جلسة 130
كفارة الصوم
والفارق بينهما هو: أنه تارة يفترض أن العلم الإجمالي باقٍ حقيقة غايته لم يثبت له حكمه وأثره وهو التنجيز، وهذا ما يُعبّر عنه بالانحلال الحكمي، ووجه التسمية واضح حيث إن حكم العلم الإجمالي مرتفع ومنحل دون ذات العلم الإجمالي.
وأُخرى يفترض أن العلم الإجمالي يزول حقيقة لا حكماً فقط، وهذا يتحقق في موارد الأقل والأكثر حيث إن الأقل معلوم بالتفصيل والزائد مشكوك ولا علم به، كمن علم بأنه قد وجب عليه إمّا قضاء خمس صلوات أو ست فهو يعلم بالخمس تفصيلاً ويشك في الزائد، وهذا ما يُعبّر عنه بالانحلال الحقيقي، ووجه التسمية واضح حيث إن العلم الإجمالي زائل ومنعدم حقيقة.
وباتضاح هذا نقول: أمّا بطلان الانحلال الحكمي في المقام فالوجه فيه قد اتضح مما سبق، فإن الانحلال الحكمي يثبت إذا لم تتعارض الأُصول في الأطراف، بحيث كان الأصل يجري في طرف من دون معارضة بجريانه في الطرف الآخر، والمقام ليس من هذا القبيل حيث إن الأُصول متعارضة في الطرفين لكون المقام من قبيل المتباينين حيث يشك في أن الوجوب هل هو متعلق بالجامع ـ وهو الأحد ـ أو هو متعلق بإطعام العشرة؟، وهما من قبيل المتباينين، والأصل كما يقتضي عدم تعلقه بهذا يقتضي عدم تعلقه بذاك، وهذا مطلب واضح.
إن قلت: إن من أطعم الستّين ثم اتضح له بعد ذلك أن المطلوب هو إطعام العشرة كفاه ذلك، ولو انعكس الأمر بأن أطعم العشرة ثم اتضح أن الواجب هو الأحد كفاه ضم الخمسين إلى العشرة، وهذا معناه أن الدوران هو بين الأقل والأكثر وليس بين المتباينين.
قلت: ما ذكره وإن كان وجيهاً بلحاظ عالم الامتثال، إلاّ أن أصل البراءة يجري بلحاظ مقام تعلق التكليف، ونحن نشك في أن التكليف هل متعلق بالأحد أو متعلق بإطعام العشرة؟، وهما متباينان في مقام تعلق التكليف، وأصل البراءة متعارض في الطرفين، والمهم عند إجراء الأصل ملاحظة متعلق التكليف، هذا كله بلحاظ الانحلال الحكمي.
وأمّا بطلان الانحلال الحقيقي فباعتبار أن غاية ما يمكن توجيه الانحلال الحقيقي به هو أن يقال إن المكلف يعلم بوجوب إطعام العشرة غايته لا يعلم أن ذلك على نحو اللابشرط أو على نحو بشرط شيء ـ أي بشرط إضافة الخمسين ـ فأصل إطعام العشرة متيقن غايته لا يُدرى هل هو بهذا النحو أو بذاك؟ فيزول آنذاك العلم الإجمالي زوالاً حقيقياً ويتبدل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الزائد، كما هو الحال في بقية موارد الانحلال الحقيقي.
هكذا قد يقرب الانحلال الحقيقي.
ولكنه باطل؛ لأننا وإن كنّا نعترف بأن إطعام العشرة معلوم إمّا بنحو لا بشرط أو بنحو بشرط شيء، ولكن هذا العلم هو عين علمنا الإجمالي وليس شيئاً آخر ليتحقق الانحلال به، فإن لنا علماً إجمالياً في المقام يمكن التعبير عنه بنحوين:
النحو الأول: أن يعبّر هكذا: نعلم إمّا بوجوب إطعام العشرة أو بوجوب إطعام الستّين بنحو التخيير.
النحو الثاني: أن يعبّر هكذا: نعلم بوجوب إطعام العشرة إمّا بنحو لا بشرط أو بشرط ضم الخمسين.
وهذا التعبير الثاني تعبير عن العلم الإجمالي ولكن بعبارة أُخرى، وما ذكر في مقام بيان الانحلال الحقيقي ليس شيئاً يغاير هذه الصيغة للعلم الإجمالي، إذ أن ما أُبرز هو أننا نعلم بوجوب إطعام العشرة إما بنحو اللابشرط أو بنحو بشرط شيء، وهذا عين العلم الإجمالي بعبارته الثانية والانحلال الحقيقي لا يتحقق به، وإنما يتحقق بأن يكون الوجوب مشخصاً بنحو التفصيل من دون تردد فإنه آنذاك يصدق عنوان العلم التفصيلي ويتحقق به الانحلال الحقيقي، وفي المقام إطعام العشرة مردد وليس مشخصاً بنحو تفصيلي فيكون عين العلم الإجمالي ولا يمكن آنذاك تحقق الانحلال الحقيقي به، وإلاّ كان كل علم إجمالي منحلاً بنفسه انحلالاً حقيقياً بعد إدخال بعض التغيرات التعبيرية، وعليه فيتعين إطعام الستّين بعد بطلان فكرة الانحلال الحقيقي وفكرة الانحلال الحكمي.
وقبل أن نبين موقع التأمل في البيان المذكور نقول: إن ظاهر كلام السيد الخوئي ـ قدّس سرّه ـ أن الأُصول إنما تتعارض في الأطراف بناءً على القول بتعلق الوجوب التخييري بالجامع ـ عنوان الأحد ـ فإنه آنذاك يصير المقام من قبيل المتباينين، وأمّا بناءً على القول بتعلقه بكل فرد مشروطاً بترك الآخر فالأُصول آنذاك لا تكون متعارضة.
والحال، أنه يمكن القول بتعارض الأُصول حتى على هذا التقدير، إذ أن المكلف يشك في أن ذمته هل اشتغلت بالستّين فينفي ذلك بالبراءة وتحصل له التوسعة حيث يمكنه آنذاك الاكتفاء بالعشرة، وكذلك يشك في تعلق الوجوب بإطعام العشرة بنحو التعين فينفي ذلك بالبراءة وتثبت له التوسعة، حيث يمكنه آنذاك المصير إلى صيام شهرين مثلاً، فإطعام العشرة بنحو التعيين يشتمل على الضيق فينفى الضيق والتعيين بأصل البراءة وتجعل له توسعة في اختيار البدائل الأُخرى، وعلى هذا الأساس يكون أمر المكلف دائراً بين أن تكون ذمته قد اشتغلت بالستّين بحيث لا تكفيه العشرة فينفى هذا الضيق بالبراءة، وبين ضيق آخر وهو اشتغال ذمته بإطعام العشرة بحيث لا يكفيه صيام شهرين ولا عتق الرقبة فينفى الضيق المذكور بالبراءة، وبهذا يتضح: أن التعارض في الأُصول ثابت على كلا التقديرين.