36/11/07
تحمیل
الموضوع:- كيف يفهم الفقيه النصّ – قواعد وفوائد
الفائدة السادسة:- كيف يفهم الفقيهُ النصَّ ؟
إذا واجه الفقيه نصّاً فينبغي له ما يلي:-
أوّلاً:- ملاحظة ظاهر النصّ في عصر الصدور وليس في عصرنا إذ ربما يختلف الظهور بين ذلك العصر وبين عصرنا واللازم عليه هو الأخذ بذلك الظهور الثابت في زمان صدور النصّ، ولماذا ؟ باعتبار أنّ الإمام عليه السلام حينما كان يتحدّث والسائل حينما كان يسأل فهما يتحاوران على طبق الظواهر والأساليب الموجودة في تلك الفترة، وهذا شيء واضح.
ولكن كيف نثبت أنّ الظهور الذي نفهمه الآن هو نفس الظهور الذي كان ثابتاً في عصر صدور النصّ إذ لعله يوجد تغاير ؟
وبكلمة أخرى:- نحن نقبل أنّ المدار على الظهور في عصر صدور النصّ ولكن نحن لم نعش تلك الفترة حتى نشخّص ظهورها.
وإذا قلت لي:- فلنأخذ بالظهور الموجود الآن ؟
قلت:- لعلّ هذا الظهور يغاير ذلك الظهور فما هو الطريق لذلك ؟ هذه المشكلة لعلّه تعرضنا إليها سابقاً وستأتي في مبحث حجيّة الظاهر، وأنا الآن أريد الاشارة إلى هذا المطلب فقط.
وقد أجبنا فيما سبق وسيأتي أيضاً:- بأنّ الطريق لذلك هو استصحاب القهقرى، أو ما يعبّر عنه بأصالة عدم النقل سابقاً، أو يعبر عنه بالتعبير الجديد بــأصالة الثبات في اللغة، وأنا الآن لست بصدد بيان مدرك استصحاب القهقرى بل قد تقدّم وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ثانياً:- وينبغي للفقيه أيضاً حينما يريد أن يفهم النصّ أن يفهمه وفق الفهم والعرف العام لا وفق الفهم الخاصّ والمحيط الضيّق، فلعله في بلدنا أو في عشيرتنا يفهم هذا اللفظ بشكلٍ آخر، أو في مصطلح المناطقة كالظن فإنّه في مصطلحهم يعني 70%، ولكن هذا مصطلحٌ منطقيٌّ وإذا أرت مراجعة اللغة والنصوص فالظنّ معناه أوسع من ذلك فقد يطلق على العلم، وكذلك الشك فإنه يطلق في المنطق على تساوي الطرفين ولكن في اللغة قد يطلق على خلاف العلم وإن كان بمقدار 70%، فالمقصود أنّه حينما نفهم النصّ ينبغي أن نفهمه وفق الفهم العام لا وفق الفهم الخاصّ، وهذه قضية مهمّة.
وإذا قلت:- كيف يمكن للفقيه ذلك فإنّه يعيش في منطقته وفي بيته فلعلّ الفهم الذي يحصل له هو ناشئ من هذا المحيط وبالتالي يكون المعنى العام هو شيءٌ آخر غير ما يفهمه هو الآن، فالحديث قد يفسّره بتفسيرٍ نشأ من محيطه الضيّق . إنّ هذا الاحتمال موجودٌ فماذا يصنع الفقيه ؟
والجواب:- سيأتي في مبحث حجيّة الظهور أنّ الفقيه حينما يدرس النصّ يحاول أن ينزع المحيط الضيّق عنه ويعيش مع اللغة بما هي لغة، أمّا كم يكون هو موفّقاً ؟ فهذه قضية ثانية، فإذا فعل ذلك فحينئذٍ يفسّر النصّ ويكون هذا التفسير وفق الفهم العام لا وفق المحيط الضيّق.
نعم قد تقول إنّ فهمك هذا ناشئ من المحيط الضيّق، وأنا أقول كلّا ولكنّ هذه قضيّة ثانية وكلٌّ يسير وفق فهمه الذي يفهمه ما بينه وبين ربّه فهو الحجّة عليه.
ثالثاً:- ينبغي للفقيه أيضاً أن يتعامل مع المداليل المطابقية للنصّ ولا يسير وراء المجاز والكناية وما شاكل ذلك فإنّ ظاهر حال كلّ متكلم أنّه يريد المعاني المطابقيّة والحمل على غيرها يحتاج إلى قرينة، ولكن أحياناً يمكن أن يرجّح الفقيه إرادة المجاز أو الكناية فإنّ اللغة العربية لغة واسعة تشتمل على حقيقةٍ ومجازٍ وكنايةٍ واستعارةٍ وغير ذلك والأصل الأوّلي هو متابعة المعنى المطابقي ولكن في بعض الحالات قد يخرج الفقيه عن هذا الأصل الأوّلي من دون وجود قرينةٍ واضحةٍ ويأخذ بالمجاز أو الكناية وهذا ما يحتاج إلى ما يصطلح عليه بحسن الذوق، فقد يكون مقتضى الذوق السليم المصير إلى المجاز والكناية رغم عدم وجود قرينةٍ واضحة.
وقد تقول:- كيف نأخذ بالمجاز أو الكناية من دون قرينة واضحة ؟
أقول:- أمثلّ لك ببعض الأمثلة التالية:-
المثال الأوّل:- ما ورد في الحديث الذي رواه علي بن سالم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:- ( إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقرّ نطفته في رحمٍ تحرم عليه ) [1]، إنّ بعض الفقهاء استفاد من هذا الحديث حرمة التلقيح الاصطناعي - وهو أن يؤخذ حيمن من رجلٍ ويضع في رحم امرأة أجنبية - فهل التلقيح الاصطناعي جائزٌ أو لا ؟ فقد تقول هو حرامٌ لأنّ فيه كشفاً للعورة، ولكن نقول:- لنغض النظر عن مسألة كشف العورة ولنفترض أنّه بالوسائل الحديثة يتم هذا الشيء بلا حاجة إلى النظر للعورة، أو يفترض أنّ الزوج هو من يفعل ذلك فيأخذ حيمناً من رجلٍ أجنبيّ ويضعه في رحم زوجته فهل هذه العملية جائزة أو حرام ؟
وواضح إذا قلت هي جائزة فحينئذٍ يكون وضع الحيمن في رحم الأخت جائزٌ أيضاً، وواضحٌ أنَّ هذا لا ينطبق عليه أنّه زنا أو لواط أو مساحقة أو غير ذلك، وإذا لم ينطبق عليه أحذ العناوين فنقول يجري أصل براءة.
ولكن قد يقال - بل قال بعض الفقهاء -:- إنّ هذا لا يجوز من جهة هذه الرواية لأنها قالت:- ( إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقر نطفته في رحمٍ يحرم عليه ) [2]، فهذه العملية محرّمة وإلّا إذا لم تكن حراماً فلماذا يكون هذا الشخص أشدّ الناس عذاباً ؟! فإذن التلقيح الاصطناعي حرام.
نعم - من باب الفائدة الجانبية - قد يقوم البعض بتلقيح البويضة بالحيمن في الأنابيب الصناعية وبعد أن يتم التلقيح توضع في رحم المرأة فهذا لا يصدق عليه الحديث، وهذا لا يصدق عليه أنّه نطفةٌ خصوصاً إذا مضت عليه فترة زمنية في الأنبوب الصناعي، فهذه الحالة يمكن أن يقال بأن الرواية لا تشملها وإنما هي تشمل حالة تزريق الحيمن مباشرةً في رحم المرأة الأجنبيّة، فما هو نظرك في هذه القضيّة ؟
إنّه يمكن أن يجاب ويقال:- ليس المقصود هنا المعنى الحقيقي بل هذا كناية عن الزنا، وقد تطالبني بقرينة، ولكن أقول إنّ هذه ليست من الأشياء التي لابد من الاتيان بقرينة عليها بل هي من الأشياء التي تحتاج إلى حسن ذوقٍ، فتفسير الرواية بهذا المعنى دون الزنا خلاف الذوق رغم أنّه لا يوجد عندنا سندٌ علميّ لذلك ولكنّ الذي عندنا هو أساليب اللغة العربية وتعابيرها فإن ذلك موجودٌ فيها، ولا أقل نقول الرواية مجملة فيحتمل إرادة المعنى المطابقي ويحتمل إرادة الزنا فلا يمكن الاستدلال بها.
ولا أريد أن أنتهي من خلال هذا إلى جواز التلقيح الاصطناعي، بل أقول إنّ هذه الرواية لا يمكن التمسّك بها، وواضح أنه هناك مدركٌ آخر وهو أنّه قد يقال إنّ الشارع لا يريد الأنساب إلّا من خلال الطرق الشرعيّة المألوفة المعتادة لا من هذا الطريق، وهذه قضيّة ثانية.
المثال الثاني:- قوله تعالى:- ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هو العادون ﴾[3]فقد يستدل بهذه الآية على أنّ حفظ الفرج من نظر الغير لازمٌ، فالغير لا يجوز له أن ينظر وأنا يجب عليّ ستر فرجي، والدليل على وجوب الستر من ناحيتي وحرمة نظر ذاك هي هذه الآية حيث قالت في صفات المؤمنين:- ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ﴾ فأنا يلزم عليّ حفظ الفرج وإذا لزم عليّ الحفظ يفهم منه أنّ ذاك يحرم عليه النظر - وهذه دلالة عرفيّة - إذ لو كان يجوز له النظر فأنا لا يجب عليّ أن أحفظ، فمِن وجوب الحفظ عليّ نفهم أنّ ذاك يحرم عليه أن ينظر، فاستفدنا حكمين من الآية الكريمة.
ولا تقل:- إنّ هذا واردٌ كمدحٍ فكيف تثبت اللزوم ؟
قلت:- إنّ الآية الكريمة تقول:- ﴿ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ﴾[4]يعني هو متجاوزٌ عن الطريق الشرعي وهذا يستفاد منه اللزوم.
إذن هذه الآية الكريمة قد يستدلّ بها على وجوب ستر العورة عن النظّار كما يحرم على الآخرين أن ينظروا إليها فنستفيد منها حكمين.
والجواب:- يمكن أن نقول إنّ هذه الآية الكريمة كناية عن أنّ الرجل لا يزني والمرأة لا تزني بل يكون فرجه مع زوجه فقط فــقوله تعالى ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون إلّا على أزواجهم .. ﴾ أي لا يزنون، فهو حافظٌ لفرجه إلا بالنسبة إلى الزوج - والزوج يطلق على الذكر والأنثى-، فهي ناظرةٌ إلى هذا وليس إلى ذاك.
وما هي القرينة على ذلك ؟
إنه إذا تسايرنا مع الألفاظ لا توجد قرينة ولكن هذا من الأساليب العربية البلاغية، ولا أقل هذا وجيةٌ فتصير الآية الكريمة مجملةٌ فتسقط عن صلاحية الاستدلال بها.
والخلاصة من كلّ هذا:- عرفنا أنّ الفقيه ينبغي أن يسير وراء المعاني المطابقيّة ولكن أحياناً ينبغي أن يأخذ بالمعاني المجازيّة والكنائية وذلك يحتاج إلى ذوق، ولا يمكن الاتفاق على هذه الأمور بل هي أمورٌ استظهارية.
ومن قبيل:- ينبغي للفقيه التماشي مع ألفاظ النصّ بشكلٍ تعبّدي، فالنصّ إذا أثبت أنّ هذا العنوان محرّمٌ فنحن نسير وراءه ونتعبّد به، ولكن أحياناً قد لا يكون التعبّد والمسايرة مع الألفاظ شيئاً محبّباً بعد الالتفات إلى أنّ أئمتنا عليهم السلام جوّزوا لنا النقل بالمعنى فإنّه وردت روايات تدلّ على جواز ذلك، من قبيل صحيحة محمد بن مسلم:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟ قال:- إن كنت تريد معانيه فلا بأس )[5]، وعلى منوالها رواية داود بن فرقد:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- إني أسمع الكلام منك فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيء ؟ قال:- فتَعَمَّد ذلك ؟ قلت:- لا، قال:- تريد المعاني ؟ قلت:- نعم، قال:- فلا بأس )[6]
وبعد الالتفات إلى هذه القضية نقول:- قد قرأنا مشكلةً في باب الاستصحاب التعليقي فهناك كلامٌ في أنّ الاستصحاب التعليقي يجري أو لا ؟ والمشكلة تقول إنّه إذا أردت أن تستصحب حرمة العنب هل تستصحب الحرمة الفعليّة إلى حالة الزبيبيّة أو الحرمة المعلّقة على الغليان ؟، أمّا الحرمة الفعليّة فلا يمكن استصحابها، ولماذا ؟ لأنّ الحرمة تصير فعليّة إذا تحقّق الغليان والمفروض أنّه لم يتحقّق فالحرمة ليست فعليه.
وقد يقول قائل:- فلندعه يغلي حتى تصير الحرمة فعليّة ؟
وقد أجبنا سابقاً:- بأنه إذا غلى سوف لا يصير زبيباً فلابد من عدم غليانه.
فالحرمة الفعليّة لا يمكن استصحابها، والحرمة المعلّقة هي انتزاعية وليست شرعيّة، فنحن ننتزع الحرمة المشروطة وإلّا فالشرع قد قال ( العصير العنبي المغلي حرام ) ونحن نأتي وننتزع ونقول ( إنْ غلى حرم ) فهذه الحرمة المشروطة انتزاعيّة وليست مجعولةً من قبل الشارع، وما دامت انتزاعية عقليّة وليست مجعولة كيف تستصحبها ؟! فلا يجري الاستصحاب.من محيطه الضيق وهذا الاحتمال موجود فماذا يصنع الققيه ؟
قال السيد الشهيد(قده)[7]:- إنّنا نفصّل وذلك بأن نذهب وراء النصّ فإذا رأينا أنّ الشارع قال ( العصير المغلي حرام )[8] فصحيحٌ أنّ الحرمة المشروطة لا تجري لأنها ليست مجعولة، أمّا إذا فرض أنّ الشارع حكم بأنّ العصير أو العنب إن غلى حرم بحث تكون إنْ الشرطيّة موجودةٌ فهذه الحرمة المشروطة مجعولة من قبل الشارع فيجري استصحابها.والجواب:- سيأتي في مبحث حجية الظهور
الفائدة السادسة:- كيف يفهم الفقيهُ النصَّ ؟
إذا واجه الفقيه نصّاً فينبغي له ما يلي:-
أوّلاً:- ملاحظة ظاهر النصّ في عصر الصدور وليس في عصرنا إذ ربما يختلف الظهور بين ذلك العصر وبين عصرنا واللازم عليه هو الأخذ بذلك الظهور الثابت في زمان صدور النصّ، ولماذا ؟ باعتبار أنّ الإمام عليه السلام حينما كان يتحدّث والسائل حينما كان يسأل فهما يتحاوران على طبق الظواهر والأساليب الموجودة في تلك الفترة، وهذا شيء واضح.
ولكن كيف نثبت أنّ الظهور الذي نفهمه الآن هو نفس الظهور الذي كان ثابتاً في عصر صدور النصّ إذ لعله يوجد تغاير ؟
وبكلمة أخرى:- نحن نقبل أنّ المدار على الظهور في عصر صدور النصّ ولكن نحن لم نعش تلك الفترة حتى نشخّص ظهورها.
وإذا قلت لي:- فلنأخذ بالظهور الموجود الآن ؟
قلت:- لعلّ هذا الظهور يغاير ذلك الظهور فما هو الطريق لذلك ؟ هذه المشكلة لعلّه تعرضنا إليها سابقاً وستأتي في مبحث حجيّة الظاهر، وأنا الآن أريد الاشارة إلى هذا المطلب فقط.
وقد أجبنا فيما سبق وسيأتي أيضاً:- بأنّ الطريق لذلك هو استصحاب القهقرى، أو ما يعبّر عنه بأصالة عدم النقل سابقاً، أو يعبر عنه بالتعبير الجديد بــأصالة الثبات في اللغة، وأنا الآن لست بصدد بيان مدرك استصحاب القهقرى بل قد تقدّم وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ثانياً:- وينبغي للفقيه أيضاً حينما يريد أن يفهم النصّ أن يفهمه وفق الفهم والعرف العام لا وفق الفهم الخاصّ والمحيط الضيّق، فلعله في بلدنا أو في عشيرتنا يفهم هذا اللفظ بشكلٍ آخر، أو في مصطلح المناطقة كالظن فإنّه في مصطلحهم يعني 70%، ولكن هذا مصطلحٌ منطقيٌّ وإذا أرت مراجعة اللغة والنصوص فالظنّ معناه أوسع من ذلك فقد يطلق على العلم، وكذلك الشك فإنه يطلق في المنطق على تساوي الطرفين ولكن في اللغة قد يطلق على خلاف العلم وإن كان بمقدار 70%، فالمقصود أنّه حينما نفهم النصّ ينبغي أن نفهمه وفق الفهم العام لا وفق الفهم الخاصّ، وهذه قضية مهمّة.
وإذا قلت:- كيف يمكن للفقيه ذلك فإنّه يعيش في منطقته وفي بيته فلعلّ الفهم الذي يحصل له هو ناشئ من هذا المحيط وبالتالي يكون المعنى العام هو شيءٌ آخر غير ما يفهمه هو الآن، فالحديث قد يفسّره بتفسيرٍ نشأ من محيطه الضيّق . إنّ هذا الاحتمال موجودٌ فماذا يصنع الفقيه ؟
والجواب:- سيأتي في مبحث حجيّة الظهور أنّ الفقيه حينما يدرس النصّ يحاول أن ينزع المحيط الضيّق عنه ويعيش مع اللغة بما هي لغة، أمّا كم يكون هو موفّقاً ؟ فهذه قضية ثانية، فإذا فعل ذلك فحينئذٍ يفسّر النصّ ويكون هذا التفسير وفق الفهم العام لا وفق المحيط الضيّق.
نعم قد تقول إنّ فهمك هذا ناشئ من المحيط الضيّق، وأنا أقول كلّا ولكنّ هذه قضيّة ثانية وكلٌّ يسير وفق فهمه الذي يفهمه ما بينه وبين ربّه فهو الحجّة عليه.
ثالثاً:- ينبغي للفقيه أيضاً أن يتعامل مع المداليل المطابقية للنصّ ولا يسير وراء المجاز والكناية وما شاكل ذلك فإنّ ظاهر حال كلّ متكلم أنّه يريد المعاني المطابقيّة والحمل على غيرها يحتاج إلى قرينة، ولكن أحياناً يمكن أن يرجّح الفقيه إرادة المجاز أو الكناية فإنّ اللغة العربية لغة واسعة تشتمل على حقيقةٍ ومجازٍ وكنايةٍ واستعارةٍ وغير ذلك والأصل الأوّلي هو متابعة المعنى المطابقي ولكن في بعض الحالات قد يخرج الفقيه عن هذا الأصل الأوّلي من دون وجود قرينةٍ واضحةٍ ويأخذ بالمجاز أو الكناية وهذا ما يحتاج إلى ما يصطلح عليه بحسن الذوق، فقد يكون مقتضى الذوق السليم المصير إلى المجاز والكناية رغم عدم وجود قرينةٍ واضحة.
وقد تقول:- كيف نأخذ بالمجاز أو الكناية من دون قرينة واضحة ؟
أقول:- أمثلّ لك ببعض الأمثلة التالية:-
المثال الأوّل:- ما ورد في الحديث الذي رواه علي بن سالم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:- ( إنّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقرّ نطفته في رحمٍ تحرم عليه ) [1]، إنّ بعض الفقهاء استفاد من هذا الحديث حرمة التلقيح الاصطناعي - وهو أن يؤخذ حيمن من رجلٍ ويضع في رحم امرأة أجنبية - فهل التلقيح الاصطناعي جائزٌ أو لا ؟ فقد تقول هو حرامٌ لأنّ فيه كشفاً للعورة، ولكن نقول:- لنغض النظر عن مسألة كشف العورة ولنفترض أنّه بالوسائل الحديثة يتم هذا الشيء بلا حاجة إلى النظر للعورة، أو يفترض أنّ الزوج هو من يفعل ذلك فيأخذ حيمناً من رجلٍ أجنبيّ ويضعه في رحم زوجته فهل هذه العملية جائزة أو حرام ؟
وواضح إذا قلت هي جائزة فحينئذٍ يكون وضع الحيمن في رحم الأخت جائزٌ أيضاً، وواضحٌ أنَّ هذا لا ينطبق عليه أنّه زنا أو لواط أو مساحقة أو غير ذلك، وإذا لم ينطبق عليه أحذ العناوين فنقول يجري أصل براءة.
ولكن قد يقال - بل قال بعض الفقهاء -:- إنّ هذا لا يجوز من جهة هذه الرواية لأنها قالت:- ( إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلاً أقر نطفته في رحمٍ يحرم عليه ) [2]، فهذه العملية محرّمة وإلّا إذا لم تكن حراماً فلماذا يكون هذا الشخص أشدّ الناس عذاباً ؟! فإذن التلقيح الاصطناعي حرام.
نعم - من باب الفائدة الجانبية - قد يقوم البعض بتلقيح البويضة بالحيمن في الأنابيب الصناعية وبعد أن يتم التلقيح توضع في رحم المرأة فهذا لا يصدق عليه الحديث، وهذا لا يصدق عليه أنّه نطفةٌ خصوصاً إذا مضت عليه فترة زمنية في الأنبوب الصناعي، فهذه الحالة يمكن أن يقال بأن الرواية لا تشملها وإنما هي تشمل حالة تزريق الحيمن مباشرةً في رحم المرأة الأجنبيّة، فما هو نظرك في هذه القضيّة ؟
إنّه يمكن أن يجاب ويقال:- ليس المقصود هنا المعنى الحقيقي بل هذا كناية عن الزنا، وقد تطالبني بقرينة، ولكن أقول إنّ هذه ليست من الأشياء التي لابد من الاتيان بقرينة عليها بل هي من الأشياء التي تحتاج إلى حسن ذوقٍ، فتفسير الرواية بهذا المعنى دون الزنا خلاف الذوق رغم أنّه لا يوجد عندنا سندٌ علميّ لذلك ولكنّ الذي عندنا هو أساليب اللغة العربية وتعابيرها فإن ذلك موجودٌ فيها، ولا أقل نقول الرواية مجملة فيحتمل إرادة المعنى المطابقي ويحتمل إرادة الزنا فلا يمكن الاستدلال بها.
ولا أريد أن أنتهي من خلال هذا إلى جواز التلقيح الاصطناعي، بل أقول إنّ هذه الرواية لا يمكن التمسّك بها، وواضح أنه هناك مدركٌ آخر وهو أنّه قد يقال إنّ الشارع لا يريد الأنساب إلّا من خلال الطرق الشرعيّة المألوفة المعتادة لا من هذا الطريق، وهذه قضيّة ثانية.
المثال الثاني:- قوله تعالى:- ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هو العادون ﴾[3]فقد يستدل بهذه الآية على أنّ حفظ الفرج من نظر الغير لازمٌ، فالغير لا يجوز له أن ينظر وأنا يجب عليّ ستر فرجي، والدليل على وجوب الستر من ناحيتي وحرمة نظر ذاك هي هذه الآية حيث قالت في صفات المؤمنين:- ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ﴾ فأنا يلزم عليّ حفظ الفرج وإذا لزم عليّ الحفظ يفهم منه أنّ ذاك يحرم عليه النظر - وهذه دلالة عرفيّة - إذ لو كان يجوز له النظر فأنا لا يجب عليّ أن أحفظ، فمِن وجوب الحفظ عليّ نفهم أنّ ذاك يحرم عليه أن ينظر، فاستفدنا حكمين من الآية الكريمة.
ولا تقل:- إنّ هذا واردٌ كمدحٍ فكيف تثبت اللزوم ؟
قلت:- إنّ الآية الكريمة تقول:- ﴿ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ﴾[4]يعني هو متجاوزٌ عن الطريق الشرعي وهذا يستفاد منه اللزوم.
إذن هذه الآية الكريمة قد يستدلّ بها على وجوب ستر العورة عن النظّار كما يحرم على الآخرين أن ينظروا إليها فنستفيد منها حكمين.
والجواب:- يمكن أن نقول إنّ هذه الآية الكريمة كناية عن أنّ الرجل لا يزني والمرأة لا تزني بل يكون فرجه مع زوجه فقط فــقوله تعالى ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون إلّا على أزواجهم .. ﴾ أي لا يزنون، فهو حافظٌ لفرجه إلا بالنسبة إلى الزوج - والزوج يطلق على الذكر والأنثى-، فهي ناظرةٌ إلى هذا وليس إلى ذاك.
وما هي القرينة على ذلك ؟
إنه إذا تسايرنا مع الألفاظ لا توجد قرينة ولكن هذا من الأساليب العربية البلاغية، ولا أقل هذا وجيةٌ فتصير الآية الكريمة مجملةٌ فتسقط عن صلاحية الاستدلال بها.
والخلاصة من كلّ هذا:- عرفنا أنّ الفقيه ينبغي أن يسير وراء المعاني المطابقيّة ولكن أحياناً ينبغي أن يأخذ بالمعاني المجازيّة والكنائية وذلك يحتاج إلى ذوق، ولا يمكن الاتفاق على هذه الأمور بل هي أمورٌ استظهارية.
ومن قبيل:- ينبغي للفقيه التماشي مع ألفاظ النصّ بشكلٍ تعبّدي، فالنصّ إذا أثبت أنّ هذا العنوان محرّمٌ فنحن نسير وراءه ونتعبّد به، ولكن أحياناً قد لا يكون التعبّد والمسايرة مع الألفاظ شيئاً محبّباً بعد الالتفات إلى أنّ أئمتنا عليهم السلام جوّزوا لنا النقل بالمعنى فإنّه وردت روايات تدلّ على جواز ذلك، من قبيل صحيحة محمد بن مسلم:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص ؟ قال:- إن كنت تريد معانيه فلا بأس )[5]، وعلى منوالها رواية داود بن فرقد:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام:- إني أسمع الكلام منك فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيء ؟ قال:- فتَعَمَّد ذلك ؟ قلت:- لا، قال:- تريد المعاني ؟ قلت:- نعم، قال:- فلا بأس )[6]
وبعد الالتفات إلى هذه القضية نقول:- قد قرأنا مشكلةً في باب الاستصحاب التعليقي فهناك كلامٌ في أنّ الاستصحاب التعليقي يجري أو لا ؟ والمشكلة تقول إنّه إذا أردت أن تستصحب حرمة العنب هل تستصحب الحرمة الفعليّة إلى حالة الزبيبيّة أو الحرمة المعلّقة على الغليان ؟، أمّا الحرمة الفعليّة فلا يمكن استصحابها، ولماذا ؟ لأنّ الحرمة تصير فعليّة إذا تحقّق الغليان والمفروض أنّه لم يتحقّق فالحرمة ليست فعليه.
وقد يقول قائل:- فلندعه يغلي حتى تصير الحرمة فعليّة ؟
وقد أجبنا سابقاً:- بأنه إذا غلى سوف لا يصير زبيباً فلابد من عدم غليانه.
فالحرمة الفعليّة لا يمكن استصحابها، والحرمة المعلّقة هي انتزاعية وليست شرعيّة، فنحن ننتزع الحرمة المشروطة وإلّا فالشرع قد قال ( العصير العنبي المغلي حرام ) ونحن نأتي وننتزع ونقول ( إنْ غلى حرم ) فهذه الحرمة المشروطة انتزاعيّة وليست مجعولةً من قبل الشارع، وما دامت انتزاعية عقليّة وليست مجعولة كيف تستصحبها ؟! فلا يجري الاستصحاب.من محيطه الضيق وهذا الاحتمال موجود فماذا يصنع الققيه ؟
قال السيد الشهيد(قده)[7]:- إنّنا نفصّل وذلك بأن نذهب وراء النصّ فإذا رأينا أنّ الشارع قال ( العصير المغلي حرام )[8] فصحيحٌ أنّ الحرمة المشروطة لا تجري لأنها ليست مجعولة، أمّا إذا فرض أنّ الشارع حكم بأنّ العصير أو العنب إن غلى حرم بحث تكون إنْ الشرطيّة موجودةٌ فهذه الحرمة المشروطة مجعولة من قبل الشارع فيجري استصحابها.والجواب:- سيأتي في مبحث حجية الظهور