34/11/17
تحمیل
الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
الجواب الثالث وهو الصحيح:- وحاصله إن كل شيء إذا كانت له حالتان سابقتان وكانت إحداهما هي الأصلية بمعنى أن العرف يعدّها هي الحالة السابقة للشيء والأخرى ليست كذلك فحينما نطبّق حديث ( لا تنقض ) فلا بد من تطبيقه على الحالة الأولى دون الثانية إذ المفروض أن الحالة الأولى هي التي يعدّها العرف حالةً سابقة للشيء بخلاف الحالة الثانية فإنه لا يعدّها حالة سابقة للشيء كما لو فرض أن شخصاً كان عنده مجلس عزاءٍ لأهل البيت عليهم السلام في كل عام وشككنا في هذا العام هل عنده مجلسٌ أو لا فكيف نطبق دليل الاستصحاب هنا ؟ إنه لا إشكال في أنّا نطبقه فنقول ( إنه في الأعوام السابقة كان له مجلس عزاء والآن نشك فنستصحبه ) هذا هو المناسب ولا معنى لأن يقول قائل إنه لم يكن عنده مجلس عزاء بالأمس فإذا شككنا في هذا اليوم هل عنده مجلس أو لا فنستصحب العدم الثابت بالأمس أو قبل ساعة ، كلا إن العرف يرفض ذلك فإنه يرى أن الحالة السابقة هي الأولى وأما أنه بالأمس ليس عنده مجلس فهذا ليس هو الحالة السابقة فإن الحالة السابقة في كل شيءٍ بحسبه ومن عنده مجلسٌ في كل عامٍ تكون الحالة السابقة عند العرف ما أشرنا إليه - يعني أنه يلاحظ وقت المناسبة لا أنه يلاحظ أمس أو قبل ساعة - فأي كلامٍ هذا ؟! وهكذا لو فرض أن المدرّس كان يحضر الدرس في كل يوم وشككنا هل يحضر الى الدرس في هذا اليوم أو لا ؟ لا إشكال في أنّا نرى الحالة السابقة بعرفيتنا هي أنه كان يدرّس واليوم يأتي ويدرّس انشاء الله تعالى ولا نقول إنه قبل ساعة أو نصف الليل لم يكن مدرّساً والآن نشك فنستصحب العدم إن هذا لا معنى له ، وهكذا بالنسبة الى استصحاب بقاء الحكم لو شك في نسخه مثل وجوب صلاة الجمعة فإنه من الواجبات المؤقتة - أي بيوم الجمعة - فلو شككنا هل أن هذا الحكم نسخ أو لم ينسخ ؟ اتفق الجميع على أنه يجري استصحاب بقاء الحكم بمعنى بقاء الجعل وعدم نسخه ، وبكلمة اخرى إن استصحاب بقاء الحكم بمعنى عدم النسخ من الاستصحابات المتفق عليها ودعوى أنه يمكن أن يُعارَض فيقال ( إنه في إنه يوم الخميس لم تكن صلاة الجمعة واجبة علينا جزماً والآن نشك فنستصحب عدم الوجوب الثابت يوم الخميس وهذا الاستصحاب يكون معارضاً لاستصحاب بقاء وجوب الجمعة في يوم الجمعة ) مرفوضة فإن العرف لا يرى أن هذا الاستصحاب معارضاً لذاك الاستصحاب فإن الحالة السابقة التي يراها العرف هي بلحاظ يوم الجمعة أما أن نلحظ يوم الخميس فهذه ليست هي الحالة السابقة في هذا الشيء.
وبالجملة:- إن الحالة السابقة في كل شيء بحسبة كما أوضحنا.
وإذا قبلنا بهذا المطلب الكليّ نأتي الى مقامنا ونقول:- إنا قد فرضنا أن العنب لو كان قد غلى لحرم جزماً والآن نشك - أي بعد أن صار زبيباً - فمن المناسب أن نلحظ تلك الحالة الثابتة وقت العنبيّة وهي ( إن غلى حرم ) فنستصحبها أما أن نلحظ هذا الشيء قبل ساعة - أي قبل أن يغلي - فإنه كان حلالاً جزماً فهذه حالة ليس أصليّة ولا يرى العرف أنها الحالة السابقة نظير ما إذا لاحظنا في مسألة الدرس نصف الليل وأن المدرّس لم يكن يدرّس آنذاك فكما يقال إن هذه ليست هي الحالة السابقة لهذا الشيء كذلك هنا كون هذا قبل ساعة لم يحرم - أي قبل الغليان - فنستصحب الحليّة الثابتة فهذه ليست هي الحالة السابقة بالمنظار العرفي فلا معنى لتطبيق دليل الاستصحاب عليها كي تثبت بذلك المعارضة.
وحصيلة هذا الجواب:- هي أنه لا معنى لملاحظة الحليّة الثابتة قبل غليان الزبيب إذ هي ليست الحالة السابقة في النظرة العرفية وهي أشبه بما أشرنا إليه في تلك الأمثلة فيبقى ذلك الاستصحاب التعليقي جارياً بلا معارضٍ من دون حاجة الى حكومةٍ أو الى ما أفاده الشيخ الخراساني(قده) بل يقال إن دليل الاستصحاب لا يشمل الاستصحاب الثاني من البداية لأنه لا توجد حالة سابقة من زاويته كي تستصحب.
إن قلت:- إننا تعلمنا من علماء الأصول أن العرف يُرجَع إليه في تشخيص المفاهيم - أي مفاهيم الفاظ الدليل - أما أن نرجع إليه في تطبيق الدليل على مصاديقه فنظره ليس بحجّة ، هذا هو المعروف ، والوجه في هذا التفصيل واضح إذ بالنسبة الى المفاهيم يكون مرجعاً لأجل أن المتكلم عرفيّ وتكلم بكلام عرفيّ وبالألفاظ عرفيّة فينبغي أن يكون المراد له ما يفهمه العرف ، أما بالنسبة الى المصاديق فحيث إنه لا يوجد دليلٌ على مرجعيّة العرف وذاك الذي ذكرناه يختص بالمفاهيم فحينئذ لا يكون العرف مرجعاً في مقام التطبيق وتشخيص المصداق ، إنه إذا قبلنا بهذا المطلب فكيف تريد في مقامنا الرجوع الى العرف في مقام التطبيق وتقول إنه يرى أن الحالة السابقة هي الأولى وأما الثانية فلا وبالتالي لا يصح تطبيق دليل الاستصحاب على هذا المورد ؟ إن هذا رجوع الى العرف في مقام التطبيق وليس في مقام تحديد المفهوم !.
قلت:- نحن ندّعي أن هذه النظرة العرفية هي نظرة عرفيّة واضحة وتشكّل قرينة لبيّة متصلة والمتكلم حينما قال - أعني المعصوم عليه السلام - ( لا تنقض اليقين بالشك ) - أي اليقين بالحالة السابقة - كان كلامه مقترناً بهذه القرينة اللّبيّة العرفيّة الواضحة فهو يتحدّد من البداية على وفق ما تقتضيه هذه القرينة اللبيّة المتصلة . إذن هذه النظرة العرفيّة تحدّد من البداية أن الصادر من المتكلم هو المعنى الضيّق وليس المعنى الوسيع وهذا بالتالي ليس رجوعاً الى العرف في مقام التطبيق بل رجعنا إليه من باب أنه صار قرينةً لبيّة متصلة بالدليل وبالتالي لا ينعقد إطلاق للدليل حتى تحصل المعارضة بين الاستصحابين.
والخلاصة من كل هذا:- إن الاستصحاب التعليقي جارٍ دون أن ترد عليه الاشكالات الثلاثة السابقة.
وبعد أن اتضح هذا يقع الكلام في أن الاستصحاب التعليقي هل يجري في باب الأحكام فقط أو أنه يجري في باب الموضوعات المتعلقات أيضاً ؟
الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلّقات:- نحن نعرف الفرق بين الحكم والموضوع والمتعلق فحينما يقول المولى ( يجب الحج على المستطيع ) فالوجوب هو الحكم والحج هو المتعلق والاستطاعة هي الموضوع ، ومعرفة الحكم قضيّة واضحة ، ولكن كيف نميّز بين الموضوع وبين المتعلق ؟ فلماذا قلنا أن الحج متعلق بينما الاستطاعة موضوع فما هو الضابط الأصولي للتفرقة ؟
والجواب:- إن ضابط الفرق هو أن ما يحرّك نحوه الحكم إيجاباً أو سلباً - أي إما أن يحرّك نحو فعله أو يحرّك نحو ترك فعله - فمثل هذا يعبّر عنه بالمتعلق فالحج يبعث نحوه الوجوب فالحج متعلق لأن الحكم يحرّك ويبعث نحوه إيجاباً وأما الاستطاعة فالحج لا يحرّك نحوها وإنما يقول ( على المستطيع الحج ) فهو لا يحرك نحوها بل على فرض تحققها يجب الحج فيعبَّر عن الاستطاعة بالموضوع ، وهكذا في مثل قولنا ( يحرم العصير العنبي إن غلى ) فالحكم هو الحرمة والمتعلق هو الشرب إذ توجد كلمة ( شرب ) مقدرة فالشرب هو المتعلق والغليان والعصير إن تحققا فحينئذٍ يحرم الشرب فهما يكونان موضوعين فالعصير موضوعٌ والغليان موضوعٌ.
وإذا اتضح هذا فحينئذ نقول:- أما الاستصحاب التعليقي في باب الأحكام فمثاله ما تقدّم حيث كنا نقول سابقاً إنا نستصحب الحرمة - أي حرمة شرب العصير إن غلى - الثابتة حالة العنبيّة على تقدير الغليان فتثبت بذلك الحرمة على تقدير الغليان والحرمة هي حكمٌ ، هذا استصحاب تعليقي في باب الأحكام ، ومثال ثانٍ لغير الحكم وهو أنه لو فرضنا أنه كان يوجد لدينا حوضٌ وكان فيه ماء سابقاً ولكن في هذا اليوم نشك هل أن الماء بَعدُ موجودٌ فيه أو لا ووقع فيه في هذا اليوم جزماً ثوبٌ متنجّس ففي مثل هذه الحالة إذا وقع الثوب بالأمس فجزماً قد تحقق غسله ولكنّه وقع في هذا اليوم وهذا اليوم نشك هل يوجد ماءٌ في الحوض أو لا ففي مثل هذه الحالة نُجري الاستصحاب فنقول هذا الثوب إن كان قد وقع في الحوض بالأمس لتحقق غسله واليوم نشك حينما وقع فيه هل يتحقق غسله أو لا فنستصحب هذه القضيّة الشرطية المتيقنةً بالأمس - يعني إن وقع فيه لتحقق غسله - الى هذا اليوم فلو كان هذا الاستصحاب جارياً فسوف يثبت عنوان الغسل ، والغسل ليس حكماً شرعياً وإنما إذا افترضنا أنه واجبٌ لأجل الصلاة - فيوجد عندنا وجوب الغسل - فبهذا اللحاظ يصير متعلقاً أما إذا صغنا الحكم بهذا الشكل وقلنا ( إن تحقق الغسل طَهُرَ الثوب ) فيصير موضوعاً ، فهو إذن متعلّقٌ أو موضوعٌ وليس حكماً.