36/03/05
تحمیل
الموضوع:- المقدمة – الدورة
الأصولية الرابعة.
المقدّمة:-
نحن نعرف أنّ علم الأصول هو ذلك العلم الذي يموّن الفقيه بالقواعد التي يحتاج إليها في مقام الاستنباط، فدور علم الأصول هو تقديم القواعد التي يحتاج إليها الفقيه في مقام الاستنباط، فمثلاً إذا أراد الفقيه أن يعرف أنّ ردّ السلام هل هو واجب أو لا فإنه يلاحظ الآية الكريمة التي تقول:- ﴿ وإذا حييتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسنِ منها أو ردّوها ﴾ فهنا إذا أراد أن يستنبط الوجوب فإنه يحتاج إلى قاعدتين الأولى هي إن الأمر- أي أمر حيّوا - ظاهر في الوجوب والثانية هي أنّ كلّ ظهورٍ حجّة، وعلم الأصول يقدّم هاتين القاعدتين مع الاستدلال إلى الفقيه، وهذا مطلبٌ واضح.
إذن بداية نشأة علم الأصول هي مدّ يد المعونة إلى الفقيه، بيد أنّه بمرور الزمن توسّع علم الأصول فصار علماً أشبه بالمستقلّ فأخذت تذكر فيه أمور قد يكون الفقيه في غنىً عنها وهذا مطلب واضح.
وإذا لا حظنا المباحث الأصوليّة وجدناها على أقسامٍ ثلاثة:-
الأوّل:- ما لا يحتاج إليها الفقيه إليه في مقام الاستنباط أو أنّ حاجته إليه ضعيفة.
الثاني:- أن يكون الفقيه بحاجةٍ إليها ولكنّها ليس بالحاجة الكبيرة والمهمّة.
الثالث:- ما كانت الحاجة إليه مهمّة وكبيرة.
ومثال الأوّل:- مبحث الحقيقة الشرعيّة، ومبحث الوضع، ومبحث المعنى الحرفي، والترادف والاشتراك، وإنّ نسخ الوجوب هل يدلّ على الجواز، وإن الأمر بشيء مرّتين هل هو تأكيدٌ أو هو تأسيسٌ، وأنّ الأمر بالأمر هل يدلّ على الوجوب أو لا، ومبحث التعبدّي والتوصّلي ...... وهكذا، إنّ هذه المباحث لم أجد حاجةً إليها في مقام الاستنباط، وإذا كانت فهي نادرة وتكاد تلحق بالعدم.
وأما القسّم الثاني - فهو من قبيل مبحث المشتق فإن الأصوليّون حاولوا أن يصوّروا له فائدةً في مسألة الزوجة الكبيرة المرضعة للزوجة الصغير، وهكذا مبحث الصحيح والأعم، ونفس الشي بالنسبة إلى أنّ الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في الحرمة فإن هذا - يعني الأمر ظاهر في الوجوب - وإن كان يحتاج إليه الفقه ولكن لا حاجة إلى إطالة الكلام في مثله فإن هذه الأبحاث استظهاريّة، فالأمر ظاهرٌ في الوجوب هو استظهارٌ، والنهي ظاهرٌ في الحرمة هو استظهارٌ كسائر الاستظهارات ولا تحتاج إلى تطويلٍ وكلام، وهكذا مبحث المشتق فإنه لا يوجد دليلٌ مهمٌّ إلا الاستظهار، وهكذا الصحيح والأعم.
إذن توجد حاجة إلى هذه الأبحاث ولكن لا حاجة إلى إطالة الكلام في مثلها والتي مستندها الاستظهار، ومع الاسف ترك الأصوليّون بعض الأبحاث التي هي من هذا القبيل والتي يحتاج إليها الفقيه من قبيل الأخبار البيانيّة لأنّه كثيراً ما يواجهها الفقيه وأنه هل يستفاد منها الإلزام أو لا ؟ فهذا مبحثٌ مهمٌ ولكن لم يبحثه الأصوليون مع أنّ الفقيه يبتلي بذلك في الفقه كثيراً، فالبعض قال نعم هو يدلّ على اللزوم والبعض الآخر أنكر ذلك . فالمقصود هو أنّ هذه مسألة تستحق أن تذكر . وهكذا مثلاً كلمة ( بأس ) ول ( لا بأس ) فالفقهاء ذكروا الأمر والنهي فقط وقالوا إنَّ هذا ظاهرٌ في الوجوب وذاك ظاهرٌ في الحرمة واستدلّوا بالتبادر وما شاكل ذلك والحال أنّ ( بأس ) و ( لا بأس ) أيضاً يواجهه الفقيه كثيراً في الروايات فكان من المهمّ عقد بحثٍ لذلك كما نتعرّض إلى الأمر والنهي فلنتعرّض إلى هذا أيضاً في الأثناء فإنه شيءٌ مناسب.
وأما القسم الثالث:- فهو عبارة عن مباحث الحجج - يعني الأمارات -، ومباحث الأصول العمليّة، وهكذا مباحث العلم الاجمالي، ومباحث القطع بشكلٍ عام، ومباحث التعارض فإنّ هذه أبحاث مهمّة وتستحق الاطالة.
ونحن في هذه الدورة كالدورة السابقة نحاول أن نسلّط الأضواء بقوّة على ما كان من قبيل القسم الثالث - يعني تصير وقفتنا المهمّة في مبحث الحج والأصول العمليّة ومبحث القطع والعلم الاجمالي والتعارض -.
وأما الثاني:- الذي يحتاج إليه الفقيه ولكن لا ينبغي إطالة الكلام فيه فنمرّ عليه مرور الكرام.
وأمّا الأوّل:- وهو الذي لا يحتاج إليه الفقيه أو تكون الحاجة إليه ضعيفة فنتركه.
وذكر صاحب الكفاية(قده) في المقدمة ثلاثة عشر أمراً من قبيل موضوع كلّ علمٍ، ومبحث الوضع، ومبحث صحة استعمال الوضع فيما يناسب معناه هل هي بالطبع أو هي بالوضع، ومبحث إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو شخصه،، ومبحث هل الدلالة تابعة للإرادة أو لا، ومبحث المركّبات، ومبحث علامات الحقيقة والمجاز ...... وهكذا، ونحن نحاول أن نستبدل هذه الأمور التي ذكرها صاحب الكفاية بمباحث أخرى يحتاج إليها الطالب ولكن لم تُسلَّط عليها الأضواء بشكلٍ مستقل وإنما تجيء في ثنايا الأبحاث فنحاول أن نذكر هذه الأبحاث ونسلّط الأضواء عليها مع الاشارة إلى بعض القواعد النافعة، من قبيل بيان حقيقة الحكم فهذا لم نقرأه في الكفاية ولا في الرسائل فحقيقة الحكم ما هي ؟ أفهل حقيقته هي عبارة عن الاعتبار أو عبارة عن الإرادة والحبّ والبغض ؟ فالشيخ النائيني(قده) بنى على أنّ حقيقة الحكم عبارة عن الاعتبار ففي المرحلة الأولى يوجد ملاكٌ ثم إرادة ثم بعد ذلك اعتبار، بينما الشيخ العراقي(قده) قال إنّ مرجعه حقيقةً إلى الإرادة، ويترتّب على هذا الخلاف أمورٌ لا بأس بها، من قبيل أنّه بناءً على أنّ الحكم عبارة عن الاعتبار فسوف يصير الحكم من الأمور المجعولة، بينما على الثاني لا يصير الحكم من الأمور المجعولة فهو عبارة عن الإرادة فليس هو من الأمور المجعولة، وقد يترتب على هذا مسألة النسخ فإنّه إذا كان من الأمور المجعولة فالنسخ يكون ممكناً وإذا لم يكن من الأمور المجعولة فيصير تصوير النسخ صعباً، ومن قبيل أنّه بناءً على أنّ الحكم عبارة عن اعتبارٍ وجعلٍ سوف يمكن أن يكون الحكم مجعولاً بنحو الحقيقية - يتصوّر أنّ يكون الحكم مجعولاً بنحو القضيّة الحقيقية – ولذلك قال الشيخ النائيني(قده) إنّ الأحكام الشرعيّة بشكلٍ عام هي مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة فحينما قال تعالى:- ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾ يعني إن فُرِضَ تحقّق مستطيعٍ فيجب عليه الحج وهذه قضيّة حقيقيّة، بينما الشيخ العراقي(قده) أنكر ذلك وقال إنّ الأحكام الشرعيّة ليست قضايا حقيقيّة وإنما هي قضايا فعليّة بناءً على مبناه وهذا ما سنشير إليه فيما بعد، ويترتب على ذلك أنّه بناءً على رأي الشيخ النائيني(قده) سوف تدور فعليّة الحكم مدار فعليّة موضوعه لأنّه مجعولٌ بنحو القضيّة الحقيقيّة فيصير الحكم فعلياً إذا صار الموضوع فعلياً ففي مثال الاستطاعة والحجّ فإنّه متى ما تحقّق المستطيع خارجاً وصار فعليّاً صار الوجوب فعليّاً، بينما على رأي الشيخ العراقي(قده) فالقضايا عنده دائماً هي فعليّة ولا تتوّقف على فعليّة الموضوع.
وفرّع على هذا الخلاف أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري على رأي الشيخ النائيني(قده) الذي يقول بأن الحكم هو اعتبارٌ وأمرٌ مجعولٌ يعني في مثال العصير العنبي يقول إنَّ الزبيب لا يجري فيه الاستصحاب لأنّ الحرمة الموجودة هي ( إن غلى ) والمفروض أنّه بَعدُ لم يغلِ فلا توجد حرمة فماذا تستصحب ؟! فلا يجري الاستصحاب، أمّا الشيخ العراقي(قده) حيث قال إنّ الأحكام هي دائماً فعليّة فأجرى الاستصحاب التعليقي . إذن هذه القضيّة - وهي أنّ الحكم هو اعتبار أو عبارة إرادة وحبّ وبغضٌ - قضيّة مهمّة تتفرع عليها مثل هذه الأمور - ولعلّه بالتتبّع والتأمل توجد أمور أخرى تتفرّع عليها - فتكون جديرة بالبحث، فنحن نُبْدِل تلك المباحث بمثل هذه القضيّة.
وهناك قضية ثانية:- وهي مسألة أنّ الدلالة الالتزاميّة هل هي تابعة للدلالة المطابقيّة من حيث الحجيّة بحيث إذا سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة سقطت الدلالة الالتزاميّة عن الحجية أيضاً أو لا ؟ فإنّ هذا مبحثٌ لم نقرأه في الرسائل ولا في الكفاية فمن المناسب تسليط الأضواء عليه من البداية حتى يعرفه الطالب.
ومن قبيل أنّ القدرة هل هي معتبرة في متعلّق التكليف أو لا ؟ والمقصود من ( أو لا ؟ ) يعني أنّها معتبرة في مرحلة التنجّز ووجوب الامتثال واستحقاق العقوبة لا أنّ أصل التكليف مشروطٌ بالقدرة، فالشيخ النائيني(قده) قال إنّ نفس التكليف هو يدلّل على أنّ القدرة معتبرةٌ في متعلّقه وبالتالي يختصّ التكليف من البداية بالقادر، وقد أشار إلى هذا المطلب في أجود التقريرات[1]، بينما يوجد رأيٌ مقابلٌ يقول إنّ القدرة ليست معتبرةٌ في متعلّق التكليف فالتكليف ثابتٌ حتى في حقّ العاجز وإنما القدرة معتبرةٌ في استحقاق العقوبة ووجوب الامتثال وهذا ما تبنّاه السيد الخوئي(قده) في أجود التقريرات في نفس الموضع الذي أشرت إليه فهو قد أشار إلى هذا المعنى في الهامش ولكنّي لم أسمعه منه(قده) طيلة فترة حضوري عليه وإنما تعرّفت على أنّ هذا رأيه عند مراجعتي لأجود التقريرات، وممّن يبني عليه أيضاً السيد الخميني(قده) في تهذيب الأصول[2] ببيانٍ لطيفٍ سوف نشير إليه فيما بعد.
ومن جملة المباحث التي تستحق أن نقف عندها هو أنّ الوجوب هل هو بحكم الوضع ومستفادٌ من الوضع كما قرأنا ذلك في المعالم والكفاية أو أنّه بحكم العقل ؟ وهذا ما جاءت الإشارة إليه في أصول المظفر والذي بنى عليه جماعة منهم الشيخ الأصفهاني(قده) والسيد الخوئي(قده)، وهذا من الأبحاث المهمّة الذي تترتب عليه نتائج كثيرة ولم نقرأه في الكفاية ولا في الرسائل.
وهناك مبحثٌ آخر وهو:- ما هي مسقطات التكليف ؟ يعني هل الامتثال يسقط التكليف أو يسقط الفاعليّة دون الفعليّة ؟
وهناك مبحث آخر:- وهو القاعدة النائينيّة فإن تمّت فقد يستفاد منها في بعض المجالات، وهو(قده) أراد أن يستفيد منها في مجالاتٍ متعدّدةٍ وهي أنّه:- ( إذا كان عندنا حكمٌ لزوميٌّ واستثني منه حكمٌ ترخيصيٌّ تعلّق بعنوانٍ وجوديٍّ فهنا العرف يحكم بأنّ الرخصة لا تثبت إلّا إذا أُحرِز ذلك العنوان الوجودي ) من قبيل النظر إلى المرأة فإن النظر إلى المرأة لا يجوز لأنّ الآية الكريمة قالت:- ﴿ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ﴾ ولكن استثني من ذلك النظر إلى الزوجة والمحارم فإنه يجوز فرأى الشخص امرأةً من بُعْدٍ ولا يدري هل هي زوجته حتى يجوز أن ينظر إليها أو لا حتى لا يجوز النظر ؟ فالشيخ النائيني(قده) قال إنَّ الرخصة لا تثبت إلّا أذا جزمت بأنّ هذه زوجة.
ومن جملة المباحث أيضاً هو أنّه متى يجوز للمكلّف أن يُعَجِّز نفسه كما لو كان عنده ماء للوضوء فهل يجوز له أن يهريق الماء وينتقل إلى التيمم ؟ أو نقول يجوز له إراقته خارج الوقت ولا يجوز داخل الوقت ؟ أو لا يجوز مطلقاً ؟
إذن نحن نستغني عن الأمور التي ذكرها صاحب الكفاية(قده) في المقدّمة فلا نتعرض لها ولكن نبدلها بهذه الأمور التي أشرنا إلى بعضها.
وقبل أن نشير إلى هذه الأمور ومن باب القضيّة الفنيّة نشير إلى تقسيم المباحث الأصولية وتعريف علم الأصول ونمرّ على ذلك مرور الكرام ثم بعد ذلك ندخل في هذه الأمور التي أشرنا إليها.
المقدّمة:-
نحن نعرف أنّ علم الأصول هو ذلك العلم الذي يموّن الفقيه بالقواعد التي يحتاج إليها في مقام الاستنباط، فدور علم الأصول هو تقديم القواعد التي يحتاج إليها الفقيه في مقام الاستنباط، فمثلاً إذا أراد الفقيه أن يعرف أنّ ردّ السلام هل هو واجب أو لا فإنه يلاحظ الآية الكريمة التي تقول:- ﴿ وإذا حييتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسنِ منها أو ردّوها ﴾ فهنا إذا أراد أن يستنبط الوجوب فإنه يحتاج إلى قاعدتين الأولى هي إن الأمر- أي أمر حيّوا - ظاهر في الوجوب والثانية هي أنّ كلّ ظهورٍ حجّة، وعلم الأصول يقدّم هاتين القاعدتين مع الاستدلال إلى الفقيه، وهذا مطلبٌ واضح.
إذن بداية نشأة علم الأصول هي مدّ يد المعونة إلى الفقيه، بيد أنّه بمرور الزمن توسّع علم الأصول فصار علماً أشبه بالمستقلّ فأخذت تذكر فيه أمور قد يكون الفقيه في غنىً عنها وهذا مطلب واضح.
وإذا لا حظنا المباحث الأصوليّة وجدناها على أقسامٍ ثلاثة:-
الأوّل:- ما لا يحتاج إليها الفقيه إليه في مقام الاستنباط أو أنّ حاجته إليه ضعيفة.
الثاني:- أن يكون الفقيه بحاجةٍ إليها ولكنّها ليس بالحاجة الكبيرة والمهمّة.
الثالث:- ما كانت الحاجة إليه مهمّة وكبيرة.
ومثال الأوّل:- مبحث الحقيقة الشرعيّة، ومبحث الوضع، ومبحث المعنى الحرفي، والترادف والاشتراك، وإنّ نسخ الوجوب هل يدلّ على الجواز، وإن الأمر بشيء مرّتين هل هو تأكيدٌ أو هو تأسيسٌ، وأنّ الأمر بالأمر هل يدلّ على الوجوب أو لا، ومبحث التعبدّي والتوصّلي ...... وهكذا، إنّ هذه المباحث لم أجد حاجةً إليها في مقام الاستنباط، وإذا كانت فهي نادرة وتكاد تلحق بالعدم.
وأما القسّم الثاني - فهو من قبيل مبحث المشتق فإن الأصوليّون حاولوا أن يصوّروا له فائدةً في مسألة الزوجة الكبيرة المرضعة للزوجة الصغير، وهكذا مبحث الصحيح والأعم، ونفس الشي بالنسبة إلى أنّ الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في الحرمة فإن هذا - يعني الأمر ظاهر في الوجوب - وإن كان يحتاج إليه الفقه ولكن لا حاجة إلى إطالة الكلام في مثله فإن هذه الأبحاث استظهاريّة، فالأمر ظاهرٌ في الوجوب هو استظهارٌ، والنهي ظاهرٌ في الحرمة هو استظهارٌ كسائر الاستظهارات ولا تحتاج إلى تطويلٍ وكلام، وهكذا مبحث المشتق فإنه لا يوجد دليلٌ مهمٌّ إلا الاستظهار، وهكذا الصحيح والأعم.
إذن توجد حاجة إلى هذه الأبحاث ولكن لا حاجة إلى إطالة الكلام في مثلها والتي مستندها الاستظهار، ومع الاسف ترك الأصوليّون بعض الأبحاث التي هي من هذا القبيل والتي يحتاج إليها الفقيه من قبيل الأخبار البيانيّة لأنّه كثيراً ما يواجهها الفقيه وأنه هل يستفاد منها الإلزام أو لا ؟ فهذا مبحثٌ مهمٌ ولكن لم يبحثه الأصوليون مع أنّ الفقيه يبتلي بذلك في الفقه كثيراً، فالبعض قال نعم هو يدلّ على اللزوم والبعض الآخر أنكر ذلك . فالمقصود هو أنّ هذه مسألة تستحق أن تذكر . وهكذا مثلاً كلمة ( بأس ) ول ( لا بأس ) فالفقهاء ذكروا الأمر والنهي فقط وقالوا إنَّ هذا ظاهرٌ في الوجوب وذاك ظاهرٌ في الحرمة واستدلّوا بالتبادر وما شاكل ذلك والحال أنّ ( بأس ) و ( لا بأس ) أيضاً يواجهه الفقيه كثيراً في الروايات فكان من المهمّ عقد بحثٍ لذلك كما نتعرّض إلى الأمر والنهي فلنتعرّض إلى هذا أيضاً في الأثناء فإنه شيءٌ مناسب.
وأما القسم الثالث:- فهو عبارة عن مباحث الحجج - يعني الأمارات -، ومباحث الأصول العمليّة، وهكذا مباحث العلم الاجمالي، ومباحث القطع بشكلٍ عام، ومباحث التعارض فإنّ هذه أبحاث مهمّة وتستحق الاطالة.
ونحن في هذه الدورة كالدورة السابقة نحاول أن نسلّط الأضواء بقوّة على ما كان من قبيل القسم الثالث - يعني تصير وقفتنا المهمّة في مبحث الحج والأصول العمليّة ومبحث القطع والعلم الاجمالي والتعارض -.
وأما الثاني:- الذي يحتاج إليه الفقيه ولكن لا ينبغي إطالة الكلام فيه فنمرّ عليه مرور الكرام.
وأمّا الأوّل:- وهو الذي لا يحتاج إليه الفقيه أو تكون الحاجة إليه ضعيفة فنتركه.
وذكر صاحب الكفاية(قده) في المقدمة ثلاثة عشر أمراً من قبيل موضوع كلّ علمٍ، ومبحث الوضع، ومبحث صحة استعمال الوضع فيما يناسب معناه هل هي بالطبع أو هي بالوضع، ومبحث إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو شخصه،، ومبحث هل الدلالة تابعة للإرادة أو لا، ومبحث المركّبات، ومبحث علامات الحقيقة والمجاز ...... وهكذا، ونحن نحاول أن نستبدل هذه الأمور التي ذكرها صاحب الكفاية بمباحث أخرى يحتاج إليها الطالب ولكن لم تُسلَّط عليها الأضواء بشكلٍ مستقل وإنما تجيء في ثنايا الأبحاث فنحاول أن نذكر هذه الأبحاث ونسلّط الأضواء عليها مع الاشارة إلى بعض القواعد النافعة، من قبيل بيان حقيقة الحكم فهذا لم نقرأه في الكفاية ولا في الرسائل فحقيقة الحكم ما هي ؟ أفهل حقيقته هي عبارة عن الاعتبار أو عبارة عن الإرادة والحبّ والبغض ؟ فالشيخ النائيني(قده) بنى على أنّ حقيقة الحكم عبارة عن الاعتبار ففي المرحلة الأولى يوجد ملاكٌ ثم إرادة ثم بعد ذلك اعتبار، بينما الشيخ العراقي(قده) قال إنّ مرجعه حقيقةً إلى الإرادة، ويترتّب على هذا الخلاف أمورٌ لا بأس بها، من قبيل أنّه بناءً على أنّ الحكم عبارة عن الاعتبار فسوف يصير الحكم من الأمور المجعولة، بينما على الثاني لا يصير الحكم من الأمور المجعولة فهو عبارة عن الإرادة فليس هو من الأمور المجعولة، وقد يترتب على هذا مسألة النسخ فإنّه إذا كان من الأمور المجعولة فالنسخ يكون ممكناً وإذا لم يكن من الأمور المجعولة فيصير تصوير النسخ صعباً، ومن قبيل أنّه بناءً على أنّ الحكم عبارة عن اعتبارٍ وجعلٍ سوف يمكن أن يكون الحكم مجعولاً بنحو الحقيقية - يتصوّر أنّ يكون الحكم مجعولاً بنحو القضيّة الحقيقية – ولذلك قال الشيخ النائيني(قده) إنّ الأحكام الشرعيّة بشكلٍ عام هي مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة فحينما قال تعالى:- ﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ﴾ يعني إن فُرِضَ تحقّق مستطيعٍ فيجب عليه الحج وهذه قضيّة حقيقيّة، بينما الشيخ العراقي(قده) أنكر ذلك وقال إنّ الأحكام الشرعيّة ليست قضايا حقيقيّة وإنما هي قضايا فعليّة بناءً على مبناه وهذا ما سنشير إليه فيما بعد، ويترتب على ذلك أنّه بناءً على رأي الشيخ النائيني(قده) سوف تدور فعليّة الحكم مدار فعليّة موضوعه لأنّه مجعولٌ بنحو القضيّة الحقيقيّة فيصير الحكم فعلياً إذا صار الموضوع فعلياً ففي مثال الاستطاعة والحجّ فإنّه متى ما تحقّق المستطيع خارجاً وصار فعليّاً صار الوجوب فعليّاً، بينما على رأي الشيخ العراقي(قده) فالقضايا عنده دائماً هي فعليّة ولا تتوّقف على فعليّة الموضوع.
وفرّع على هذا الخلاف أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري على رأي الشيخ النائيني(قده) الذي يقول بأن الحكم هو اعتبارٌ وأمرٌ مجعولٌ يعني في مثال العصير العنبي يقول إنَّ الزبيب لا يجري فيه الاستصحاب لأنّ الحرمة الموجودة هي ( إن غلى ) والمفروض أنّه بَعدُ لم يغلِ فلا توجد حرمة فماذا تستصحب ؟! فلا يجري الاستصحاب، أمّا الشيخ العراقي(قده) حيث قال إنّ الأحكام هي دائماً فعليّة فأجرى الاستصحاب التعليقي . إذن هذه القضيّة - وهي أنّ الحكم هو اعتبار أو عبارة إرادة وحبّ وبغضٌ - قضيّة مهمّة تتفرع عليها مثل هذه الأمور - ولعلّه بالتتبّع والتأمل توجد أمور أخرى تتفرّع عليها - فتكون جديرة بالبحث، فنحن نُبْدِل تلك المباحث بمثل هذه القضيّة.
وهناك قضية ثانية:- وهي مسألة أنّ الدلالة الالتزاميّة هل هي تابعة للدلالة المطابقيّة من حيث الحجيّة بحيث إذا سقطت الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة سقطت الدلالة الالتزاميّة عن الحجية أيضاً أو لا ؟ فإنّ هذا مبحثٌ لم نقرأه في الرسائل ولا في الكفاية فمن المناسب تسليط الأضواء عليه من البداية حتى يعرفه الطالب.
ومن قبيل أنّ القدرة هل هي معتبرة في متعلّق التكليف أو لا ؟ والمقصود من ( أو لا ؟ ) يعني أنّها معتبرة في مرحلة التنجّز ووجوب الامتثال واستحقاق العقوبة لا أنّ أصل التكليف مشروطٌ بالقدرة، فالشيخ النائيني(قده) قال إنّ نفس التكليف هو يدلّل على أنّ القدرة معتبرةٌ في متعلّقه وبالتالي يختصّ التكليف من البداية بالقادر، وقد أشار إلى هذا المطلب في أجود التقريرات[1]، بينما يوجد رأيٌ مقابلٌ يقول إنّ القدرة ليست معتبرةٌ في متعلّق التكليف فالتكليف ثابتٌ حتى في حقّ العاجز وإنما القدرة معتبرةٌ في استحقاق العقوبة ووجوب الامتثال وهذا ما تبنّاه السيد الخوئي(قده) في أجود التقريرات في نفس الموضع الذي أشرت إليه فهو قد أشار إلى هذا المعنى في الهامش ولكنّي لم أسمعه منه(قده) طيلة فترة حضوري عليه وإنما تعرّفت على أنّ هذا رأيه عند مراجعتي لأجود التقريرات، وممّن يبني عليه أيضاً السيد الخميني(قده) في تهذيب الأصول[2] ببيانٍ لطيفٍ سوف نشير إليه فيما بعد.
ومن جملة المباحث التي تستحق أن نقف عندها هو أنّ الوجوب هل هو بحكم الوضع ومستفادٌ من الوضع كما قرأنا ذلك في المعالم والكفاية أو أنّه بحكم العقل ؟ وهذا ما جاءت الإشارة إليه في أصول المظفر والذي بنى عليه جماعة منهم الشيخ الأصفهاني(قده) والسيد الخوئي(قده)، وهذا من الأبحاث المهمّة الذي تترتب عليه نتائج كثيرة ولم نقرأه في الكفاية ولا في الرسائل.
وهناك مبحثٌ آخر وهو:- ما هي مسقطات التكليف ؟ يعني هل الامتثال يسقط التكليف أو يسقط الفاعليّة دون الفعليّة ؟
وهناك مبحث آخر:- وهو القاعدة النائينيّة فإن تمّت فقد يستفاد منها في بعض المجالات، وهو(قده) أراد أن يستفيد منها في مجالاتٍ متعدّدةٍ وهي أنّه:- ( إذا كان عندنا حكمٌ لزوميٌّ واستثني منه حكمٌ ترخيصيٌّ تعلّق بعنوانٍ وجوديٍّ فهنا العرف يحكم بأنّ الرخصة لا تثبت إلّا إذا أُحرِز ذلك العنوان الوجودي ) من قبيل النظر إلى المرأة فإن النظر إلى المرأة لا يجوز لأنّ الآية الكريمة قالت:- ﴿ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ﴾ ولكن استثني من ذلك النظر إلى الزوجة والمحارم فإنه يجوز فرأى الشخص امرأةً من بُعْدٍ ولا يدري هل هي زوجته حتى يجوز أن ينظر إليها أو لا حتى لا يجوز النظر ؟ فالشيخ النائيني(قده) قال إنَّ الرخصة لا تثبت إلّا أذا جزمت بأنّ هذه زوجة.
ومن جملة المباحث أيضاً هو أنّه متى يجوز للمكلّف أن يُعَجِّز نفسه كما لو كان عنده ماء للوضوء فهل يجوز له أن يهريق الماء وينتقل إلى التيمم ؟ أو نقول يجوز له إراقته خارج الوقت ولا يجوز داخل الوقت ؟ أو لا يجوز مطلقاً ؟
إذن نحن نستغني عن الأمور التي ذكرها صاحب الكفاية(قده) في المقدّمة فلا نتعرض لها ولكن نبدلها بهذه الأمور التي أشرنا إلى بعضها.
وقبل أن نشير إلى هذه الأمور ومن باب القضيّة الفنيّة نشير إلى تقسيم المباحث الأصولية وتعريف علم الأصول ونمرّ على ذلك مرور الكرام ثم بعد ذلك ندخل في هذه الأمور التي أشرنا إليها.