34/11/22
تحمیل
الموضوع:- تنبيهات ( تتمة التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي ) ، التنبيه الرابع ( الأصل المثبت ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
الاستصحاب التعليقي في الشبهات الموضوعية:-
الاستصحاب التعليقي تارةً يكون في باب الأحكام وقد تقدم مثاله - يعني لو جف العنب وصار زبيباً وشككنا في بقاء الحرمة عند غليان الزبيب فلو استصحبنا استصحابا تعليقياً كان ذلك في شبهة حكميّة حيث نشك في بقاء الحرمة الكليّة - وأخرى يكون في باب الموضوعات وقد مثلنا لذلك بغسل الثوب إذا وقع في الحوض وغير ذلك من الأمثلة وذكرنا أنه لا يجري ، وهناك حالة ثالثة وهي أن نفترض أن العنب نشك هل صار زبيباً - أي أنه جف وصار زبيباً - أو هو بَعدُ باقٍ على العنبيّة ؟ إن هذه شبهة موضوعيّة حيث نشك أن هذا عنبٌ أو هو زبيبٌ فليس الشك في بقاء الحكم الكليّ وأيضاً ليس الشك بلحاظ الموضوع أو المتعلق بل الشك في الحكم - أي بقاء الحرمة - ولكن لأجل الشك في الموضوع وأنه هل صار هذا العنب زبيباً أو لا ؟ فهنا تارةً نجري استصحاب بقاء العنبيّة بناءً على أنه قابل للجريان وأخرى نفترض أنه لا يجري - أي استصحاب بقاء العنبيّة - إما لأنه مثبت أو لنكتةٍ أخرى ، فهل يمكن أن نجري الاستصحاب التعليقي بأن نشير إليه ونقول ( هذا الذي لا ندري الآن أهو عنب أو زبيب كان لو غلى قبل ساعة لحرم - والمقصود من قبل ساعة أي حينما كان عنباً بنحو الجزم - والآن هو كذلك أي لو غلى لحرم ) إنه استصحابٌ تعليقيٌّ في لحكم ولكن في لحكم الجزئي وليس في الحكم الكليّ - أي في شبهة موضوعيّة فإن كل شبهة موضوعيّة يكون الحكم المشكوك فيها هو الحكم الجزئي - فهل يجري الاستصحاب التعليقي ؟ - وقلت لك إذا كان استصحاب العنبيّة قابل للجريان فلا نحتاج الى الاستصحاب التعليقي ولكن لنفرض أنه لا يجري لنكتةٍ وأخرى فهل يمكن أن نجري الاستصحاب التعليقي بالشكل الذي أشرنا إليه فنشير إليه ونقول هذا قبل ساعة كان عنباً جزماً لو غلى لحرم والآن نشك هل هو كذلك أو لا فيثبت بالاستصحاب أنه كذلك ويثبت بالاستصحاب الحكم الجزئي فهل هذا صحيح وجارٍ أو لا ؟
والجواب:- تارةً نبني على أن الاستصحاب التعليقي في باب الأحكام الكليّة جارٍ والاشكالات الثلاثة التي أوردت عليه باطلة وأخرى نبني على أنه لا يجري لتمامية الاشكالات الثلاثة أو على الأقل بعضها.
فإن بنينا على الأوّل - أي أنه يجري كما أخترناه - فالمناسب هنا الجريان والحكم بالحرمة لأنه إذا كان عنباً فهو حرام جزماً بالغليان وإذا كان زبيباً فالمفروض أن الاستصحاب التعليقي جارٍ فالحرمة ثابتة على كلا التقديرين.
وأما إذا بنينا على الثاني - أي أنه لا يجري - فالمناسب هنا عدم الجريان أيضاً فإن الاشكالات الثلاثة السابقة تجري هنا وتعمّ هذا الورد ، فمثلاً الإشكال الأوّل إذا قلنا بتماميته في باب الشبهة الحكمية يأتي هنا ويقال إن هذا الاستصحاب ليس استصحاباً للجعل لعدم الشك فيه ولا للمجعول لأن الحكم لم يكن فعلياً سابقاً والحكم المشروط انتزاعيّ فنفس الإشكال الأول يأتي هنا فيلزم عدم جريان الاستصحاب التعليقي . وهكذا الاشكال الثاني وهو أن استصحاب الحرمة المعلّقة لا يكفي لإثبات الفعليّة . وهكذا الاشكال الثالث - يعني المعارضة - يأتي هنا . وبالتالي المناسب عدم الحكم بالحرمة لاحتمال أنه زبيب والزبيب لا يمكن الحكم بالحرمة فيه حسب الفرض.
اذن النتيجة هي:- لا فرق بين الشبهة الموضوعيّة وبين الشبهة الحكميّة فإذا قلنا في الشبهة الحكميّة بجريان الاستصحاب التعليقي هنا يجري أيضاً وإذا قلنا بعدم الجريان فهنا أيضاً لا يجري . إذن لا فارق من هذه الناحية بين الشبهة الحكميّة وبين الشبهة الموضوعيّة.
هذا كله في الاستصحاب التعليقي وبذلك نختم حديثنا عنه.
التنبيه الرابع:- الأصل المثبت.
المعروف بين الأعلام أن الأصل ليس حجّة في إثبات لوازمه ومثبتاته غير الشرعيّة على خلاف الأمارة فإنها حجّة في لوازمها ومثبتاتها ، وهذا المبحث من الأبحاث المهمّة ولولا أنه يلزم الاختلال في منهجة الأبحاث الأصولية لكان من المناسب ذكر هذا البحث في بداية علم الأصول لأن كثيراً من الأبحاث تحتاج إليه فمثلاً صاحب الكفاية في مبحث الصحيح والأعم تمسك بفكرة الأصل المثبت.
وعلى أي حال يقع الكلام تارةً في معنى الأصل المثبت وأخرى في وجه عدم حجيّته وثالثة في نكتة الفرق بين الأصل حيث لم يكن حجّة في لوازمه وبين الأمارة حيث كانت حجّة في لوازمها ، فهذه ثلاث أبحاث نشير إليها:-
معنى الأصل المثبت:- يقصد بالأصل المثبت كل أصلٍ يراد من إجرائه ترتيب لازمٍ غير شرعيّ عليه ، توضيح ذلك:- إننا إذا أردنا أن نستصحب موضوعاً من الموضوعات فتارةً يفترض أن الأثر الشرعي يترتب على الموضوع المذكور بالمباشرة وثانية نفترض أنه يترتب على هذا الموضوع أثر شرعي وذاك الأثر الشرعي هو موضوعٌ لأثرٍ شرعيّ ثانٍ بيد إن الاثنين معاً هما شرعيان وثالثة نفترض أننا نستصحب موضوعاً ويترتب عليه أثر غير شرعي وعلى هذا الأثر غير الشرعي يترتب أثر شرعي ، هذه ثلاثة أنحاء لاستصحاب الموضوع.
مثال الأول:- استصحاب اطلاق الماء فيما لو شككنا في أن الماء باقٍ على الاطلاق أو صار مضافاً فلو استصحبنا الاطلاق فيثبت بذلك جواز الوضوء به ومعلوم إن جواز الوضوء أثر شرعيّ وهو ثابت مباشرةً لإطلاق الماء.
وإذا سألتني وقلت:- من أين عرفت أن جواز الوضوء مترتب على طهارة الماء ؟ أجبت:- بأن القضيّة واضحة شرعاً وهي من الأشياء المسلّمة التي لا تحتاج الى دليل ، مضافاً الى استفادة ذلك من الآية الكريمة:- (يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم للصلاة فاغسلوا وجوهكم ... ) فإن المقصود من قوله تعالى ( فاغسلوا ) يعني بالماء المطلق جزماً ولا يحتمل أن المراد هو الماء المضاف وهذا نجزم به بالضرورة . إذن بالآية الكريمة ثبت أن جواز الوضوء مترتّب على اطلاق الماء فإنه إذا استصحبنا اطلاق الماء ثبت أثر شرعي مباشري وهو جواز الوضوء وهذا مما لا إشكال فيه وليس من الأصل المثبت بشيء.
ومثال الثاني:- استصحاب كرّيّة الماء لإثبات طهارة الثوب الذي غسلناه في ذلك الماء المشكوك الكرّيّة ومن ثم يثبت جواز الدخول في الصلاة . إذن استصحاب الكرّيّة أثبت لنا كرّيّة الماء واللازم الشرعي لكرّيّة الماء هو أن ما يُغسَل فيه يكون طاهراً والأثر الشرعي لطهارة الثوب هو أنه يجوز الدخول الى الصلاة به . اذن كلا الأثرين شرعيان وهذا أيضاً ليس من الأصل المثبت في شيء.
ومثال الثالث:- استصحاب حياة الولد لإثبات نبات لحيته وإذا ثبت نبات اللحية ثبت وجوب التصدّق فيما لو كنا نذرنا الصدقة على تقدير نبات لحية الولد فإن نبات اللحية ليس أثراً شرعياً لبقاء الولد حيّاً وإنما هو أثر غير شرعي - أي هو أثرٌ عادي - ولا توجد آية أو رواية ولا ارتكاز شرعي يقول ( إذا بقي الولد حيّاً الى فترة عشرين سنة فقد نبتت لحيته ) فهو أثر غير شرعي ولكن ترتب على هذا الأثر غير الشرعي أثرٌ شرعيّ وهو أن أتصدّق لو نبتت لحية ولدي وهذا ما يعبّر عنه بالأصل المثبت . إذن أُجرِيَ استصحاب الحياة لإثبات أثر غير شرعي غايته يترتب على هذا الأثر غير الشرعي أثرٌ شرعي . ومثال آخر وهو ما لو شككنا هل يوجد على اليد حاجب يمنع من وصول الماء أو لا ؟ فهنا هل يمكن أن نستصحب عدم وجود الحاجب فإنه سابقاً لم يكن موجوداً - كما لو كان على ظهري مثلاً ولا استطيع رؤيته فحينئذ استصحب عدم وجود الحاجب - فهل يكفي لإثبات صحّة الغسل أو لا ؟ وهكذا بالنسبة الى أعضاء الوضوء لو شككنا في وجود الحائل عليها إذا لم يكن هناك ضياءٌ فهل نتمكن أن نستصحب عدم الحاجب لإثبات تحقق الوضوء أو لا ؟ إن هذا مثال للأصل المثبت لأن استصحاب عدم الحاجب ماذا يثبت لنا ؟ إنه يثبت أن الماء قد وصل الى البشرة ومعلوم أن وصول الماء الى البشرة ليس أثراً شرعياً لعدم الحاجب وإنما هو أثر عاديّ إذ لا توجد آية ولا رواية تقول ( إذا لم يكن هناك حاجبٌ فقد وصل الماء ) . إذن استصحاب عدم الحاجب لإثبات وصول الماء ومن ثم يثبت تحقق الوضوء يكون من الأصل المثبت ، ولذلك يقول الفقهاء عند الشك في وجود الحاجب أنه لابد من الاطمئنان بعدم وجوده والشك لا ينفع لأن الاصل هنا لا يجري لكونه مثبتاً فلابد من تحصيل الاطمئنان بعدم وجود الحاجب . نعم ادّعى البعض أن أصالة عدم الحاجب وإن كانت من الأصول المثبتة ولكن رغم ذلك يجري هنا لنكتةٍ خاصّة وهي انعقاد سيرة المتشرعة على ذلك فإن المتشرعة إذا أرادوا أن يغتسلوا لا يقولون لأشخاصٍ آخرين تعالوا وانظروا هل يوجد حاجب على الظهر أو لا وكذلك الحال في الوضوء فإن الشخص إذا أراد أن يتوضأ لا يلتفت الى يديه ويدقّق بل لو فعل ذلك لقيل عنه أنه وسواسي . إذن لأجل انعقاد سيرة المتشرعة على عدم الاعتناء للشك نقول إن أصالة عدم الحاجب تجري ولكن لسيرة المتشرعة وإلا فهو أصلٌ مثبت . وعلى أي حال هذا كلامٌ في الفقه وهل هو صحيح أو لا وهل هناك سيرةٌ كما ادُّعِيَ أو لا وهل تنفعنا أو لا فهذا لا يهمنا الآن ولكن بقطع النظر عن السيرة فهذا أصل مثبت.
إذن عرفنا لحدّ الآن معنى الأصل المثبت وهو كل أصل يراد منه إثبات لازم غير شرعي ومن ثم ترتيب أثر شرعيّ على ذلك الأثر غير الشرعي.