةٍ سابقةٍ وهو الطرف الآخر في محل كلامنا؛ لأننا قلنا أنّ الطرف الآخر طرف مشترك، يعني يدخل طرفاً في كلا العلمين، بالعلم الإجمالي الأوّل تنجّز التكليف فيه في الطرف الآخر، إذن: هذا الطرف الآخر فيه ما يثبت التكليف وينجّزه، وهذا يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن التنجيز، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، فإذن: لا توجد مشكلة من ناحية العلم الإجمالي الثاني؛ لأنّه لا يستطيع أن ينجّز وجوب الاجتناب في الملاقي؛ لأنّ الملاقي يجري فيه الأصل المؤمّن بلا معارض، فنتمسّك بالأصل المؤمّن لإثبات عدم وجوب الاجتناب عنه، فالعلم الإجمالي الثاني لم ينفعنا شيئاً لإثبات التنجيز في الملاقي؛ لأنّ المفروض في محل الكلام أنّ الطرف الآخر كما هو طرف للعلم الإجمالي الثاني هو طرف للعلم الإجمالي الأوّل، وكونه طرفاً للعلم الإجمالي الأوّل معناه أنّه تنجز فيه التكليف بمقتضى العلم الإجمالي بعد تعميم هذه الكبرى الكلّية لما إذا كان ما يثبت التكليف في أحد الطرفين أصلاً عقلياً كأصالة الاشتغال كما هو الحال في المقام، العلم الإجمالي ينجّز التكليف عقلاً في الطرف الآخر فإذا تنجّز فيه التكليف لا يمكن أن يجري فيه الأصل المؤمّن، فإذا لم يجرِ فيه الأصل المؤمّن جرى الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارضٍ.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) لاحظ على هذا الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ هذا الوجه لا ينسجم مع المسلك الذي يؤمن به المحقق النائيني(قدّس سرّه)[2] وهو مسلك الاقتضاء، وإنّما ينسجم مع مسلك العلّية الذي يؤمن به المحقق العراقي(قدّس سرّه)، وعدم انسجامه مع مسلك الاقتضاء باعتبار أنّه على مسلك الاقتضاء يكفينا لإثبات عدم تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقي أن نقول أنّ الأصل يجري في الملاقي بلا معارض؛ لسقوط الأصل في الطرف الآخر بمعارضته بالأصل في الملاقى، الأصل في الطرف الآخر ساقط؛ لأنّه تعارض مع الأصل في الملاقى في مرتبةٍ سابقةٍ، فسقط الأصل في الطرف الآخر، فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض، وهذا يكفي لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.
أو بعبارةٍ أخرى: جريان الأصل في الملاقي بلا معارض يكفي لإثبات عدم تنجيز هذا العلم الإجمالي لوجوب الاجتناب عن الملاقي على مسلك الاقتضاء؛ لأنّه على مسلك الاقتضاء لا يثبت التنجيز، إلاّ إذا تعارض الأصلان في الطرفين؛ حينئذٍ ينجّز العلم الإجمالي كلا الطرفين، أمّا إذا كان الأصل يجري في أحد الطرفين دون الآخر يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز. إذن: إثبات جريان الأصل في الملاقي بلا معارض يكفي لإثبات عدم تنجيز العلم الإجمالي الثاني لوجوب الاجتناب عن الملاقي، وهذا يكفي في أن نقول أنّ الأصل لا يجري في الطرف الآخر؛ لأنّه سقط بالمعارضة مع الأصل في الملاقى، ولا يتوقف إثبات المقصود في المقام، وهو عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، على إسقاط اقتضاء العلم الإجمالي الثاني بالمرّة. وبعبارةٍ أخرى لا يتوقف على انحلال العلم الإجمالي الثاني، لماذا نلتزم بأنّ العلم الإجمالي الثاني لا يكون له اقتضاء التنجيز كما هو ظاهر كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) ؟ كأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد أن يقول أنّ العلم الإجمالي الثاني لا يبقى له اقتضاء التنجيز، وهو معنى الانحلال كما سنبيّن، يدّعي انحلال هذا العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، فلا يبقى له اقتضاء التنجيز. المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول: لا داعي لإسقاط العلم الإجمالي الثاني عن كونه مقتضٍ للتنجيز، وإنّما يبقى علم إجمالي تام كالعلوم الإجمالية الأخرى يقتضي التنجيز، غاية الأمر أنّه اقترن بهذا المقتضي مانع يمنع من تأثير هذا الاقتضاء فعلاً في التنجيز، وهذا المانع هو جريان الأصل في هذا الطرف بلا معارض، العلم الإجمالي على مسلك الاقتضاء مقتضٍ للتنجيز إذا احتفّ بعدم المانع ويؤثر فعلاً بالتنجيز، أمّا إذا وجد المانع؛ فحينئذٍ لا يكون مؤثراً في التنجيز، ولكن هذا ليس معناه أنّ العلم الإجمالي ليس فيه اقتضاء التنجيز؛ بل فيه اقتضاء التنجيز، لكنّ اقتضاء التنجيز ليس مؤثراً في التنجيز فعلاً لوجود المانع، والمانع هو جريان الأصل في هذا الطرف، أي في الملاقي بلا معارض، وهذا يمنع من تأثير العلم الإجمالي الثاني في التنجيز. يقول: على مسلك الاقتضاء لا يتوقف إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي وإسقاط العلم الإجمالي عن تنجيزه لوجوب الاجتناب عن الملاقي...... لا يتوقف على انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل؛ بل يمكن أن نلتزم ببقاء العلم الإجمالي الثاني على حاله، ونلتزم ببقائه مقتضٍ للتنجيز، لكنّ وجد مانع يمنع من تأثير هذا الاقتضاء في التنجيز فعلاً، وهو جريان الأصل في الملاقي بلا معارض؛ لأنّ المعارض له هو أصالة الطهارة في الطرف الآخر وقد سقطت في مرحلة سابقة بمعارضتها لأصالة الطهارة في الملاقى.
هذه الملاحظة للمحقق العراقي(قدّس سرّه)، كأنّه فهم من كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّه يدّعي انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل كما سنبيّن، ويُطبّق القاعدة التي تقول أنّ العلم الإجمالي ينحل، ولو انحلالاً حكمياً بوجود ما ينجّز التكليف في أحد أطرافه، هذه القاعدة الكلّية التي محل كلامنا هو أحد مصاديقها، أو أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ادّعى أنّ محل الكلام مصداق لهذه القاعدة، القاعدة تقول: أنّ العلم الإجمالي إنّما يبقى على تنجيزه إذا لم يكن في أحد أطرافه ما يثبت التكليف، أمّا إذا كان في أحد أطرافه ما يثبت التكليف ولو كان أصلاً عقلياً؛ حينئذٍ ينحل هذا العلم الإجمالي ولا يكون منجّزاً ولا يكون فيه اقتضاء التنجيز؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون له اقتضاء التنجيز إذا كان علماً بالتكليف الفعلي المنجّز على كل تقدير، هذا هو الذي يكون فيه اقتضاء التنجيز على مسلك الاقتضاء ويكون علّة للتنجيز على مسلّك العلّية، ومع وجود ما ينجز التكليف في أحد طرفيه لا يبقى لدينا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير؛ لأنّه على أحد التقديرين لا يوجد تكليف، وإنّما التكليف محتمل في الطرف الآخر على التقدير الآخر، ومن هنا يقول: إذا وُجد في أحد طرفي العلم الإجمالي ما يثبت التكليف، هذا العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز، يعني لا يبقى فيه اقتضاء التنجيز، وهو معنى الانحلال، فهو يدّعي الانحلال في المقام، وهكذا فهم منه المحقق العراقي(قدّس سرّه) انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل؛ فحينئذٍ لا يكون مؤثراً، وبالنتيجة يجوز إجراء الأصل في الملاقي بلا معارض.
يبقى ما هو الفرق بين هذا الوجه الأوّل الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) والوجه الأوّل الذي ذكره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) ؟ الفرق هو أنّ الوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) وكذا بعض الوجوه الآتية تسلّم عدم انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، وبقاءه على حاله، فهو لا ينحلّ حقيقةً ولا حكماً، ويبقى فيه اقتضاء التأثير ـــــــــــ الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) يبني على مسلك الاقتضاء ـــــــــــــ غاية الأمر أنّ هذا الاقتضاء احتفّ بالمانع الذي يمنع من تأثير هذا المقتضي في الـتنجيز فعلاً، والمانع هو جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، فيبقى العلم الإجمالي على اقتضائه ولا ينحل بالعلم الإجمالي الأوّل، ويترتّب على هذا الوجه الأوّل أنّه لو لم تكن هناك أصول مؤمّنة شرعية يمكن إجراءها في الملاقي ـــــــــ فرضاً ــــــــــ حينئذٍ لا يمكن إجراء البراءة العقلية في هذا الطرف؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي باقٍ على اقتضائه للتنجيز، ومع بقاء العلم الإجمالي على اقتضائه للتنجيز؛ حينئذٍ لا يمكن الرجوع إلى البراءة العقلية. نعم، يمكن الرجوع إلى البراءة الشرعية، إذا جرت أصالة الطهارة، أو أي أصلٍ شرعي في الملاقي نلتزم به، أمّا إذا فرضنا عدم وجود أصلٍ شرعي يجري في الملاقي؛ فحينئذٍ لا يمكن إجراء البراءة العقلية؛ لأنّه لا يمكن إجراء البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي مع فرض بقاء العلم الإجمالي على كونه مقتضٍ للتنجيز. هذا الوجه الأوّل.
أمّا الوجه الثاني، فالمحقق النائيني(قدّس سرّه) لا يريد أن يقول هذا الكلام، وإنّما يريد أن يدّعي انحلال العلم الإجمالي الثاني وسقوطه عن اقتضاء التنجيز بالمرّة، إذا سقط عن اقتضاء التنجيز؛ فحينئذٍ لا مانع من الرجوع حتّى إلى البراءة العقلية؛ لأنّه لا يوجد مانعٌ من الرجوع إلى البراءة العقلية؛ لأنّ المانع هو العلم الإجمالي، والمفروض انحلاله وسقوطه عن اقتضاء التنجيز، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة العقلية على فرض عدم وجود أصول شرعية جارية في محل الكلام.
على كل حال، في هذا الوجه الثاني المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد تطبيق الكبرى التي يؤمن بها والتي تقول أنّ كلّ علمٍ إجماليٍ ينحلّ يسقط عن التنجيز، فلا يكون منجّزاً إذاكان هناك ما يثبت التكليف في أحد طرفيه. هو يريد تطبيق هذه الكبرى في محل الكلام. في البداية هو عممّ هذه الكبرى لما إذا كان أحد الطرفين منجّزاً عقلياً، ولو كان هو عبارة عن كونه طرفاً لعلمٍ إجمالي آخر، هذا أيضاً بالنتيجة يكون منجّزاً لأحد الطرفين؛ لكونه طرفاً لعلمٍ إجماليٍ آخر، فعممّها لهذا، فثبت أنّ أحد الطرفين إذا كان فيه منجزٌ عقليٌ من هذا القبيل أيضاً يدخل في هذه الكبرى الكلّية. ومن جهةٍ أخرى يرى المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ الميزان في مسألة انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم هو التقدّم والتأخّر بحسب المعلوم وليس بحسب العلم الإجمالي، إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل متقدّماً على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، يكون العلم الإجمالي الثاني موجباً لانحلال العلم الإجمالي الأوّل، سواء كان العلم الإجمالي الثاني مقارناً للعلم الإجمالي الأوّل، أو متقدّماً عليه، أو متأخّراً عنه، ليس الميزان هو التقدّم بلحاظ العلم نفسه، وإنّما الميزان في انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم هو تقدّم المعلوم بالعلم الإجمالي الذي يحل الآخر، والتأخّر في المعلوم بالعلم الإجمالي المنحل بالعلم الإجمالي الآخر، فالمهم هو المعلوم وليس هو العلم الإجمالي نفسه؛ وحينئذٍ يتبيّن أنّ ما يتوقف عليه تمامية كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أمور:
الأمر الأوّل: تعميم القاعدة الكلّية التي ذكرها لما إذا كان أحد الطرفين منجّزاً باعتباره طرفاً لعلمٍ إجماليٍ آخر.
الأمر الثاني: أنّ الميزان في انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم والتقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم لا بلحاظ العلم.
الأمر الثالث: إلحاق التقدّم والتأخّر الرتبي بالتقدّم والتأخّر الزماني. يقول: الميزان للمعلوم الذي ذكرناه في الانحلال لا يختص بالتقدّم والتأخّر الزماني، ليس فقط إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل متقدّماً زماناً على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني يكون موجباً لانحلاله، أو نقول بشكلٍ عام أنّ المعلوم بأحد العلمين إذا كان متقدّماً زماناً على المعلوم بالعلم الإجمالي الآخر، فهو يوجب انحلاله، لا يختص بالتقدّم والتأخّر الزماني، وإنّما يشمل حتّى التقدّم والتأخّر الرتبي، إذا كان المعلوم بأحد العلمين الإجماليين متقدّم رتبة، والمعلوم بالعلم الإجمالي الآخر متأخّر رتبة، هنا أيضاً يثبت الانحلال، ويثبت أنّ العلم الإجمالي الثاني يسقط عن التنجيز وينحلّ بالعلم الإجمالي الأوّل.
بعد ذكر هذه الأمور والتعميمات والإضافات؛ حينئذٍ نأتي إلى محل الكلام، في محل الكلام لدينا علم إجمالي ثانٍ، وهو العلم بنجاسة أحد الأمرين، إمّا الملاقي، أو الطرف الآخر، ولدينا علم إجمالي أوّل وهو العلم بنجاسة أحد الطرفين. كلامنا في العلم الإجمالي الثاني، أنّه هل ينجّز الملاقي، أو لا ؟ هو يقول: لا ينجّز الملاقي؛ لأنّ طرفه الآخر تنجّز باعتباره طرفاً في علم إجمالي سابقٍ، كيف ينحل العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، والحال أنّ الميزان هو التقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم ؟ وفي محل الكلام ليس دائماً نستطيع أن نفترض أنّ النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل ـــــــــــ التي هي المعلوم ــــــــــ متقدّمة على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، ليس دائماً يُفرض التقدّم بلحاظ المعلوم، فقد يكون هناك اقتران، قد تكون نجاسة أحد الإناءين مقارنة لملاقاة الثوب لأحد الإناءين، فلا يوجد تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلومين، ليس دائماً يُفرض أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل في محل كلامنا متقدّم على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، يكون متقدّماً إذا كانت الملاقاة متأخّرة زماناً عن نجاسة أحد الإناءين، تنجّس أحد الإناءين، ثمّ بعد ذلك لاقى الثوب أحدهما، فيكون المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل. هو يقول أنّ هذا صحيح، لكنّه ليس دائماً هكذا؛ لأنّه قد يُفترض تقارن الملاقاة للنجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، ومع التقارن لا يوجد تقدّم بلحاظ المعلومين. هو يجيب عن ذلك بالإضافة التي ذكرناها، يقول نعممّ التقدّم والتأخّر حتّى للتقدّم والتأخّر الرتبي، وفي محل الكلام حتّى إذا فرضنا عدم وجود تقدّم وتأخّر زماني بالنتيجة المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني متأخّر رتبة عن المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّه مسبَبّ عنه، نجاسة الملاقي مسَبّبة عن نجاسة الملاقى، نجاسة الملاقي على تقدير نجاسته مسَببّة عن نجاسة الملاقى على تقدير نجاسته، فالمعلوم بالعلم الإجمالي الثاني وهو نجاسة أحد الأمرين، إمّا الطرف الآخر، أو الملاقي هي مسَبّبة عن، يعني متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى.
أو بعبارةٍ أخرى: هي متأخّرة رتبة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، فإذن: التأخّر الرتبي موجود، فإذا عممّنا القاعدة للتقدّم والتأخّر الرتبي بلحاظ المعلوم؛ حينئذٍ ينحلّ العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل تطبيقاً لتلك القاعدة؛ لأنّ القاعدة تقول أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي إذا تنجّز ووُجد فيه ما ينجّز التكليف، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه حتّى عن اقتضاء التنجيز. غاية الأمر أنّ تطبيقها في المقام يحتاج إلى هذه الإضافات، أن نلتزم بالتعميم للمنجّز العقلي، وأنّ نلتزم بتعميم التقدّم والتأخّر في باب انحلال علم إجمالي بعلمٍ إجمالي آخر للتقدّم والتأخّر الرتبي؛ حينئذٍ ينطبق في محل الكلام.
هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) لإثبات سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو انحلاله في الحقيقة، وبالتالي يحقق لنا النتيجة التي نريدها وهي عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، ولا يكون هذا العلم الإجمالي الثاني منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقي وهو المطلوب في المقام.
بقي الكلام في الاعتراض الثالث على الوجه الأوّل وقد تقدّم الاستدلال عليه، كان الاعتراض يرتبط بعدم وجود طولية وعدم وجود حكومة بين الأصل في الملاقي والملاقى، فضلاً عن الطولية بين الأصل في الملاقي والأصل في الطرف الآخر، حتّى الأصل في الملاقي لا توجد طولية بينه وبين الأصل في الملاقى ولا حكومة؛ لأننّا قلنا أنّ الطولية هي من نتائج الحكومة ولا حكومة بين الأصلين لخصوصية في محل الكلام، وهي أنّ الأصل الذي نتكلّم عنه هو أصالة الطهارة، وأصالة الطهارة في الملاقى لا تحكم على أصالة الطهارة في الملاقي؛ لأنّ ملاك الحكومة إمّا النظر وإمّا رفع الموضوع تعبّداً، وكلٌ منهما غير ثابتٍ بالنسبة إلى أصالة الطهارة، فيكون هذا هو الاعتراض الثالث على الوجه الأوّل، ومن هنا يظهر أنّ الوجه الأوّل غير تام.
الوجه الثاني: للمانع عن تنجيز العلم الإجمالي الثاني لوجوب الاجتناب عن الملاقي. قلنا أنّ لدينا علم إجمالي ثانٍ، والملاقي طرف فيه، ومقتضى القواعد العامّة أنّ هذا العلم الإجمالي الثاني ينجّز وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّه طرف في هذا العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي ينجز كلا الطرفين، هذه القاعدة الأوّلية، فهل هناك ما يمنع من هذا التنجيز ؟ قلنا أنّ المانع قد يبيّن بوجوه، الوجه الأوّل لبيان المانع تقدّم.
الوجه الثاني: لبيان المانع، وهو ما عن المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ذُكر في تقريرات درسه بيان المانع بهذا الشكل:[1] أنّ العلم الإجمالي الثاني يشترك مع العلم الإجمالي الأوّل في طرفٍ وهو الطرف الآخر، فالطرف الآخر طرف في العلم الإجمالي الأوّل، وهو طرف في العلم الإجمالي الثاني، إذن: هذان علمان إجماليان يشتركان في طرفٍ؛ وحينئذٍ يدخل في كبرى كلّية يذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه) وطبّقها في محل الكلام، هذه الكبرى تقول: أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً وصالحاً للتنجيز إذا كان في بعض أطرافه ما يثبت التكليف، سواء كان دليلاً، أو أصلاً شرعياً، أو حتى إذا كان أصلاً عقلياً كقاعدة الاشتغال، وممّا يثبت التكليف في أحد الطرفين هو كون ذلك الطرف طرفاً لعلمٍ إجمالي ثانٍ. طبّق هذه الكبرى في محل الكلام، وذكر أنّ هذا الشيء الذي يثبت التكليف في أحد الطرفين حتّى لو كان أصلاً عقلياً، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي إذا كان أحد أطرافه فيه ما يثبت التكليف، باعتبار أنّ هذا الطرف الذي فيه ما يثبت التكليف لا يجري فيه الأصل المؤمّن، فإذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي يجري فيه استصحاب التكليف، أو الأمارة على التكليف، فهذا يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز؛ لأنّ هذا الطرف الذي فيه ما يثبت التكليف لا يمكن أن يجري فيه الأصل المؤمّن، فإذا لم يجرِ فيه الأصل المؤمّن جري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارض، طبّق هذا في محل الكلام بأن افترض أنّ كون أحد الطرفين طرفاً لعلمٍ إجمالي سابقٍ معناه أنّ هذا الطرف تنجّز فيه التكليف في مرحلةٍ سابقةٍ وهو الطرف الآخر في محل كلامنا؛ لأننا قلنا أنّ الطرف الآخر طرف مشترك، يعني يدخل طرفاً في كلا العلمين، بالعلم الإجمالي الأوّل تنجّز التكليف فيه في الطرف الآخر، إذن: هذا الطرف الآخر فيه ما يثبت التكليف وينجّزه، وهذا يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن التنجيز، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، فإذن: لا توجد مشكلة من ناحية العلم الإجمالي الثاني؛ لأنّه لا يستطيع أن ينجّز وجوب الاجتناب في الملاقي؛ لأنّ الملاقي يجري فيه الأصل المؤمّن بلا معارض، فنتمسّك بالأصل المؤمّن لإثبات عدم وجوب الاجتناب عنه، فالعلم الإجمالي الثاني لم ينفعنا شيئاً لإثبات التنجيز في الملاقي؛ لأنّ المفروض في محل الكلام أنّ الطرف الآخر كما هو طرف للعلم الإجمالي الثاني هو طرف للعلم الإجمالي الأوّل، وكونه طرفاً للعلم الإجمالي الأوّل معناه أنّه تنجز فيه التكليف بمقتضى العلم الإجمالي بعد تعميم هذه الكبرى الكلّية لما إذا كان ما يثبت التكليف في أحد الطرفين أصلاً عقلياً كأصالة الاشتغال كما هو الحال في المقام، العلم الإجمالي ينجّز التكليف عقلاً في الطرف الآخر فإذا تنجّز فيه التكليف لا يمكن أن يجري فيه الأصل المؤمّن، فإذا لم يجرِ فيه الأصل المؤمّن جرى الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارضٍ.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) لاحظ على هذا الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ هذا الوجه لا ينسجم مع المسلك الذي يؤمن به المحقق النائيني(قدّس سرّه)[2] وهو مسلك الاقتضاء، وإنّما ينسجم مع مسلك العلّية الذي يؤمن به المحقق العراقي(قدّس سرّه)، وعدم انسجامه مع مسلك الاقتضاء باعتبار أنّه على مسلك الاقتضاء يكفينا لإثبات عدم تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقي أن نقول أنّ الأصل يجري في الملاقي بلا معارض؛ لسقوط الأصل في الطرف الآخر بمعارضته بالأصل في الملاقى، الأصل في الطرف الآخر ساقط؛ لأنّه تعارض مع الأصل في الملاقى في مرتبةٍ سابقةٍ، فسقط الأصل في الطرف الآخر، فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض، وهذا يكفي لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.
أو بعبارةٍ أخرى: جريان الأصل في الملاقي بلا معارض يكفي لإثبات عدم تنجيز هذا العلم الإجمالي لوجوب الاجتناب عن الملاقي على مسلك الاقتضاء؛ لأنّه على مسلك الاقتضاء لا يثبت التنجيز، إلاّ إذا تعارض الأصلان في الطرفين؛ حينئذٍ ينجّز العلم الإجمالي كلا الطرفين، أمّا إذا كان الأصل يجري في أحد الطرفين دون الآخر يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز. إذن: إثبات جريان الأصل في الملاقي بلا معارض يكفي لإثبات عدم تنجيز العلم الإجمالي الثاني لوجوب الاجتناب عن الملاقي، وهذا يكفي في أن نقول أنّ الأصل لا يجري في الطرف الآخر؛ لأنّه سقط بالمعارضة مع الأصل في الملاقى، ولا يتوقف إثبات المقصود في المقام، وهو عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، على إسقاط اقتضاء العلم الإجمالي الثاني بالمرّة. وبعبارةٍ أخرى لا يتوقف على انحلال العلم الإجمالي الثاني، لماذا نلتزم بأنّ العلم الإجمالي الثاني لا يكون له اقتضاء التنجيز كما هو ظاهر كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) ؟ كأنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد أن يقول أنّ العلم الإجمالي الثاني لا يبقى له اقتضاء التنجيز، وهو معنى الانحلال كما سنبيّن، يدّعي انحلال هذا العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، فلا يبقى له اقتضاء التنجيز. المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول: لا داعي لإسقاط العلم الإجمالي الثاني عن كونه مقتضٍ للتنجيز، وإنّما يبقى علم إجمالي تام كالعلوم الإجمالية الأخرى يقتضي التنجيز، غاية الأمر أنّه اقترن بهذا المقتضي مانع يمنع من تأثير هذا الاقتضاء فعلاً في التنجيز، وهذا المانع هو جريان الأصل في هذا الطرف بلا معارض، العلم الإجمالي على مسلك الاقتضاء مقتضٍ للتنجيز إذا احتفّ بعدم المانع ويؤثر فعلاً بالتنجيز، أمّا إذا وجد المانع؛ فحينئذٍ لا يكون مؤثراً في التنجيز، ولكن هذا ليس معناه أنّ العلم الإجمالي ليس فيه اقتضاء التنجيز؛ بل فيه اقتضاء التنجيز، لكنّ اقتضاء التنجيز ليس مؤثراً في التنجيز فعلاً لوجود المانع، والمانع هو جريان الأصل في هذا الطرف، أي في الملاقي بلا معارض، وهذا يمنع من تأثير العلم الإجمالي الثاني في التنجيز. يقول: على مسلك الاقتضاء لا يتوقف إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي وإسقاط العلم الإجمالي عن تنجيزه لوجوب الاجتناب عن الملاقي...... لا يتوقف على انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل؛ بل يمكن أن نلتزم ببقاء العلم الإجمالي الثاني على حاله، ونلتزم ببقائه مقتضٍ للتنجيز، لكنّ وجد مانع يمنع من تأثير هذا الاقتضاء في التنجيز فعلاً، وهو جريان الأصل في الملاقي بلا معارض؛ لأنّ المعارض له هو أصالة الطهارة في الطرف الآخر وقد سقطت في مرحلة سابقة بمعارضتها لأصالة الطهارة في الملاقى.
هذه الملاحظة للمحقق العراقي(قدّس سرّه)، كأنّه فهم من كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّه يدّعي انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل كما سنبيّن، ويُطبّق القاعدة التي تقول أنّ العلم الإجمالي ينحل، ولو انحلالاً حكمياً بوجود ما ينجّز التكليف في أحد أطرافه، هذه القاعدة الكلّية التي محل كلامنا هو أحد مصاديقها، أو أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ادّعى أنّ محل الكلام مصداق لهذه القاعدة، القاعدة تقول: أنّ العلم الإجمالي إنّما يبقى على تنجيزه إذا لم يكن في أحد أطرافه ما يثبت التكليف، أمّا إذا كان في أحد أطرافه ما يثبت التكليف ولو كان أصلاً عقلياً؛ حينئذٍ ينحل هذا العلم الإجمالي ولا يكون منجّزاً ولا يكون فيه اقتضاء التنجيز؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما يكون له اقتضاء التنجيز إذا كان علماً بالتكليف الفعلي المنجّز على كل تقدير، هذا هو الذي يكون فيه اقتضاء التنجيز على مسلك الاقتضاء ويكون علّة للتنجيز على مسلّك العلّية، ومع وجود ما ينجز التكليف في أحد طرفيه لا يبقى لدينا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير؛ لأنّه على أحد التقديرين لا يوجد تكليف، وإنّما التكليف محتمل في الطرف الآخر على التقدير الآخر، ومن هنا يقول: إذا وُجد في أحد طرفي العلم الإجمالي ما يثبت التكليف، هذا العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز، يعني لا يبقى فيه اقتضاء التنجيز، وهو معنى الانحلال، فهو يدّعي الانحلال في المقام، وهكذا فهم منه المحقق العراقي(قدّس سرّه) انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل؛ فحينئذٍ لا يكون مؤثراً، وبالنتيجة يجوز إجراء الأصل في الملاقي بلا معارض.
يبقى ما هو الفرق بين هذا الوجه الأوّل الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) والوجه الأوّل الذي ذكره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) ؟ الفرق هو أنّ الوجه الذي ذكره الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) وكذا بعض الوجوه الآتية تسلّم عدم انحلال العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، وبقاءه على حاله، فهو لا ينحلّ حقيقةً ولا حكماً، ويبقى فيه اقتضاء التأثير ـــــــــــ الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) يبني على مسلك الاقتضاء ـــــــــــــ غاية الأمر أنّ هذا الاقتضاء احتفّ بالمانع الذي يمنع من تأثير هذا المقتضي في الـتنجيز فعلاً، والمانع هو جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، فيبقى العلم الإجمالي على اقتضائه ولا ينحل بالعلم الإجمالي الأوّل، ويترتّب على هذا الوجه الأوّل أنّه لو لم تكن هناك أصول مؤمّنة شرعية يمكن إجراءها في الملاقي ـــــــــ فرضاً ــــــــــ حينئذٍ لا يمكن إجراء البراءة العقلية في هذا الطرف؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي باقٍ على اقتضائه للتنجيز، ومع بقاء العلم الإجمالي على اقتضائه للتنجيز؛ حينئذٍ لا يمكن الرجوع إلى البراءة العقلية. نعم، يمكن الرجوع إلى البراءة الشرعية، إذا جرت أصالة الطهارة، أو أي أصلٍ شرعي في الملاقي نلتزم به، أمّا إذا فرضنا عدم وجود أصلٍ شرعي يجري في الملاقي؛ فحينئذٍ لا يمكن إجراء البراءة العقلية؛ لأنّه لا يمكن إجراء البراءة في أحد طرفي العلم الإجمالي مع فرض بقاء العلم الإجمالي على كونه مقتضٍ للتنجيز. هذا الوجه الأوّل.
أمّا الوجه الثاني، فالمحقق النائيني(قدّس سرّه) لا يريد أن يقول هذا الكلام، وإنّما يريد أن يدّعي انحلال العلم الإجمالي الثاني وسقوطه عن اقتضاء التنجيز بالمرّة، إذا سقط عن اقتضاء التنجيز؛ فحينئذٍ لا مانع من الرجوع حتّى إلى البراءة العقلية؛ لأنّه لا يوجد مانعٌ من الرجوع إلى البراءة العقلية؛ لأنّ المانع هو العلم الإجمالي، والمفروض انحلاله وسقوطه عن اقتضاء التنجيز، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة العقلية على فرض عدم وجود أصول شرعية جارية في محل الكلام.
على كل حال، في هذا الوجه الثاني المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد تطبيق الكبرى التي يؤمن بها والتي تقول أنّ كلّ علمٍ إجماليٍ ينحلّ يسقط عن التنجيز، فلا يكون منجّزاً إذاكان هناك ما يثبت التكليف في أحد طرفيه. هو يريد تطبيق هذه الكبرى في محل الكلام. في البداية هو عممّ هذه الكبرى لما إذا كان أحد الطرفين منجّزاً عقلياً، ولو كان هو عبارة عن كونه طرفاً لعلمٍ إجمالي آخر، هذا أيضاً بالنتيجة يكون منجّزاً لأحد الطرفين؛ لكونه طرفاً لعلمٍ إجماليٍ آخر، فعممّها لهذا، فثبت أنّ أحد الطرفين إذا كان فيه منجزٌ عقليٌ من هذا القبيل أيضاً يدخل في هذه الكبرى الكلّية. ومن جهةٍ أخرى يرى المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ الميزان في مسألة انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم هو التقدّم والتأخّر بحسب المعلوم وليس بحسب العلم الإجمالي، إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل متقدّماً على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، يكون العلم الإجمالي الثاني موجباً لانحلال العلم الإجمالي الأوّل، سواء كان العلم الإجمالي الثاني مقارناً للعلم الإجمالي الأوّل، أو متقدّماً عليه، أو متأخّراً عنه، ليس الميزان هو التقدّم بلحاظ العلم نفسه، وإنّما الميزان في انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم هو تقدّم المعلوم بالعلم الإجمالي الذي يحل الآخر، والتأخّر في المعلوم بالعلم الإجمالي المنحل بالعلم الإجمالي الآخر، فالمهم هو المعلوم وليس هو العلم الإجمالي نفسه؛ وحينئذٍ يتبيّن أنّ ما يتوقف عليه تمامية كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أمور:
الأمر الأوّل: تعميم القاعدة الكلّية التي ذكرها لما إذا كان أحد الطرفين منجّزاً باعتباره طرفاً لعلمٍ إجماليٍ آخر.
الأمر الثاني: أنّ الميزان في انحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم والتقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم لا بلحاظ العلم.
الأمر الثالث: إلحاق التقدّم والتأخّر الرتبي بالتقدّم والتأخّر الزماني. يقول: الميزان للمعلوم الذي ذكرناه في الانحلال لا يختص بالتقدّم والتأخّر الزماني، ليس فقط إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل متقدّماً زماناً على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني يكون موجباً لانحلاله، أو نقول بشكلٍ عام أنّ المعلوم بأحد العلمين إذا كان متقدّماً زماناً على المعلوم بالعلم الإجمالي الآخر، فهو يوجب انحلاله، لا يختص بالتقدّم والتأخّر الزماني، وإنّما يشمل حتّى التقدّم والتأخّر الرتبي، إذا كان المعلوم بأحد العلمين الإجماليين متقدّم رتبة، والمعلوم بالعلم الإجمالي الآخر متأخّر رتبة، هنا أيضاً يثبت الانحلال، ويثبت أنّ العلم الإجمالي الثاني يسقط عن التنجيز وينحلّ بالعلم الإجمالي الأوّل.
بعد ذكر هذه الأمور والتعميمات والإضافات؛ حينئذٍ نأتي إلى محل الكلام، في محل الكلام لدينا علم إجمالي ثانٍ، وهو العلم بنجاسة أحد الأمرين، إمّا الملاقي، أو الطرف الآخر، ولدينا علم إجمالي أوّل وهو العلم بنجاسة أحد الطرفين. كلامنا في العلم الإجمالي الثاني، أنّه هل ينجّز الملاقي، أو لا ؟ هو يقول: لا ينجّز الملاقي؛ لأنّ طرفه الآخر تنجّز باعتباره طرفاً في علم إجمالي سابقٍ، كيف ينحل العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل، والحال أنّ الميزان هو التقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم ؟ وفي محل الكلام ليس دائماً نستطيع أن نفترض أنّ النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل ـــــــــــ التي هي المعلوم ــــــــــ متقدّمة على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، ليس دائماً يُفرض التقدّم بلحاظ المعلوم، فقد يكون هناك اقتران، قد تكون نجاسة أحد الإناءين مقارنة لملاقاة الثوب لأحد الإناءين، فلا يوجد تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلومين، ليس دائماً يُفرض أنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل في محل كلامنا متقدّم على المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني، يكون متقدّماً إذا كانت الملاقاة متأخّرة زماناً عن نجاسة أحد الإناءين، تنجّس أحد الإناءين، ثمّ بعد ذلك لاقى الثوب أحدهما، فيكون المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل. هو يقول أنّ هذا صحيح، لكنّه ليس دائماً هكذا؛ لأنّه قد يُفترض تقارن الملاقاة للنجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، ومع التقارن لا يوجد تقدّم بلحاظ المعلومين. هو يجيب عن ذلك بالإضافة التي ذكرناها، يقول نعممّ التقدّم والتأخّر حتّى للتقدّم والتأخّر الرتبي، وفي محل الكلام حتّى إذا فرضنا عدم وجود تقدّم وتأخّر زماني بالنتيجة المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني متأخّر رتبة عن المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّه مسبَبّ عنه، نجاسة الملاقي مسَبّبة عن نجاسة الملاقى، نجاسة الملاقي على تقدير نجاسته مسَببّة عن نجاسة الملاقى على تقدير نجاسته، فالمعلوم بالعلم الإجمالي الثاني وهو نجاسة أحد الأمرين، إمّا الطرف الآخر، أو الملاقي هي مسَبّبة عن، يعني متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقى.
أو بعبارةٍ أخرى: هي متأخّرة رتبة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالي الأوّل، فإذن: التأخّر الرتبي موجود، فإذا عممّنا القاعدة للتقدّم والتأخّر الرتبي بلحاظ المعلوم؛ حينئذٍ ينحلّ العلم الإجمالي الثاني بالعلم الإجمالي الأوّل تطبيقاً لتلك القاعدة؛ لأنّ القاعدة تقول أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي إذا تنجّز ووُجد فيه ما ينجّز التكليف، هذا يوجب انحلال العلم الإجمالي وسقوطه حتّى عن اقتضاء التنجيز. غاية الأمر أنّ تطبيقها في المقام يحتاج إلى هذه الإضافات، أن نلتزم بالتعميم للمنجّز العقلي، وأنّ نلتزم بتعميم التقدّم والتأخّر في باب انحلال علم إجمالي بعلمٍ إجمالي آخر للتقدّم والتأخّر الرتبي؛ حينئذٍ ينطبق في محل الكلام.
هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) لإثبات سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو انحلاله في الحقيقة، وبالتالي يحقق لنا النتيجة التي نريدها وهي عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، ولا يكون هذا العلم الإجمالي الثاني منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقي وهو المطلوب في المقام.