36/06/15
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ دوران
الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
كان الكلام في ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)وما اعتُرض عليه بالاعتراضات التي ذُكرت في كلماتهم، بالنسبة للاعتراض الأول، واضح أنّ الاعتراض الأوّل مبني على افتراض أنّ مراد المحقق النائيني(قدّس سرّه) في كلامه المتقدّم هو إثبات الإطلاق الثبوتي الواقعي، بمعنى كون الواجب واقعاً هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء المشكوك، إذا كان هذا غرضه، يعني هو بإجراء أصالة البراءة في الأكثر، أو إجراء أصالة البراءة في الجزء المشكوك بلحاظ وجوبه؛ لأنه يبدو أنّ كلماته مختلفة، في أحد تقريريه يبدو أنّه يجري أصالة البراءة في الأكثر، وفي التقرير الآخر كأنّه يجري البراءة في الزائد، في الجزء المشكوك، لكن في كلٍ منهما الظاهر أنّه لا يجري البراءة بلحاظ جزئية الجزء المشكوك، هذا شيء ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وسيأتي التعرض له.
على كل حال، هو إمّا أن يجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، أو يجري البراءة لنفي وجوب الجزء المشكوك؛ صحيح أنّه ذكر في البداية أنّ البراءة تجري لنفي التقيّد، لكنه ذكر في البداية أنّ التقيّد له منشأ انتزاع، والتقيّد إنّما يرفع برفع منشأ انتزاعه ومنشأ انتزاعه هو الأمر بالأكثر، فبالتالي يجري البراءة في وجوب الأكثر. على كل حال، بناءً على أن يكون مراده أنّه بإجرائه البراءة الشرعية الثابتة بحديث الرفع لنفي وجوب الأكثر نثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحية الجزء المشكوك.
إذا كان هذا مراده، فالاعتراض الأوّل يرد عليه؛ لأنّ حديث الرفع ليس ناظراً إلى الواقع، وإنّما مفاده نفي وجوب الاحتياط من ناحية وجوب الجزء المشكوك، وهذا لا يثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، هو فقط يرفع الاحتياط من ناحية الجزء العاشر ولا علاقة له بكونه ثابتاً واقعاً، أو لا، وأنّ الأقل من ناحيته مطلق في الواقع، أو أنّ الأقل مقيد به في الواقع، هو ليس له نظر إلى ذلك، فلا معنى لأن نثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحية الجزء العاشر بإجراء البراءة الشرعية لنفي وجوب الأكثر، فيرد عليه هذا الاعتراض.
أمّا إذا قلنا أنّه لا يريد إثبات الإطلاق الواقعي الثبوتي، لا يريد إثبات وجوب الأقل واقعاً على نحو الإطلاق من ناحية الجزء المشكوك، ليس له نظر إلى الواقع أصلاً، وإنّما هو يريد إثبات الإطلاق الظاهري كما عُبّر عنه، يريد إثبات أنّ المكلّف يجب عليه أن يتعامل مع الدليل معاملة المطلق، أن يبني على أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، وجوب البناء على أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر غير إثبات أنّ الواجب مطلقاً واقعاً من ناحية الجزء العاشر، هذا غير ذاك.
بعبارةٍ أخرى: أنّ أصالة البراءة الشرعية(حديث الرفع) يثبت به التأمين من ناحية ما يجري فيه، فإذا أجريناه في الأكثر، فهو يثبت التأمين من ناحية الأكثر، إذا أجريناه في الجزء المشكوك فهو يثبت التأمين من ناحية الجزء المشكوك، هذا الذي يريد إثباته المحقق النائيني(قدّس سرّه)، يريد أن يقول لا إشكال أنّ أصالة البراءة الشرعية إذا جرت في الجزء المشكوك، فهي تؤمّن من ناحية الجزء المشكوك، ومعنى أنّها تؤمّن من ناحية الجزء المشكوك هو أنّ المكلّف عملاً يبني على أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء المشكوك؛ لأن التأمين من ناحية الجزء المشكوك يعني في الحقيقة أنّك أيّها المكلّف الثابت في حقك هو الأقل المطلق من ناحية الجزء العاشر، لكن هذا ثبوت ظاهري ليس له نظر إلى مرحلة الواقع؛ فحينئذٍ بناءً على هذا وأن يكون مقصوده هو هذا وهو إثبات التأمين بحديث الرفع، إثبات أنّ المكلّف لا يجب عليه إلاّ الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، لا أنّ هذا هو الثابت واقعاً، بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا يرد الاعتراض السابق، الاعتراض السابق كان يقول أنّ حديث الرفع ليس له نظر إلى مرحلة الثبوت ومقام الواقع، فكيف نثبت به وجوب الأقل المطلق واقعاً، وهذا لا يرد عليه إذا فسّرنا كلامه بهذا التفسير؛ لأنّه لا ينظر إلى الواقع، هو لا يريد إثبات وجوب الأقل المطلق من ناحية الجزء المشكوك واقعاً حتّى يُعترض عليه بهذا الاعتراض وإنّما يريد إثباته ظاهراً، يريد إثبات أنّ المكلّف يبني على هذا المقدار، على أنّ الواجب عليه فعلاً هو ما يُكلّف به في مقام إداء الوظيفة العملية عند الشك هو أن يبني على عدم وجوب شيء أزيد من الأقل، بمعنى أنّ الأقل يكون مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، هذا هو ما يجب عليه أن يبني عليه اعتماداً على أصالة البراءة الجارية بلحاظ الجزء العاشر؛ حينئذٍ لا يرد عليه هذا الاعتراض؛ لأنّ الاعتراض مبني على أن يكون نظره إلى إثبات الواقع، وبناءً على هذا التفسير المحقق النائيني ليس له نظر إلى إثبات الواقع إطلاقاً، فلا يرد عليه هذا الاعتراض.
ونفس الكلام يقال عن الاعتراض الثاني وهو إشكال المثبتية الذي كان يقول بأنّ نفي وجوب الأكثر، أو نفي وجوب الجزء المشكوك لا يعني وجوب الأقل، وإنّما يلازم وجوب الأقل بناءً على علمنا الإجمالي هو أحد الأمرين إمّا الأقل أو الأكثر؛ فحينئذٍ يكون نفي أحدهما ملازماً لثبوت الآخر، لكن هذه الملازمة كما هو واضح، والأصل العملي البراءة الشرعية لا يمكنها إثبات هذا اللازم العقلي، لازم نفي وجوب الأكثر، لازم نفي وجوب الجزء المشكوك بضميمة العلم الإجمالي من الخارج هو أنّ الأقل هو الذي يكون واجباً، فإثبات وجوب الأقل بإجراء البراءة لنفي وجوب الأكثر، أو نفي وجوب الأكثر، أو نفي وجوب الجزء المشكوك لا يتم إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت، هذا كان الاعتراض الثاني. هذا الاعتراض أيضاً لا يرد إلاّ إذا قلنا بأنّ نظر المحقق النائيني(قدّس سرّه) كان إلى إثبات وجوب الأقل واقعاً، باعتبار أن نفي وجوب الأكثر بحديث الرفع ونفي وجوب الجزء المشكوك بحديث الرفع يلازم وجوب الأقل بضيمية العلم الإجمالي الذي ذكرناه، وأمّا إذا قلنا ليس هذا مراده، وإنّما مراده ما ذكرناه، مراده هو إثبات التأمين، إثبات السعة من ناحية الجزء العاشر، الجزء المشكوك، وأنّ المكلّف عملاً ليس مسئولاً عن الجزء الآخر، إذا كان هذا هو مقصوده؛ فحينئذٍ لا يلزم إشكال المثبتية، وذلك لأنّ هذا المعنى، وهو التأمين من ناحية الجزء العاشر وعدم المسئولية تجاهه مداليل مطابقية لحديث الرفع وليست مداليل التزامية، إذا فرضنا أنّ المحقق النائيني (قدّس سرّه) لا يريد أن يثبت بإجراء البراءة الشرعية في الجزء العاشر إلاّ التأمين بلحاظ الجزء العاشر ونفي المسئولية في مقام العمل من ناحية الجزء المشكوك، إذا كان غرضه إثبات هذا المعنى الذي نستطيع أن نعبّر عنه بعبارة أخرى: أنّ ما يجب عليه هو ما عدا الجزء المشكوك ظاهراً، إذا كان هذا هو مقصوده، فهذا يشكّل مدلولاً مطابقياً لحديث الرفع؛ لأنّ حديث الرفع مفاده هو التأمين وإثبات السعة وعدم المسئولية تجاه ما يُشك في وجوبه، أنّك لست مسئولاً تجاه ما يُشك في وجوبه، المكلّف لا يحتاج إلى أكثر من هذا، لا يحتاج إلى أكثر من أن يكون مؤمّناً من ناحية العقاب الذي يترتب على ترك الجزء العاشر في ما لو كان ثابتاً في الواقع، يحتاج إلى مؤمن ولا يحتاج إلى أكثر من هذا؛ حينئذٍ يكون في أمن إذا جرت البراءة يكون في سعة من ناحية الجزء العاشر، إذا كان مقصوده هو إثبات هذا المفاد الذي يمكن أن نصوغه بعبارة أخرى: هو إثبات وجوب الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر ظاهراً وبحسب الوظيفة العملية هو ليس مسئولاً إلاّ عن الإتيان بالأقل وليس مسئولاً من ناحية الجزء المشكوك. إذا كان مقصوده إثبات هذا المعنى بإجراء حديث الرفع بالنسبة إلى الجزء المشكوك، فهذا لا يلزم منه إشكال المثبتية؛ لأنّ هذا هو المدلول المطابقي لحديث الرفع لا أنّ حديث الرفع يدل على شيءٍ ولازمه هذا التأمين، ولازمه إثبات عدم المسئولية تجاه الجزء المشكوك؛ بل هذا هو مدلوله المطابقي فلا يلزم إشكال المثبتية.
وأمّا الاعتراض الثالث: هو كان ملتفتاً إلى أنّ أصالة البراءة الشرعية تجري في الأكثر؛ لأنّه يريد أن يثبت أنّ البراءة الشرعية تجري في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فتجري في الأكثر ولا تُعارض بالبراءة في الأقل؛ لأنّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير؛ لأنّ التكليف بالأقل معلوم على كل تقدير. هكذا أجاب على إشكال المعارضة. الاعتراض الثالث كان يقول: كيف نقول أنّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير وأنّ البراءة الشرعية لا تجري فيه، وأنّ البراءة في الأكثر لا تُعارض بالبراءة في الأقل؛ لأنّ الأقل لا تجري فيه البراءة؛ لأنّه معلوم الوجوب على كل تقدير؟ الاعتراض يقول ليس معلوم الوجوب على كل تقدير؛ لأنّ أحد تقديريه هو أن يكون وجوب الأقل وجوباً ضمنياً وعلى هذا التقدير لا يُكتفى بالأقل؛ بل يجب عليه أن يأتي بالأكثر، على تقدير أن يكون الأقل واجباً بوجوبٍ ضمني، واضح أنّه لا يكتفي بالإتيان بأحد أجزاء الواجب المركب من عدّة أجزاء، الإتيان بالأقل مع فرض كون وجوبه وجوباً ضمنياً الذي يعني أنّ هناك مركّباً من الأقل ومن غيره هو الذي تعلّق به الوجوب في الحقيقة وأنّ الوجوب الذي يتعلّق في الحقيقة هو وجوب ضمني مثل الوجوب الضمني الذي يتعلّق بالجزء الآخر، بناءً على وجوب الأكثر؛ حينئذٍ واضح أنّه لا يكتفي في امتثال هذا الوجوب الضمني الإتيان بالأقل؛ بل يجب لامتثاله الإتيان بالأكثر؛ لأنّه وجوب ضمني وليس وجوباً استقلالياً. إذن: أحد تقديري وجوب الأقل هو أن يكون وجوبه وجوباً ضمنياً، ومع كونه وجوباً ضمنياً لا يُكتفى في امتثاله بالأقل؛ بل لابدّ من الأكثر، فكيف يمكن أن نقول: نحن نعلم بوجوب الأقل على كل تقدير ونكتفي بالإتيان بالأقل ولا يجب علينا الإتيان بالأكثر ؟ مع أنّه على أحد التقديرين لا يُكتفى في مقام الامتثال بالإتيان بالأقل؛ بل لابدّ من الإتيان بالأكثر.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الوجوب الاستقلالي لكلٍ من الأقل والأكثر مشكوك ولا يوجد عندنا علم بأحدهما، كما أنّ الوجوب الاستقلالي للأكثر غير معلوم الوجوب الاستقلالي للأقل أيضاً غير معلوم، فالوجوب الاستقلالي للأقل مشكوك، فتجري البراءة لنفيه وتعارض البراءة الجارية في الأكثر، البراءة التي يريد أن يجريها المحقق النائيني(قدّس سرّه) في الأكثر هي لنفي وجوبه الاستقلالي، هذه البراءة معارضة بالبراءة لنفي الوجوب الاستقلالي للأقل، والوجوب الاستقلالي للأقل ليس معلوماً؛ بل هو أمر مشكوك؛ لأننا بالوجدان نحتمل أنّ وجوبه وجوب ضمني وليس وجوباً استقلالياً. إذن: لا مانع من جريان البراءة في الأقل ومعارضتها للبراءة في الأكثر.
يبدو أنّ هذا الاعتراض الثالث وارد على المحقق النائيني(قدّس سرّه) لأوّل وهلة؛ لأنّه لا معنى للقول أنّ البراءة تجري في الأكثر ولا تُعارض بالبراءة في الأقل؛ لأنّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير، فأن قيل: على ما تقدّم سابقاً في أصل البحث بأنّ حديث الرفع إنما يجري بلحاظ ما يدخل في العهدة، وبلحاظ ما يتنجّز على المكلّف، فيجري حديث الرفع لرفع هذا الشيء الذي يُشك في دخوله في العهدة وعدم دخوله، يُشك في تنجّزه على المكلّف بحيث يستحق العقاب على مخالفته أو عدم تنجّزه، فيجري حديث الرفع فيه، فلابدّ حينئذٍ، لكي نجري حديث الرفع في مورد، لابدّ أن نلحظ أنّ هذا الشيء الذي نجري فيه حديث الرفع لابدّ أن يكون قابلاً للدخول في العهدة وقابلاً لأن يكون منجّزاً حتى يجري فيه حديث الرفع، ما يقبل الدخول في العهدة وما يقبل أن يكون منجّزاً في الحقيقة هو أصل التكليف، أمّا حدود هذا التكليف، تقدّم هذا سابقاً، الاستقلالية والضمنية البشرط شيئية واللابشرطية، هذه أمور غير قابلة لأن تدخل في عهدة المكلّف، لا معنى لأن تكون الاستقلالية داخلة في عهدة المكلّف؛ لأنّها حدٌ للوجوب، وكذلك الضمنية لا معنى لأن تدخل في عهدة المكلّف، الذي يدخل في عهدة المكلّف هو أصل التكليف، وبلحاظ ذات التكليف الذي يقبل الدخول في عهدة المكلّف نحن نجري البراءة، هذا هو الميزان في جريان البراءة؛ لأنّ التكليف بشيء يقبل الدخول في عهدة المكلّف ويقبل أن يكون منجّزاً. إذا جئنا إلى التكليف سنجد أنّ ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو الصحيح، باعتبار أنّ من حقّه أن يقول أنّي أشك في وجوب الأكثر فأجري فيه البراءة الشرعية ولا تُعارض هذه البراءة في الأكثر بالبراءة في الأقل؛ لأنّي أعلم بوجوب الأقل على كل تقدير، سواء كان استقلالياً، أو كان ضمنياً، الضمنية والاستقلالية لا تدخل في العهدة، الذي يدخل في العهدة هو ذات التكليف وذات الوجوب، بلحاظ ذات الوجوب الدوران ليس بين متباينين، وإنّما الدوران بين الأقل والأكثر، بمعنى أنّ الأقل معلوم الوجوب بلا إشكال، ودخل في عهدة المكلّف، سواء كان ضمنياً أو كان استقلالياً. يعني بعبارة أخرى : انضم إليه شيء أو لم ينضم إليه شيء، على كل حال هو دخل في العهدة،، وتنجّز على المكلف، هذا مما نعلم به بالتفصيل، وجوب الأقل نعلم به تفصيلاً وبالتالي لا مجال لجريان البراءة في أصل التكليف بالنسبة إلى الأقل، وإن كنّا لا نعلم بكونه ضمنياً، أو كونه استقلالياً؛ لأنّ الضمنية والاستقلالية لا تدخل في العهدة وليست قابلة للتنجيز ولا يجري فيها الرفع، حديث الرفع يجري في الأكثر ولا يُعارض بجريانه في الأقل. هذا صحيح، وهذا معناه أنّه سوف يثبت رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه)، لكن هذا خُلف الفرض؛ لأنّ المفروض في محل كلامنا فعلاً هو أننا فرغنا عن عدم جريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. نحن كلامنا فعلاً وفتحنا هذا البحث بعد فرض الفراغ عن عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام، وإنّما نفتح بحث في أنّه على تقدير عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، هل هناك مجال لجريان البراءة الشرعية أو لا ؟ هذا محل كلامنا، فإذن: عندما نتكلّم عن جريان البراءة الشرعية أو عدم جريانها في المقام لابدّ أن نفرغ عن المنع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام، ومن الواضح أنّ الفراغ عن عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام هو فرع عدم انحلال العلم الإجمالي، وإلاّ إذا أنحل العلم الإجمالي في البحث السابق لا مانع من جريان البراءة العقلية، إنّما يقال بالمنع من جريان البراءة العقلية في المقام إذا افترضنا أنّ العلم الإجمالي باقٍ وغير منحل، ويكون العلم الإجمالي باقياً وغير منحل إذا أخذنا بنظر الاعتبار مسألة الاستقلالية والضمنية، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار البشرط شيئية واللابشرطية حتّى يكون دوران بين المتباينين، فيبقى العلم الإجمالي ولا ينحل ويمنع من جريان البراءة العقلية، فكأنّ المفروض في كلامنا فعلاً عندما نتكلّم عن جريان البراءة الشرعية أننا أخذنا بنظر الاعتبار الضمنية والاستقلالية وقلنا بأنّ الأمر في العلم الإجمالي نعلم إجمالاً بوجوب التسعة المطلقة، أو التسعة المقيّدة، وهما متباينان، التسعة المطلقة مباينة للتسعة المقيدة، فعلم إجمالي يدور بين متباينين يكون منجّزاً لكلا الطرفين، وهذا ما يمنعهم من إجراء البراءة العقلية في أحد الطرفين، فيمنع جريان البراءة العقلية في موارد العلم الإجمالي في موارد الدوران بين الأقل والأكثر؛ لأنّ مردّه إلى العلم الإجمالي بين المتباينين، فيمنع من جريان البراءة العقلية، ومعنى هذا الكلام أننا أخذنا الاستقلالية والضمنية بنظر الاعتبار، وأخذنا الإطلاق والتقييد والبشرط شيئية واللابشرطية بنظر الاعتبار وقلنا أنّ العلم الإجمالي لم ينحل؛ ولذا منعنا من جريان البراءة العقلية، عندما نأتي إلى محل الكلام، ما معنى أن نلغي الاستقلالية والضمنية ونقول أنّها لا تدخل في العهدة وليست قابلة للتنجيز أصلاً ؟ وإذا كانت غير قابلة للتنجيز ولا تدخل في العهدة؛ حينئذٍ لا معنى لأن نقول لا تجري البراءة العقلية، لابدّ أن لا نمنع من جريان البراءة العقلية، المنع من جريان البراءة العقلية فرع عدم انحلال العلم الإجمالي، وعدم انحلال العلم الإجمالي فرع أن تؤخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار، وإلاّ إذا لم نأخذها بنظر الاعتبار ينحل العلم الإجمالي، كما قلنا سابقاً، الصحيح هو أنّه لا يوجد في المقام علم إجمالي، من البداية يوجد شك بدوي وعلم تفصيلي إذا ألغينا هذه الأمور ولم نأخذها بنظر الاعتبار، يوجد علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب ما زاد عليه، فتنحل المشكلة، وعلى هذا الأساس قلنا لا مانع من جريان البراءة العقلية، فإذا كان مبنى الكلام فعلاً على افتراض المنع من جريان البراءة العقلية المتوقف على بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله المتوقف كذلك على أن تؤخذ الاستقلالية والضمنية والإطلاق والتقييد بنظر الاعتبار؛ حينئذٍ في محل الكلام لا معنى لأن نلغي ذلك؛ بل لابد أن نحافظ عليه، أخذناه بنظر الاعتبار، وعندما نأخذه بنظر الاعتبار؛ حينئذٍ لا يصح كلام المحقق النائيني (قدّس سرّه) من أنّ أصالة البراءة الشرعية تجري في الأكثر ولا تُعارض بالبراءة الشرعية بالنسبة إلى الأقل، كلٌ منهما تجري فيه البراءة الشرعية وتتحقق المعارضة بينهما كما هو الحال في البراءة العقلية بالنسبة إلى كلٍ من الطرفين؛ لوجود العلم الإجمالي، وهذا العلم الإجمالي يمنع من إجراء البراءة في كلٍ من الطرفين.
يبقى كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وكلامه لا يخلو من تعقيد ومن تفسيرات متعددة، صاحب الكفاية (قدّس سرّه) كما اتضح ممّا تقدّم هو أيضاً من القائلين بالتفصيل، كما قال المحقق النائيني(قدّس سرّه) بالتفصيل قال صاحب الكفاية (قدّس سرّه) قبله بالتفصيل بين البراءتين، منع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام، لكنّه أرتأى جريان البراءة الشرعية في محل الكلام. غاية الأمر أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) صريح، مباشرة قال أنّ البراءة الشرعية تجري في جزئية الجزء المشكوك، وبعد أن ذكر هذا اعترض على نفسه بأنّ الجزئية ليست أمراَ مجعولاً ولا تنالها يد الجعل فكيف تجري فيها البراءة ويشملها حديث الرفع ؟ والحال أنّ حديث الرفع يختص بما هو قابل للجعل وقابل للرفع، والجزئية بنفسها ليست قابلة للجعل وليست قابلة للرفع، فكيف يشملها حديث الرفع ؟ وجّه على نفسه هذا الاعتراض.
وأجاب عنه، قال: ليس هناك مشكلة، الجزئية ليست قابلة بنفسها للرفع، لكن هي قابلة للرفع والوضع برفع ووضع منشأ انتزاعها. تقريباً نفس الكلام الذي نقلناه عن المحقق النائيني(قدّس سرّه). ومنشأ انتزاع الجزئية هو الأمر الضمني المتعلّق بها، وهذا الأمر الضمني المتعلّق بها قابل للرفع، وهذا المقدار يكفي في صحّة جريان حديث الرفع، فنجري حديث الرفع لرفع الجزئية برفع منشأ انتزاعها الذي هو عبارة عن الأمر الضمني، يعني نشك في وجوب السورة؛ حينئذٍ نقول منشأ انتزاع جزئية السورة من الصلاة هو الأمر الضمني المتعلّق بالسورة؛ لأنّ السورة لو كانت جزءاً، فهناك أمر استقلالي يتعلّق بالمجموع المركب، وهناك أوامر ضمنية بعدد الأجزاء، هذا الأمر الضمني المتعلّق بالسورة نحن نشك فيه، فنسلط حديث الرفع عليه، فنرفع هذا الأمر الضمني، وبالتالي نرفع جزئية السورة.
حينئذٍ وجّه على نفسه إشكالاً آخر وهو أنّ هذا الأمر الضمني إذا أجرينا فيه حديث الرفع ورفعنا الأمر الضمني، الأمر الضمني لا يمكن رفعه إلاّ برفع الأمر بالمركب، الأمر بالمركّب من عشرة أجزاء هذا إذا رفعناه؛ حينئذٍ يرتفع الأمر الضمني المتعلّق بالسورة، فإذا كان رفع الأمر الضمني بحديث الرفع يتوقف على رفع الأمر بالكل؛ حينئذٍ يرد هذا الإشكال وهو أنّه إذا رفعنا اليد عن الأمر بالكل، فكيف نثبت الأمر بالباقي لتصحيح الإتيان بالأقل والاجتزاء به بعد إجراء البراءة عن جزئية الجزء المشكوك ؟ ما هو الدليل على وجود أمر بالباقي ؟ نحن لا نعلم بوجود أمر بالباقي، فما هو الدليل على الأمر بالباقي ؟
كان الكلام في ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)وما اعتُرض عليه بالاعتراضات التي ذُكرت في كلماتهم، بالنسبة للاعتراض الأول، واضح أنّ الاعتراض الأوّل مبني على افتراض أنّ مراد المحقق النائيني(قدّس سرّه) في كلامه المتقدّم هو إثبات الإطلاق الثبوتي الواقعي، بمعنى كون الواجب واقعاً هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء المشكوك، إذا كان هذا غرضه، يعني هو بإجراء أصالة البراءة في الأكثر، أو إجراء أصالة البراءة في الجزء المشكوك بلحاظ وجوبه؛ لأنه يبدو أنّ كلماته مختلفة، في أحد تقريريه يبدو أنّه يجري أصالة البراءة في الأكثر، وفي التقرير الآخر كأنّه يجري البراءة في الزائد، في الجزء المشكوك، لكن في كلٍ منهما الظاهر أنّه لا يجري البراءة بلحاظ جزئية الجزء المشكوك، هذا شيء ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وسيأتي التعرض له.
على كل حال، هو إمّا أن يجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، أو يجري البراءة لنفي وجوب الجزء المشكوك؛ صحيح أنّه ذكر في البداية أنّ البراءة تجري لنفي التقيّد، لكنه ذكر في البداية أنّ التقيّد له منشأ انتزاع، والتقيّد إنّما يرفع برفع منشأ انتزاعه ومنشأ انتزاعه هو الأمر بالأكثر، فبالتالي يجري البراءة في وجوب الأكثر. على كل حال، بناءً على أن يكون مراده أنّه بإجرائه البراءة الشرعية الثابتة بحديث الرفع لنفي وجوب الأكثر نثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحية الجزء المشكوك.
إذا كان هذا مراده، فالاعتراض الأوّل يرد عليه؛ لأنّ حديث الرفع ليس ناظراً إلى الواقع، وإنّما مفاده نفي وجوب الاحتياط من ناحية وجوب الجزء المشكوك، وهذا لا يثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، هو فقط يرفع الاحتياط من ناحية الجزء العاشر ولا علاقة له بكونه ثابتاً واقعاً، أو لا، وأنّ الأقل من ناحيته مطلق في الواقع، أو أنّ الأقل مقيد به في الواقع، هو ليس له نظر إلى ذلك، فلا معنى لأن نثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحية الجزء العاشر بإجراء البراءة الشرعية لنفي وجوب الأكثر، فيرد عليه هذا الاعتراض.
أمّا إذا قلنا أنّه لا يريد إثبات الإطلاق الواقعي الثبوتي، لا يريد إثبات وجوب الأقل واقعاً على نحو الإطلاق من ناحية الجزء المشكوك، ليس له نظر إلى الواقع أصلاً، وإنّما هو يريد إثبات الإطلاق الظاهري كما عُبّر عنه، يريد إثبات أنّ المكلّف يجب عليه أن يتعامل مع الدليل معاملة المطلق، أن يبني على أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، وجوب البناء على أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر غير إثبات أنّ الواجب مطلقاً واقعاً من ناحية الجزء العاشر، هذا غير ذاك.
بعبارةٍ أخرى: أنّ أصالة البراءة الشرعية(حديث الرفع) يثبت به التأمين من ناحية ما يجري فيه، فإذا أجريناه في الأكثر، فهو يثبت التأمين من ناحية الأكثر، إذا أجريناه في الجزء المشكوك فهو يثبت التأمين من ناحية الجزء المشكوك، هذا الذي يريد إثباته المحقق النائيني(قدّس سرّه)، يريد أن يقول لا إشكال أنّ أصالة البراءة الشرعية إذا جرت في الجزء المشكوك، فهي تؤمّن من ناحية الجزء المشكوك، ومعنى أنّها تؤمّن من ناحية الجزء المشكوك هو أنّ المكلّف عملاً يبني على أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحية الجزء المشكوك؛ لأن التأمين من ناحية الجزء المشكوك يعني في الحقيقة أنّك أيّها المكلّف الثابت في حقك هو الأقل المطلق من ناحية الجزء العاشر، لكن هذا ثبوت ظاهري ليس له نظر إلى مرحلة الواقع؛ فحينئذٍ بناءً على هذا وأن يكون مقصوده هو هذا وهو إثبات التأمين بحديث الرفع، إثبات أنّ المكلّف لا يجب عليه إلاّ الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، لا أنّ هذا هو الثابت واقعاً، بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا يرد الاعتراض السابق، الاعتراض السابق كان يقول أنّ حديث الرفع ليس له نظر إلى مرحلة الثبوت ومقام الواقع، فكيف نثبت به وجوب الأقل المطلق واقعاً، وهذا لا يرد عليه إذا فسّرنا كلامه بهذا التفسير؛ لأنّه لا ينظر إلى الواقع، هو لا يريد إثبات وجوب الأقل المطلق من ناحية الجزء المشكوك واقعاً حتّى يُعترض عليه بهذا الاعتراض وإنّما يريد إثباته ظاهراً، يريد إثبات أنّ المكلّف يبني على هذا المقدار، على أنّ الواجب عليه فعلاً هو ما يُكلّف به في مقام إداء الوظيفة العملية عند الشك هو أن يبني على عدم وجوب شيء أزيد من الأقل، بمعنى أنّ الأقل يكون مطلقاً من ناحية الجزء العاشر، هذا هو ما يجب عليه أن يبني عليه اعتماداً على أصالة البراءة الجارية بلحاظ الجزء العاشر؛ حينئذٍ لا يرد عليه هذا الاعتراض؛ لأنّ الاعتراض مبني على أن يكون نظره إلى إثبات الواقع، وبناءً على هذا التفسير المحقق النائيني ليس له نظر إلى إثبات الواقع إطلاقاً، فلا يرد عليه هذا الاعتراض.
ونفس الكلام يقال عن الاعتراض الثاني وهو إشكال المثبتية الذي كان يقول بأنّ نفي وجوب الأكثر، أو نفي وجوب الجزء المشكوك لا يعني وجوب الأقل، وإنّما يلازم وجوب الأقل بناءً على علمنا الإجمالي هو أحد الأمرين إمّا الأقل أو الأكثر؛ فحينئذٍ يكون نفي أحدهما ملازماً لثبوت الآخر، لكن هذه الملازمة كما هو واضح، والأصل العملي البراءة الشرعية لا يمكنها إثبات هذا اللازم العقلي، لازم نفي وجوب الأكثر، لازم نفي وجوب الجزء المشكوك بضميمة العلم الإجمالي من الخارج هو أنّ الأقل هو الذي يكون واجباً، فإثبات وجوب الأقل بإجراء البراءة لنفي وجوب الأكثر، أو نفي وجوب الأكثر، أو نفي وجوب الجزء المشكوك لا يتم إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت، هذا كان الاعتراض الثاني. هذا الاعتراض أيضاً لا يرد إلاّ إذا قلنا بأنّ نظر المحقق النائيني(قدّس سرّه) كان إلى إثبات وجوب الأقل واقعاً، باعتبار أن نفي وجوب الأكثر بحديث الرفع ونفي وجوب الجزء المشكوك بحديث الرفع يلازم وجوب الأقل بضيمية العلم الإجمالي الذي ذكرناه، وأمّا إذا قلنا ليس هذا مراده، وإنّما مراده ما ذكرناه، مراده هو إثبات التأمين، إثبات السعة من ناحية الجزء العاشر، الجزء المشكوك، وأنّ المكلّف عملاً ليس مسئولاً عن الجزء الآخر، إذا كان هذا هو مقصوده؛ فحينئذٍ لا يلزم إشكال المثبتية، وذلك لأنّ هذا المعنى، وهو التأمين من ناحية الجزء العاشر وعدم المسئولية تجاهه مداليل مطابقية لحديث الرفع وليست مداليل التزامية، إذا فرضنا أنّ المحقق النائيني (قدّس سرّه) لا يريد أن يثبت بإجراء البراءة الشرعية في الجزء العاشر إلاّ التأمين بلحاظ الجزء العاشر ونفي المسئولية في مقام العمل من ناحية الجزء المشكوك، إذا كان غرضه إثبات هذا المعنى الذي نستطيع أن نعبّر عنه بعبارة أخرى: أنّ ما يجب عليه هو ما عدا الجزء المشكوك ظاهراً، إذا كان هذا هو مقصوده، فهذا يشكّل مدلولاً مطابقياً لحديث الرفع؛ لأنّ حديث الرفع مفاده هو التأمين وإثبات السعة وعدم المسئولية تجاه ما يُشك في وجوبه، أنّك لست مسئولاً تجاه ما يُشك في وجوبه، المكلّف لا يحتاج إلى أكثر من هذا، لا يحتاج إلى أكثر من أن يكون مؤمّناً من ناحية العقاب الذي يترتب على ترك الجزء العاشر في ما لو كان ثابتاً في الواقع، يحتاج إلى مؤمن ولا يحتاج إلى أكثر من هذا؛ حينئذٍ يكون في أمن إذا جرت البراءة يكون في سعة من ناحية الجزء العاشر، إذا كان مقصوده هو إثبات هذا المفاد الذي يمكن أن نصوغه بعبارة أخرى: هو إثبات وجوب الأقل مطلقاً من ناحية الجزء العاشر ظاهراً وبحسب الوظيفة العملية هو ليس مسئولاً إلاّ عن الإتيان بالأقل وليس مسئولاً من ناحية الجزء المشكوك. إذا كان مقصوده إثبات هذا المعنى بإجراء حديث الرفع بالنسبة إلى الجزء المشكوك، فهذا لا يلزم منه إشكال المثبتية؛ لأنّ هذا هو المدلول المطابقي لحديث الرفع لا أنّ حديث الرفع يدل على شيءٍ ولازمه هذا التأمين، ولازمه إثبات عدم المسئولية تجاه الجزء المشكوك؛ بل هذا هو مدلوله المطابقي فلا يلزم إشكال المثبتية.
وأمّا الاعتراض الثالث: هو كان ملتفتاً إلى أنّ أصالة البراءة الشرعية تجري في الأكثر؛ لأنّه يريد أن يثبت أنّ البراءة الشرعية تجري في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فتجري في الأكثر ولا تُعارض بالبراءة في الأقل؛ لأنّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير؛ لأنّ التكليف بالأقل معلوم على كل تقدير. هكذا أجاب على إشكال المعارضة. الاعتراض الثالث كان يقول: كيف نقول أنّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير وأنّ البراءة الشرعية لا تجري فيه، وأنّ البراءة في الأكثر لا تُعارض بالبراءة في الأقل؛ لأنّ الأقل لا تجري فيه البراءة؛ لأنّه معلوم الوجوب على كل تقدير؟ الاعتراض يقول ليس معلوم الوجوب على كل تقدير؛ لأنّ أحد تقديريه هو أن يكون وجوب الأقل وجوباً ضمنياً وعلى هذا التقدير لا يُكتفى بالأقل؛ بل يجب عليه أن يأتي بالأكثر، على تقدير أن يكون الأقل واجباً بوجوبٍ ضمني، واضح أنّه لا يكتفي بالإتيان بأحد أجزاء الواجب المركب من عدّة أجزاء، الإتيان بالأقل مع فرض كون وجوبه وجوباً ضمنياً الذي يعني أنّ هناك مركّباً من الأقل ومن غيره هو الذي تعلّق به الوجوب في الحقيقة وأنّ الوجوب الذي يتعلّق في الحقيقة هو وجوب ضمني مثل الوجوب الضمني الذي يتعلّق بالجزء الآخر، بناءً على وجوب الأكثر؛ حينئذٍ واضح أنّه لا يكتفي في امتثال هذا الوجوب الضمني الإتيان بالأقل؛ بل يجب لامتثاله الإتيان بالأكثر؛ لأنّه وجوب ضمني وليس وجوباً استقلالياً. إذن: أحد تقديري وجوب الأقل هو أن يكون وجوبه وجوباً ضمنياً، ومع كونه وجوباً ضمنياً لا يُكتفى في امتثاله بالأقل؛ بل لابدّ من الأكثر، فكيف يمكن أن نقول: نحن نعلم بوجوب الأقل على كل تقدير ونكتفي بالإتيان بالأقل ولا يجب علينا الإتيان بالأكثر ؟ مع أنّه على أحد التقديرين لا يُكتفى في مقام الامتثال بالإتيان بالأقل؛ بل لابدّ من الإتيان بالأكثر.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ الوجوب الاستقلالي لكلٍ من الأقل والأكثر مشكوك ولا يوجد عندنا علم بأحدهما، كما أنّ الوجوب الاستقلالي للأكثر غير معلوم الوجوب الاستقلالي للأقل أيضاً غير معلوم، فالوجوب الاستقلالي للأقل مشكوك، فتجري البراءة لنفيه وتعارض البراءة الجارية في الأكثر، البراءة التي يريد أن يجريها المحقق النائيني(قدّس سرّه) في الأكثر هي لنفي وجوبه الاستقلالي، هذه البراءة معارضة بالبراءة لنفي الوجوب الاستقلالي للأقل، والوجوب الاستقلالي للأقل ليس معلوماً؛ بل هو أمر مشكوك؛ لأننا بالوجدان نحتمل أنّ وجوبه وجوب ضمني وليس وجوباً استقلالياً. إذن: لا مانع من جريان البراءة في الأقل ومعارضتها للبراءة في الأكثر.
يبدو أنّ هذا الاعتراض الثالث وارد على المحقق النائيني(قدّس سرّه) لأوّل وهلة؛ لأنّه لا معنى للقول أنّ البراءة تجري في الأكثر ولا تُعارض بالبراءة في الأقل؛ لأنّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير، فأن قيل: على ما تقدّم سابقاً في أصل البحث بأنّ حديث الرفع إنما يجري بلحاظ ما يدخل في العهدة، وبلحاظ ما يتنجّز على المكلّف، فيجري حديث الرفع لرفع هذا الشيء الذي يُشك في دخوله في العهدة وعدم دخوله، يُشك في تنجّزه على المكلّف بحيث يستحق العقاب على مخالفته أو عدم تنجّزه، فيجري حديث الرفع فيه، فلابدّ حينئذٍ، لكي نجري حديث الرفع في مورد، لابدّ أن نلحظ أنّ هذا الشيء الذي نجري فيه حديث الرفع لابدّ أن يكون قابلاً للدخول في العهدة وقابلاً لأن يكون منجّزاً حتى يجري فيه حديث الرفع، ما يقبل الدخول في العهدة وما يقبل أن يكون منجّزاً في الحقيقة هو أصل التكليف، أمّا حدود هذا التكليف، تقدّم هذا سابقاً، الاستقلالية والضمنية البشرط شيئية واللابشرطية، هذه أمور غير قابلة لأن تدخل في عهدة المكلّف، لا معنى لأن تكون الاستقلالية داخلة في عهدة المكلّف؛ لأنّها حدٌ للوجوب، وكذلك الضمنية لا معنى لأن تدخل في عهدة المكلّف، الذي يدخل في عهدة المكلّف هو أصل التكليف، وبلحاظ ذات التكليف الذي يقبل الدخول في عهدة المكلّف نحن نجري البراءة، هذا هو الميزان في جريان البراءة؛ لأنّ التكليف بشيء يقبل الدخول في عهدة المكلّف ويقبل أن يكون منجّزاً. إذا جئنا إلى التكليف سنجد أنّ ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو الصحيح، باعتبار أنّ من حقّه أن يقول أنّي أشك في وجوب الأكثر فأجري فيه البراءة الشرعية ولا تُعارض هذه البراءة في الأكثر بالبراءة في الأقل؛ لأنّي أعلم بوجوب الأقل على كل تقدير، سواء كان استقلالياً، أو كان ضمنياً، الضمنية والاستقلالية لا تدخل في العهدة، الذي يدخل في العهدة هو ذات التكليف وذات الوجوب، بلحاظ ذات الوجوب الدوران ليس بين متباينين، وإنّما الدوران بين الأقل والأكثر، بمعنى أنّ الأقل معلوم الوجوب بلا إشكال، ودخل في عهدة المكلّف، سواء كان ضمنياً أو كان استقلالياً. يعني بعبارة أخرى : انضم إليه شيء أو لم ينضم إليه شيء، على كل حال هو دخل في العهدة،، وتنجّز على المكلف، هذا مما نعلم به بالتفصيل، وجوب الأقل نعلم به تفصيلاً وبالتالي لا مجال لجريان البراءة في أصل التكليف بالنسبة إلى الأقل، وإن كنّا لا نعلم بكونه ضمنياً، أو كونه استقلالياً؛ لأنّ الضمنية والاستقلالية لا تدخل في العهدة وليست قابلة للتنجيز ولا يجري فيها الرفع، حديث الرفع يجري في الأكثر ولا يُعارض بجريانه في الأقل. هذا صحيح، وهذا معناه أنّه سوف يثبت رأي المحقق النائيني(قدّس سرّه)، لكن هذا خُلف الفرض؛ لأنّ المفروض في محل كلامنا فعلاً هو أننا فرغنا عن عدم جريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. نحن كلامنا فعلاً وفتحنا هذا البحث بعد فرض الفراغ عن عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام، وإنّما نفتح بحث في أنّه على تقدير عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، هل هناك مجال لجريان البراءة الشرعية أو لا ؟ هذا محل كلامنا، فإذن: عندما نتكلّم عن جريان البراءة الشرعية أو عدم جريانها في المقام لابدّ أن نفرغ عن المنع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام، ومن الواضح أنّ الفراغ عن عدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام هو فرع عدم انحلال العلم الإجمالي، وإلاّ إذا أنحل العلم الإجمالي في البحث السابق لا مانع من جريان البراءة العقلية، إنّما يقال بالمنع من جريان البراءة العقلية في المقام إذا افترضنا أنّ العلم الإجمالي باقٍ وغير منحل، ويكون العلم الإجمالي باقياً وغير منحل إذا أخذنا بنظر الاعتبار مسألة الاستقلالية والضمنية، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار البشرط شيئية واللابشرطية حتّى يكون دوران بين المتباينين، فيبقى العلم الإجمالي ولا ينحل ويمنع من جريان البراءة العقلية، فكأنّ المفروض في كلامنا فعلاً عندما نتكلّم عن جريان البراءة الشرعية أننا أخذنا بنظر الاعتبار الضمنية والاستقلالية وقلنا بأنّ الأمر في العلم الإجمالي نعلم إجمالاً بوجوب التسعة المطلقة، أو التسعة المقيّدة، وهما متباينان، التسعة المطلقة مباينة للتسعة المقيدة، فعلم إجمالي يدور بين متباينين يكون منجّزاً لكلا الطرفين، وهذا ما يمنعهم من إجراء البراءة العقلية في أحد الطرفين، فيمنع جريان البراءة العقلية في موارد العلم الإجمالي في موارد الدوران بين الأقل والأكثر؛ لأنّ مردّه إلى العلم الإجمالي بين المتباينين، فيمنع من جريان البراءة العقلية، ومعنى هذا الكلام أننا أخذنا الاستقلالية والضمنية بنظر الاعتبار، وأخذنا الإطلاق والتقييد والبشرط شيئية واللابشرطية بنظر الاعتبار وقلنا أنّ العلم الإجمالي لم ينحل؛ ولذا منعنا من جريان البراءة العقلية، عندما نأتي إلى محل الكلام، ما معنى أن نلغي الاستقلالية والضمنية ونقول أنّها لا تدخل في العهدة وليست قابلة للتنجيز أصلاً ؟ وإذا كانت غير قابلة للتنجيز ولا تدخل في العهدة؛ حينئذٍ لا معنى لأن نقول لا تجري البراءة العقلية، لابدّ أن لا نمنع من جريان البراءة العقلية، المنع من جريان البراءة العقلية فرع عدم انحلال العلم الإجمالي، وعدم انحلال العلم الإجمالي فرع أن تؤخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار، وإلاّ إذا لم نأخذها بنظر الاعتبار ينحل العلم الإجمالي، كما قلنا سابقاً، الصحيح هو أنّه لا يوجد في المقام علم إجمالي، من البداية يوجد شك بدوي وعلم تفصيلي إذا ألغينا هذه الأمور ولم نأخذها بنظر الاعتبار، يوجد علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب ما زاد عليه، فتنحل المشكلة، وعلى هذا الأساس قلنا لا مانع من جريان البراءة العقلية، فإذا كان مبنى الكلام فعلاً على افتراض المنع من جريان البراءة العقلية المتوقف على بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله المتوقف كذلك على أن تؤخذ الاستقلالية والضمنية والإطلاق والتقييد بنظر الاعتبار؛ حينئذٍ في محل الكلام لا معنى لأن نلغي ذلك؛ بل لابد أن نحافظ عليه، أخذناه بنظر الاعتبار، وعندما نأخذه بنظر الاعتبار؛ حينئذٍ لا يصح كلام المحقق النائيني (قدّس سرّه) من أنّ أصالة البراءة الشرعية تجري في الأكثر ولا تُعارض بالبراءة الشرعية بالنسبة إلى الأقل، كلٌ منهما تجري فيه البراءة الشرعية وتتحقق المعارضة بينهما كما هو الحال في البراءة العقلية بالنسبة إلى كلٍ من الطرفين؛ لوجود العلم الإجمالي، وهذا العلم الإجمالي يمنع من إجراء البراءة في كلٍ من الطرفين.
يبقى كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وكلامه لا يخلو من تعقيد ومن تفسيرات متعددة، صاحب الكفاية (قدّس سرّه) كما اتضح ممّا تقدّم هو أيضاً من القائلين بالتفصيل، كما قال المحقق النائيني(قدّس سرّه) بالتفصيل قال صاحب الكفاية (قدّس سرّه) قبله بالتفصيل بين البراءتين، منع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام، لكنّه أرتأى جريان البراءة الشرعية في محل الكلام. غاية الأمر أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) صريح، مباشرة قال أنّ البراءة الشرعية تجري في جزئية الجزء المشكوك، وبعد أن ذكر هذا اعترض على نفسه بأنّ الجزئية ليست أمراَ مجعولاً ولا تنالها يد الجعل فكيف تجري فيها البراءة ويشملها حديث الرفع ؟ والحال أنّ حديث الرفع يختص بما هو قابل للجعل وقابل للرفع، والجزئية بنفسها ليست قابلة للجعل وليست قابلة للرفع، فكيف يشملها حديث الرفع ؟ وجّه على نفسه هذا الاعتراض.
وأجاب عنه، قال: ليس هناك مشكلة، الجزئية ليست قابلة بنفسها للرفع، لكن هي قابلة للرفع والوضع برفع ووضع منشأ انتزاعها. تقريباً نفس الكلام الذي نقلناه عن المحقق النائيني(قدّس سرّه). ومنشأ انتزاع الجزئية هو الأمر الضمني المتعلّق بها، وهذا الأمر الضمني المتعلّق بها قابل للرفع، وهذا المقدار يكفي في صحّة جريان حديث الرفع، فنجري حديث الرفع لرفع الجزئية برفع منشأ انتزاعها الذي هو عبارة عن الأمر الضمني، يعني نشك في وجوب السورة؛ حينئذٍ نقول منشأ انتزاع جزئية السورة من الصلاة هو الأمر الضمني المتعلّق بالسورة؛ لأنّ السورة لو كانت جزءاً، فهناك أمر استقلالي يتعلّق بالمجموع المركب، وهناك أوامر ضمنية بعدد الأجزاء، هذا الأمر الضمني المتعلّق بالسورة نحن نشك فيه، فنسلط حديث الرفع عليه، فنرفع هذا الأمر الضمني، وبالتالي نرفع جزئية السورة.
حينئذٍ وجّه على نفسه إشكالاً آخر وهو أنّ هذا الأمر الضمني إذا أجرينا فيه حديث الرفع ورفعنا الأمر الضمني، الأمر الضمني لا يمكن رفعه إلاّ برفع الأمر بالمركب، الأمر بالمركّب من عشرة أجزاء هذا إذا رفعناه؛ حينئذٍ يرتفع الأمر الضمني المتعلّق بالسورة، فإذا كان رفع الأمر الضمني بحديث الرفع يتوقف على رفع الأمر بالكل؛ حينئذٍ يرد هذا الإشكال وهو أنّه إذا رفعنا اليد عن الأمر بالكل، فكيف نثبت الأمر بالباقي لتصحيح الإتيان بالأقل والاجتزاء به بعد إجراء البراءة عن جزئية الجزء المشكوك ؟ ما هو الدليل على وجود أمر بالباقي ؟ نحن لا نعلم بوجود أمر بالباقي، فما هو الدليل على الأمر بالباقي ؟