32/11/17
تحمیل
عود إلى صلب الموضوع:- ذكرنا في بداية البحث عن أصالة الاشتغال أنا نتكلم عن حقيقة العلم الإجمالي لأجل أن بعضاً قد ربط مسالة وجوب الموافقة القطعية بحقيقة العلم الإجمالي ونعني بذلك البعض الشيخ العراقي(قده) ، وقد أوضحنا كلامه مع التعليق عليه.
والآن ندخل في صلب الموضوع ، والكلام يقع تارة في الدوران بين المتباينين ، وأخرى بين الأقل والأكثر :-
الدوران بين التباينين:- قد ذكرنا في مبحث القطع أن الكلام في وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي أو حرمة المخالفة القطعية يقع في نقاط ثلاث وقد تحدثنا عنها سابقاً ولا نريد تكرار تلك الأبحاث ، ولكن من باب الإشارة نقول تلك النقاط الثلاث هي:-
الأولى:- هل العلم الإجمالي يستلزم وجوب الموافقة القطعية أو لا ؟
الثانية:- على تقدير أنه يستلزم ذلك فهل يجوز الترخيص بترك أحد الطرفين وبالتالي تصير الموافقة احتمالية ؟
الثالثة:- على تقدير جواز ذلك ثبوتاً فهل يمكن التمسك بأدلة الأصول العملية لإثبات جواز ترك أحد الطرفين ؟
ولا يخفى الفارق بين هذه النقطة وبين الثانية فان البحث في الثانية ثبوتي ، أي يبحث هل يمكن أن يقع الترخيص في ترك أحد الطرفين أو لا ؟ بينما البحث في النقطة الثالثة هو إثباتي، أي إذا أمكن الترخيص ثبوتاً فهل هو واقع بالفعل ؟ وهل يمكن إثباته بالفعل من خلال أدلة الأصول العملية أو لا ؟
ان هذه نقاط ثلاث هي بلحاظ مسالة وجوب الموافقة القطعية وبنفسها تجري بلحاظ مسالة حرمة المخالفة القطعية ، وقد تعرضنا لذلك في مباحث القطع.
والآن - أي في مبحث أصالة الاشتغال - نريد أن نتوسع قليلاً لبحث مسألة الاقتضاء والعلية التي وقعت محل خلافٍ بين العلمين النائيني والعراقي ، وبعد ذلك نتعرض إلى ثمرة هذا النزاع ، ثم ثالثاً نتعرض إلى بعض التنبيهات المرتبطة بهذا البحث.
الاقتضاء والعلية:- وقع الكلام بين الأعلام في أن العلم الإجمالي بوجوب إما الظهر وإما الجمعة مثلاً هل يستلزم بذاته وجوب الموافقة القطعية أو لا ؟
ذهب السيد الخوئي(قده) إلى أنه لا يستلزم بذاته ذلك ، وربما ينسب ذلك إلى الشيخ النائيني(قده) في أجود التقريرات ، وإنما هو يستلزم ذلك بضم المعارضة بين الأصول كما سوف نوضح ، بينما الشيخ العراقي(قده) وربما ينسب إلى الشيخ النائيني(قده) في فوائد الأصول اختيار أن العلم الإجمالي يستلزم بذاته من دون ضم فكرة تعارض الأصول وجوب الموافقة القطعية . هذه مرحلة من النزاع.
ثم في مرحلة ثانية إذا قلنا أن العلم الإجمالي يستلزم بذاته وجوب الموافقة القطعية فهل يستلزمها بنحو العلية أو بنحو الاقتضاء ؟
اختار الشيخ العراقي(قده) مسلك العلية ، يعني أن العلم الإجمالي يستلزم الموافقة القطعية ، أي يلزم الإتيان بكلتا الصلاتين ، ولا يمكن للشرع أن يرخص في ترك أحد الطرفين فانه شيء غير ممكن.
بينما بعض آخر كالشيخ النائيني(قده) في فوائد الأصول - على ما نسب إليه - اختار مسلك الاقتضاء فقال صحيح أن العلم الإجمالي يستلزم بذاته الإتيان بالطرفين ووجوب الموافقة القطعية ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن للشارع أن يرخص في ترك الموافقة القطعية ، بل يمكن أن يرخص في أحد الطرفين.
ودليل السيد الخوئي(قده):- هو أنه استدل - بل ربما يظهر من أجود التقريرات أيضا - على أن العلم الإجمالي لا يستلزم بذاته وجوب الموافقة القطعية بل يستلزمها بسبب تعارض الأصول ، واستدل على ذلك بان العلم الإجمالي ينجز ما تعلق به وهو قد تعلق بالجامع والجامع يتحقق بأحد الفردين ولا يتوقف على الإتيان بكليهما .
وبكلمة أخرى:- العلم الإجمالي لا ينجز الخصوصيتين - أعني خصوصية الظهر وخصوصية الجمعة - لأنهما ليستا متعلقاً له بل متعلقه هو الجامع - أي الأحد - فما عليه البيان هو الجامع وهو يتحقق بأحد الفردين وأما الخصوصيتان فليس عليهما بيان فلا يتنجزان.
ولكن لا يمكن إجراء أصل البراءة رغم أنه لا بيان بلحاظ الخصوصيتين إذ أما أن نجريه بلحاظ هذه الخصوصية دون تلك ، أو نجريه بلحاظ تلك دون هذه ، أو نجريه بلحاظ كلتا الخصوصيتين ، أو نجريه في الفرد المردد ، أو لا نجريه أصلاً وهو مدَّعانا فيثبت التنجز في كلتيهما ما دام لا يجري أصل البراءة بلحاظهما.
أما أنه لا يجري بلحاظ تلك بخصوصها دون هذه فهو بلا مرجح ، وكذلك العكس ، وأما بلحاظ كلتيهما فهو مخالفة قطعية وخلف العلم بإحدى الخصوصيتين ، وأما بلحاظ المردد فلا يجري لأنه لا وجود له ، فلا يجري أصل البراءة.
ومقصودنا من المعارضة هو هذا فالتفت ، أي حينما نقول يتعارض الأصلان يعني لا يجريان.
إذن سوف تتنجز كلتا الخصوصيتين لا بسبب العلم الإجمالي بذاته فانه بذاته ينجز الجامع وإنما تتنجزان لأجل أن أصل البراءة لا يجري بلحاظ الخصوصية بلحاظ المعارضة وإذا لم يجر فلا مؤمن من العقوبة عند عدم الإتيان بالخصوصية ، وإذا لم يكن هناك مؤمن فيلزم الاحتياط والإتيان بالشيء . هكذا ذكر العلمان في توجيه وجوب الموافقة القطعية.
وفيه:- نسلم أن أصلي البراءة يتعارضان - أي لا يجريان - ولكن رغم هذا لا يثبت تنجز كلتا الخصوصيتين وذلك لأن العلمين يبنيان على البراءة العقلية ، أي يؤمنان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ إذا رجعنا إليها فلا معنى لإجراء المعارضة فيها لأن المعارضة تكون في الأدلة اللفظية من قبيل ( رفع ما لا يعلمون ) الذي هو مستند البراءة الشرعية فيكون تطبيقه هنا يعارض تطبيقه هناك وإطلاقه لا يكون شاملاً لهذين من البداية ، وأما الأحكام العقلية فلا معنى فيها للمعارضة بين البراءتين العقليتين إذ البراءة العقلية ليست لفظاً حتى تحصل المعارضة ، فنرجع إلى العقل بدايةً وهو يقول انك تعلم أن إحدى الخصوصيتين لازمة جزماً وأما الثانية فلا تعلم بلزومها فيكفيك الإتيان بإحدى الخصوصيتين ، وعلى هذا الأساس يكفيك الإتيان بإحدى الصلاتين.
وهذا نقض مهم يسجل على أصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيلزمهم أن يقولوا في باب العلم الإجمالي أن الأصول الشرعية هي التي تتعارض وتبقى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا معارض فيحكم العقل بكفاية إحدى الخصوصيتين لأنها على إجمالها يوجد بيان بلحاظها وأما الثانية فلا يوجد بيان بلحاظها فلا تلزم الموافقة القطعية ، وهل تلتزمون بذلك ؟ أي جواز ترك الموافقة القطعية.