36/06/09
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ دوران
الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
كان الكلام في الجواب الثاني عن المانع الثالث، وهو للمحقق النائيني(قدّس سرّه)، وبيّنا ما هو المراد به، وحاصله هو أنّ المسئولية تجاه الغرض والمصلحة المترتبة على الفعل المأمور به، هذه المسئولية إنّما تكون حينما تكون نسبة الغرض إلى فعل المكلّف نسبة المسبب التوليدي إلى سببه التوليدي؛ عندئذٍ تكون هناك مسئولية ملقاة على عاتق المكلّف تجاه هذا الغرض من دون فرقٍ بين أن يؤمر بالفعل، أو يؤمر بنفس الغرض، قد يُفترض بعض الأحيان أن لسان الدليل يتضمّن الأمر بنفس الغرض، وقد يُفترض أن يتضمن الأمر بالفعل كما هو متعارف، لكن حيث أنّ النسبة بينهما هي نسبة المعلول إلى العلة والمسبب التوليدي إلى سببه التوليدي، يُفهم من الأمر بالفعل أنّ الغرض هو المأمور به، ما يترتب عليه مباشرةً ويكون معلولاً له يكون هو المأمور به في الواقع والحقيقة؛ ولذا يكون الغرض داخلاً في عهدة المكلّف حتّى لو تعلّق الأمر بالفعل؛ لأنّ الفعل يعتبر بمثابة العلّة والسبب التوليدي للغرض. هذا هو الذي يكون المكلّف مسئولاً عن إيجابه وتحصيله، فإذا شك في حصول هذا الغرض؛ حينئذٍ يجب عليه الاحتياط ويجب عليه أن يحرز الحصول على ذلك الغرض؛ لأنّ الغرض دخل في عهدته وأصبح مسئولاً عن تحصيله، فلابدّ من الاحتياط، فإذا شكّ في أنّ هذا الغرض الداخل في عهدته هل يتحقق بالأقل، أو لا يتحقق بالأقل ؟ يجب عليه الاحتياط، فيجب عليه الإتيان بالأكثر لإحراز تحصيل ذلك الغرض.
وأمّا إذا كان الغرض ليس من هذا القبيل، ليست نسبة الغرض إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة، وإنّما فعل المأمور به يكون من قبيل المقدّمات الإعدادية التي يتوقف حصول الغرض على انضمام مقدّمات أخرى تكون خارجة عن اختيار المكلّف في هذه الحالة التكليف والعهدة والمسئولية لا تتعلّق إلاّ بفعل المأمور به الذي هو فعل المكلّف، هو لا يتعلّق بالغرض؛ لأنّ الغرض بحسب الفرض يتوقف على مقدّمات غير مقدورة للمكلّف، فالمكلّف مسئول عن الفعل المأمور به، وفي هذه الحالة حينئذٍ لا تجري قاعدة الاشتغال لأنّ المفروض في محل الكلام هو أنّه يشك في أنّه بماذا أُمر ؟ هل أنّه أُمر بالأقل، أو أمر بالأكثر ؟ وهو يعلم بكونه مأموراً بالأقل ويشك في كونه مأموراً بما زاد على الأقل، وبهذا تجري البراءة لنفي وجوب الزائد المشكوك والغير المعلوم ويجوز له الاقتصار على الأقل، وذكر قضية إثباتية أنّه في مقام الإثبات يمكن أن يُستكشف كون الغرض من قبيل الأوّل بما إذا تعلّق الأمر في لسان الدليل بنفس الغرض، عندما يتعلّق الأمر في لسان الدليل بالغرض، أو يتعلّق الأمر في لسان الدليل بالفعل مع كون نسبة الفعل إلى الغرض هي نسبة العلّة إلى المعلول؛ حينئذٍ يُستكشف أنّه من قبيل الأوّل، ويكون الغرض داخلاً في العهدة ويكون المكلّف مسئولاً عن تحصيله، كما أنّ الأمر في لسان الدليل لو تعلّق بالفعل، يقول: يمكن أن يُستكشف أنّ الغرض ليس داخلاً في العهدة، وإنّما الداخل في العهدة هو خصوص الفعل. هذه قضية جانبية ليست مهمّة في أصل المطلب.
وفي مقام تطبيق هذا الذي قاله على محل الكلام ذكرنا في الدرس السابق أنه يقول أنّ المصالح والمفاسد المترتبة على المأمور به والمنهي عنه هي من قبيل الأغراض من القسم الثاني لا من قبيل الأغراض من القسم الأوّل، بمعنى أنّها ليست مسببات توليدية لفعل المكلف، وإنّما هي تتحقق نتيجة فعل المكلّف وانضمام أمور أخرى تكون دخيلة في تحقق تلك المصلحة وذاك الغرض وهي أمور خارجة عن اختيار المكلّف فتكون من قبيل القسم الثاني وعرفت أنّه ما كان من قبيل القسم الثاني، فهو لا يدخل في العهدة ولا يكون المكلف مسئولاً عن تحصيله وتحقيقه، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ ولذا لا معنى لأن يقال أنّ الغرض من الأمر دخل في العهدة واشتغلت به ذمّة المكلّف، فلابدّ من الاحتياط لأجل تحصيله، الغرض بمعنى المصلحة المترتبة على الفعل التي هي ملاك الأمر، هذه من قبيل الأغراض التي لا تكون نسبتها إلى فعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة، وإنّما فعل المأمور به يكون مقدّمة اعدادية لحصولها ولا يكون المكلّف مسئولاً عن تحقيق الغرض، وإنّما يكون مسئولاً تجاه ما كُلّف به، وهو لا يعلم بأنّه كُلّف أكثر من الأقل، فيجوز له الاقتصار على الأقل.
اعترض على الجواب الثاني على المانع الثالث، وننقل الاعتراض عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، والظاهر أنّه موجود قبله، يقول(قدّس سرّه)[1] في الاعتراض أنّ هذا الجواب عن المانع الثالث غير صحيح، وذلك لأنّه في الحقيقة لا يوجد عندنا غرض واحد، يعني نتعامل معه على أساس أنّه غرض واحد، وهذا الغرض الواحد يقال أنّه في محل الكلام نسبته إلى فعل المأمور به كنسبة الفعل إلى مقدّماته الاعدادية، كلا ليس هكذا، وإنّما يوجد عندنا في الواقع غرضان، غرض أقصى وغرض أدنى، الغرض الأقصى يصح فيه ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هذا الغرض الأقصى تكون نسبته إلى فعل المأمور به نسبة المُعدّ، فينطبق عليه ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ هذا لا يدخل في العهدة؛ لأنّ هذا الغرض الأقصى يتوقف على مقدمات أخرى غير فعل المكلّف وهي خارجة عن قدرة المكلّف، فلا معنى لإدخاله في العهدة مع توقفه على مقدمات غير مقدورة. هذا صحيح، لكن هناك غرض أدنى نسبته إلى فعل المكلّف نسبة المعلول إلى علّته، نسبة المسبب التوليدي إلى سببه التوليدي، وهذا الغرض الأدنى هو عبارة عن إعداد المكلّف نفسه لتحصيل الغرض الأقصى، فهي مقدّمة إعدادية لحصول الغرض الأقصى، لكنّها تترتب على الفعل ترتّب المعلول على العلّة، وترتّب المسبب التوليدي على سببه، هذا الغرض الأدنى نستطيع أن نعبّر عنه بتهيئة المكلّف وإعداده لتحصيل الغرض الأقصى، بمعنى أنّ المكلّف عندما يأتي بالواجب الذي أُمر به، هذا الإتيان بما أُمر به يخلق في المكلّف حال تهيؤ واستعداد لتحصيل الغرض الأقصى، بحيث لو أنّ المكلف ترك فعل المأمور به لما حصل على الغرض الأقصى، صحيح الغرض الأقصى يتوقف على مقدّمات غير اختيارية وخارجة عن القدرة، لكن لا مانع من أن نقول أنّ الإتيان بالمأمور به يهيئ المكلّف ويعدّه لتحصيل الغرض الأقصى فيما لو انضمت إلى ذلك سائر المقدمات الغير الأختيارية بحسب الفرض ولنقل بعبارةٍ أخرى: أنّ فعل المأمور يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحيته، عدم الغرض الأقصى تارة ينشأ من ناحية فعل المكلف إذا ترك الإتيان بالمأمور به، وتارة أخرى المكلّف يأتي بالمأمور به، فمن ناحية المأمور به هو سدّ باب عدم الغرض الأقصى، لكن قد لا يحصل الغرض الأقصى نتيجة عدم حصول المقدّمات الأخرى الخارجة عن اختياره، المكلّف لا مانع من أن يُكلّف بسدّ باب العدم الأقصى من ناحية فعل المأمور به، بأن يُطلب منّه فعل المأمور به ويترتب على هذا الفعل غرض، ونسبة هذا الغرض إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة، والغرض الذي يترتب على فعل المأمور به هو الاستعداد والتهيؤ لتحصيل الغرض الأقصى في ما لو تمّت سائر المقدّمات الأخرى؛ لأنّه لولا ذلك، اي لو لم يأتِ بالمأمور به لما كان مهيئاً ومستعداً لتحصيل الغرض الأقصى، وهذا غرض قد يكون ملحوظاً وهو غرض يترتب على فعل المأمور به ترتب المعلول على العلّة، ليس فعل المكلّف بمثابة المقدمة الإعدادية لهذا الغرض الأدنى، نعم، هو بمثابة المقدمة الإعدادية، لكن بالنسبة إلى هذا الغرض الأدنى هو ليس مقدمة إعدادية، وإنّما هو علّة ومعلول، الإتيان بالواجب وبالمأمور به يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحيته، قهراً يسده، ترتب معلول على العلّة، لا يمكن أن يتخلّف، هو يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحية هذه المقدمة، الغرض الأقصى يتوقف على مقدّمات، منها فعل المكلّف ومنها مقدمات أخرى غير اختيارية، المكلّف بإتيانه بالمأمور به يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحية هذه المقدمة، هذا غرض أدنى يترتب على فعل المأمور به ترتب المعلول على العلّة، وهذا غرض ملحوظ، وقد اعترف المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ الغرض إذا كان من قبيل الأوّل يكون المكلّف مسئولاً عن تحصيله وتحقيقه، كل غرضٍ تكون نسبته إلى فعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة يقول أنّ المكلّف مسئول عن تحصيله وتحقيقه، هذا الغرض الأدنى المكلّف مسئول عن تحقيقه، يعني يجب عليه أن يسدّ باب عدم الغرض الأقصى من ناحية هذه المقدّمة الأختيارية الداخلة تحت قدرة المكلّف، فإذا شك المكلّف بين الأقل والأكثر، مرجع هذا الشك في الحقيقة إلى أنّ هذا الغرض الأدنى هل يحصل بالإتيان بالأقل، أو لا يحصل ؟ لأنّه على تقدير أن يكون ما كُلف به هو الأكثر الغرض الأدنى لا يتحقق إذا اقتصر على الأقل؛ لأنّ الجزء الزائد بناءً على وجوب الأكثر يكون دخيلاً في الواجب وبالتالي يكون دخيلاً في تحقق الغرض الأدنى، ويكون دخيلاً في سد باب عدم الغرض الأقصى من ناحيته، فإذا شك في وجوب الجزء الزائد لا يجوز له الاقتصار على الأقل؛ بل يجب عليه الاحتياط لكي يضمن حصول الغرض الأدنى بأن يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحية ما هو داخل تحت اختياره، وهذا مردد بين الأقل والأكثر، فإن جاء بالأكثر فأنّه يحرز تحقق الغرض الأدنى، بينما إذا اقتصر على الأقل لا يحرز الغرض الأدنى، هو مسئول عن هذا الغرض وداخل في عهدته بحسب ما قال المحقق النائيني(قدّس سرّه)، فيجب عليه الاحتياط. المحقق النائيني(قدّس سرّه)نظره إلى الغرض الأقصى، صحيح أنّ الغرض الأقصى لا يدخل في العهدة؛ لأنّه يتوقف على مقدمات غير اختيارية، لكن هناك غرض قبل ذلك وهو الغرض الأدنى كما سمّاه، وهذا نسبته إلى الفعل نسبة المعلول إلى العلّة ويكون داخلاً في العهدة والمكلّف مسئول عن تحصيله فإذا شكّ في حصوله بالأقل كان شكّاً في المحصّل، الغرض دخل في العهدة، وأصبح المكلّف مسئولاً عن تحقيقه بحسب اعتراف المحقق النائيني(قدّس سرّه)،[2] فإذا شك في تحققه بالأقل كان من قبيل الشك في المحصّل، ولا إشكال في جريان قاعدة الاشتغال فيه، فلا يتم جواب المحقق النائيني(قدّس سرّه). وبناءً على هذا يظهر أنّ المانع الثالث وهو مسألة مراعات الغرض لم يتم الجواب عنه، لا بما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، ولا بما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه).
الجواب الثالث عن المانع الثالث: يتلخص هذا الجواب في انّه لابدّ أن نراجع دعوى أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى من الأمر، هذه القضية لابدّ من مراجعتها، هل يحكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى من الأمر مطلقاً وفي جميع الموارد، أو أنّ هناك حدوداً لهذه القضية التي يحكم بها العقل ؟ إن قلنا أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى مطلقاً وبلا حدود فقد يصح ما ذُكر في المانع الثالث؛ لأنّ القضية مرتبة كما ذكرنا، نحن نؤمن بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات، وأنّ المصالح والمفاسد في المتعلّقات هي العلّة في الحقيقة للأحكام الشرعية، ثبوتاً الأحكام الشرعية معلولة للملاكات والمصالح الموجودة في متعلّقاتها، فإذا حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى، والشيء الذي أمر بالفعل لأجله، يجب تحصيله بحكم العقل؛ حينئذٍ ترد قضية المانع الثالث ويقول بأنّه لابدّ من الاحتياط؛ لأنّ هذا يكون من موارد قاعدة الاشتغال، لكن الظاهر أنّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى مطلقاً، وإنّما يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى ــــــــــــ وكلامنا عن الغرض الملزم وليس عن الغرض الغير ملزم ــــــــــ في حالة ما إذا تصدّى نفس المولى لتحصيل ذلك الغرض بأن يجعل حكماً على طبق ذلك الغرض أو حتّى يأمر بنفس ذلك الغرض، عندما يتصدى المولى لتحصيل الغرض، العقل يحكم بلزوم تحصيله، بأيّ لسانٍ كان تصدّي المولى لتحصيل ذلك الغرض مع فرض تمكن المولى من التصدّي لتحصيله، هذا مولى يتمكن من أن يتصدّى لتحصيل الغرض؛ حينئذٍ نقول هذا المولى في هذه الحالة إذا لم يتصدَ لتحصيل الغرض كما إذا فرضنا كما هو في كثير من الموارد أمر بالفعل فقط، أمر بالصلاة، أمر بأجزاء معينة مجموعها يُسمّى صلاة، لم يتصدَ لتحصيل الغرض، لم يأمر بالغرض، ولم يجعل حكماً على وفق الغرض إطلاقاً مع تمكنه من ذلك، هل يحكم العقل في هذه الحالة بلزوم تحصيل الغرض لمجّرد أننا نؤمن بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات، أو لا ؟
الجواب الثالث يعتمد على إنكار حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى إذا لم يتصدَ المولى لتحصيله والأمر به مع تمكنه من ذلك، لا يحكم العقل بلزوم تحصيل ذلك الغرض، ومن ألسنة تصدي المولى لتحصيل الغرض هو أنّ يأمر بالاحتياط مثلاً، فالشارع يمكنه أن يأمر بالغرض، يمكنه أن يخبر عن اهتمامه بالغرض، بإمكانه أن يأمر بالاحتياط حتى يضمن الوصول إلى الغرض، مع كل ذلك هو ترك التصدّي لذلك، لم يأمر بالغرض، ولم يأمر بالاحتياط، ولم يجعل حكماً على طبق الغرض، وإنّما فقط أمر بالفعل، في هذه الحالة المُدّعى أنّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الغرض الملزم، ليس هناك دليل على لزوم تحصيل الغرض الملزم، العقل في هذه الحالة لا يحكم بذلك، ولا تشتغل الذمّة بذلك الغرض، وإنّما ما تشتغل به الذمّة هو عبارة عن ما تصدّى المولى للأمر به، وما تصدّى المولى للأمر به هو عبارة عن الفعل بأجزائه، الشيء الذي لم يتصدَ له لا يحكم العقل بلزوم تحصيله ولا تشتغل به الذمّة، وإنّما الذمّة تشتغل بالمقدار الذي تصدّى المولى للأمر به ولتحصيله، إذا تصدّى لتحصيل الغرض تشتغل به الذمّة بلا إشكال، لكن إذا لم يتصدّ لذلك مع تمكنه من التصدّي العقل لا يحكم حينئذٍ بلزوم تحصيل ذلك الغرض الملزم للشارع وبالتالي لا تجري فيه قاعدة الاشتغال؛ لأنّ ما تشتغل به الذمّة هو ما تصدّى المولى للأمر به وما تصدّى المولى للأمر به بحسب الفرض هو عبارة عن الفعل، عبارة عن الصلاة، هذا هو الذي تصدّى المولى للأمر به، هذا تشتغل به الذمّة، فإذا دار ما تشتغل به الذمّة وما أمر به الشارع بين الأقل والأكثر؛ حينئذٍ يأتي الكلام السابق، وهو أننا نعلم بأنّ المولى أمر بالأقل وتصدّى للأمر به، فيدخل في العهدة جزماً، وأمّا ما زاد على ذلك، فلا علم لنا بتصدّي المولى له وبالأمر به وبكونه واجباً، فيمكن إجراء البراءة لنفيه. الجواب الثالث يعتمد على أنّه لا وضوح في حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم بحيث يدخل هذا الغرض في العهدة ويكون الشك بين الأقل والأكثر من قبيل الشك في المحصّل، فتجري قاعدة الاشتغال، لا وضوح في هذا الجانب، وإنّما العقل يقول ما يتصدّى المولى للأمر به يدخل في العهدة، وأنا غير مسئول عن أشياء لا يتصدَى المولى لبيانها ولا للزوم تحصيلها مع تمكنه من ذلك، فلا وضوح في وجود حكمٍ عقلي من هذا القبيل حتّى يتفرّع عليه ما ذكروه في محل الكلام.
بعبارةٍ أخرى: أنّ المولى إذا أمر بالغرض أو أمر بشيءٍ على وفق الغرض كالاحتياط وأمثاله، وترك كيفية تحصيل هذا الغرض بعهدة المكلّف، ولم يتصدَ لبيان كيفية الوصول للغرض، وإنّما تركها للمكلّف، في هذه الحالة العقل يحكم بلزوم تحصيل الغرض ولزوم الاحتياط وجريان الاشتغال؛ لأنّ الشارع أمر بالغرض ودخل في العهدة، وكيفية تحصيله متروكة للمكلّف، فإذا شك المكلّف بين الأقل والأكثر، أنّ الأقل يوصل إلى الغرض، أو لا يوصل إلى الغرض يجب عليه الاحتياط بحكم العقل بلا إشكال، وأمّا إذا فرضنا أنّ القضية معكوسة وأنّ الشارع لم يأمر إلاّ بالفعل ونحن نعلم بأنّ هناك غرضاً ملزماً يترتب على الفعل وأنّ الشارع إنّما أمر بهذا الفعل لأجل حصول ذلك الغرض، لكن ما تصدّى الشارع لبيانه ليس هو الغرض وإنما هو الفعل، في هذه الحالة ليس من الواضح كما قلنا حكم العقل بلزوم تحصيل ذلك الغرض الملزم ولا مجال للالتزام بجريان قاعدة الاشتغال، وإنّما المكلّف يكون مسئولاً عن الفعل فقط، والفعل دائر بين الأقل والأكثر، إذن: لا مسئولية إلاّ بالأقل وأمّا الزائد فيُنفى بأصالة البراءة العقلية.
تطبيق هذا الجواب على محل الكلام واضح؛ لأنّه في محل الكلام نحن نفترض أنّ الأمر توجّه إلى الفعل ولا نفترض أنّه توجّه إلى الغرض، أنّ الأمر وقع بالصلاة، يعني تعلّق الصلاة وتعلّق بالوضوء، تعلّق بهذه الأفعال، فهذه هي التي يكون المكلّف مسئولاً عنها وهي دائرة بين الأقل والأكثر ويمكن إجراء البراءة، ولا تجري فيها قاعدة الاشتغال. هذا هو الجواب الثالث عن المانع الثالث. وهناك أجوبة أخرى لا ندخل فيها ونكتفي بهذا المقدار من الأجوبة عن المانع الثالث. إلى هنا يتم الكلام عن البراءة العقلية، وتبيّن ممّا ذكرناه أنّ الظاهر أنّ المقتضي لجريان البراءة العقلية في محل الكلام موجود، كما بيّنا في بداية البحث، المقتضي هو تحقق موضوع البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر؛ لأنّ احتمال العقاب موجود والشك موجود، وهذا هو موضوع البراءة العقلية، فتجري البراءة العقلية لنفي احتمال العقاب باعتبار الشك في وجوب الأكثر، فالمقتضي لجريان البراءة العقلية موجود، والمانع مفقود؛ لأنّ المانع من جريان البراءة العقلية هو أحد أمور ثلاثة تقدّم ذكرها، أمّا أن يكون المانع هو العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر، وتبيّن أنّه ليس مانعاً؛ لأنّه منحل؛ بل في الحقيقة كما تقدّم لا علم إجمالي بهذا الشكل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر من البداية، لا أنّه هناك علم إجمالي ولكنّه ينحل بالعلم التفصيلي والشك البدوي؛ بل من البداية أساساً ليس هناك علم إجمالي، وإنّما هناك علم بوجوب الأقل تفصيلاً وشك في وجوب ما زاد عليه، ولا المانع الثاني الذي طرحه صاحب الفصول(قدّس سرّه) مانعاً من جريان البراءة، وهو أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل يعتبر يقيناً باشتغال الذمّة، والذمّة إذا اشتغلت يقيناً، فلابد من تفريغها يقيناً ولا تفرغ الذمّة يقيناً ممّا اشتغلت به يقيناً، يعني من الأقل إلاّ بالإتيان بالأكثر؛ لأنّ الأقل الذي نعلم باشتغال الذمّة به مردد بين أن يكون استقلالياً أو ضمنياً، وعلى تقدير كونه ضمنياً لا تفرغ الذمّة منه إلاّ بالإتيان بالأكثر، ولا المانع الثالث الذي أشار إليه الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وهو مسألة الغرض. كلّ هذه لا تمنع من جريان البراءة العقلية، بعد ذلك ننتقل إلى البراءة الشرعية.
كان الكلام في الجواب الثاني عن المانع الثالث، وهو للمحقق النائيني(قدّس سرّه)، وبيّنا ما هو المراد به، وحاصله هو أنّ المسئولية تجاه الغرض والمصلحة المترتبة على الفعل المأمور به، هذه المسئولية إنّما تكون حينما تكون نسبة الغرض إلى فعل المكلّف نسبة المسبب التوليدي إلى سببه التوليدي؛ عندئذٍ تكون هناك مسئولية ملقاة على عاتق المكلّف تجاه هذا الغرض من دون فرقٍ بين أن يؤمر بالفعل، أو يؤمر بنفس الغرض، قد يُفترض بعض الأحيان أن لسان الدليل يتضمّن الأمر بنفس الغرض، وقد يُفترض أن يتضمن الأمر بالفعل كما هو متعارف، لكن حيث أنّ النسبة بينهما هي نسبة المعلول إلى العلة والمسبب التوليدي إلى سببه التوليدي، يُفهم من الأمر بالفعل أنّ الغرض هو المأمور به، ما يترتب عليه مباشرةً ويكون معلولاً له يكون هو المأمور به في الواقع والحقيقة؛ ولذا يكون الغرض داخلاً في عهدة المكلّف حتّى لو تعلّق الأمر بالفعل؛ لأنّ الفعل يعتبر بمثابة العلّة والسبب التوليدي للغرض. هذا هو الذي يكون المكلّف مسئولاً عن إيجابه وتحصيله، فإذا شك في حصول هذا الغرض؛ حينئذٍ يجب عليه الاحتياط ويجب عليه أن يحرز الحصول على ذلك الغرض؛ لأنّ الغرض دخل في عهدته وأصبح مسئولاً عن تحصيله، فلابدّ من الاحتياط، فإذا شكّ في أنّ هذا الغرض الداخل في عهدته هل يتحقق بالأقل، أو لا يتحقق بالأقل ؟ يجب عليه الاحتياط، فيجب عليه الإتيان بالأكثر لإحراز تحصيل ذلك الغرض.
وأمّا إذا كان الغرض ليس من هذا القبيل، ليست نسبة الغرض إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة، وإنّما فعل المأمور به يكون من قبيل المقدّمات الإعدادية التي يتوقف حصول الغرض على انضمام مقدّمات أخرى تكون خارجة عن اختيار المكلّف في هذه الحالة التكليف والعهدة والمسئولية لا تتعلّق إلاّ بفعل المأمور به الذي هو فعل المكلّف، هو لا يتعلّق بالغرض؛ لأنّ الغرض بحسب الفرض يتوقف على مقدّمات غير مقدورة للمكلّف، فالمكلّف مسئول عن الفعل المأمور به، وفي هذه الحالة حينئذٍ لا تجري قاعدة الاشتغال لأنّ المفروض في محل الكلام هو أنّه يشك في أنّه بماذا أُمر ؟ هل أنّه أُمر بالأقل، أو أمر بالأكثر ؟ وهو يعلم بكونه مأموراً بالأقل ويشك في كونه مأموراً بما زاد على الأقل، وبهذا تجري البراءة لنفي وجوب الزائد المشكوك والغير المعلوم ويجوز له الاقتصار على الأقل، وذكر قضية إثباتية أنّه في مقام الإثبات يمكن أن يُستكشف كون الغرض من قبيل الأوّل بما إذا تعلّق الأمر في لسان الدليل بنفس الغرض، عندما يتعلّق الأمر في لسان الدليل بالغرض، أو يتعلّق الأمر في لسان الدليل بالفعل مع كون نسبة الفعل إلى الغرض هي نسبة العلّة إلى المعلول؛ حينئذٍ يُستكشف أنّه من قبيل الأوّل، ويكون الغرض داخلاً في العهدة ويكون المكلّف مسئولاً عن تحصيله، كما أنّ الأمر في لسان الدليل لو تعلّق بالفعل، يقول: يمكن أن يُستكشف أنّ الغرض ليس داخلاً في العهدة، وإنّما الداخل في العهدة هو خصوص الفعل. هذه قضية جانبية ليست مهمّة في أصل المطلب.
وفي مقام تطبيق هذا الذي قاله على محل الكلام ذكرنا في الدرس السابق أنه يقول أنّ المصالح والمفاسد المترتبة على المأمور به والمنهي عنه هي من قبيل الأغراض من القسم الثاني لا من قبيل الأغراض من القسم الأوّل، بمعنى أنّها ليست مسببات توليدية لفعل المكلف، وإنّما هي تتحقق نتيجة فعل المكلّف وانضمام أمور أخرى تكون دخيلة في تحقق تلك المصلحة وذاك الغرض وهي أمور خارجة عن اختيار المكلّف فتكون من قبيل القسم الثاني وعرفت أنّه ما كان من قبيل القسم الثاني، فهو لا يدخل في العهدة ولا يكون المكلف مسئولاً عن تحصيله وتحقيقه، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ ولذا لا معنى لأن يقال أنّ الغرض من الأمر دخل في العهدة واشتغلت به ذمّة المكلّف، فلابدّ من الاحتياط لأجل تحصيله، الغرض بمعنى المصلحة المترتبة على الفعل التي هي ملاك الأمر، هذه من قبيل الأغراض التي لا تكون نسبتها إلى فعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة، وإنّما فعل المأمور به يكون مقدّمة اعدادية لحصولها ولا يكون المكلّف مسئولاً عن تحقيق الغرض، وإنّما يكون مسئولاً تجاه ما كُلّف به، وهو لا يعلم بأنّه كُلّف أكثر من الأقل، فيجوز له الاقتصار على الأقل.
اعترض على الجواب الثاني على المانع الثالث، وننقل الاعتراض عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، والظاهر أنّه موجود قبله، يقول(قدّس سرّه)[1] في الاعتراض أنّ هذا الجواب عن المانع الثالث غير صحيح، وذلك لأنّه في الحقيقة لا يوجد عندنا غرض واحد، يعني نتعامل معه على أساس أنّه غرض واحد، وهذا الغرض الواحد يقال أنّه في محل الكلام نسبته إلى فعل المأمور به كنسبة الفعل إلى مقدّماته الاعدادية، كلا ليس هكذا، وإنّما يوجد عندنا في الواقع غرضان، غرض أقصى وغرض أدنى، الغرض الأقصى يصح فيه ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، هذا الغرض الأقصى تكون نسبته إلى فعل المأمور به نسبة المُعدّ، فينطبق عليه ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ هذا لا يدخل في العهدة؛ لأنّ هذا الغرض الأقصى يتوقف على مقدمات أخرى غير فعل المكلّف وهي خارجة عن قدرة المكلّف، فلا معنى لإدخاله في العهدة مع توقفه على مقدمات غير مقدورة. هذا صحيح، لكن هناك غرض أدنى نسبته إلى فعل المكلّف نسبة المعلول إلى علّته، نسبة المسبب التوليدي إلى سببه التوليدي، وهذا الغرض الأدنى هو عبارة عن إعداد المكلّف نفسه لتحصيل الغرض الأقصى، فهي مقدّمة إعدادية لحصول الغرض الأقصى، لكنّها تترتب على الفعل ترتّب المعلول على العلّة، وترتّب المسبب التوليدي على سببه، هذا الغرض الأدنى نستطيع أن نعبّر عنه بتهيئة المكلّف وإعداده لتحصيل الغرض الأقصى، بمعنى أنّ المكلّف عندما يأتي بالواجب الذي أُمر به، هذا الإتيان بما أُمر به يخلق في المكلّف حال تهيؤ واستعداد لتحصيل الغرض الأقصى، بحيث لو أنّ المكلف ترك فعل المأمور به لما حصل على الغرض الأقصى، صحيح الغرض الأقصى يتوقف على مقدّمات غير اختيارية وخارجة عن القدرة، لكن لا مانع من أن نقول أنّ الإتيان بالمأمور به يهيئ المكلّف ويعدّه لتحصيل الغرض الأقصى فيما لو انضمت إلى ذلك سائر المقدمات الغير الأختيارية بحسب الفرض ولنقل بعبارةٍ أخرى: أنّ فعل المأمور يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحيته، عدم الغرض الأقصى تارة ينشأ من ناحية فعل المكلف إذا ترك الإتيان بالمأمور به، وتارة أخرى المكلّف يأتي بالمأمور به، فمن ناحية المأمور به هو سدّ باب عدم الغرض الأقصى، لكن قد لا يحصل الغرض الأقصى نتيجة عدم حصول المقدّمات الأخرى الخارجة عن اختياره، المكلّف لا مانع من أن يُكلّف بسدّ باب العدم الأقصى من ناحية فعل المأمور به، بأن يُطلب منّه فعل المأمور به ويترتب على هذا الفعل غرض، ونسبة هذا الغرض إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة، والغرض الذي يترتب على فعل المأمور به هو الاستعداد والتهيؤ لتحصيل الغرض الأقصى في ما لو تمّت سائر المقدّمات الأخرى؛ لأنّه لولا ذلك، اي لو لم يأتِ بالمأمور به لما كان مهيئاً ومستعداً لتحصيل الغرض الأقصى، وهذا غرض قد يكون ملحوظاً وهو غرض يترتب على فعل المأمور به ترتب المعلول على العلّة، ليس فعل المكلّف بمثابة المقدمة الإعدادية لهذا الغرض الأدنى، نعم، هو بمثابة المقدمة الإعدادية، لكن بالنسبة إلى هذا الغرض الأدنى هو ليس مقدمة إعدادية، وإنّما هو علّة ومعلول، الإتيان بالواجب وبالمأمور به يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحيته، قهراً يسده، ترتب معلول على العلّة، لا يمكن أن يتخلّف، هو يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحية هذه المقدمة، الغرض الأقصى يتوقف على مقدّمات، منها فعل المكلّف ومنها مقدمات أخرى غير اختيارية، المكلّف بإتيانه بالمأمور به يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحية هذه المقدمة، هذا غرض أدنى يترتب على فعل المأمور به ترتب المعلول على العلّة، وهذا غرض ملحوظ، وقد اعترف المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ الغرض إذا كان من قبيل الأوّل يكون المكلّف مسئولاً عن تحصيله وتحقيقه، كل غرضٍ تكون نسبته إلى فعل المأمور به نسبة المعلول إلى العلّة يقول أنّ المكلّف مسئول عن تحصيله وتحقيقه، هذا الغرض الأدنى المكلّف مسئول عن تحقيقه، يعني يجب عليه أن يسدّ باب عدم الغرض الأقصى من ناحية هذه المقدّمة الأختيارية الداخلة تحت قدرة المكلّف، فإذا شك المكلّف بين الأقل والأكثر، مرجع هذا الشك في الحقيقة إلى أنّ هذا الغرض الأدنى هل يحصل بالإتيان بالأقل، أو لا يحصل ؟ لأنّه على تقدير أن يكون ما كُلف به هو الأكثر الغرض الأدنى لا يتحقق إذا اقتصر على الأقل؛ لأنّ الجزء الزائد بناءً على وجوب الأكثر يكون دخيلاً في الواجب وبالتالي يكون دخيلاً في تحقق الغرض الأدنى، ويكون دخيلاً في سد باب عدم الغرض الأقصى من ناحيته، فإذا شك في وجوب الجزء الزائد لا يجوز له الاقتصار على الأقل؛ بل يجب عليه الاحتياط لكي يضمن حصول الغرض الأدنى بأن يسد باب عدم الغرض الأقصى من ناحية ما هو داخل تحت اختياره، وهذا مردد بين الأقل والأكثر، فإن جاء بالأكثر فأنّه يحرز تحقق الغرض الأدنى، بينما إذا اقتصر على الأقل لا يحرز الغرض الأدنى، هو مسئول عن هذا الغرض وداخل في عهدته بحسب ما قال المحقق النائيني(قدّس سرّه)، فيجب عليه الاحتياط. المحقق النائيني(قدّس سرّه)نظره إلى الغرض الأقصى، صحيح أنّ الغرض الأقصى لا يدخل في العهدة؛ لأنّه يتوقف على مقدمات غير اختيارية، لكن هناك غرض قبل ذلك وهو الغرض الأدنى كما سمّاه، وهذا نسبته إلى الفعل نسبة المعلول إلى العلّة ويكون داخلاً في العهدة والمكلّف مسئول عن تحصيله فإذا شكّ في حصوله بالأقل كان شكّاً في المحصّل، الغرض دخل في العهدة، وأصبح المكلّف مسئولاً عن تحقيقه بحسب اعتراف المحقق النائيني(قدّس سرّه)،[2] فإذا شك في تحققه بالأقل كان من قبيل الشك في المحصّل، ولا إشكال في جريان قاعدة الاشتغال فيه، فلا يتم جواب المحقق النائيني(قدّس سرّه). وبناءً على هذا يظهر أنّ المانع الثالث وهو مسألة مراعات الغرض لم يتم الجواب عنه، لا بما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، ولا بما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه).
الجواب الثالث عن المانع الثالث: يتلخص هذا الجواب في انّه لابدّ أن نراجع دعوى أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى من الأمر، هذه القضية لابدّ من مراجعتها، هل يحكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى من الأمر مطلقاً وفي جميع الموارد، أو أنّ هناك حدوداً لهذه القضية التي يحكم بها العقل ؟ إن قلنا أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى مطلقاً وبلا حدود فقد يصح ما ذُكر في المانع الثالث؛ لأنّ القضية مرتبة كما ذكرنا، نحن نؤمن بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات، وأنّ المصالح والمفاسد في المتعلّقات هي العلّة في الحقيقة للأحكام الشرعية، ثبوتاً الأحكام الشرعية معلولة للملاكات والمصالح الموجودة في متعلّقاتها، فإذا حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى، والشيء الذي أمر بالفعل لأجله، يجب تحصيله بحكم العقل؛ حينئذٍ ترد قضية المانع الثالث ويقول بأنّه لابدّ من الاحتياط؛ لأنّ هذا يكون من موارد قاعدة الاشتغال، لكن الظاهر أنّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى مطلقاً، وإنّما يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى ــــــــــــ وكلامنا عن الغرض الملزم وليس عن الغرض الغير ملزم ــــــــــ في حالة ما إذا تصدّى نفس المولى لتحصيل ذلك الغرض بأن يجعل حكماً على طبق ذلك الغرض أو حتّى يأمر بنفس ذلك الغرض، عندما يتصدى المولى لتحصيل الغرض، العقل يحكم بلزوم تحصيله، بأيّ لسانٍ كان تصدّي المولى لتحصيل ذلك الغرض مع فرض تمكن المولى من التصدّي لتحصيله، هذا مولى يتمكن من أن يتصدّى لتحصيل الغرض؛ حينئذٍ نقول هذا المولى في هذه الحالة إذا لم يتصدَ لتحصيل الغرض كما إذا فرضنا كما هو في كثير من الموارد أمر بالفعل فقط، أمر بالصلاة، أمر بأجزاء معينة مجموعها يُسمّى صلاة، لم يتصدَ لتحصيل الغرض، لم يأمر بالغرض، ولم يجعل حكماً على وفق الغرض إطلاقاً مع تمكنه من ذلك، هل يحكم العقل في هذه الحالة بلزوم تحصيل الغرض لمجّرد أننا نؤمن بأنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات، أو لا ؟
الجواب الثالث يعتمد على إنكار حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى إذا لم يتصدَ المولى لتحصيله والأمر به مع تمكنه من ذلك، لا يحكم العقل بلزوم تحصيل ذلك الغرض، ومن ألسنة تصدي المولى لتحصيل الغرض هو أنّ يأمر بالاحتياط مثلاً، فالشارع يمكنه أن يأمر بالغرض، يمكنه أن يخبر عن اهتمامه بالغرض، بإمكانه أن يأمر بالاحتياط حتى يضمن الوصول إلى الغرض، مع كل ذلك هو ترك التصدّي لذلك، لم يأمر بالغرض، ولم يأمر بالاحتياط، ولم يجعل حكماً على طبق الغرض، وإنّما فقط أمر بالفعل، في هذه الحالة المُدّعى أنّ العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الغرض الملزم، ليس هناك دليل على لزوم تحصيل الغرض الملزم، العقل في هذه الحالة لا يحكم بذلك، ولا تشتغل الذمّة بذلك الغرض، وإنّما ما تشتغل به الذمّة هو عبارة عن ما تصدّى المولى للأمر به، وما تصدّى المولى للأمر به هو عبارة عن الفعل بأجزائه، الشيء الذي لم يتصدَ له لا يحكم العقل بلزوم تحصيله ولا تشتغل به الذمّة، وإنّما الذمّة تشتغل بالمقدار الذي تصدّى المولى للأمر به ولتحصيله، إذا تصدّى لتحصيل الغرض تشتغل به الذمّة بلا إشكال، لكن إذا لم يتصدّ لذلك مع تمكنه من التصدّي العقل لا يحكم حينئذٍ بلزوم تحصيل ذلك الغرض الملزم للشارع وبالتالي لا تجري فيه قاعدة الاشتغال؛ لأنّ ما تشتغل به الذمّة هو ما تصدّى المولى للأمر به وما تصدّى المولى للأمر به بحسب الفرض هو عبارة عن الفعل، عبارة عن الصلاة، هذا هو الذي تصدّى المولى للأمر به، هذا تشتغل به الذمّة، فإذا دار ما تشتغل به الذمّة وما أمر به الشارع بين الأقل والأكثر؛ حينئذٍ يأتي الكلام السابق، وهو أننا نعلم بأنّ المولى أمر بالأقل وتصدّى للأمر به، فيدخل في العهدة جزماً، وأمّا ما زاد على ذلك، فلا علم لنا بتصدّي المولى له وبالأمر به وبكونه واجباً، فيمكن إجراء البراءة لنفيه. الجواب الثالث يعتمد على أنّه لا وضوح في حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم بحيث يدخل هذا الغرض في العهدة ويكون الشك بين الأقل والأكثر من قبيل الشك في المحصّل، فتجري قاعدة الاشتغال، لا وضوح في هذا الجانب، وإنّما العقل يقول ما يتصدّى المولى للأمر به يدخل في العهدة، وأنا غير مسئول عن أشياء لا يتصدَى المولى لبيانها ولا للزوم تحصيلها مع تمكنه من ذلك، فلا وضوح في وجود حكمٍ عقلي من هذا القبيل حتّى يتفرّع عليه ما ذكروه في محل الكلام.
بعبارةٍ أخرى: أنّ المولى إذا أمر بالغرض أو أمر بشيءٍ على وفق الغرض كالاحتياط وأمثاله، وترك كيفية تحصيل هذا الغرض بعهدة المكلّف، ولم يتصدَ لبيان كيفية الوصول للغرض، وإنّما تركها للمكلّف، في هذه الحالة العقل يحكم بلزوم تحصيل الغرض ولزوم الاحتياط وجريان الاشتغال؛ لأنّ الشارع أمر بالغرض ودخل في العهدة، وكيفية تحصيله متروكة للمكلّف، فإذا شك المكلّف بين الأقل والأكثر، أنّ الأقل يوصل إلى الغرض، أو لا يوصل إلى الغرض يجب عليه الاحتياط بحكم العقل بلا إشكال، وأمّا إذا فرضنا أنّ القضية معكوسة وأنّ الشارع لم يأمر إلاّ بالفعل ونحن نعلم بأنّ هناك غرضاً ملزماً يترتب على الفعل وأنّ الشارع إنّما أمر بهذا الفعل لأجل حصول ذلك الغرض، لكن ما تصدّى الشارع لبيانه ليس هو الغرض وإنما هو الفعل، في هذه الحالة ليس من الواضح كما قلنا حكم العقل بلزوم تحصيل ذلك الغرض الملزم ولا مجال للالتزام بجريان قاعدة الاشتغال، وإنّما المكلّف يكون مسئولاً عن الفعل فقط، والفعل دائر بين الأقل والأكثر، إذن: لا مسئولية إلاّ بالأقل وأمّا الزائد فيُنفى بأصالة البراءة العقلية.
تطبيق هذا الجواب على محل الكلام واضح؛ لأنّه في محل الكلام نحن نفترض أنّ الأمر توجّه إلى الفعل ولا نفترض أنّه توجّه إلى الغرض، أنّ الأمر وقع بالصلاة، يعني تعلّق الصلاة وتعلّق بالوضوء، تعلّق بهذه الأفعال، فهذه هي التي يكون المكلّف مسئولاً عنها وهي دائرة بين الأقل والأكثر ويمكن إجراء البراءة، ولا تجري فيها قاعدة الاشتغال. هذا هو الجواب الثالث عن المانع الثالث. وهناك أجوبة أخرى لا ندخل فيها ونكتفي بهذا المقدار من الأجوبة عن المانع الثالث. إلى هنا يتم الكلام عن البراءة العقلية، وتبيّن ممّا ذكرناه أنّ الظاهر أنّ المقتضي لجريان البراءة العقلية في محل الكلام موجود، كما بيّنا في بداية البحث، المقتضي هو تحقق موضوع البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر؛ لأنّ احتمال العقاب موجود والشك موجود، وهذا هو موضوع البراءة العقلية، فتجري البراءة العقلية لنفي احتمال العقاب باعتبار الشك في وجوب الأكثر، فالمقتضي لجريان البراءة العقلية موجود، والمانع مفقود؛ لأنّ المانع من جريان البراءة العقلية هو أحد أمور ثلاثة تقدّم ذكرها، أمّا أن يكون المانع هو العلم الإجمالي بين الأقل والأكثر، وتبيّن أنّه ليس مانعاً؛ لأنّه منحل؛ بل في الحقيقة كما تقدّم لا علم إجمالي بهذا الشكل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر من البداية، لا أنّه هناك علم إجمالي ولكنّه ينحل بالعلم التفصيلي والشك البدوي؛ بل من البداية أساساً ليس هناك علم إجمالي، وإنّما هناك علم بوجوب الأقل تفصيلاً وشك في وجوب ما زاد عليه، ولا المانع الثاني الذي طرحه صاحب الفصول(قدّس سرّه) مانعاً من جريان البراءة، وهو أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل يعتبر يقيناً باشتغال الذمّة، والذمّة إذا اشتغلت يقيناً، فلابد من تفريغها يقيناً ولا تفرغ الذمّة يقيناً ممّا اشتغلت به يقيناً، يعني من الأقل إلاّ بالإتيان بالأكثر؛ لأنّ الأقل الذي نعلم باشتغال الذمّة به مردد بين أن يكون استقلالياً أو ضمنياً، وعلى تقدير كونه ضمنياً لا تفرغ الذمّة منه إلاّ بالإتيان بالأكثر، ولا المانع الثالث الذي أشار إليه الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) وهو مسألة الغرض. كلّ هذه لا تمنع من جريان البراءة العقلية، بعد ذلك ننتقل إلى البراءة الشرعية.