34/11/15
تحمیل
الموضوع:- تنبيهات ( التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
وبهذا اتضح أن توجيه الحكومة بما أفاده الشيخ النائيني والشيخ العراقي قابل لمناقشة.
بيد أنه قد يذكر بيان آخر لتوجيه الحكومة:- وحاصله يبتني على مقدمة وهي أن الحكومة لها مصطلح معروف وهو أن كل دليل يلغي الشك بلحاظ الدليل الثاني فيكون حاكماً عليه إذ حينما يلغي الشك فسوف ينتفي بذلك موضوع الدليل الثاني فيكون حاكماً عليه ، هذا هو مصطلح الحكومة المعروف من قبيل ما إذا غسلنا الثوب بماء مشكوك الطهارة والنجاسة وكان الثوب متنجساً فهنا نستصحب طهارة الماء لو كانت حالته السابقة هي الطهارة ونقول يثبت بذلك طهارة الماء وإذا ثبتت طهارة الماء ارتفع بذلك الشك في نجاسة الثوب لأن النجاسة تثبت لو غُسِل الثوب بماءٍ متنجس أما إذا غسل بماء طاهر فيرتفع الشك في نجاسة الثوب حينئذٍ ، على هذا الأساس يكون ذلك الأصل في الماء سببيّاً وحاكماً على الأصل الثاني الجاري في الثوب لأنه يزيل الشك بلحاظه - هذه هي الحكومة المعروفة التي هي حكومة أنصارية أو نائينية -.
وهناك حكومة بمعنىً آخر وإذا لم ترد التسمية بالحكومة فذلك حقٌّ لك وحاصل هذا المعنى الجديد هو أن يقال:- إن كل واحدٍ من الدليلين إذا كان ينقّح موضوع الدليل الآخر نفياً أو اثباتاً بخلاف الثاني فإنه لا ينقّح موضوع الدليل الأول فهنا يُقدّم الدليل الأول على الدليل الثاني حتى إذا فرض أنه لم يلغِ الشك - أعني الدليل الأول - فيكفي لتقدّمه أنه ينقّح موضوع الدليل الثاني ويكفي هذا للتقديم - وواضح أن هذا يحتاج الى مثال ومدرك - ، ومثال ذلك هو ما إذا فرض في المثال السابق - أي مثال الماء مشكوك الطهارة وغسلنا به ثوب متنجس - إنه لو فرضنا أن الماء لم نعرف حالته السابقة فهنا لا يجري الاستصحاب - يعني استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة - لعدم المعرفة بالحالة السابقة فتصل النوبة الى أصل الطهارة فـ( كل شيء لك طاهر .... ) فنحكم بطهارة الماء لأصالة الطهارة دون استصحاب الطهارة وفي هذه الحالة هل نحكم بطهارة الثوب المغسول بهذا الماء الذي حكمنا بطهارته بأصل الطهارة دون الاستصحاب أو لا ؟ نعم قالوا يحكم بطهارة الثوب ، وكيف تحكمون بذلك والحال أن الأصل الجاري في الماء ليس هو الاستصحاب فلو كان هو الاستصحاب فيمكن أن نقول إن الاستصحاب على مصطلحات الشيخ النائيني هو أصل محرِز فهو يحرِز لنا الطهارة أو على رأي السيد الخوئي هو مارة فيمكن أن نقول مادام هو أمارة أو هو أصل محرِز فنصير محرِزين لطهارة الماء وإذا أحرزنا طهارة الماء إذن تنقح موضوع الدليل الثاني فصار الماء طاهراً والمفروض أن تحقّق الغسل بالماء وجداني وكون الماء طاهر بالأصل المحرِز فتنحلّ المشكلة آنذاك ، ولكن مادام الأصل الجاري في الماء هو أصل الطهارة فإنه ليس بأصلٍ محرزٍ ولا غير ذلك فكيف يقدم على استصحاب نجاسة الثوب ؟ هذا اشكال يواجهه أصحاب تلك الحكومة - يعني الانصاري والنائيني ومن سار على ذلك - فيبقى هذا المستند قاصراً ، فبإمكاننا حينئذ التخلص من هذه المشكلة بأن نقول إن هناك حكومة بهذا المعنى الجديد فيقال إن أصل الطهارة وإن لم يكن محرزاً ورافعاً للشك ولكنّة منقّح لطهارة الماء - أي موضوع الدليل الثاني - ونفس كونه منقّحاً يوجب التقديم ، وما هو مستندك في ذلك ؟ المستند هو العرف فإن العرف لا يرى تعارضاً بينهما بل يرى أنه مادام هذا ينقّح موضوع ذاك فهذا بنفسه يوجب التقديم والعرف هو أعلامنا - أي الانصاري والنائيني - فإنهم حكموا بالتقديم حتى في كون الأصل هو أصل الطهارة وليس الاستصحاب وهذا معناه أنهم بذوقهم العرفي العقلائي يرون أن هذا مقدّم على ذاك رغم أنه لا يُلغي الشك لأنه ليس أصلاً محرِزاً ولكن مع ذلك هم يشعرون بالتقديم وحكموا به من دون تفصيلٍ وهذا معناه أن العقلاء والعرف يرون أن الأصل المنقّح لموضوع الدليل الآخر يكون موجباً للتقدّم عليه وهذا سمّه بـ( الحكومة ) إن شئت وإن لم يعجبك ذلك فقل ( هو أحد موجبات التقديم).
واذا اتضحت هذه المقدمة نرجع الى البيان الذي نريد أن نذكره ونقول:- إن الاستصحاب التعليقي - أي استصحاب الحرمة المعقلة على الغليان حالة العنب - مقدّم على الاستصحاب التنجيزي - أي استصحاب الحليّة - والوجه في ذلك هو أنه إما أن نقول إن الاستصحاب التعليقي إذا جرى فلا يقلب الحرمة المعقلة الى حرمة منجزة بل تبقى الحرمة معلقة أو نقول إنها تنقلب الى حرمة منجزة فإذا قلنا إنها لا تنقلب فهذا معناه أن الاستصحاب التعليقي لا يجري من الأساس للقصور في المقتضي - وإذا كان لا يُثبت الحرمة الفعلية فلا ينفع شيئاً - لا أنه قابل للجريان ولكنه يعارض باستصحاب الحلية الفعليّة فهو لا يجري من الاساس قبل أن تصل النوبة الى المعارضة . إذن حينما نفترض المعارضة يلزم أن نفترض أن الحرمة المعلقة تنقلب الى فعليّة وحينئذ نقول إن بنينا على الثاني - يعني أن الحرمة المعلقة تنقلب الى حرمة فعليّة - فحينئذ نقول نطبّق ما ذكرناه في المقدمة يعني أن الاستصحاب التعليقي يكون حاكماً على الاستصحاب التنجيزي فإن الاستصحاب التعليقي يقول إن الحرمة المعلقة باقية وهذه الحرمة المعلقة انقلبت بالتالي الى حرمة فعليّة ولا توجد حليّة آنذاك فهو يقول هناك حرمة يعني لا توجد حليّة فهو إذن ينقّح موضوع الدليل الثاني نفياً ، وهذا بخلاف استصحاب الحليّة الفعليّة فإنه يقول إن الحليّة الفعليّة موجودة وبقاء الحليّة الفعليّة لا ربط له بالحرمة المعلّقة حتى ينفيها نعم هو ينفي الحرمة الفعليّة ولكن مفاد الاستصحاب التعليقي بالمطابقة هو الحرمة المعلّقة ومعلوم أن الحليّة الفعليّة لست نفياً للحرمة المعلّقة وإنما هي نفيٌ للحرمة الفعليّة ، وعلى هذا الأساس يكون الأصل الثاني التنجيزي ليس نافياً للدليل الاول بينما الاستصحاب التعليقي ينفي الحليّة المنجّزة كما أو ضحنا.
إن قلت:- إن الاستصحاب التعليقي صحيحٌ أنه أثبت بقاء الحرمة المعلّقة وانقلبت الحرمة المعلّقة الى حرمة فعليّة ولكن نقول إن نفي الحليّة الفعلية لازمٌ عقليّ لثبوت الحرمة المعلّقة فصار الأصل مثبتاً فإن العقل يقول مادامت الحرمة الفعليّة ثابتة الآن فلا يمكن أن تثبت الحليّة الفعليّة فإنه اجتماعٌ للضدين - أو النقيضين أو المتهافتين ما شئت فعبِّر - فإذن صار انتفاء الحليّة الفعليّة لازماً عقلياً لبقاء الحرمة المعلّقة وإذا صار لازماً عقلياً صار أصلاً مثبتاً.
قلت:- نحن بناءً على هذه الطريقة لا نستعين بفكرة إلغاء الشك وأن الأصل الأول يلغي الشك المأخوذ في الدليل الثاني حتى يبتني ذلك على جعل العلميّة والإحراز بل نحن نغض النظر عن هذا فلو كنّا قد أخذنا بهذا فذلك يعني أننا نسلك نفس طريق الشيخ الأنصاري والشيخ النائيني وليس شيئاً جديداً ونسلّم بناءً على مصطلحاتهم أن المورد يكون من الأصل المثبت ، ولكن نحن ندّعي وجود بناءٍ عقلائيّ عرفيّ بأن أحد الدليلين إذا كان ينفي موضوع الدليل الثاني - سواء فرض ذلك بملازمةٍ عقليةٍ أو غير عقليّة فهذا لا يهم - فمادام هو ينفي أو يثبت فيقدّم وفي مقامنا الأصل الأول حيث يُثبت الحرمة الفعليّة فثبوت الحرمة الفعليّة يعني أنه ليس حلالاً بالفعل فحينئذ يكون مقدّماً عرفاً على الأصل الثاني ، وهذا بخلاف العكس فإن استصحاب الحليّة الفعليّة لا ينفي الحرمة المعقلّة وإنما ينفي الحرمة الفعليّة أما الحرمة المعلّقة التي يجري الاستصحاب بلحاظها فلا ينفيها . إذن هذا الاشكال في غير محلّة وإنما يتوجه فيما لو كنا نتساير مع مصطلحات الشيخ الأعظم الشيخ النائيني فنحن نريد أن نبيّن حكومةً جديدةً وشيئاً جديداً للحكومة بقطع النظر عن ذلك . فإذن هذا الاشكال لا يرد.
نعم الاشكال الوارد على هذا البيان هو:- إن هذا وجيه لو قلنا إن الحرمة المعلقة تنقلب الى حرمة فعليّة فإنها إذا انقلبت يتم هذا البيان ولكن قد تقدم سابقاً أن التنجّز الذي هو حكم عقلي لا يتوقف على انقلاب الحرمة المعلّقة الى فعليّة بل العقل يرى أن التنجّز يكفي فيه وصول الكبرى ولو بالتعبد وإحراز الصغرى والمفروض أن الكبرى واصلة ببركة الاستصحاب التعليقي والصغرى - يعني الغليان - محرزة بالوجدان فيحكم العقل بتنجّز الحرمة بلا حاجة الى تحويلها الى حرمة فعليّة كما يقتضيه مصطلح الشيخ النائيني فلا نلتزم بأنه يلزم أن تنقلب الحرمة المعلّقة الى فعليّة بل حتى لو لم نتقلب - فنحن نقول لا تنقلب - يثبت التنجز ويجري الاستصحاب التعليقي وإذا ثب التنجّز فحينئذ نقول كيف يتقدم هذا الاستصحاب على ذاك الاستصحاب ؟ فتعود المشكلة كما كانت سابقاً.
وبهذا اتضح أن فكرة الحكومة بجميع بياناتها الثلاثة قابلة للمناقشة.