36/12/06
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.
الرواية الثالثة: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)[1] ...................................استدل بهذه الرواية أيضاً على قاعدة الميسور، بتقريب أنها ظاهرة في المنع من ترك الكل عند تعذر الإتيان بالكل، والمنع من ترك الكل هو عبارة عن وجوب الباقي، فمفاد الرواية هو (إذا لم تدرك الكل، فلا تترك الكل) يعني يجب الإتيان بالباقي، وبهذا تكون الرواية ظاهرة في قاعدة الميسور. هذا التقريب الإجمالي للاستدلال بالرواية.
بالنسبة إلى المباحث التي تقع فيها هي نفس المباحث التي تقدمت في الرواية الثانية تقريباً مع فوارق، ووجود هذه الفوارق يستدعي أن نلاحظ ما تقدم، وأن نبحث في المقام أيضاً الأمور التي بحثناها في الرواية السابقة بشكل مختصر.
بالنسبة إلى اختصاص هذه الرواية بالواجبات وعدم شمولها للمستحبات أيضاً هنا يقع الكلام، كما وقع الكلام في الرواية السابقة من أنها تختص بالواجبات أو تشمل المستحبات ؟ هنا في المقام التفسيرات الثلاثة التي تقدّمت في (لا يسقط) الظاهر أنها لا تجري في المقام، يعني في(ما لا يُدرك كله لا يُترك كله)فالظاهر أنّ(لا يترك) يدور أمرها بين النهي والنفي في مقام النهي، يعني يدور أمرها بين الاحتمال الأول والاحتمال الثاني، وأما الاحتمال الثالث فهو بعيد، أن تكون الجملة خبرية محضة؛ لأنّ الترك وعدم الترك من أفعال المكلفين، وتقدّم سابقاً أنه ليس من شأن الشارع الإخبار عن أفعال المكلفين، بخلاف السقوط وعدمه هناك في الرواية السابقة، فأنّ سقوط الوجوب وسقوط الميسور بلحاظ حكمه أو عدم سقوطه، هذا شيء مرتبط بالشارع نفسه، فلا محذور في أن يخبر الشارع عن ذلك لغرض ما، لكنّ الإخبار عن عدم ترك المكلّف، أو تركه لشيءٍ ليس من شأن الشارع؛ ولذا لابدّ من استبعاد الاحتمال الثالث من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، فالأمر يدور بين أن تكون (لا) ناهية، أو تكون نافية، يعني إمّا أن يكون مفاد الجملة هو النهي ابتداءً على غرار (لا رفث ولا فسوق)، وإما أن تكون هي نفي في مقام النهي، أو إخبار يُراد به إنشاء الوجوب، على هذا الأساس يظهر أنّ الرواية مختصّة بالواجبات ولا تشمل المستحبات، باعتبار أنّ مفاد(لا يُترك) ومعناها الحقيقي هو المنع من الترك، وتحريم الترك، سواء قلنا أنّ(لا) ناهية، أو قلنا أنها نافية، على كلا التقديرين هو منع من الترك الذي يعني وجوب الإتيان بالباقي الذي يتمكّن منه.
إذن: مفاد(لا يُترك) هو وجوب الإتيان بالباقي، وحرمة ترك الباقي الذي يتمكّن منه من الكل عندما يتعذر عليه الإتيان بالكل، ومن الواضح أنّ هذا المفاد لا ينطبق إلا على الواجبات؛ لأنّ المستحبات لا يمكن أن نقول للمكلف إذا تعذر الإتيان بتمام أجزاء المركب يجب عليك الإتيان بالباقي من الأجزاء التي تتمكّن منها؛ لأنّ بابه باب الاستحباب، فلا مجال لإلزام المكلف بوجوب الإتيان بالباقي، وإنما هذا يناسب الواجبات؛ ولذا تكون الرواية مختصّة بالواجبات، بخلاف الرواية السابقة حيث قلنا أنها تشمل الواجبات والمستحبات، وكان هذا التعميم للمستحبات مبنياً: إما على اختيار الاحتمال الثالث في (لا يسقط) وتكون جملة خبرية مفادها الإخبار عن عدم سقوط الحكم، أو عدم سقوط الميسور بلحاظ حكمه، وعلى كلا التقديرين هي تشمل المستحبات، الحكم السابق يختلف، هي تخبر عن أنّ الحكم الذي كان ثابتاً سابقاً للأجزاء المقدورة من المركب باقٍ، مفادها إخبار عن عدم السقوط، وهذا يختلف باختلاف ما كان ثابتاً سابقاً والرواية تخبر عن عدم سقوطه، فإذا كان الحكم الثابت سابقاً هو الاستحباب، فالرواية تخبر عن عدم سقوط الاستحباب، وإذا كان هو الوجوب، فالرواية تخبر عن عدم سقوط الوجوب، فهي تشمل كلاً من الواجبات والمستحبات بناءً على الاحتمال الثالث المتقدّم. لكن قلنا أنّ هذا الاحتمال لا مجال له؛ لأنّ الأمر يدور بين النهي وبين أن تكون(لا) نافية يُراد بها النهي، جملة خبرية يُقصد بها إنشاء الوجوب. وأمّا أنه ليس بالضرورة أن يكون التعميم هناك مبني على الاحتمال الثالث، وإنما قد يقال: حتى بناءً على الاحتمالين الأول والثاني هناك أيضاً يمكن أن يقال بالتعميم بادّعاء أنّ النهي هو إرشاد إلى عدم السقوط، فإذا كان النهي على الاحتمالين الأول والثاني، إرشاداً إلى عدم السقوط؛ فحينئذٍ تشمل الواجبات والمستحبات؛ لأنه إرشاد إلى عدم سقوط ما كان ثابتاً، فإن كان الثابت سابقاً هو الوجوب، فهي ترشد إلى عدم سقوطه، وإن كان الاستحباب، فهي أيضاً ترشد إلى عدم سقوطه. إمّا أن يكون التعميم هناك مبنياً على افتراض أنّ(لا يسقط) إرشاد إلى عدم السقوط، فيُعمم، وإمّا بناءً على ما ذكرناه من أنّ الرواية ليست هكذا، وإنما هي جملة خبرية يُراد بها الإنشاء، لكن المُنشَأ هو عبارة عن التعبّد بعدم السقوط، على هذا الاحتمال أيضاً الرواية تشمل كلاً من المستحبات والواجبات، فإمّا أن نبني على الاحتمال الثالث هناك، فالرواية تعم كلا الموردين، أو نبني على النفي والنهي لكنّه إرشاد إلى عدم السقوط، فأيضاً تشمل كلاً من المستحبّات والواجبات، وإمّا أن نبني على الاحتمال الثاني ونقول أنّ الجملة خبرية في مقام الإنشاء، لكن المُنشأ بها ليس هو وجوب الإتيان بالباقي، وإنما المُنشأ هو التعبّد بعدم السقوط، وإذا قلنا بذلك؛ فحينئذٍ الرواية كما تشمل الواجبات هي أيضاً تشمل المستحبات. هذه الأمور الثلاثة التي على أساسها يُبنى هناك على التعميم غير موجودة في هذه الرواية التي نتكلّم عنها:
أمّا الاحتمال الثالث: وهو أن تكون جملة خبرية محضة، فقلنا أنه منفيٌ في هذه الرواية. وأمّا أنها نهيٌ، لكنّه إرشاد إلى عدم السقوط، فلا قرينة على ذلك؛ قلنا أنّ(لا يُترك) مفادها المنع من الترك، يعني وجوب الإتيان بالباقي، وحملها على أنها إرشادٌ إلى البقاء وعدم السقوط لا قرينة عليه في المقام، باعتبار أنّ النهي هنا لم يرِد بعنوان(عدم السقوط) كما في الرواية السابقة، فأنها لو كانت واردة بعنوان (عدم السقوط) فحينئذٍ نستطيع أن نقول أنها نهي، وهذا النهي إرشادٌ إلى عدم السقوط، ولكن في المقام لم يرِد النفي أو النهي بعنوان(عدم السقوط)، وإنما ورد بعنوان(لا يُترك) وظهوره الأولي هو المنع من الترك ووجوب الإتيان بالباقي، وحمله على أنه إرشادٌ إلى عدم السقوط وبقاء ما كان ثابتاً سابقاً حتى تعمّ المستحبات كما تعمّ الواجبات هو خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة. بناءً على ما قررناه هناك، هنا أيضاً يقال نفس الكلام، فهناك كان يمكن أن نلتزم بأنّ الجملة خبرية في مقام الإنشاء، لكن المُنشَأ هو التعبّد بعدم السقوط؛ لأنّ النفي أو النهي هناك كان وارداً بعنوان(عدم السقوط) بينما هنا لم يرِد بهذا العنوان، وإنما ورد بعنوان(لا يُترك)، (ما لا يُدرك كله لا يُترك كله) يعني يجب عليك الإتيان بالباقي ويحرم عليك ترك الكل، وإذا قلنا هنا أنّ المُنشأ ليس هو وجوب الباقي، وليس هو ترك الكل، وإنما المنشأ هو التعبّد بعدم السقوط، فهذا خلاف الظاهر في محل الكلام، ومن هنا يظهر أنّ الرواية في المقام تختص بالواجبات.
بعض المحققين ذكر هنا مطلباً يحاول فيه أن يتحفّظ على ظهور (لا يُترك) في الوجوب وعلى عموم الرواية للمستحبّات، فيقول: أنّ الرواية تشمل المستحبّات، ومع ذلك لا يُترك ظاهرها في الوجوب. هذا بناءً على ما ذكرناه لا يصح؛ لأنّ(لا يُترك) إذا كانت ظاهرة في الوجوب، وكان المراد بها هو وجوب الإتيان بالباقي؛ فحينئذٍ لا تشمل المستحبات؛ لأنّه في المستحبات لا معنى لإيجاب الإتيان بالأجزاء المقدورة، إذا عمّمناها للمستحبات؛ فحينئذٍ لابدّ أن لا يبقى ظهور لـــ(لا يُترك) في الوجوب، أي في وجوب الإتيان بالباقي وحرمة ترك الكل، فالأمر يدور بينهما، فإمّا أن نعمّمها للمستحبات؛ وحينئذٍ لابدّ من رفع اليد عن ظهور(لا يُترك) في الوجوب، ونحمله على الرجحان، وإذا حملناه على الرجحان فلا مشكلة في شمول الرواية للمستحبات. وإذا أبقينا(لا يُترك) على ظاهرها وهو الوجوب وحرمة الترك؛ فحينئذٍ لابدّ أن تكون الرواية مختصّة بخصوص الواجبات. المحقق يقول: لا مشكلة في الجمع بينهما، وذلك بأن يقال: أنّ(لا يّترك) وإن كانت ظاهرة في الوجوب، وأُنشأ بها الوجوب والإلزام، لكنّ الوجوب ليس هو المراد الأصلي بكلمة(لا يُترك) حتى يُدّعى اختصاص الرواية بالواجبات وعدم شمولها للمستحبات؛ بل المراد هو أنّ تعذر بعض الأجزاء لا يسوّغ ترك المطلوب بالكلّية، وهو كناية عن بقاء الأمر الأوّل، ويُمثّل لذلك، يقول: هذا نظير الأمر الوارد في مقام الحظر، أو توهّم الحظر، فالمعنى المطابقي للكلام ليس هو المراد، وإنما يكون المقصود هو المعنى الكنائي، في باب الكنايات هكذا، صحيح هو قال: ﴿وإذا حللتم فاصطادوا﴾[2] وكلمة(فاصطادوا) مستعملة في معناها الحقيقي الذي هو الوجوب، أي الإلزام بالصيد، لكن ليس هو المراد الأصلي، لا يريد إلزامهم بالصيد، وإنما المراد الأصلي هو رفع الحظر الذي كان موجوداً سابقاً، وما نحن فيه هو من هذا القبيل، صحيح أنّ الجملة (لا يُترك) ظاهرة في الإلزام، لكن الوجوب ليس هو المراد الأصلي، وإنما المراد الأصلي بهذه العبارة هو المعنى الكنائي لها، الذي هو بقاء الأمر الأوّل الذي كان ثابتاً سابقاً، فإذا قلنا أنّ هذا هو المعنى الأصلي ــــــــــ بقاء الأمر الأول الذي كان ثابتاً سابقاً ـــــــــ فحينئذٍ تشمل الواجبات والمستحبات بالرغم من استعمال(لا يُترك) في معناها الحقيقي وهو الوجوب والإلزام، فلا داعي لرفع اليد عن المعنى الحقيقي؛ بل تبقى العبارة على معناها الحقيقي مستعملة في الوجوب، لكن هذا لا يمنع من عموم الرواية للمستحبات؛ لأنّ الإلزام ليس هو المراد الأصلي، وإنما المراد الأصلي هو المعنى الكنائي، كما هو الحال في باب الكنايات، حيث في باب الكنايات لا يكون المدلول المطابقي هو المراد الأصلي، وإنما المراد الأصلي شيء آخر، والمدلول المطابقي للكلام استُعمل فيه اللّفظ، لكنّه ليس المراد الأصلي.
وعليه: لا محذور في أن نلتزم بظهور(لا يُترك) في الوجوب واستعماله في الوجوب، لكن بالرغم من هذا نقول أنّ الحديث شاملٌ للمستحبات. والخلاصة هي أنّ ظهور(لا يُترك) في الوجوب لا يمنع من شمول الرواية للمستحبات بهذا التقريب.
يمكن أن يُلاحظ على هذا التقريب: أنّ الموجود في باب الكنايات وحتى في الأمر في موارد الحظر، أو توهّم الحظر هو فقط استعمال اللّفظ في معناه الحقيقي، لكن ليس فيه ظهور في معناه الحقيقي؛ ولذا لا يمكننا أن نقول أنّ عبارة (زيد كثير الرماد) هي عبارة ظاهرة في معناها الحقيقي، ليس لها ظهور في معناها الحقيقي، وإنما هي ظاهرة في المعنى الكنائي، الموجود هناك فقط استعمال اللّفظ في معناه الحقيقي وليس أكثر من هذا. والموجود في الأمر في موارد الحظر(اصطادوا)، هو استعمال صيغة الأمر في معناها الحقيقي، لكن لا نستطيع أن نقول أنّ هذه الجملة ظاهرة في معناها الحقيقي، أي أنها ظاهرة في الوجوب، كلا، هي ليست ظاهرة في الوجوب، وإنما هي ظاهرة في رفع الحظر، وفي باب الكنايات تكون ظاهرة في معنى آخر، الموجود هناك هو الاستعمال ليس إلاّ، وليس الظهور، فإذا أردنا أن نقيس المقام على باب الكنايات، أو على باب الأمر في موارد الحظر أو توهم الحظر لابدّ أن لا ندّعي الجمع بين ظهور(لا يُترك) في الوجوب وبين تعميم الرواية للمستحبات، لا نجمع بين هذين الأمرين كما هو موجود في عبارته، هذا ليس صحيحاً؛ لأنه في باب الكنايات لا يوجد ظهور في المعنى الحقيقي، وإنما الظهور ينعقد على طِبق المعنى الكنائي، فإذا أردنا قياس المقام على باب الكنايات، فالمقدار الذي يصح لنا أن نقوله هو أنّ(لا يُترك) في المقام استُعملت في الوجوب، واستعمالها في الوجوب لا ينافي شمول الرواية للمستحبات. هي استُعملت في الوجوب، لكنّ الوجوب ليس مراداً. بعبارةٍ أخرى: إنّ الوجوب فقط مدلول تصوّري استعمالي، لكن المدلول التصديقي حتى من الدرجة الأولى ليس هو الوجوب، وفي قوله(إذا حللتم، فاصطادوا) لا يقصد تفهيم الوجوب، وإنما يقصد تفهيم رفع الحظر السابق. فإذن: الوجوب في هذه الموارد لا يُشكّل مدلولاً تصديقياً أولاً، ولا يُشكّل مدلولاً تصديقياً ثانياً، لا يريده جداً، الموجود هو استعمال اللّفظ في معناه الحقيقي. في محل الكلام إذا أردنا أن نقيسه على ذاك المسموح لنا قوله هو أنّ(لا يترك) مستعملة في الوجوب، لكنّ الوجوب ليس مراداً، وليس مقصوداً بالتفهيم، ولا هو مراد جدّي للمتكلّم، وإنما فقط استعمل اللّفظ في الوجوب، لكن الوجوب ليس مراده، ويقول إنما مراده هو بقاء الأمر الأول.
إذا تمّ هذا الكلام؛ فحينئذٍ لا مشكلة في تعميم الرواية للمستحبات. لا نقول أنّ ظهور (لا يترك) في الوجوب باقٍ؛ لأنّ ظهورها في الوجوب إذا كان باقياً؛ فحينئذٍ لا يمكننا تعميم الرواية للمستحبات؛ لأنها حينئذٍ تكون ظاهرة في الوجوب، فكيف يمكن تعميمها للمستحبات ؟! وإنما ما يمكن قوله هو أنها مستعملة في الوجوب وليس أكثر من ذلك، قياساً لها على باب الكنايات. فإذا أثبتنا هذا المعنى، وأقمنا الدليل على أنّ(لا يترك) في المقام مستعملة في الوجوب، ولكنّ الوجوب ليس مراداً للمتكلّم، وإنما المراد الأصلي للمتكلّم هو بقاء الأمر الأول؛ حينئذٍ لا مانع من تعميم الرواية للواجبات وللمستحبات، لكنّ هذه الدعوى تحتاج إلى دليل، فأنّ(لا يترك) ظاهرة في المنع من الترك، ومعناها الحقيقي هو المنع من الترك.
وبعبارةٍ أخرى: هذه الدعوى التي تُدّعى في المقام مرجعها في الحقيقة إلى منع جريان أصالة التطابق بين المدلول التصوري وبين المدلول التصديقي، وما ندّعيه نحن مطابق للظهور، هذا المعنى موضوع للوجوب، فيكون ظاهراً في الوجوب ويكون الوجوب هو المراد الجدّي على أساس أصالة التطابق بين المدلول التصوري وبين المدلول التصديقي، وهذا واضح في كل كلامٍ ما لم تقم قرينة تمنع من هذا التطابق، الأصل في الكلام أن يكون مراد المتكلّم ما يكون الكلام موضوعاً له وظاهراً فيه على أساس أصالة التطابق. هذه الدعوى التي ذُكرت مرجعها إلى منع التطابق بين المدلول الاستعمالي وبين المدلول التصديقي، وهذا على خلاف أصالة التطابق؛ ولذا يكون خلاف الظاهر، ما هي القرينة على رفع اليد عن أصالة التطابق ؟ عبارة(لا يُترك) موضوعة للوجوب، ومقتضى أصالة التطابق أنه هو المراد التصديقي من الدرجة الأولى والدرجة الثانية، ما هو الدليل على رفع اليد عن هذا الأصل ؟ وعلى منع هذا التطابق ؟ نحتاج إلى قرينةٍ لكي نرفع اليد عن هذا التطابق، فإذا لم تكن هناك قرينة؛ فحينئذٍ نقول: بمقتضى ظاهر الكلام هذا هو المدلول التصوري وهو المدلول التصديقي وهو المراد الجدّي، فيكون الوجوب هو المراد الجدّي، وإذا كان الوجوب هو المراد الجدّي؛ فحينئذٍ تختص الرواية قهراً بالواجبات.
قد يقول هو: أنّ القرينة على منع التطابق والتفكيك بين المدلول التصوري وبين المدلول التصديقي هي نفس إطلاق اسم الموصول في(ما لا يُدرك)، فأنّ مقتضى إطلاقه هو أن يعم المستحبات والواجبات، فعموم اسم الموصول وإطلاقه هو القرينة على ما يدّعيه من منع التطابق وأنّ المدلول الاستعمالي التصوري ليس هو المراد الأصلي ـــــــــــ كما عبّر ــــــــــ في هذه الجملة، فيُفكك بينهما، والقرينة على التفكيك هو نفس إطلاق اسم الموصول.
لكن قد تقدّم سابقاً أنّ هذا الكلام قابلٌ للتأمّل؛ لأنه في أمثال هذه الحالات عادةً يكون ظهور(لا يُترك) هو المقدّم على الظهور المنعقد للموضوع، وقد تقدّم سابقاً أنّ ظهور المحمول يكون مقدماً على الظهور المنعقد للموضوع، وذكرنا أمثلة لذلك. والظاهر أنّ ما نحن فيه أيضاً من هذا القبيل، بمعنى أنّ المفروض بالعكس، يعني المفروض أن نقول أنّ ظهور(لا يُترك) في الوجوب والمنع من الترك يوجب تخصيص اسم الموصول بخصوص الواجبات، يعني يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الإطلاق الموجود في اسم الموصول، لا أن نجعل إطلاق اسم الموصول للمستحبات قرينة على التصرّف في ظهور(لا يترك) في الوجوب وحملها على هذا المعنى الذي يدّعيه.