34/11/01
تحمیل
الموضوع: تنبيهات ( التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي ) / الاستصحـاب / الأصول العملية.
التنبيه الثالث:- الاستصحاب التعليقي.
والبحث المذكور هو من الأبحاث المهمة ومنشأ الأهمية هو ابتلاء الفقيه بالاستصحاب المذكور وحاجته إليه في الاستنباط وقد وقع الخلاف في حجيته وعدمها كما سوف نوضح فيما بعد إنشاء الله تعالى ولكن لتوضيح المقصود منه نذكر الضابط له ثم نذكر بعض الامثلة كتوضيح:-
إن ضابطه هو أن يكون للشيء حكمٌ سابقاً ولكنه معلّق على شرطٍ ثم تطرأ حالة تسبّب الشك في بقاء ذلك الحكم وقبل طرو تلك الحالة لم يكن ذلك الشرط متحققاً وبعد طروها يتحقق الشرط ولكن يشك في بقاء ذلك الحكم ، ومن أمثلة ذلك:-
المثال الأول:- العصير العنبي فإنه في حالة كونه عصيراً يوجد له حكمان حكم تنجيزي وليس معلقاً - وهذا اذكره من باب التوضيح أكثر والا فالكلام ليس فيه بل الكلام في الحكم المعلق - من قبيل كونه مملوكا فإن ملكية العصير العنبي ليست موقوفة على شرطٍ وهناك حكم تعليقيّ وهو حرمة الشرب فإنها معلقة على غليانه والمفروض أن الغليان بعدُ لم يحصل - يعني قبل طرو حالة الزبيبية - إذ لو طرأ الغليان لما صار زبيباً وما دمنا قد افترضنا أنه طرأت عليه حالة الزبيبية فيلزم أن نفترض أنه لم يغل ، اذن الحكم المعلق السابق لم يتحقق شرطه - وهو الغليان - ثم طرأت الحالة الزبيبية ثم بعد ذلك أردنا أن نجعل الزبيب على الماء فالغليان تحقق الآن - أي بعد حالة الزبيبية -فحينئذ سوف نشك في بقاء تلك الحرمة المعلقة فهل هي باقية الى ما بعد طرو حالة الزبيبية أو لا ؟ هنا وقع الكلام في أن استصحاب هذا الحكم المعلق هل يجري أو لا ؟ وأما بالنسبة الى الحكم المنجّز - أعني الملكية مثلا - فيجري الاستصحاب فأوّلاً كان مملوكاً والملكية لم تكن موقوفة على شرط فإذا شككنا في بقاء الملكية بعد طرو الزبيبية فيجري الاستصحاب لان الحكم منجّز وكلامنا في ذلك الحكم - وهو الحرمة المعلقة على الغليان - فهل يجري استصحابها الى ما بعد طرو حالة الزبيبية فإذا جرى الاستصحاب فسوف يثبت أن الزبيب بعد الغليان يكون حراماً فالثمرة هي هنا ، أما اذا لم يكن يجري الاستصحاب فنذهب الى أصلٍ آخر كأصل البراءة ، فلاحظ الثمرة كيف هي مهمة جداً والفارق مهم جداً ومؤثر.
المثال الثاني:- المسكوكات الذهبية والفضية فإنه كان في الفترة السابقة - أي في صدر الاسلام - توجد مسكوكات ذهبية وفضية يتعامل بها ويعبّر عنها بالدينار والدرهم إن هذه المسكوكات لها حكمان الحكم الاول هو أنه يجب فيها الزكاة اذا حال عليها الحول وهذا حكم تعليقي لأنه معلق على أن يحول الحول فالزكاة تجب اذا حال الحول ، ولها حكم أخر تنجيزي مثل جواز الاقتناء فإنه كان يجوز اقتناء المسكوكات الذهبية والفضية وهذا حكم تنجيزي وليس معلقا على شيء فإذا هجر التعامل بهذه المسكوكات فسوف نشك في بقاء وجوب الزكاة فهل تجب الزكاة أو لا ؟ وهل يجوز الاقتناء أو لا ؟ فبالنسبة الى جواز الاقتناء لو شككنا في بقائه فجزماً يجري الاستصحاب اذ لا محذور في ذلك لأنه حكم تنجيزي ، وأما بالنسبة الى وجوب الزكاة فالمورد من استصحاب الحكم المعلق فإنه سابقاً كان يجب في هذه المسكوكات - ونشير اليها - الزكاة اذا حال عليها الحول فوجوب الزكاة ليس فعلياً بل هو معلق على أن يحول الحول فإذا شككنا بعد الهجران هل يجري هذا الاستصحاب او لا ؟ فبناء على جريان الاستصحاب التعليقي تلزم على من كانت عنده مسكوكات - كأهل الهواية الذين يقتنون مثل هذه المسكوكات القديمة - الزكاة وأما بناء على رفضه فنرجع الى البراءة دون الاستصحاب.
المثال الثالث:- لو كان عندنا ماء قليل ولاقاه متنجس لا نجس ، وهناك كلام بين الفقهاء في ان الماء القليل هل يتنجس بالمتنجس أو لا ؟ فإذا فرض أنه لم توجد لدينا رواية تدل على أنه يتنجس بالمتنجس أو لا فتصل النوبة الى الأصل العملي فإذا قلنا إن الاستصحاب التعليقي يجري فحينئذ يمكن أن نجري استصحاب جواز الوضوء به فنقول إنه سابقاً كان يجوز الوضوء به والان نشك بأنه هل يجوز الوضوء به أو لا وهكذا جواز الغسل فنستصحب بقاء جواز الوضوء والغسل به فيثبت الجواز آنذاك والنتيجة هي عدم تنجّسه - والمهم في الحقيقة والهدف من التنجس هو جواز الوضوء وعدم جوازه - فبالأصل سوف يثبت جواز الوضوء به بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي.
واذا سألت وقلت:- إن جواز الوضوء هل هو حكم معلق أو هو حكم منجز ؟ وأنا هنا أريد أن أقف وقفة قصيرة فإن الفقيه أحياناً قد يحصل له خفاء في أن الحكم هل هو منجز او معلق فالسيد الخوئي(قده) في بعض كلماته
[1]
ذكر ان استصحاب جواز الوضوء والغسل ليس تعليقياً وانما هو استصحاب تنجيزي فيجري بلا محذور التعليقي ، ولكن نحن نقول المناسب هو أن جواز الضوء تعليقي وليس تنجيزياً فإن الجواز المستصحب ما هو ؟ هل هو الجواز التكليفي أو هو الجواز الوضعي فعندما نقول ( سابقاً هذا الماء كان يجوز الوضوء به ) فهل هذا جواز تكليفي او وضعي ؟ فإذا كان المقصود هو الجواز التكليفي فهذا باقٍ بعد التنجس جزماً بلا شك فإن الماء النجس يجوز تكليفاً الوضوء به وليس من المحرمات وواضح أن هذا بقطع النظر عن التشريع المحرم - وكذلك الوضوء بالخمر غايته أنه باطل أما أنه حرام فلا اذ هو ليس من المحرمات . اذن الجواز هنا ليس جوازاً تكليفياً حتى نقول إنه حكم تنجيزي وانما هو جواز وضعي والمقصود من الجواز الوضعي هو أنه يجوز الدخول في الصلاة إن توضأت به فهذا هو الجوز الوضعي ، وهذا من النكات الظريفة ، هذا هو الجواز الوضعي والمشكوك هو الجواز الوضعي وليس الجواز التكليفي وهذا الجواز الوضعي هو حكم تعليقي لأنه هكذا نقول ( يجوز لك الدخول في الصلاة أو مسّ كتابة القرآن او الطواف إن توضأت ) فهذا هو عبارة عن الجواز الوضعي وهذا روحه يرجع الى حكم تعلقي فجواز الدخول في الصلاة معلق على تحقق الوضوء فالجواز المستصحب هو الجواز الوضعي والجواز الوضعي مرجعه الى قضيّة تعليقية ، اذن هذا الاستصحاب هو استصحاب تعليقي . نعم جواز شربه حكم تنجيزي فإنه حكم تكليفي فلو شككنا بعد ملاقاة المتنجس للماء النجس هل يجوز شربه اولا فيجري استصحاب جواز شربه فإنه استصحاب لحكم تنجيزي وأما استصحاب جواز الوضوء او الغسل به فهو استصحاب لحكم تعليقي لأن الجواز المقصود هنا ليس هو الجواز التكليفي وإنما هو الوضعي والجواز الوضعي روحه ترجع الى قضية تعليقية . اذن الفقيه لا يواجه مشكلة في أن الاستصحاب التعليقي حجة او ليس بحجة فقط بل توجد مشكلة ثانية في الاستصحاب التعليقي وهي ان تشخيص ان هذا الاستصحاب تعلقي او تنجيزي فيه خفاء أحياناً ويختلف فيه الفقهاء احيانا فالتفت الى هذه النكتة.
المثال الرابع:- ما اذا صار الحيوان جلّالاً فإنه قبل جلله كان يوجد حكمان احدهما تنجيزي والآخر تعليقي أما التنجيزي فهو جواز الاكل فإنه كان يجوز أكل الحيوان قبل أن يصير جلّالاً وبعد أن صار جلّالاً نشك بأنه هل يجوز أكله أو لا - لو فرضنا الشك - ؟ فحينئذ يجري استصحاب بقاء جواز الاكل وهو استصحاب لحكم تنجيزي . وهناك حكم أخر وهو تعلق التذكية به فإنه سابقاً كان قابلاً للتذكية والان نشك هل هو قابل للتذكية أو ليس بقابلٍ لها وقبول التذكية حكم تعليقي لأن معنى وقوع التذكية عليه هو أنه لو ذبح بالسكين مع التسمية وباقي الشرائط جاز أكله إن هذا هو معنى تعلق التذكية به وهذا روحه ترجع الى قضية تعليقية فبناء على جريان الاستصحاب التعليقي يجري والا فلا.
ولكن ألفت النظر الى قضيّة جانبية ظريفة لا بأس بالالتفات اليها:- قلنا بأن جواز الاكل استصحابه استصحاب لحكم تنجيزي فإنه سابقاً كان يجوز أكله والان كذلك ، وهنا قد يقال إن الحالة السابقة ليس هي جواز الاكل وانما هي حرمة الاكل فإن هذا الحيوان لما كان حيّاً كان يحرم أكله لأنه على الاقل لم يذكَّ بعدُ فحرامٌ أكله وواضح أن هناك كلام في أن الحيوان اذا لم يذكَّ وكان حيّاً بعدُ فهل أكله حرام او لا ؟ - فإذا فرض أنه ذبح ولم يذك فنعم يحرم أما اذا كان حيّاً بعد ونريد أن نأكله كالعصفور اذا أراد شخص أن يبتلعه وهو حيّ فقد يقال بأنه لا دليل على حرمته وانما الدليل قد دلَّ على أن الحيوان الذي زهقت روحه يلزم ان يذكى فالتذكية شرط في الحيوان الذي زهقت روحه أما الذي لم تزهق روحه بعدُ فالتذكية ليست بشرطٍ فإذا لم تكن شرطاً فعلى هذا الاساس يجوز أكله . فإذن هذه قضية جانبية اشرت اليها وقلت أن الحالة السابقة هي جواز الاكل بناء على أن التذكية ليست شرطاً في أكل الحيوان أما اذا كانت شرطاً في أكله فلا يجوز أكله الا بعد تذكيته فالحالة السابقة سوف تصير حينئذ الحرمة وليست الحليّة فالتفتوا الى ذلك وانما تصير الحليّة حليّة معلقة - أي أنه يحلّ إن ذكيّ -.
والخلاصة:- نحن قلنا إن الحكم التنجيزي هكذا ( أن هذا الحيوان كان يحل أكله ) والنكتة التي بينتها هي أن الحالة السابقة هي جواز الاكل بناء على أن التذكية ليست شرطاً في أكل الحيوان وأما اذا كانت التذكية شرطاً في أكل الحيوان فالحالة السابقة سوف تصير حينئذٍ هي حرمة الاكل وحلية الاكل سوف تصير حكماً معلقاً فالجواز سوف يصير جوازاً معلقاً . نعم اذا أردنا أن نمثل للحكم التنجيزي فلا بد وان نمثل بالحرمة لا أن نمثل بالحليّة ، وهذه نكتة جميلة يجدر الالتفات اليها.
[1] كتاب النكاح ، السيد الخوئي(قده)، ج1 ، ص182.