34/02/29
تحمیل
الموضوع / التنبيه السادس / تنبيهات / قاعدة لا ضرر / العلم الإجمالي / أصالة الاشتغال / الأصول العملية.
وفي هذا المجال تارة نتحدث عن مثال الغبن في المعاملة وأخرى عن مثال من أجنب نفسه وهو يعلم أن الماء يضرّه.
وقبل أن نتحدث عن هذين المثالين نشير إلى مطالب ثلاثة ترتبط بالموضوع وهي:-
المطلب الأول:- إنهم قالوا إن حديث لا ضرر امتناني ولكنهم لم يوضحوا نكتة استفادة الامتنانية منه وهذا من الأشياء الملفتة للنظر فقد كان من المناسب أنه حينما تذكر دعوى لابد وأن تقرن بالدليل والوجه والنكتة فلماذا سكتوا ولم يبيّنوا ذلك ؟ نعم في مثال ( رفع عن متي ما لا يعلمون ) نكتة الامتنانية واضحة فإن كلمة ومادة ( رفع ) تستبطن الامتنان فلا يعبّر بكلمة ( أرفع عنك كذا ) إلا في حالة الامتنان هذه قرينة على الامتنانية في حديث الرفع ، وتوجد قرينة أخرى وهي التعبير بـ( عن أمتي ) أي الاضافة إلى ياء المتكلم فإن نفس هذه الاضافة يمكن أن يستفاد منها فكرة الامتنان ، إذن توجد قرينتان في حديث الرفع على كونه مسوقاً مساق الامتنان . وأما في حديث لا ضرر فلا توجد مثل هاتين القرينتين فمن أين استفادوا الامتنانية والمفروض أنهم رتّبوا دفع بعض الاشكالات وبعض الأمور والتفريعات على ذلك ؟
وفي هذا المجال قد يقال:- إن نكتة استفادة الامتنانية هي أن نفس رفع الضرر و( أرفع عنك الضرر ) أو ( لا ضرر ) من دون كلمة ( رفع ) هو يفهم منه الامتنانية عرفاً ، فحينما يقول أحدنا لصاحبه ( لا أضرك ) أو ( لا أريد أن أضرك ) يفهم منه بأني أريد أن أخفف عليك وأمتن عليك وأساعدك ولا أثقل عليك . إذن لعلهم استندوا في استفادة الامتنان إلى هذا الذي أشرنا إليه ، وحيث أن هذا مطلب واضح فلذلك لم يشيروا إليه ولم يسلطوا عليه الأضواء.
وفي مقام التعليق نقول:- صحيح أن التعبير المذكور يفهم منه التخفيف أما أن الحكم يبقى دائراً مدار التخفيف فأينما ثبت التخفيف والامتنان فيثبت ومتى لم يكن كذلك فلا يثبت إن هذا يصعب استفادته.
وبالكلمة الواضحة قل:- نسلم أن التعبير بفقرة ( لا أضرك ) أو ( لا أريد أن أضرك ) يستفاد التخفيف والامتنان إلّا أنه من قال بأن التخفيف والامتنان لوحظا بنحو العلّيّة حتى يدور الرفع مدارهما وجوداً وعدماً فلعلهما لوحظا بنحو الحكمة فحكمة رفع الضرر هو التخفيف والامتنان ولكن لا يدور الرفع مدار ذلك فلعه في مورد يثبت الرفع من دون امتنان كما هو الحال في مثال الذي أقدم على الغبن ويعلم أنه مغبون فيأتي الحديث ويرفع الزوم رغم أنه لا يتحقق بذلك الامتنان إذ هو قد أقدم ولكن الامتنان أخذ بنحو الحكمة دون العلّة ، وهذا كما يقال في باب الربا من أنه حرم لأجل أنه يوجب تعطيل الطاقات البشرية مثلاً ويعتمد الإنسان على هذه الأرباح التي تأتي جزافاً من دون تعب وكدّ وطاقة ولازم ذلك أنه إذا لم يكن الربا في مرّة من المرات مستلزماً لذلك لا يكون حراماً والحال أن فقيهاً لا يحتمل ذلك وهذا معناه أن هذه النكتة وما شاكها لوحظت بنحو الحكمة لا بنحو العلّة ، وفي مقامنا نقول ذلك أيضاً فنحن نسلّم أن رائحة الامتنان موجودة في حديث لا ضرر ونفس التعبير بـ( لا أريد أن أضرك ) أو ( لا أضرك ) يشم منه إرادة الامتنان والتخفيف أما أنه أرِيدَ ذلك بنحو العلّيّة بحيث أنه في المورد الذي لا يثبت الامتنان فلا يمكن تطبيق حديث الرفع إن هذا أول الكلام فهو حيادي من هذه الناحية ، وهذا المطلب من النكات الظريفة جداً.
وعلى هذا الأساس يتضح أن ما أشتهر في كلمات الأصحاب من أن حديث رفع الضرر امتناني ثم يفرِّعون على ذلك بعض الآثار والأحكام أمر لا مدرك له ويقبل التأمل لما أشرنا إليه.
المطلب الثاني:- لو سلمنا أن حديث لا ضرر وارد مرود الامتنان ويدور تطبيقه مدار ثبوت الامتنان وجوداً وعدماً ولكن نسأل :- لماذا كان الاقدام على الغبن مثلاً منافياً للامتنان ؟ وما هي النكتة في ذلك ؟
قد يقال بادئ ذي بدء:- إن الذي أقدم بنفسه على شيء كمن قد أقدم على أن يوقع نفسه في الخسارة لا معنى لأن يُمْتَنَّ عليه فإنه هو الذي أراد الخسارة وهو الذي أراد أن يضر نفسه ومثل الإنسان المذكور لا يليق أن نمتن عليه ، نظير من يرتكب المعاصي فإن من ارتكبها علناً وعن عمد وجهاراً فهل يليق به أن يُمتَن عليه ؟! كلا ثم كلا.
والجواب عن ذلك واضح:- باعتبار أن مثل هذا الإنسان نقول أنه لا يلزم أن نمتن عليه لا أنه لو امتنناً عليه كان شيئاً قبيحاً وليس بصحيح وهذا مطلب واضح ، وهذا لا يعدّ وجهاً للمنافاة.
وإنما المناسب التمسك للمنافاة بوجهين:-
الوجه الأول:- إن من أقدم على الغبن فذلك يعني أن الغبن هدف وغرض ومقصود له ويريده فإن نفس المعاملة الغبنية هي هدفٌ له وما دام الغبن ولزوم المعاملة الغبنية هدف له فلو جاء الحديث ورفع اللزوم كان ذلك نقضاً لغرضه الذي قد أقدم عليه فمن هذه الناحية نقول أنه لا يليق أن نطبق الحديث عليه ونرفع اللزوم في حقه ، وإذا كان هذا الذي تريدونه فهو شيء وجيه.
الوجه الثاني:- إن الشخص الذي أقدم بنفسه على المعاملة الغبنية سوف يكون الضرر الثابت في المعاملة ناشئاً منه وبسببه ومعلوم أن حديث لا ضرر يرفع الضرر الناشئ والمرتبط بالشارع لا ما لا يرتبط به وهذا الضرر حيث لم يرتبط بالشارع وليس بسببه وإنما المكلف هو بنفسه هو قد ألقى بنفسه في المأزق فالحديث لا يشمله من هذه الناحية.
إذن لأحد هذين الوجهين تتحقق المنافاة بين الإقدام على الغبن وبين الامتنان لا مجرد ما ذكرناه في البداية من أنه لا يليق . نعم إذا كان المقصود من عدم اللياقة أحد هذين الوجهين فهو وجيه.
الوجه الثالث:- إن الاقدام متى يصدق عليه أنه إقدام على الضرر ؟ فإن الإنسان تارةً يقدم على نفس الضرر وأخرى لا يقدم عليه بنفسه وإنما يقدم على مقدمته ، وسؤالنا:- هل الاقدام على المقدمة المؤدية إلى الضرر إقدام على الضرر أو لا ؟ إن تحقيق هذا المطلب نستفيد منه في حل الاشكال في هذا المثال فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والجواب:- إن المصداق الواضح للإقدام على الضرر هو الإقدام على نفس الضرر ولعل من هذا القبيل من أقدم على المعاملة الغبنية بحيث أرادها رغم علمه بأنها غبنيَّة فإن هذا إقدام على نفس الضرر - أعني المعاملة الغبنية - وبالتالي لا يشمله حديث لا ضرر . وأما مثال من أقدم على المقدمة فهو مثال المريض فإن المريض الذي يعلم بأن الماء يضره هو قد أقدم على الجنابة التي هي مقدمة وسبب للغسل الذي هو المضر أما نفس الجنابة فلست مضرة وهنا هل يصدق على الإنسان المذكور أنه أقدم على الغسل الذي هو المضر حتى لا يشمله حديث رفع الضرر ؟ يمكن أن نقول:- كلا إنه لم يقدم على الضرر يعني الغسل - فإنه أقدم على الجنابة ولم يقدم على الغسل بل هو يبغض الغسل ومن الأشياء التي يحبها ويأملها أن يقال له ليس عليك غسل فالغسل ليس مراداً له وليس مُقدِماً عليه بل هو مقدم على الجنابة فقط ويبغض الغسل في الجو البارد ، نعم إذا كانت المقدمة مقدمة توليدية أي للفعل التوليدي بحيث يكون حصولها لا ينفك عن حصول المقدمة فهنا قد يقال بأن الاقدام عليها إقدام على ذي المقدمة باعتبار أن عنصر الاختيار والارادة لا يتوسط بين المقدمة وبين ذيها كمن أطلق الرصاصة على شخص وهو يعلم بأنها رصاصة فهو عندما أقدم على اطلاقها يمكن أن يقال هو قد أقدم على القتل أما في مثل مقامنا الذي فرض فيه أن المقدمة ليست مقدمة للفعل التوليدي التسبيبي وتتوسط الإرادة في البين ففي مثله لا يصدق أن الاقدام على المقدمة إقدام على ذيها ، هكذا ينبغي أن نلتفت إلى هذا الموضوع بعد ذلك ندخل في تحقيق الحال في المثالين.