جلسة 116
كفارة الصوم
وبكلمة أُخرى في حصيلة ما ذكرناه في وجه الجمع: أننا لا نريد أن ننكر ظهور صحيحة علي بن جعفر [1] في الترتيب، بل نحن نسلم أنها ظاهرة في الترتيب، بل نقول إنها صريحة في الترتيب، ولكن هل هي تدل على الترتيب بنحو اللزوم أيضاً؟ إن هذا لا يمكن ادعاء صراحتها فيه، بل أقصى ما في الأمر هي ظاهرة في الترتيب اللزومي، ومن أين ينشأ هذا الظهور والحال أن كلمة «عليه» في فقرة: «عليه القضاء وعتق رقبة»، صالحة للزوم والاستحباب؟ وهكذا فقرة: «فإن لم يجد» هي صالحة للزوم والاستحباب، إنه لا منشأ للظهور في كون الترتيب لزومياً إلاّ الإطلاق الذي أشرنا إليه.
وعلى أي حال لا يمكن لإنسان عرفي أن يدعي صراحتها أو أظهريتها في كون الترتيب لزومياً، بل أقصى ما يمكنه أن يدعي أظهريتها أو صراحتها في أصل الترتيب، وحينئذٍ نحن نرفع اليد عن هذا الظهور ولكن لا نريد أن نرفع اليد عن أصل ظهورها في الترتيب لتقول: إن العرف يأبى ذلك، بل نرفع اليد عن حيثية لزوم الترتيب، وهذا ليس أمراً صعباً، بل مقبولاً عرفاً، وهذا بخلاف ما لو أردنا رفع اليد عن ظهور صحيحة ابن سنان [2] في التخيير، فإن كلمة «أو» في أمثال الاستعمال المذكور واضحة في التخيير ويصعب حملها على التنويع، فصحيحة ابن سنان أظهر في التخيير بينما صحيحة علي بن جعفر ظاهرة في لزوم الترتيب، وكلما دار الأمر بين ظاهر وأظهر تصرفنا في الظاهر بقرينة الأظهر.
ولو تنزلنا وقلنا: إنهما من حيث الظهور بمستوىً واحد فنحكم بالتساقط ونرجع إلى الأصل آنذاك والنتيجة هي التخيير، فإن الذمة مشتغلة جزماً بأصل الكفارة ويشك في اشتغالها بالكفارة المقيّدة بالترتيب، فيُنفى القيد المشكوك بأصل البراءة.
إن قلتَ: المناسب إجراء الاشتغال؛ لأنه إذا كفّر الشخص من دون ترتيب فسوف يَشك في فراغ ذمته، ومتى ما شك في فراغ الذمة بعد الاشتغال اليقيني السابق حكم بالاشتغال لقاعدة الاشتغال اليقيني، بل قد يقال بجريان الاستصحاب أيضاً.
قلتُ: إن الذمة وإن كان يلزم تفريغها بنحو اليقين، ولكن يلزم تفريغها ممّا اشتغلت به يقيناً لا ممّا احتمل الاشتغال به، وفي مقامنا المقدار الذي نجزم باشتغال الذمة به أصل الكفارة بنحو الجامع بين الترتيب والتخيير، وإذا أُوتي بخصلة واحدة فقد تحقق الجامع وبرئت الذمة يقيناً ممّا كانت مشتغلة به يقيناً، وأمّا الزائد على ذلك فلا يقين باشتغال الذمة به ليلزم تفريغها منه بنحو اليقين.
إن قلتَ: لا وجه لهذه التدقيقات وبالإمكان أن نقول: إن الذمة مشتغلة بالكفارة جزماً، وأما ما زاد على ذلك من كونه بنحو الجامع أو بنحو آخر، فتلك مصطلحات ينبغي تركها ولا شغل لنا بها، وأنا ادعي أنّ عندي يقيناً بهذا المقدار وأقسم عليه، وهو أن ذمتي مشتغلة بالكفارة حتماً، وهذا لا يمكن لشخص أن يشكّك فيه، والآن ـ أي بعد التكفير لا بنحو الترتيب ـ أشك في فراغ الذمة، فيصير المورد من موارد الشك في الفراغ بعد اليقين بالاشتغال.
قلت: إنه في أمثال هذه الموارد لابدّ من إعمال الدقة إلى حدٍ ما ولا معنى لقولك دع الألفاظ والمصطلحات، فصحيح ذمتنا مشتغلة بالكفارة ولكن لا نجزم بكونها مشتغلة بالمرتبة، فالاشتغال بالكفارة يقيني وقد حصل الفراغ منه، واشتغالها بالقيد مشكوك فتجري البراءة عنه ولا يلزم التفريغ اليقيني بلحاظه.
إذاً النتيجة النهائية هي التخيير سواءً لم نقل بالتساقط أو قلنا به.
ثم إنه قد يقول قائل: إن مورد صحيحة علي بن جعفر هو الجماع، ومعه فيخصص الترتيب بكفارة الجماع، وما سوى ذلك نتمسك فيه بإطلاق صحيحة ابن سنان، فتصير النتيجة أن الكفارة مخيرة إلاّ كفارة الجماع فإنها مرتبة.
والجواب: أنه لم يفصّل بين كفارة الجماع وغيرها، ولأجل هذا يكون احتمال التفصيل المذكور ضعيفاً. وبقطع النظر عن ذلك نقول: إنّ الدال على التخيير لو كان منحصراً بصحيحة ابن سنان فما ذُكر وجيه، ولكن الرواية الثانية وهي موثقة سماعة واردة في الجماع وقد دلت على التخيير، وعليه فلا وجه لاحتمال التفصيل المذكور.
ثم إنه ورد في بعض الروايات الاقتصار على خصلة واحدة من الخصال الثلاث، كموثقة سماعة قال: سألته عن رجل لزق بأهله فأنزل؟ قال: «عليه إطعام ستّين مسكيناً، مدّ لكلّ مسكين» [3].
ورواية المشرقي، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن رجل أفطر من شهر رمضان أيّاماً متعمّداً، ما عليه من الكفّارة؟ فكتب: «من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً فعليه عتق رقبة مؤمنة ويصوم يوماً بدل يوم»[4] .
ويمكن الجواب عنهما بأنهما مهجورتان بين الأصحاب، فلم يقل أحد بكون الخصلة واحدة لا أكثر، والهجران مسقط للرواية عن الحجية، وهو غير إعراض المشهور، فإن المقصود بالهجران هجران الجميع وعدم عمل أحد بها، وهذا يورث الاطمئنان بوجود خلل في الرواية، وإلا فلِمَ اتفق الكل على هجرانها، وهذا بخلاف إعراض المشهور فإنه يوجد عامل بها ولكنه قليل فيمكن ألاّ يحصل اطمئنان بوجود خلل فيها.
هذا مضافاً إلى إمكان أن يقال بعدم المعارضة رأساً باعتبار أن الإمام اقتصر على خصلة واحدة وهذا لا ينفي وجود خصال اُخرى. على أن الثانية ضعيفة السند باعتبار أن المشرقي هو هشام بن إبراهيم وهو قد يقال بعدم وثاقته.
____________________________
[1] الوسائل 12: 46، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح5.
[2] الوسائل 12: 44 ـ 45، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح1.
[3] الوسائل 10: 49، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح12.
[4] الوسائل 10: 49، أبواب ما يمسك عنه الصائم، ب8، ح11.