33/06/21
تحمیل
الموضوع / شرطية الفحص في جريان أصل البراءة / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
مقدار الفحص
ذكرنا أن المناسب هو الفحص إلى حدّ يحصل الاطمئنان بعدم وجود الدليل ، فالاطمئنان كافٍ بلا حاجة إلى يقين.
وإذا سألت وقلت:- لماذا يكفي الاطمئنان ولا حاجة إلى يقين ؟
فالجواب:- ان تحصيل اليقين شيء يكاد يكون متعذراً فيلزم تعطيل عملية الاستنباط والفتوى والمصير إلى الاحتياط دائماً أو غالباً فان الفقيه مهما فحص فلا يحصل له يقين.
على أن الاطمئنان حجّة بالسيرة العقلائية فان سيرتهم جرت على الأخذ بالاطمئنان ونحن نتعامل في أمورنا على ضوء الاطمئنان وإذا لم يأخذ شخص بالاطمئنان فنقول هذا الشخص شاذ ، وحيث أن الشارع لم يثبت منه ردع عن هذه السيرة فيثب حجيّة الاطمئنان . إذن يكفي الاطمئنان من ناحيتين.
وقد تسأل وتقول:- لماذا لا نكتفي بالأقل من الاطمئنان - أي بالظن - ؟
والجواب:- لو ثبتت حجية الظن في المورد المذكور لقلنا بذلك ولكن هو ليس بحجة وإنما ثبتت حجيته في موارد خاصة وليس هذا المورد منها ، وعليه فالمدار على الاطمئنان دون ما زاد ودون ما قل.
وقد تسأل وتقول:- كيف يُحصِّل الفقيه الاطمئنان ، فان هذا وان لم يكن متعذراً ولكنه يحتاج إلى وقت طويل فكيف يحصل الاطمئنان بعدم الدليل على هذه المسألة والاطمئنان بعدم الدليل في المسألة الثانية ...... وهكذا فهذا أمر مشكل فان تحصيل الاطمئنان شيء صعب أيضاً ؟
والجواب:- ان المتقدمين من الأعلام قد بوَّبوا الأحاديث إلى أبواب خاصة فالأحاديث المرتبطة بالطهارة جعلوها في باب والأحاديث المرتبطة في الصلاة ذكروها في باب آخر ....... وهكذا ولم يخلطوا بين الأحاديث كما كان ذلك في البداية الأولى - أي عند تأليف الأصول الاربعمائة - فلعل الخلط والتشويش كان فيها ولكن من الشيخ الكليني والصدوق بدأت عملية التبويب ، بل أن باب الطهارة قد جُزّء إلى أبواب فالفقيه يسهل عليه آنذاك تحصيل الدليل أو الاطمئنان بعدمه حيث يراجع الباب المناسب ، كما أن فقهاءنا أخذوا يبحثون في كتبهم الاستدلالية في الخفايا والزوايا ولم يتركوا شيئاً لم يصل إليه الذهن إلا وحاولوا الوصول إليه ، ولو راجعنا مسألة معينة في الكتب الاستدلالية المعتمدة كالجواهر وما جاء بعدها ولم نجد دليلاً على الحرمة أو الوجوب في كلماتهم فسوف يسرع الينا الاطمئنان بعدم وجود الدليل فنقول لو كان هناك دليل لعثر عليه هؤلاء فانهم متعددون ، فصاحب الجواهر مثلاً نظر إلى الكتب الأخرى ولم يعثر على دليل ..... وهكذا مكن تأخر عنه فان هذه الجهود المتمركزة على مركز واحد تُسرِّع لنا الاطمئنان بعدم وجود الدليل.
إذن عملية حصول الاطمئنان بعد هذه الجهود المباركة من قبل أصحاب الحديث المتقدمين ومن قبل فقهاءنا أصحاب الكتب الاستدلالية سهل علينا كثيراً الحصول على الاطمئنان . هذا كله بالنسبة إلى أصل وجوب الفحص وبالنسبة إلى مقداره . وبهذا ننهي كلامنا عن الشبهة الحكمية فانا ذكرنا في بداية مسألة شرطية الفحص أن الكلام يقع تارة في الشبهة الحكمية وأخرى في الشبهة الموضوعية والى هنا انتهى كلامنا في الشبهة الحكمية.
الشبهة الموضوعية:-
لعل المعروف بين الأعلام هو أن الفحص ليس بلازم في الشبهات الموضوعية ، فإذا شككنا في سائل أنه خمر أو ماء فيجوز أن نتناوله من دون فحص
[1]
.
والكلام تارةً يقع في البراءة العقلية وأخرى في البراءة النقلية:-
البراءة العقلية:-
انه فيما سبق رفضنا البراءة العقلية وقلنا انا لا نسلم بما ذكره المشهور من أن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وقلنا ان السيرة العقلائية هي على العكس.
ولكن الآن نقول:- لو فرض أنا بنينا على ما عليه المشهور وقلنا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فهل يمكن تطبيقها في الشبهات الموضوعية قبل الفحص ونقول ان الفحص ليس بلازم لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ؟
والجواب:- ذكر العلمان الحاج ميرزا علي الايرواني
[2]
والسيد البروجردي
[3]
أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان تختص بالشبهات الحكمية ولا تجري في الشبهات الموضوعية وعلّلا بتعليل واحد وهو أن المولى يجب عليه البيان في الشبهات الحكمية فعليه أن يبين أن هذا حرام وذاك واجب ....... وهكذا فإذا لم يبين الحرمة أو الوجوب فالعقاب يصير قبيحاّ فانه عقاب بلا بيان إذ وظيفته البيان ولم يبيّن ، وهذا بخلافه في الشبهات الموضوعية فانه ليس من وظيفته البيان - أي ليس من وظيفته أن يبين أن هذا خمر أو ليس بخمر - بل ان وظيفته هي أن يبين لنا حرمة الخمر أما أنه يبين لنا أن هذا خمر فلا بل هذا أمر يرجع إلى المكلف نفسه ، وعليه فلا معنى لتطبيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات الموضوعية.
وفيه:- ان ما ذكراه يلزم منه أنه حتى لو فحصنا وجزمنا بعدم وجود ما يدل على التحريم فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنه ليس من وظيفة المولى البيان . إذن ما ذكراه لو تم للزم منه أن لا يفرق بين حالة ما قبل الفحص وما بعده - ولعلهما يلتزمان بذلك - ولكن الكلام هو فيما قبل الفحص وأن القاعدة هل تجري أو لا ، أما بعد الفحص فالظاهر اتفاق الكلمة بأنها تجري.
ولكن المهم الذي أريد ذكره كإشكال هو:- أن مسألة وجوب البيان على المولى وعدم وجوبه أجنبية عن مسألة الفحص ، فقبح العقاب على التكليف لم ينشأ من ناحية أن الواجب على المولى البيان وهو لم يبيّن ، كلا فانه لو فرضنا أن المولى قد بيَّن ولكن العوامل التاريخية صارت سبباً لعدم وصولها ففي مثل هذه الحالة نقول ( مادام نحن لم نعلم ولم يصل الينا فالعقاب قبيح ) فنكتة قبح العقاب هي عدم علمنا لا نكتة نصب المولى للبيان ، وعدم علمنا مشترك بين الشبهات الحكمية وبين الشبهات الموضوعية ، فأنا في الشبهات الموضوعية لا أعلم أن هذا خمر فيقبح أن يعاقبني المولى لأني لا أعلم ، فالنكتة ما دامت هي عدم علمي فهي ثابتة في الشبهات الموضوعية أيضاً خصوصاً إذا أردنا أن نتماشى مع توجيهات المتأخرين لهذه القاعدة فان هذه القاعدة لم يذكر لها المتقدمون دليلاً ووجهاً كصاحب الكفاية وصاحب الرسائل فهم أخذوها من باب المسلمات ولم يذكروا لها دليلاً ، بيد أن المتأخرين كالشيخ النائيني والشيخ الاصفهاني حاولوا أن يذكروا توجيهاً.
فمثلاً ذكر الشيخ النائيني أنه يقبح العقاب بلا بيان من باب أنه إذا لم يكن هناك بيان فلا مقتضي للتحرك نحو الفعل سلباً أو ايجاباً - أي للتحرك نحو الفعل في الواجبات والانزجار عن الفعل في المحرمات - فيصير العقاب عقاباً على ما لا مقتضي له وهو قبيح.
فان أردنا أن نتماشى مع هذا التوجيه فهو يأتي بنفسه في الشبهات الموضوعية فيقال إذا لم نعلم بأن هذا خمر فلا مقتضي للانزجار فالعقاب يصير عقاباً من دون مقتضٍ للانزجار فيكون قبيحاً.
وهكذا لو أردنا أن نتماشى مع الدليل الذي ذكره الشيخ الاصفهاني فانه قال ان جميع أحكام العقل العملي ترجع إلى حكم واحد أو إلى حكمين - أي إلى حسن العدل وقبح الظلم
[4]
- ثم قال ان الظلم الذي يحكم العقل بقبحه هو عبارة عن مخالفة ما قامت عليه الحجّة فان مخالفة ما قامت عليه الحجّة هو تعدّ على المولى وتجاوز عليه فإذا كانت الحجّة على تحريم هذا الفعل فإذا فعلته فقد تجاوزت على المولى وهتكته فيصير ذلك ظلماً وبالتالي يصير قبيحاً . إذن الظلم هو مخالفة ما قامت عليه الحجة.
ثم نقول:- وحيث أن الحجّة هي عبارة عن العلم فإذن يقبح العقاب بلا علم فانه مع العلم تحصل الحجة ويحصل التجاوز على المولى فيصير ظلماً أما إذا لم يحصل العلم فلا حجّة فلا ظلم وحينئذ لا معنى للعقاب.
وان أردنا أن نتماشى مع هذا البيان فلا فرق أيضاً بين الشبهات الحكمية والموضوعية فان هذا البيان يأتي في الشبهات الموضوعية أيضاً ، فانه إذا لم نعلم بأن هذا خمر فتناوله لا يكون اهانة وتعدياً وظلماً للمولى وبالتالي يكون العقاب قبيحاً.
إذن لو أردنا أن نتماشى مع هذه الحجج فهي عامة ، ولو أردنا أن نتعامل مع الواقع الذي أشرنا إليه فهو عام أيضاً بالبيان المتقدم.
إذن ما أفاده العلمان - من اختصاص قاعدة قبح العقاب بلا بيان بخصوص الشبهات الحكمية دون الشبهات الموضوعية - أمر لا وجه له.
[1] وكما في مسألة الاجبان المستوردة من البلدان الأخرى ولا نعلم هل ان فيها شحم الخنزير أو فهل اللازم علينا الفحص أو قراءة ما مكتوب على العلبة ؟ المشهور بين الفقهاء كلا ان الفحص ليس بلازم في الشبهات الموضوعية بخلافه في الشبهات الحكمية.
[2] في رسالته الذهب المسكوك في أحكام اللباس المشكوك 54.
[3] نهاية التقرير 1 178 في مبحث الباس المشكوك من كتاب الصلاة.
[4] ونحن الآن لسنا بصدد المناقشة بل نحن بصدد ان الوجه الذي ذكروه هل يعم الشبهة الموضوعية أو لا؟