جلسة 36
المفطرات
وأجاب السيّد الخوئي[1] بثلاثة أجوبة:
الجواب الأوّل: أنّ رفع اليد عن الظهور في فقرة لقرينة خاصة لا يوجب رفع اليد عن ظهور الفقرة الثانية كما هو الحال في باب الوجوب والاستحباب، فأنّه إذا اشتملت رواية على أوامر متعددة، كالأمر بغُسل الجنابة وغُسل الجمعة، وقامت قرينة على الاستحباب بلحاظ غُسل الجمعة، فلا تُرفع اليد عن الوجوب بلحاظ الأمر بغسل الجنابة.
وهذه المناقشة يذكرها ـ قدّس سرّه ـ في كثير من الموارد، إذ في كثير من الموارد نواجه فقرات من هذا القبيل، أي: أنّ بعضها لا يراد ظهوره، ويبقى ـ قدّس سرّه ـ آخذاً بظهور الفقرات الاُخرى باعتبار ما أشار إليه هنا، وهو أنّ رفع اليد في فقرة لا يستلزم رفعها في بقية الفقرات.
وفيه: أنّ مستند حجية الظهور هو السيرة العقلائية، ونحن لا نجزم بعمل العقلاء في مثل هذه الحالة ـ التي ثبت فيها أنّ المراد في فقرة نقض الوضوء نقض مرتبة الكمال ـ بالظهور في النقض الحقيقي بلحاظ فقرة نقض الصوم، بل لا يعود ظهور في إرادة النقض الحقيقي ليعملون به. والمجال في التشكيك في انعقاد السيرة على العمل موجود.
وقياس المسألة على مسألة الوجوب والندب هو مع الفارق؛ لأنّه على مسلكه ـ قدّس سرّه ـ في باب الوجوب والندب الذي هو مسلك حكم العقل لا يكون هناك ظهور للأمر في الوجوب، حتّى نقول قد رفعنا اليد عنه بلحاظ غُسل الجمعة دون غُسل الجنابة. ليكون ذلك مؤيداً للمقام، بل أنّ الأمر ظاهر في الطلب فقط، والوجوب والاستحباب يستفادان من حكم العقل، فأين إذاً رفع اليد عن الظهور بلحاظ بعض الفقرات والتحفظ عليه بلحاظ الفقرات الاُخر ليكون ذلك شاهداً للمقام؟!
ودعوى أنّ رفع اليد عن الظهور في فقرة لا يستلزم رفع اليد عن الظهور بلحاظ البقية هي قضية حلوة من حيث الألفاظ ولكنها فارغة من حيث المحتوى والدليل، إذ القضية في باب الظهور ليست برهانية وعلمية ليُطبّق مثل هذا الكلام، وإنما الأمر مرتبط بالسيرة العقلائية كما قلنا، ولابدّ من الرجوع إليهم في أمثال هذه الموارد لنرى ماذا يعملون، وقد قلنا نحن نشكّ في انعقاد سيرتهم على العمل بالظهور ـ والتعبير بالظهور يشتمل على المسامحة ـ بلحاظ البقية.
الجواب الثاني: أنّ أقصى ما يُدّعى هو تحقّق الإجمال بلحاظ تلك الروايات المشتملة على تلك الزيادة ـ زيادة نقض الوضوء ـ، وتصير مجملة لاحتمال أنّ المقصود نقض مرتبة الكمال، ولكن الروايات الاُخرى كموثقة أبي بصير التي رواها الشيخ الصدوق لا تشتمل على هذه الزيادة، وهي ليست مجملة لفقدانها للزيادة المذكورة، ومن الواضح أنّ إجمال بعض الروايات لا يسري إلى الروايات الاُخرى، فلو كانت عندنا روايتان إحداهما مجملة من حيث المقصود منها، والاُخرى واضحة في المقصود، فإجمال الاُولى لا يسري إلى الثانية، وهذه قضية مسلّمة ونُطبقها في المقام.
وفيه:
أوّلاً: أنّه قد يُدّعى أنّ الروايات المشتملة على الزيادة ليست مجملة فقط، بل أنّ ظهورها يتحول ـ بقرينة ذكر نقض الوضوء ـ إلى الظهور في إرادة نقض مرتبة الكمال، فالروايات المشتملة على الزيادة ليست مجملة ليقال: إنّ إجمال بعض الروايات لا يسري إلى الاُخرى، بل أنّه يتكوّن لها ظهور في إرادة نقض مرتبة الكمال، وبذلك تكون قرينة على التصرّف في الروايات الاُخرى، وتبقى المسألة مرتبطة بنفسية الفقيه، فمن استظهر إرادة نقض مرتبة الكمال استظهر القرينية على التصرّف في الروايات الاُخرى، وحكم بأنّ الرواية المشتملة على نقض الوضوء تصير قرينة على إرادة نقض الكمال من الروايات الاُخرى المشتملة على نقض الصوم من دون ذكر الوضوء، وأمّا من صار إلى الإجمال فقط فيأتي آنذاك ما أفاده قدّس سرّه.
ثانياً: لو تنزلنا وسلّمنا أنّ الروايات المشتملة على الزيادة هي مجملة، لا أنّه يتولد لها ظهور في إرادة نقض مرتبة الكمال، فنقول: إنّ ما ذكره من القاعدة ـ وهي أنّ إجمال بعض الروايات لا يسري إلى الروايات الاُخرى ـ يتمّ فيما لو أحرزنا تعدد الروايتين، أمّا مع فرض احتمال وحدتهما كما هو الحال في المقام، حيث يحتمل أنّ موثقتي سماعة واحدة وليست اثنتين بقرينة وحدة سلسلة الراوي وتقارب المضمون، وهكذا الحال بالنسبة إلى موثقتي أبي بصير حيث نحتمل أنّهما واحدة وليست اثنتين، وفي نفس الوقت نحتمل أنّ هذه الواحدة الصادرة من الإمام هي قد اشتملت على الزيادة، ومعه فكيف نطبّق القاعدة التي أشار إليها قدّس سرّه؟!
إذاً ما أشار إليه ـ قدّس سرّه ـ تختص بحالة وجود روايتين متعددتين بنحو الجزم، أحدهما مشتملة على الزيادة والاُخرى فاقدة لها، ولكن المفروض في المقام أنّنا نحتمل كون الروايتين رواية واحدة ولم يصدر من الإمام إلاّ ما اشتمل على الزيادة.
الجواب الثالث: أنّنا لا نعلم بصدور رواية من الإمام مشتملة على الزيادة فأصل الزيادة لا مثبت لها، فأنت اثبت أنّ الإمام قد صدرت منه زيادة حتّى تقول: إنّ هذه الزيادة توجب الإجمال ولا نعلم بأنّ الإمام قد صدرت منه الزيادة، إذ لو نظرنا إلى موثقة سماعة فنحتمل أنّها واحدة، أي لم يصدر إلاّ الرواية التي ليس بها زيادة، ولا نجزم بصدور الرواية المشتملة على الزيادة حتّى تكون موجبة للإجمال، كما لا نجزم بصدور روايتين حتّى يكون إجمال تلك سارياً إلى الثانية، بل نحتمل أن ما صدر منه واحد، وهو الفاقد للزيادة، ومعه فكيف يثبت الإجمال. وهكذا الحال بالنسبة إلى موثقة أبي بصير فأنّه لا يُجزم بتعددها، وبالتالي يُحتمل كونّها واحدة ويكون الصادر هو الفاقد للزيادة.
وفيه: أنّ المورد المذكور من مصاديق احتمال وجود القرينة المتصلة، فنحن نحتمل أنّه قد صدرت من الإمام قرينة متصلة توجب إرادة نقض مرتبة الكمال، وفي أمثال المورد المذكور لا نجزم بانعقاد سيرة العقلاء على العمل بالظهور الثابت لولا القرينة المتصلة المحتملة. ونحن لا ندّعي التشكيك في انعقاد السيرة في كلّ مورد يحتمل فيه وجود قرينة متصلة حتّى يقال: يلزم أن لا نعمل بأي ظهور، إذ دائماً نحتمل وجود قرينة متصلة لم تصل إلينا لسبب وآخر، وإنّما ندّعي التشكيك فيما إذا كان هناك منشأ عقلائي لاحتمال القرينة المتصلة كما هو المفروض في المقام، حيث توجد روايات اُخرى اشتملت على الزيادة ونحتمل كون المجموع رواية واحدة، إنّه في مثل هذه الحالة ندعي التشكيك في انعقاد السيرة على العمل بالظهور.
إذاً لا يمكن الحكم بمفطّرية الكذب لتماميّة المناقشة المذكورة، ومما يؤكّد ذلك صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة حيث جاء فيها: سمعت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ يقول: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والنساء، والارتماس في الماء»[2] ، فأنّ مقتضى إطلاقها أنّ غير الثلاثة لا يضرّ بما في ذلك الكذب، وعليه فالمناسب عدم الفتوى بالمفطّرية والانتقال إلى الاحتياط تحفظاً من مخالفة المشهور.
________________________
[1] مستند العروة الوثقى 1: 129 ـ 133.
[2] الوسائل 10: 32، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب 1، ح 1.