37/04/01
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
تقدّم في الدرس السابق الملاحظة الأولى على التقريب الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) نلخصها بعبارة مختصرة، يظهر من كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّه يتكلّم عن عامّين بينهما نسبة التباين، وهما عبارة عن دليل البراءة وأخبار التوقف من القسم الأول، كلٌ منهما يشمل الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص؛ لأنّه يتكلّم عن عامّين بينهما نسبة التباين، وجد مخصص لأحدهما وهو عبارة عن أخبار التوقف من القسم الثاني، ونفترض كما هو ظاهر نظر السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّ ما دل على التوقف في الشبهة قبل الفحص ليس له مفهوم، وإنّما فقط هو يثبت وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص، هذا نسبته إلى دليل البراءة نسبة الخاص للعام، فدليل البراءة يثبت البراءة قبل الفحص وبعد الفحص وما دلّ على التوقف يثبت التوقف قبل الفحص. هذا محل كلامنا، وهذا مثال معروف لانقلاب النسبة، فيقال ــــــ بناءً على انقلاب النسبة ــــــ بأنّ القسم الثاني من أخبار التوقف أخص مطلقاً من أخبار البراءة، فيخصصها، بعد تخصيصه لأخبار البراءة تنقلب النسبة بين أخبار البراءة وبين القسم الأول من أخبار التوقف، النسبة بينهما كانت هي التباين وبعد التخصيص صارت النسبة هي العموم والخصوص المطلق، هذا إذا انقلبت النسبة. إذا أنكرنا انقلاب النسبة؛ حينئذٍ يبقى الحال كما كان عليه سابقاً بين العامّين حتى بعد التخصيص.
بعبارة أخرى: يمنع من التمسّك بالعام المخصص في غير مورد الخاص الذي هو الشبهة بع الفحص؛ لأنّ له معارض، خصصنا العام الأول فأخرجنا منه الشبهة قبل الفحص، فيبقى فيه الشبهة بعد الفحص، التمسك بدليل البراءة لإثبات البراءة في الشبهة بعد الفحص يتوقف على انقلاب النسبة؛ لأنّه إذا انقلبت النسبة نستطيع أن نقدّم دليل البراءة على دليل التوقف المطلق، وبالتالي نستطيع أن نستدل به على البراءة بعد الفحص، أمّا إذا أنكرنا انقلاب النسبة يقع التعارض بين دليل البراءة وبين أخبار التوقف من القسم الأول، وإن خُصص دليل البراءة بأخبار التوقف من القسم الأول؛ لأنّه يقولون انكار النسبة يبتني على أنّه ينبغي أن نلاحظ النسبة بينهما قبل التخصيص، فتبقى النسبة كما هي قبل بعد التخصيص، قبل التخصيص لا يجوز لنا أن نتمسك بدليل البراءة لإثبات البراءة بغد الفحص؛ لأنّ هناك دليلاً في مقابله يقول يجب التوقف حتى بعد الفحص. هذا الكلام نقوله لإثبات أنّ هذا كله يرتبط بالتمسك بالعام الثاني لإثبات حكمه في غير مورد التخصيص، هناك تظهر الثمرة بين انقلاب النسبة وبين عدمها، إذا قلنا بانقلاب النسبة يمكن إثبات البراءة في الشبهة بعد الفحص تمسكاً بدليل البراءة؛ لأنّه صار أخص مطلقاً من أخبار التوقف المطلق، فيتقدّم عليها، فنتمسك به لإثبات البراءة بعد الفحص، وإن أنكرنا انقلاب النسبة لا يجوز التمسك به، هناك تظهر الثمرة، أمّا في الشبهة قبل الفحص فلا مشكلة فيها، في الشبهة قبل الفحص يمكن التمسك بأخبار التوقف من القسم الثاني؛ لأنّها تدل على وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص. نعم، هذه كان لها معارض واحد، بناءً على أنّه ليس له مفهوم، إذا كان له مفهوم هو يعارض كلا العامّين على ما بيّنّاه في الدرس السابق، لكن إذا لم يكن له مفهوم كما هو ظاهر مقصود السيد الخوئي(قدّس سرّه)، هو يثبت وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص، وهذا لا يعارض أخبار التوقف المطلقة، وإنّما ينافيه أخبار البراءة، فأنها تقول أنّ البراءة تجري حتى قبل الفحص، وهو أخص منها مطلقاً فيقيدها، فلا يكون دليل البراءة حجّة لإثبات البراءة في الشبهة قبل الفحص، ويكون دليل التوقف من القسم الثاني حجّة في إثبات وجوب التوقف قبل الفحص، فيصح الاستدلال بها، سواء انقلبت النسبة أو لم تنقلب النسبة، انقلاب النسبة يؤثر على إثبات البراءة في الشبهة بعد الفحص، هذا يتوقف على القول بانقلاب النسبة.
الملاحظة الثانية على كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه): هذه الملاحظة هي نفس الملاحظة التي نقلناها عن بعض المحققين بالنسبة إلى أخبار التعلم، وأجبنا عنها، وهي أنّ ظاهر أخبار التعلم ظاهرة في المفروغية عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عندك ترك الفحص، يعني ظاهرة في المفروغية عن تنجّز التكليف في مرحلة سابقة على هذه الأخبار؛ ولذا هي صارت بصدد الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك الفحص، فلابد أن يكون التكليف المحتمل منجزاً في مرتبة سابقة، وهذا لا يكون إلاّ إذا تنجّز بعلم إجمالي أو نحوه، فلا تشمل محل الكلام، فلا يصح الاستدلال بها في محل الكلام.
دفعنا هذا الاعتراض هناكبأنّه ليس كل أخبار التعلم هذا مفادها، قد نعثر في أخبار التعلم على طوائف ما فيه هذا المفاد، أي أنّ لسانها لسان الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك الفحص، فيكون تحذيراً وإرشاداً وليس إنشاءً حتى نتمسك بها لإثبات وجوب الفحص، وهي تتحدث عن أحكام شرعية تنجزت بمنجز سابق، بينما المقصود في المقام أن ننجز هذا التكليف الشرعي المشكوك بأخبار التعلم، لكن في أخبار التعلم ما ليس لسانه هكذا، وإنّما لسانه لسان آخر من قبيل(طلب العلم فريضة). نفس هذا الإشكال هنا يُذكر، هنا المسألة أوضح في أخبار التوقف كونها إرشاداً وكونها إخباراً عن ثبوت العقاب في مرحلة سابقة أوضح؛ لأنّ أخبار التوقف تقول (قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) هي افترضت أنّ الوقوف عند الشبهة يساوق الاقتحام في الهلكة، فإذن: هي افترضت أنّ مخالفة هذه الشبهة تكون موجبة للوقوع في الهلكة، وهي تحذّر من ذلك. إذن: لابدّ من فرض التنجيز في مرحلة سابقة على هذه الأخبار، هذه الأخبار تحذّر من الوقوع في الهلكة عند المخالفة، فلابد من فرض أنّ الشبهة منجّزة بمنجزٍ، علم إجمالي أو غيره، بحيث أنّ مخالفتها تكون موجبة لاستحقاق العقاب بقطع النظر عن أخبار التوقف، فإذن: لابدّ من حملها على موارد العلم الإجمالي وأمثاله، ولا يصح الاستدلال بها على وجوب الفحص والتنجيز في محل الكلام التي هي شبهة بدوية خالية من العلم الإجمالي. فكيف يصح الاستدلال بها في محل الكلام ؟! وهذا مطلب جداً واضح في أخبار التوقف، وأحد الإشكالات على أخبار التوقف هو أنّه لا يمكن الاستدلال بها، باعتبار أنّها ليست في مقام التأسيس، وإنّما هي في مقام الإرشاد إلى وجود عذاب في مرحلة سابقة وترتب العذاب على مخالفة الشبهة.
الملاحظة الثالثة: ما يذكر في محله من أنّ موضوع هذه الأخبار هو الشبهة، والشبهة هي ما يشتبه حكمه، وكل شيء لا يتبين حكمه يكون شبهة، الظاهر أنّ المراد بالحكم الذي يكون عدم تبيّنه موجباً لصدق الشبهة هو الأعم من الحكم الواقعي والظاهري، يعني إنما يشتبه هذا الشيء على المكلف إذا كان لا يعرف حكمه الواقعي ولا حكمه الظاهري، أمّا إذا عرف حكمه الواقعي لا يكون مشتبهاً، أو عرف حكمه الظاهري أيضاً لا يكون بالنسبة إليه مشتبهاً، والدليل على هذا لو فرضنا أنّ هذه الواقعة تبيّن حكمها الظاهري، ولو كان حكمها الظاهري هو البراءة، لو فرضنا أنّ المكلّف تبيّن أنّ حكم هذه الشبهة هو البراءة؛ حينئذٍ لا يكون اقتحامها موجباً للوقوع في الهلكة، إنّما يكون اقتحام الشبهة موجباً للوقوع في الهلكة عندما لا يكون المكلف عالماً بحكمها لا الواقعي ولا الظاهري، وإلاّ لا تكون شبهة عندما يتحدد موقف المكلف من تلك الشبهة، ولو كان وظيفة عملية، فالظاهر أنّ المقصود بالحكم الذي إذا لم يتضح تكون الشبهة شبهة هو عبارة عن الأعم من الواقعي والظاهري، وبناءً على هذا الكلام يكون دليل البراءة وارداً على هذه الأخبار ورافعاً لموضوعها؛ لأنّ دليل البراءة دليل شرعي معتبر يثبت حكم ظاهري وهو البراءة، فيرفع موضوع هذه الأخبار الذي هو الشبهة التي يشتبه حكمها الواقعي والظاهري، الذي لا يعلم المكلف لا بحكمها الواقعي ولا بحكمها الظاهري، هذه الأخبار اقتحامها يوجب الوقوع في الهلكة، تأتي أخبار البراءة وتقول أنّ هذه تجري فيها البراءة، فيتبين الحكم الظاهري للمكلّف، فتكون رافعة للشبهة، يعني واردة على هذه الأخبار، فتُقدم عليها بالورود، ولا يصح الاستدلال حينئذٍ بها لإثبات وجوب التوقف في ما نحن فيه بعد فرض إطلاق أدلة البراءة. إلى هنا ينتهي الكلام عن هذه الوجوه التي ذُكرت ويتلخص مما تقدم عدم تمامية هذا الوجه الأخير الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) من الوجوه التي اعتبرت مانعة من إطلاق أدلة البراءة الشرعية، كما هو الحال في العلم الإجمالي الذي هو الوجه الأول للمانع، فهو أيضاً لم يكن تاماً كما تقدّم سابقاً؛ لأنّه منحل بالعثور على جملة من الأحكام الإلزامية لا تقل عن المعلوم بالإجمال. نعم، أخبار التعلّم التي هي المانع الثاني من إطلاق أدلة البراءة تبيّن أنّها تامّة الدلالة وتكون مانعة من الإطلاق. هذا مضافاً إلى أنّ قصور المقتضي أيضاً تم ببعض الوجوه المتقدّمة، أصلاً أخبار البراءة قاصرة عن أن تثبت البراءة قبل الفحص، بعض الوجوه لبيان قصور المقتضي تمّت عندنا سابقاً ومن هنا يظهر أنّ أدلة البراءة الشرعية لا تشمل حالة ما قبل الفحص لقصور المقتضي، ولو تنزلنا لوجود المانع، فلا يصح التمسك بالبراءة الشرعية لإثباتها قبل الفحص. هذا تمام الكلام في الشبهة الحكمية ويتبيّن في الشبهات الحكمية أنّه يجب الفحص ولا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص.
مضافاً إلى أنّ المسألة لعلّها أوضح من أن تحتاج إلى إقامة أدلة وبرهان على عدم جواز إجراء البراءة للمكلف قبل الفحص، باعتبار أنّه إذا لم نلتزم بوجوب الفحص، يعني جوّزنا له إجراء البراءة قبل الفحص، لكن مع ذلك لا يمكن الالتزام بهذا الأمر؛ لأنّه يؤدي إلى ضياع كثير من الأحكام الشرعية وفوات ملاكات الأحكام الشرعية على المكلّف؛ لأنّ معناه أنّ إطاعة الأحكام الشرعية يكون معلقاً على الصدفة والاتفاق، إذا علم بالحكم الشرعي بالاتفاق تجب عليه إطاعته ويكون مؤاخذاً لو خالف على تقدير الاتفاق والصدفة، لكن إذا صدفة لم يعلم بالحكم الشرعي فأنه يجري البراءة وينفي الحكم، وكلّما شكّ في حكم ينفيه إلاّ إذا علم به من باب الاتفاق والصدفة وليس بالفحص؛ لأنّه لا يجب عليه الفحص بحسب الفرض ويجوز له أن يجري البراءة في كل شبهةٍ، وهذا يؤدي إلى ضياع الأحكام الشرعية وفوات الملاكات والأغراض الشرعية التي يتوخاها الشارع من جعل هذه الأحكام الشرعية وتأسيسها، وهذا لا يمكن الالتزام به. فإذن: النتيجة واحدة وهي أنّ÷ لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص. هذا كله في الشبهات الحكمية.
الآن نأتي إلى الشبهات الموضوعية:في الشبهات الموضوعية هل الأمر أيضاً كذلك ؟ هل جريان البراءة في الشبهة الموضوعية مشروط بالفحص بحيث لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص، أو أنّ البراءة تجري في الشبهة الموضوعية حتى قبل الفحص ؟ المعروف هو عدم اعتبار الفحص في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية عكس الشبهة الحكمية، الكلام يقع هنا أيضاً كما في الشبهة الحكمية تارة بلحاظ البراءة العقلية، وتارة أخرى بلحاظ البراءة الشرعية، يعني مرّة نتكلم عن أنّه هل يصح التمسك بالبراءة العقلية في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، أو لا ؟ هل جريان البراءة العقلية مشروط بالفحص في الشبهات الموضوعية، أو لا ؟ ومرة نتكلّم عن البراءة الشرعية .
أمّا عن البراءة العقلية،فمن الواضح أنّ الكلام عن جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية لا يصح إلاّ بعد الفراغ عن أمرين:
الأمر الأول: الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإلاّ إذا لم نؤمن بالبراءة العقلية لا معنى لأن نقول أنّ جريان البراءة العقلية هل هو مشروط الفحص، أو لا ؟
الأمر الثاني: لابدّ أن نفرغ أيضاً عن تسليم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية، وإلاّ إذا قلنا أنّنا نؤمن بالبراءة العقلية، وبجريانها في الشبهات الحكمية، ولكنها لا تجري في الشبهات الموضوعية؛ فحينئذٍ لا معنى لطرح هذا البحث؛ لأنّ البراءة العقلية إذا كانت لا تجري في الشبهات الموضوعية لا معنى لأن نتكلّم عن أنّ جريانها في الشبهات الموضوعية هل هو مشروط بالفحص أو لا ؟ إذن: لابدّ أن نفرغ عن هذين الأمرين حتى ندخل في هذا البحث.
بالنسبة للأمر الأول تقدّم الحديث عن أصل البراءة العقلية مفصلاً.
بالنسبة للأمر الثاني: يعني بعد أن نفرغ عن تسليم وجود قاعدة عقلية تسمّى بالبراءة العقلية(قبح العقاب بلا بيان) نأتي إلى مسألة جريانها في الشبهات الموضوعية
تقدّم في الدرس السابق الملاحظة الأولى على التقريب الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) نلخصها بعبارة مختصرة، يظهر من كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّه يتكلّم عن عامّين بينهما نسبة التباين، وهما عبارة عن دليل البراءة وأخبار التوقف من القسم الأول، كلٌ منهما يشمل الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص؛ لأنّه يتكلّم عن عامّين بينهما نسبة التباين، وجد مخصص لأحدهما وهو عبارة عن أخبار التوقف من القسم الثاني، ونفترض كما هو ظاهر نظر السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّ ما دل على التوقف في الشبهة قبل الفحص ليس له مفهوم، وإنّما فقط هو يثبت وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص، هذا نسبته إلى دليل البراءة نسبة الخاص للعام، فدليل البراءة يثبت البراءة قبل الفحص وبعد الفحص وما دلّ على التوقف يثبت التوقف قبل الفحص. هذا محل كلامنا، وهذا مثال معروف لانقلاب النسبة، فيقال ــــــ بناءً على انقلاب النسبة ــــــ بأنّ القسم الثاني من أخبار التوقف أخص مطلقاً من أخبار البراءة، فيخصصها، بعد تخصيصه لأخبار البراءة تنقلب النسبة بين أخبار البراءة وبين القسم الأول من أخبار التوقف، النسبة بينهما كانت هي التباين وبعد التخصيص صارت النسبة هي العموم والخصوص المطلق، هذا إذا انقلبت النسبة. إذا أنكرنا انقلاب النسبة؛ حينئذٍ يبقى الحال كما كان عليه سابقاً بين العامّين حتى بعد التخصيص.
بعبارة أخرى: يمنع من التمسّك بالعام المخصص في غير مورد الخاص الذي هو الشبهة بع الفحص؛ لأنّ له معارض، خصصنا العام الأول فأخرجنا منه الشبهة قبل الفحص، فيبقى فيه الشبهة بعد الفحص، التمسك بدليل البراءة لإثبات البراءة في الشبهة بعد الفحص يتوقف على انقلاب النسبة؛ لأنّه إذا انقلبت النسبة نستطيع أن نقدّم دليل البراءة على دليل التوقف المطلق، وبالتالي نستطيع أن نستدل به على البراءة بعد الفحص، أمّا إذا أنكرنا انقلاب النسبة يقع التعارض بين دليل البراءة وبين أخبار التوقف من القسم الأول، وإن خُصص دليل البراءة بأخبار التوقف من القسم الأول؛ لأنّه يقولون انكار النسبة يبتني على أنّه ينبغي أن نلاحظ النسبة بينهما قبل التخصيص، فتبقى النسبة كما هي قبل بعد التخصيص، قبل التخصيص لا يجوز لنا أن نتمسك بدليل البراءة لإثبات البراءة بغد الفحص؛ لأنّ هناك دليلاً في مقابله يقول يجب التوقف حتى بعد الفحص. هذا الكلام نقوله لإثبات أنّ هذا كله يرتبط بالتمسك بالعام الثاني لإثبات حكمه في غير مورد التخصيص، هناك تظهر الثمرة بين انقلاب النسبة وبين عدمها، إذا قلنا بانقلاب النسبة يمكن إثبات البراءة في الشبهة بعد الفحص تمسكاً بدليل البراءة؛ لأنّه صار أخص مطلقاً من أخبار التوقف المطلق، فيتقدّم عليها، فنتمسك به لإثبات البراءة بعد الفحص، وإن أنكرنا انقلاب النسبة لا يجوز التمسك به، هناك تظهر الثمرة، أمّا في الشبهة قبل الفحص فلا مشكلة فيها، في الشبهة قبل الفحص يمكن التمسك بأخبار التوقف من القسم الثاني؛ لأنّها تدل على وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص. نعم، هذه كان لها معارض واحد، بناءً على أنّه ليس له مفهوم، إذا كان له مفهوم هو يعارض كلا العامّين على ما بيّنّاه في الدرس السابق، لكن إذا لم يكن له مفهوم كما هو ظاهر مقصود السيد الخوئي(قدّس سرّه)، هو يثبت وجوب التوقف في الشبهة قبل الفحص، وهذا لا يعارض أخبار التوقف المطلقة، وإنّما ينافيه أخبار البراءة، فأنها تقول أنّ البراءة تجري حتى قبل الفحص، وهو أخص منها مطلقاً فيقيدها، فلا يكون دليل البراءة حجّة لإثبات البراءة في الشبهة قبل الفحص، ويكون دليل التوقف من القسم الثاني حجّة في إثبات وجوب التوقف قبل الفحص، فيصح الاستدلال بها، سواء انقلبت النسبة أو لم تنقلب النسبة، انقلاب النسبة يؤثر على إثبات البراءة في الشبهة بعد الفحص، هذا يتوقف على القول بانقلاب النسبة.
الملاحظة الثانية على كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه): هذه الملاحظة هي نفس الملاحظة التي نقلناها عن بعض المحققين بالنسبة إلى أخبار التعلم، وأجبنا عنها، وهي أنّ ظاهر أخبار التعلم ظاهرة في المفروغية عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عندك ترك الفحص، يعني ظاهرة في المفروغية عن تنجّز التكليف في مرحلة سابقة على هذه الأخبار؛ ولذا هي صارت بصدد الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك الفحص، فلابد أن يكون التكليف المحتمل منجزاً في مرتبة سابقة، وهذا لا يكون إلاّ إذا تنجّز بعلم إجمالي أو نحوه، فلا تشمل محل الكلام، فلا يصح الاستدلال بها في محل الكلام.
دفعنا هذا الاعتراض هناكبأنّه ليس كل أخبار التعلم هذا مفادها، قد نعثر في أخبار التعلم على طوائف ما فيه هذا المفاد، أي أنّ لسانها لسان الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك الفحص، فيكون تحذيراً وإرشاداً وليس إنشاءً حتى نتمسك بها لإثبات وجوب الفحص، وهي تتحدث عن أحكام شرعية تنجزت بمنجز سابق، بينما المقصود في المقام أن ننجز هذا التكليف الشرعي المشكوك بأخبار التعلم، لكن في أخبار التعلم ما ليس لسانه هكذا، وإنّما لسانه لسان آخر من قبيل(طلب العلم فريضة). نفس هذا الإشكال هنا يُذكر، هنا المسألة أوضح في أخبار التوقف كونها إرشاداً وكونها إخباراً عن ثبوت العقاب في مرحلة سابقة أوضح؛ لأنّ أخبار التوقف تقول (قف عند الشبهة فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) هي افترضت أنّ الوقوف عند الشبهة يساوق الاقتحام في الهلكة، فإذن: هي افترضت أنّ مخالفة هذه الشبهة تكون موجبة للوقوع في الهلكة، وهي تحذّر من ذلك. إذن: لابدّ من فرض التنجيز في مرحلة سابقة على هذه الأخبار، هذه الأخبار تحذّر من الوقوع في الهلكة عند المخالفة، فلابد من فرض أنّ الشبهة منجّزة بمنجزٍ، علم إجمالي أو غيره، بحيث أنّ مخالفتها تكون موجبة لاستحقاق العقاب بقطع النظر عن أخبار التوقف، فإذن: لابدّ من حملها على موارد العلم الإجمالي وأمثاله، ولا يصح الاستدلال بها على وجوب الفحص والتنجيز في محل الكلام التي هي شبهة بدوية خالية من العلم الإجمالي. فكيف يصح الاستدلال بها في محل الكلام ؟! وهذا مطلب جداً واضح في أخبار التوقف، وأحد الإشكالات على أخبار التوقف هو أنّه لا يمكن الاستدلال بها، باعتبار أنّها ليست في مقام التأسيس، وإنّما هي في مقام الإرشاد إلى وجود عذاب في مرحلة سابقة وترتب العذاب على مخالفة الشبهة.
الملاحظة الثالثة: ما يذكر في محله من أنّ موضوع هذه الأخبار هو الشبهة، والشبهة هي ما يشتبه حكمه، وكل شيء لا يتبين حكمه يكون شبهة، الظاهر أنّ المراد بالحكم الذي يكون عدم تبيّنه موجباً لصدق الشبهة هو الأعم من الحكم الواقعي والظاهري، يعني إنما يشتبه هذا الشيء على المكلف إذا كان لا يعرف حكمه الواقعي ولا حكمه الظاهري، أمّا إذا عرف حكمه الواقعي لا يكون مشتبهاً، أو عرف حكمه الظاهري أيضاً لا يكون بالنسبة إليه مشتبهاً، والدليل على هذا لو فرضنا أنّ هذه الواقعة تبيّن حكمها الظاهري، ولو كان حكمها الظاهري هو البراءة، لو فرضنا أنّ المكلّف تبيّن أنّ حكم هذه الشبهة هو البراءة؛ حينئذٍ لا يكون اقتحامها موجباً للوقوع في الهلكة، إنّما يكون اقتحام الشبهة موجباً للوقوع في الهلكة عندما لا يكون المكلف عالماً بحكمها لا الواقعي ولا الظاهري، وإلاّ لا تكون شبهة عندما يتحدد موقف المكلف من تلك الشبهة، ولو كان وظيفة عملية، فالظاهر أنّ المقصود بالحكم الذي إذا لم يتضح تكون الشبهة شبهة هو عبارة عن الأعم من الواقعي والظاهري، وبناءً على هذا الكلام يكون دليل البراءة وارداً على هذه الأخبار ورافعاً لموضوعها؛ لأنّ دليل البراءة دليل شرعي معتبر يثبت حكم ظاهري وهو البراءة، فيرفع موضوع هذه الأخبار الذي هو الشبهة التي يشتبه حكمها الواقعي والظاهري، الذي لا يعلم المكلف لا بحكمها الواقعي ولا بحكمها الظاهري، هذه الأخبار اقتحامها يوجب الوقوع في الهلكة، تأتي أخبار البراءة وتقول أنّ هذه تجري فيها البراءة، فيتبين الحكم الظاهري للمكلّف، فتكون رافعة للشبهة، يعني واردة على هذه الأخبار، فتُقدم عليها بالورود، ولا يصح الاستدلال حينئذٍ بها لإثبات وجوب التوقف في ما نحن فيه بعد فرض إطلاق أدلة البراءة. إلى هنا ينتهي الكلام عن هذه الوجوه التي ذُكرت ويتلخص مما تقدم عدم تمامية هذا الوجه الأخير الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) من الوجوه التي اعتبرت مانعة من إطلاق أدلة البراءة الشرعية، كما هو الحال في العلم الإجمالي الذي هو الوجه الأول للمانع، فهو أيضاً لم يكن تاماً كما تقدّم سابقاً؛ لأنّه منحل بالعثور على جملة من الأحكام الإلزامية لا تقل عن المعلوم بالإجمال. نعم، أخبار التعلّم التي هي المانع الثاني من إطلاق أدلة البراءة تبيّن أنّها تامّة الدلالة وتكون مانعة من الإطلاق. هذا مضافاً إلى أنّ قصور المقتضي أيضاً تم ببعض الوجوه المتقدّمة، أصلاً أخبار البراءة قاصرة عن أن تثبت البراءة قبل الفحص، بعض الوجوه لبيان قصور المقتضي تمّت عندنا سابقاً ومن هنا يظهر أنّ أدلة البراءة الشرعية لا تشمل حالة ما قبل الفحص لقصور المقتضي، ولو تنزلنا لوجود المانع، فلا يصح التمسك بالبراءة الشرعية لإثباتها قبل الفحص. هذا تمام الكلام في الشبهة الحكمية ويتبيّن في الشبهات الحكمية أنّه يجب الفحص ولا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص.
مضافاً إلى أنّ المسألة لعلّها أوضح من أن تحتاج إلى إقامة أدلة وبرهان على عدم جواز إجراء البراءة للمكلف قبل الفحص، باعتبار أنّه إذا لم نلتزم بوجوب الفحص، يعني جوّزنا له إجراء البراءة قبل الفحص، لكن مع ذلك لا يمكن الالتزام بهذا الأمر؛ لأنّه يؤدي إلى ضياع كثير من الأحكام الشرعية وفوات ملاكات الأحكام الشرعية على المكلّف؛ لأنّ معناه أنّ إطاعة الأحكام الشرعية يكون معلقاً على الصدفة والاتفاق، إذا علم بالحكم الشرعي بالاتفاق تجب عليه إطاعته ويكون مؤاخذاً لو خالف على تقدير الاتفاق والصدفة، لكن إذا صدفة لم يعلم بالحكم الشرعي فأنه يجري البراءة وينفي الحكم، وكلّما شكّ في حكم ينفيه إلاّ إذا علم به من باب الاتفاق والصدفة وليس بالفحص؛ لأنّه لا يجب عليه الفحص بحسب الفرض ويجوز له أن يجري البراءة في كل شبهةٍ، وهذا يؤدي إلى ضياع الأحكام الشرعية وفوات الملاكات والأغراض الشرعية التي يتوخاها الشارع من جعل هذه الأحكام الشرعية وتأسيسها، وهذا لا يمكن الالتزام به. فإذن: النتيجة واحدة وهي أنّ÷ لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص. هذا كله في الشبهات الحكمية.
الآن نأتي إلى الشبهات الموضوعية:في الشبهات الموضوعية هل الأمر أيضاً كذلك ؟ هل جريان البراءة في الشبهة الموضوعية مشروط بالفحص بحيث لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص، أو أنّ البراءة تجري في الشبهة الموضوعية حتى قبل الفحص ؟ المعروف هو عدم اعتبار الفحص في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية عكس الشبهة الحكمية، الكلام يقع هنا أيضاً كما في الشبهة الحكمية تارة بلحاظ البراءة العقلية، وتارة أخرى بلحاظ البراءة الشرعية، يعني مرّة نتكلم عن أنّه هل يصح التمسك بالبراءة العقلية في الشبهات الموضوعية قبل الفحص، أو لا ؟ هل جريان البراءة العقلية مشروط بالفحص في الشبهات الموضوعية، أو لا ؟ ومرة نتكلّم عن البراءة الشرعية .
أمّا عن البراءة العقلية،فمن الواضح أنّ الكلام عن جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية لا يصح إلاّ بعد الفراغ عن أمرين:
الأمر الأول: الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإلاّ إذا لم نؤمن بالبراءة العقلية لا معنى لأن نقول أنّ جريان البراءة العقلية هل هو مشروط الفحص، أو لا ؟
الأمر الثاني: لابدّ أن نفرغ أيضاً عن تسليم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية، وإلاّ إذا قلنا أنّنا نؤمن بالبراءة العقلية، وبجريانها في الشبهات الحكمية، ولكنها لا تجري في الشبهات الموضوعية؛ فحينئذٍ لا معنى لطرح هذا البحث؛ لأنّ البراءة العقلية إذا كانت لا تجري في الشبهات الموضوعية لا معنى لأن نتكلّم عن أنّ جريانها في الشبهات الموضوعية هل هو مشروط بالفحص أو لا ؟ إذن: لابدّ أن نفرغ عن هذين الأمرين حتى ندخل في هذا البحث.
بالنسبة للأمر الأول تقدّم الحديث عن أصل البراءة العقلية مفصلاً.
بالنسبة للأمر الثاني: يعني بعد أن نفرغ عن تسليم وجود قاعدة عقلية تسمّى بالبراءة العقلية(قبح العقاب بلا بيان) نأتي إلى مسألة جريانها في الشبهات الموضوعية