37/04/19
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
الملاحظة الرابعة: على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) ترتبط بما ذكره أخيراً والنتيجة التي انتهى إليها وهي أنّ العقاب في محل الكلام يكون على مجموع الأمرين، على ترك الواقع وترك التعلّم. أو بعبارة أخرى يكون العقاب على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواقع، وهذا اعتُبر قولاً ثالثاً في المسألة في قِبال قول المشهور الذي يقول أنّ العقاب يكون على ترك الواقع، وفي قِبال قول المحقق الأردبيلي(قدّس سرّه) ومن تبعه من أنّ العقاب يكون على ترك التعلّم. هذا المطلب استشكل فيه بأنّه كيف يمكن أن نتصوّر ذلك ؟ يعني إذا استحال أن يكون العقاب على ترك الواقع لما قاله من أنّ الواقع مجهول ويستحيل العقاب على الأمر المجهول. من جهة أخرى يستحيل العقاب على ترك التعلّم؛ لأنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي ولا عقاب على ترك الواجب بالوجوب الطريقي، فإذاً: يستحيل أن يكون العقاب على ترك الواقع، ويستحيل أن يكون العقاب على ترك التعلّم؛ فحينئذٍ كيف ينتج من ضمّ هذا إلى هذا موضوع جديد يترتب عليه استحقاق العقاب مع أنّ كل واحدٍ منهما لا يترتب عليه العقاب ــــــ بحسب الفرض ـــــــ حينئذٍ كيف ينتج ضمّ أحدهما إلى الآخر موضوعاً يترتب عليه استحقاق العقاب ؟!
الظاهر أنّ هذه الملاحظة لكي نصل إليها لابدّ أن نفترض الفراغ عن عدم صحّة العقاب على ترك الواقع كما نفترض الفراغ عن عدم صحة العقاب على ترك التعلّم، كلٌ منهما لا يصح العقاب على تركه، بعد أن نفترض ذلك ترِد هذه الملاحظة، وتقول أنّ هذا لا يترتب عليه العقاب والآخر كذلك، فكيف صار من ضمّ أحدهما إلى الآخر موضوعاً يترتب عليه استحقاق العقاب ؟! إذاً: هذا الإشكال مبني على تسليم عدم صحة العقاب على ترك الواقع لمجهوليته، كما لا يصح العقاب على ترك التعلّم لكون وجوبه وجوباً طريقياً كما ذكر. إذا سلّمنا هذا نسلّم أنّ الواقع لم يصل إلى المكلف لا وجداناً ولا تعبداً. ونسلّم أيضاً عدم وجود ما ينجّز الواقع من علمٍ إجمالي أو حكم العقل بعدم جريان البراءة قبل الفحص وتنجز احتمال التكليف قبل الفحص، لابدّ من افتراض عدم وجود ما يوجب وصول الواقع إلى المكلف وعدم وجود ما ينجز الواقع على المكلف حتى نسلّم مسألة أنّ العقاب لا يمكن أن يكون على ترك الواقع، وإلاّ إذا وُجد ما يوجب وصول الواقع إلى المكلف كالعلم ــــــ مثلاً ــــــ وجداناً أو تعبّداً، أو وُجد ما ينجز الواقع على المكلف؛ حينئذٍ لا يستحيل العقاب على ترك الواقع؛ لأنّ استحالة العقاب على ترك الواقع مبنية على افتراض أنّ الواقع لم يصل إلى المكلف ولم يتنجز عليه، فإذاً: لابد من تسليم أنّ الواقع لم يصل إلى المكلف ولم يتنجز عليه، وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فهذا معناه أنّ العقاب لا يكون على ترك الواقع، وإنّما العقاب يكون على ترك التعلّم، الواجب الشرعي الذي أمر به الشارع وخالفه المكلف ـــــــ بحسب الفرض ـــــ، يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ ترك التعلّم يكون موجباً لاستحقاق العقاب، لكن لا مطلقاً، وإنّما يكون موجباً لاستحقاق العقاب على تقدير مخالفة الواقع، أمّا على تقدير عدم مخالفة الواقع؛ فحينئذٍ لا يكون ترك التعلّم موجباً لاستحقاق العقاب؛ لأنّ نفس كون وجوب التعلّم وجوباً طريقياً ـــــــ كما التزم به ــــــ يمنع من أن يكون استحقاق العقاب على ترك التعلّم مطلقاً، يعني سواء أصاب الواقع أو خالفه، هذا من قبيل وجوب الاحتياط في الدماء والفروج، هناك لا يقولون بأنّ مخالفة وجوب الاحتياط تكون موجبة لاستحقاق العقاب مطلقاً، يعني أصاب أو أخطأ، وإنما يقولون أنها توجب استحقاق العقاب على تقدير مخالفة الواقع، أذا على تقدير الإصابة للواقع وعدم مخالفته فلا تكون موجبة لاستحقاق العقاب، ترك وجوب الاحتياط لكنه لم يخالف الواقع؛ لأنّ هذا هو معنى أنّ وجوبها وجوب طريقي، فإذاً: هي توجب استحقاق العقاب على تقدير المخالفة لا مطلقاً، وبالتالي يثبت ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ استحقاق العقاب في محل الكلام هو على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواقع ومخالفته، بهذا البيان الذي ذكرناه، ترك الواقع بنفسه لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب، والمفروض أننا سلّمنا هذا، وإنّما نستشكل في أنّه كيف يقول أنّ استحقاق العقاب يترتب على تركهما مع أنّ ترك الواقع بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب وترك التعلّم أيضاً بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب، فإذاً: نسلّم أنّ ترك الواقع لا يوجب استحقاق العقاب، إذاً: العقاب ليس عليه.
في مقابل هذا هناك أدلة تدل على وجوب التعلّم، والمفروض أنّ وجوبه وجوب طريقي؛ فحينئذٍ كأنّه يريد أن يقول بأنّ وجوب التعلّم لمّا كان ثابتاً وأمر به الشارع، فمخالفته توجب استحقاق العقاب، لكنّها لا توجب استحقاق العقاب مطلقاً وإن أصاب الواقع، وإنّما توجب استحقاق العقاب عند مخالفة الواقع، وهذا عبارة عن أنّ استحقاق العقاب يترتب على مجموع الأمرين، ترك الواقع وترك التعلّم، أي على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواقع.
مشكلة هذا التوجيه لكلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) هي أنّه إنّما يتم إذا لم نقل بأنّ نفس وجوب التعلّم يوجب تنجيز الواقع على المكلف، باعتبار ما ذكرناه من أنّ وجوب التعلّم كوجوب الاحتياط يُفهم منه أنّ الشارع أبرز في هذا الخطاب الطريقي اهتمامه بالواقع على تقدير ثبوته، اهتمامه بالتكاليف الواقعية المشكوكة على تقدير ثبوتها اهتماماً شديداً، وأبرز اهتمامه بهذا الخطاب الطريقي، هذا يكون منجزاً للواقع على المكلف، فإذا قلنا أنّ خطاب وجوب التعلّم وخطاب وجوب الفحص يكون منجزاً للواقع على المكلف؛ حينئذٍ هذا التوجيه لا يأتي، ونقول من البداية أنّ المكلف يستحق العقاب على ترك الواقع؛ لأنّ المفروض أنّ الواقع تنجّز على المكلف، وقلنا فيما سبق أنّه لا فرق بين علم المكلف وجداناً أو تعبداً بالواقع في أنّه ينجز الواقع على المكلف ويرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وبين أن يقوم خطاب طريقي ينجز الواقع على المكلف ويدخله في عهدته، في هذه الحالة أيضاً المكلف يستحق العقاب على ترك الواقع وإن كان الواقع مجهولاً، حتى لو سلّمنا الفرق الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بين الخطاب الطريقي المجعول في موارد الإمارات وبين الخطاب الطريقي الذي نتكلم عنه وهو وجوب الفحص ووجوب التعلّم، حتى إذا سلّمنا الفرق، هو يقول في الخطاب الطريقي المجعول في باب الإمارات يكون موجباً للعلم التعبّدي بالواقع، فيصبح الواقع معلوماً لدى المكلف، لكن تعبّداً، فيتنجز عليه، وهنا نقول لا يوجب العلم بالواقع، صحيح نفرّق بينهما، إذا سلمنا هذا الفرق بينهما، لكن نقول أنّ وجوب الفحص ووجوب التعلّم يكون منجزاً للواقع لا أنّه يوجب العلم بالواقع ولو تعبّداً، هو لا يوجب العلم بالواقع لا وجداناً ولا تعبّداً، لكنّه ينجز الواقع على المكلف باعتبار أنّه يبرز اهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية المشكوكة على تقدير ثبوتها وعلى فرض وجودها، وهذا يكفي في تنجيز الواقع على المكلف، وإذا تنجز الواقع على المكلف يستحق العقاب عليه، ولا يكون العقاب على ترك الواقع حينئذٍ عقاباً قبيحاً وبلا بيان؛ بل هو عقاب ببيان؛ لأنّ الخطاب الطريقي دلّ على تنجز الواقع على المكلف.
نعم، إذا أنكرنا هذا المعنى في أدلة وجوب التعلّم ووجوب الفحص عندئذٍ يكون لهذا الكلام مجال في أنّ العقاب يكون على ترك التعلم وحيث أنّ وجوبه وجوب طريقي، فلا يكون على تركه مطلقاً، وإنّما يكون على تركه عند مخالفته للواقع.
في محل الكلام بالنسبة إلى أصل المسألة وهي أنّ وجوب التعلّم هل هو وجوب طريقي أو لا ؟ لكي نصل إلى نتيجة في هذه المسألة لابدّ أنّ نستعرض الاحتمالات الموجودة في وجوب التعلّم غير مسألة كونه وجوباً طريقياً :
الاحتمال الأول: أن يكون وجوب التعلّم وجوباً نفسياً على غرار سائر الوجوبات النفسية كوجوب الصلاة ووجوب الصوم.
الاحتمال الثاني: أن يكون وجوب التعلّم وجوباً تهيؤياً كما حُمل عليه كلام المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك(قدّس سرّهما) أنّه ليس مقصودهما من كونه وجوباً نفسياً يعني وجوب نفسي على غرار الواجبات النفسية الاستقلالية، وإنّما مقصودهما هو الوجوب التهيؤي، بمعنى أنّه يهيأ المكلف لامتثال التكاليف، فعبّروا عنه بالوجوب التهيؤي وهو لا يخرج عن كونه وجوباً نفسياً.
الاحتمال الثالث: أن يكون وجوبه وجوباً غيرياً مقدّمياً.
الاحتمال الرابع: أن يكون وجوبه وجوباً إرشادياً صِرفاً إلى ما يحكم به العقل.
الاحتمال الخامس: أن يكون وجوبه وجوباً شرطياً، بمعنى أنّ الفحص شرط في حجّية الأدلة الدالة على الأحكام أو الأصول النافية للتكليف، هو شرطٌ في العمل بتلك الأدلة، يجب عليه أن يفحص كوجوب شرطي للعمل بتلك الأدلة. هذه احتمالات موجودة في الوجوب النفسي، لكي نصل إلى نتيجة لابدّ أن نستعرض هذه الاحتمالات:
أمّا احتمال كونه وجوباً نفسياً على غرار سائر الواجبات النفسية الاستقلالية، الظاهر أنّ هذا لا مجال له، ولا مجال لنسبته أيضاً إلى المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك(قدّس سرهما) وذلك لوضوح أنّ هذا يقتضي أنّ المكلف التارك للتعلم والتارك للفحص إذا احتاط بلحاظ الواقع أيضاً يستحق العقاب؛ لأنّه ترك واجباً نفسياً كما لو ترك الصلاة وترك الصوم، هو ترك واجباً نفسياً بالنتيجة حتى إذا احتاط بلحاظ الواقع مع أنّه لا يُلتزم بذلك ولا يمكن أن يلتزم بأنّ المكلف التارك للتعلّم إذا احتاط يستحق العقاب؛ لأنّه خالف الواجب النفسي المستقل.
يُضاف إلى ذلك مسألة أنّ الأدلة الدالة على وجوب التعلّم تأبى عن حملها على الوجوب النفسي، وفي الحقيقة تأبى عن حملها على أن يكون المتكلم بهذا الكلام قد أعمل مولويته في هذا الكلام، يعني تأبى عن حملها على التعبّد الصرف من قِبل الشارع؛ حينئذٍ يشترك في هذه النكتة الوجوب النفسي والوجوب التهيؤي وحتى الوجوب الشرطي؛ لأنّه في كل هذه الاحتمالات يوجد إعمال مولوية من قِبل المولى، يعني يوجد هناك نوع من التعبّد الصادر من قِبل الشارع، إمّا باعتباره واجباً نفسياً، أو باعتباره واجباً تهيؤياً الذي هو نوع من أنواع الواجب النفسي أيضاً، أو بجعله شرطاً في حجّية الأدلة الدالة على الأحكام النافية والأصول النافية، في كل هذه الحالات المولى يُعمل مولويته في هذا المجال، ويُعبّد المكلّف بشيءٍ تكون نتيجته إمّا الوجوب النفسي، أو الوجوب التهيؤي، أو الوجوب الشرطي، بالنتيجة لابدّ من فرض وجود تعبّد بالنسبة إلى هذه الاحتمالات الثلاثة، بينما إذا راجعنا روايات وجوب التعلّم وأهمها معتبرة مسعدة بن زياد، هذه الرواية تأبى عن الحمل على مسألة التعبّد وإعمال المولوية، الظاهر أنّ وجوب الفحص ليس أمراً تعبّدياً أعمل الشارع في المولوية وأوجب على العبد التعلم، ويمكن أن يُفهم هذا مما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّه يقول أنّ ظاهر هذه الروايات هو إفحام العبد عندما قيل له(هلاّ تعلمت) هو أُفحم وسكت ولم يجب بشيءٍ، معناه أنه كان لا يمكنه أن يقول أنا لا أعلم بوجوب التعلّم؛ لأنّ وجوب التعلّم ليس وجوباً شرعياً مجعولاً من قبل الشارع، بينما هو سابقاً عندما قيل له(هل تعلّمت ؟ فإن قال: نعم، قيل له: هلاّ عملت ؟ وإن قال: لا، لم أعلم، قيل له: هلاّ تعلّمت ؟) بعد أن ادعى الجهل وقيل له: هلاّ تعلمت؟ لم يكن هناك مجال لكي يقول أني لم أعلم بوجوب التعلّم، وإنما أُفحم وألقيت عليه حجّة ولا يمكنه الجواب عندئذٍ. وهذا معناه أنّ وجوب التعلّم غير الوجوبات والتكاليف التي ادّعى الجهل فيها عندما قيل له(هل علمت ؟ فقال: لا لم أعلم) أي لا يعلم بالتكليف الشرعي، فقيل له هلاّ تعلمت ؟ هذا كأنّه شيء أُفحم به المكلف وسكت، وهذا لا يكون إلا إذا فرضنا أنّ وجوب التعلّم ثابت بقطع النظر عن الجعل الشرعي، يعني أنّه ثابت في ارتكاز العبد وواضح عنده، فيُفهم من هذا الإفحام أنّ وجوب التعلّم في الروايات ليس وجوباً أُعمل فيه التعبّد وأُعملت فيه المولوية، وإنّما هو أمر يدركه العبد ويدركه العقلاء ويكون أمراً ثابتاً عند العقلاء وليس مجعولاً تعبّدياً من قِبل الشارع، بينما إذا قلنا أنّ وجوب التعلّم وجوب نفسي أو وجوب تهيؤي، أو وجوب شرطي، فهذا معناه أنّ هناك إعمال تعبّدٍ وجعلٍ من قِبل الشارع، بينما ظاهر الرواية يأبى عن الحمل على ذلك.
إذا تمّ هذا المطلب؛ فحينئذٍ كما ينفي الوجوب النفسي والوجوب التهيؤي، كذلك ينفي الوجوب الشرطي؛ لأنّ في الوجوب الشرطي أيضاً يوجد إعمال تعبّدٍ وعناية، والشارع أعمل مولويته وجعل الفحص شرطاً في حجّية الأدلة الدالة على نفي التكليف أو الأصول النافية للتكليف.
الآن نأتي إلى مسألة الوجوب الغيري المقدّمي: هل وجوب التعلّم ووجوب الفحص وجوب غيري مقدّمي أو لا ؟ ذكرنا في السابق أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) قال لا ليس كذلك؛ ولذا ميّز بينه وبين الوجوبات الغيرية المقدّمية(المقدّمات المفوّتة) قال: أنّ هذا بابه باب آخر؛ لأنّ ملاك المقدمية الذي هو التوقف، أي أن يتوقف الواجب عليه، ولا يمكن الإتيان بالواجب من دونه، التي تستدعي الوجوب الغيري غير موجود فيه، هذا التوقف غير موجود بالنسبة إلى التعلّم، موجود بالنسبة إلى السير مع القافلة بالنسبة إلى الحج، وموجود بالنسبة إلى الغسل قبل الفجر بالنسبة إلى الصوم؛ لأنّ الصوم يتوقف على هذا الغُسل، في محل الكلام فعل الواجبات وترك المحرمات لا يتوقف على التعلّم؛ لأنّه يمكنه الاحتياط كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وعن طريق الاحتياط هو يفعل الواجبات ويترك المحرّمات. إذاً: لم يصر التعلّم مقدّمة لفعل الواجب ولا صار مقدّمة لترك الحرام حتى نقول بأنّ فعل الواجب يتوقف على المقدّمة، فالتوقف الذي هو ملاك المقدّمية موجود، فيجب بالوجوب الغيري. لكن أُعترض على المحقق النائيني(قدّس سرّه) بما تقدّم من أنّ هذا ليس على إطلاقه؛ لأنّه في بعض الأحيان يكون التوقف واضحاً وفعلياً، بمعنى أنّ المكلّف لا يمكنه أن يأتي بالواجب من دون تعلّم، فيكون هناك توقف، فيتحقق ملاك المقدّمية كما مُثّل له سابقاً بما إذا فُرض أنّ ترك التعلم أدّى إلى الغفلة مطلقاً، عن الفعل وعن حكمه، هو غافل أصلاً عن الحكم إطلاقاً وعن موضوعه، مثل هذا الغافل لا يتأتى منه الاحتياط؛ إذ أنّ الاحتياط يحتاج نوعاً من الالتفات، أي يحتاج الالتفات إلى الموضوع وأن تكون صورة العمل واضحة عنده، والالتفات إلى أنّ هذا التكليف مشكوك ويحتمل أن يكون واجباً؛ فعندئذٍ يتأتّى منه الاحتياط. في هذه الحالة يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفاً على التعلم، فيتحقق ملاك الوجوب الغيري الذي هو التوقف والمقدمية.
في حالة ثانية ذُكرت كنقض على المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهي حالة ما إذا كان الواجب من العبادات، وقلنا كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) باشتراط الامتثال التفصيلي مهما أمكن، بمعنى أنّ المكلف الذي يمكنه أن يؤدي امتثالاً تفصيلياً مع الجزم لا يجوز له أن يحتاط في العبادات؛ لأنّ الاحتياط امتثال، لكنّه ليس امتثالاً تفصيلياً، وإنّما هو امتثال إجمالي، يعني أنّ المكلف لا يعلم أنّ الامتثال تحقق بالقصر أو بالتمام، إذا تمكّن من الامتثال التفصيلي وجب عليه الامتثال التفصيلي في العبادات؛ حينئذٍ يقال في هذه الحالة حتى مع الالتفات وعدم الغفلة هنا يكون الإتيان بالواجب بتمام قيوده ومنها الامتثال التفصيلي، يكون موقوفاً على التعلم؛ لأنّه لا يمكنه أن يأتي بالعبادة مع الجزم ومع الامتثال التفصيلي إلاّ إذا عرف حكمها، فيتوقف حينئذٍ فعل الواجب بقيوده وشروطه على التعلم، هنا أيضاً ملاك التوقف وملاك الوجوب الغيري يكون حينئذٍ متحققاً في المقام. في هذه الحالات ماذا نعمل ؟ في غير هذه الحالات عندما يتمكن المكلف من الاحتياط، قلنا بعدم وجود ملاك التوقف في الفحص والتعلّم، وبإمكان المكلف أن يأتي بالواجبات ويترك المحرّمات عن طريق الاحتياط، فإذاً: لا يتصف الفحص والتعلم بالوجوب الغيري، لكن في هذه الحالات ملاك التوقف والمقدمية موجود، فإذا كان ملاك التوقف والمقدمية موجوداً، فلابدّ أن نلتزم بالوجوب الغيري للفحص وللتعلم في هذه الموارد، أمّا في غيرها فلابدّ أن نختار أحد الأقوال في المسألة، كأن يكون وجوبه طريقي، أو وجوب إرشادي، لكن في هذه الموارد لا فرق بين الفحص وبين أي مقدّمة من المقدمات المفوتة، فلابدّ أن يُلتزم بالوجوب الغيري.
الملاحظة الرابعة: على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) ترتبط بما ذكره أخيراً والنتيجة التي انتهى إليها وهي أنّ العقاب في محل الكلام يكون على مجموع الأمرين، على ترك الواقع وترك التعلّم. أو بعبارة أخرى يكون العقاب على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواقع، وهذا اعتُبر قولاً ثالثاً في المسألة في قِبال قول المشهور الذي يقول أنّ العقاب يكون على ترك الواقع، وفي قِبال قول المحقق الأردبيلي(قدّس سرّه) ومن تبعه من أنّ العقاب يكون على ترك التعلّم. هذا المطلب استشكل فيه بأنّه كيف يمكن أن نتصوّر ذلك ؟ يعني إذا استحال أن يكون العقاب على ترك الواقع لما قاله من أنّ الواقع مجهول ويستحيل العقاب على الأمر المجهول. من جهة أخرى يستحيل العقاب على ترك التعلّم؛ لأنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي ولا عقاب على ترك الواجب بالوجوب الطريقي، فإذاً: يستحيل أن يكون العقاب على ترك الواقع، ويستحيل أن يكون العقاب على ترك التعلّم؛ فحينئذٍ كيف ينتج من ضمّ هذا إلى هذا موضوع جديد يترتب عليه استحقاق العقاب مع أنّ كل واحدٍ منهما لا يترتب عليه العقاب ــــــ بحسب الفرض ـــــــ حينئذٍ كيف ينتج ضمّ أحدهما إلى الآخر موضوعاً يترتب عليه استحقاق العقاب ؟!
الظاهر أنّ هذه الملاحظة لكي نصل إليها لابدّ أن نفترض الفراغ عن عدم صحّة العقاب على ترك الواقع كما نفترض الفراغ عن عدم صحة العقاب على ترك التعلّم، كلٌ منهما لا يصح العقاب على تركه، بعد أن نفترض ذلك ترِد هذه الملاحظة، وتقول أنّ هذا لا يترتب عليه العقاب والآخر كذلك، فكيف صار من ضمّ أحدهما إلى الآخر موضوعاً يترتب عليه استحقاق العقاب ؟! إذاً: هذا الإشكال مبني على تسليم عدم صحة العقاب على ترك الواقع لمجهوليته، كما لا يصح العقاب على ترك التعلّم لكون وجوبه وجوباً طريقياً كما ذكر. إذا سلّمنا هذا نسلّم أنّ الواقع لم يصل إلى المكلف لا وجداناً ولا تعبداً. ونسلّم أيضاً عدم وجود ما ينجّز الواقع من علمٍ إجمالي أو حكم العقل بعدم جريان البراءة قبل الفحص وتنجز احتمال التكليف قبل الفحص، لابدّ من افتراض عدم وجود ما يوجب وصول الواقع إلى المكلف وعدم وجود ما ينجز الواقع على المكلف حتى نسلّم مسألة أنّ العقاب لا يمكن أن يكون على ترك الواقع، وإلاّ إذا وُجد ما يوجب وصول الواقع إلى المكلف كالعلم ــــــ مثلاً ــــــ وجداناً أو تعبّداً، أو وُجد ما ينجز الواقع على المكلف؛ حينئذٍ لا يستحيل العقاب على ترك الواقع؛ لأنّ استحالة العقاب على ترك الواقع مبنية على افتراض أنّ الواقع لم يصل إلى المكلف ولم يتنجز عليه، فإذاً: لابد من تسليم أنّ الواقع لم يصل إلى المكلف ولم يتنجز عليه، وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فهذا معناه أنّ العقاب لا يكون على ترك الواقع، وإنّما العقاب يكون على ترك التعلّم، الواجب الشرعي الذي أمر به الشارع وخالفه المكلف ـــــــ بحسب الفرض ـــــ، يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ ترك التعلّم يكون موجباً لاستحقاق العقاب، لكن لا مطلقاً، وإنّما يكون موجباً لاستحقاق العقاب على تقدير مخالفة الواقع، أمّا على تقدير عدم مخالفة الواقع؛ فحينئذٍ لا يكون ترك التعلّم موجباً لاستحقاق العقاب؛ لأنّ نفس كون وجوب التعلّم وجوباً طريقياً ـــــــ كما التزم به ــــــ يمنع من أن يكون استحقاق العقاب على ترك التعلّم مطلقاً، يعني سواء أصاب الواقع أو خالفه، هذا من قبيل وجوب الاحتياط في الدماء والفروج، هناك لا يقولون بأنّ مخالفة وجوب الاحتياط تكون موجبة لاستحقاق العقاب مطلقاً، يعني أصاب أو أخطأ، وإنما يقولون أنها توجب استحقاق العقاب على تقدير مخالفة الواقع، أذا على تقدير الإصابة للواقع وعدم مخالفته فلا تكون موجبة لاستحقاق العقاب، ترك وجوب الاحتياط لكنه لم يخالف الواقع؛ لأنّ هذا هو معنى أنّ وجوبها وجوب طريقي، فإذاً: هي توجب استحقاق العقاب على تقدير المخالفة لا مطلقاً، وبالتالي يثبت ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ استحقاق العقاب في محل الكلام هو على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواقع ومخالفته، بهذا البيان الذي ذكرناه، ترك الواقع بنفسه لا يكون موجباً لاستحقاق العقاب، والمفروض أننا سلّمنا هذا، وإنّما نستشكل في أنّه كيف يقول أنّ استحقاق العقاب يترتب على تركهما مع أنّ ترك الواقع بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب وترك التعلّم أيضاً بنفسه لا يوجب استحقاق العقاب، فإذاً: نسلّم أنّ ترك الواقع لا يوجب استحقاق العقاب، إذاً: العقاب ليس عليه.
في مقابل هذا هناك أدلة تدل على وجوب التعلّم، والمفروض أنّ وجوبه وجوب طريقي؛ فحينئذٍ كأنّه يريد أن يقول بأنّ وجوب التعلّم لمّا كان ثابتاً وأمر به الشارع، فمخالفته توجب استحقاق العقاب، لكنّها لا توجب استحقاق العقاب مطلقاً وإن أصاب الواقع، وإنّما توجب استحقاق العقاب عند مخالفة الواقع، وهذا عبارة عن أنّ استحقاق العقاب يترتب على مجموع الأمرين، ترك الواقع وترك التعلّم، أي على ترك التعلّم المؤدي إلى ترك الواقع.
مشكلة هذا التوجيه لكلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) هي أنّه إنّما يتم إذا لم نقل بأنّ نفس وجوب التعلّم يوجب تنجيز الواقع على المكلف، باعتبار ما ذكرناه من أنّ وجوب التعلّم كوجوب الاحتياط يُفهم منه أنّ الشارع أبرز في هذا الخطاب الطريقي اهتمامه بالواقع على تقدير ثبوته، اهتمامه بالتكاليف الواقعية المشكوكة على تقدير ثبوتها اهتماماً شديداً، وأبرز اهتمامه بهذا الخطاب الطريقي، هذا يكون منجزاً للواقع على المكلف، فإذا قلنا أنّ خطاب وجوب التعلّم وخطاب وجوب الفحص يكون منجزاً للواقع على المكلف؛ حينئذٍ هذا التوجيه لا يأتي، ونقول من البداية أنّ المكلف يستحق العقاب على ترك الواقع؛ لأنّ المفروض أنّ الواقع تنجّز على المكلف، وقلنا فيما سبق أنّه لا فرق بين علم المكلف وجداناً أو تعبداً بالواقع في أنّه ينجز الواقع على المكلف ويرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وبين أن يقوم خطاب طريقي ينجز الواقع على المكلف ويدخله في عهدته، في هذه الحالة أيضاً المكلف يستحق العقاب على ترك الواقع وإن كان الواقع مجهولاً، حتى لو سلّمنا الفرق الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) بين الخطاب الطريقي المجعول في موارد الإمارات وبين الخطاب الطريقي الذي نتكلم عنه وهو وجوب الفحص ووجوب التعلّم، حتى إذا سلّمنا الفرق، هو يقول في الخطاب الطريقي المجعول في باب الإمارات يكون موجباً للعلم التعبّدي بالواقع، فيصبح الواقع معلوماً لدى المكلف، لكن تعبّداً، فيتنجز عليه، وهنا نقول لا يوجب العلم بالواقع، صحيح نفرّق بينهما، إذا سلمنا هذا الفرق بينهما، لكن نقول أنّ وجوب الفحص ووجوب التعلّم يكون منجزاً للواقع لا أنّه يوجب العلم بالواقع ولو تعبّداً، هو لا يوجب العلم بالواقع لا وجداناً ولا تعبّداً، لكنّه ينجز الواقع على المكلف باعتبار أنّه يبرز اهتمام الشارع بالتكاليف الواقعية المشكوكة على تقدير ثبوتها وعلى فرض وجودها، وهذا يكفي في تنجيز الواقع على المكلف، وإذا تنجز الواقع على المكلف يستحق العقاب عليه، ولا يكون العقاب على ترك الواقع حينئذٍ عقاباً قبيحاً وبلا بيان؛ بل هو عقاب ببيان؛ لأنّ الخطاب الطريقي دلّ على تنجز الواقع على المكلف.
نعم، إذا أنكرنا هذا المعنى في أدلة وجوب التعلّم ووجوب الفحص عندئذٍ يكون لهذا الكلام مجال في أنّ العقاب يكون على ترك التعلم وحيث أنّ وجوبه وجوب طريقي، فلا يكون على تركه مطلقاً، وإنّما يكون على تركه عند مخالفته للواقع.
في محل الكلام بالنسبة إلى أصل المسألة وهي أنّ وجوب التعلّم هل هو وجوب طريقي أو لا ؟ لكي نصل إلى نتيجة في هذه المسألة لابدّ أنّ نستعرض الاحتمالات الموجودة في وجوب التعلّم غير مسألة كونه وجوباً طريقياً :
الاحتمال الأول: أن يكون وجوب التعلّم وجوباً نفسياً على غرار سائر الوجوبات النفسية كوجوب الصلاة ووجوب الصوم.
الاحتمال الثاني: أن يكون وجوب التعلّم وجوباً تهيؤياً كما حُمل عليه كلام المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك(قدّس سرّهما) أنّه ليس مقصودهما من كونه وجوباً نفسياً يعني وجوب نفسي على غرار الواجبات النفسية الاستقلالية، وإنّما مقصودهما هو الوجوب التهيؤي، بمعنى أنّه يهيأ المكلف لامتثال التكاليف، فعبّروا عنه بالوجوب التهيؤي وهو لا يخرج عن كونه وجوباً نفسياً.
الاحتمال الثالث: أن يكون وجوبه وجوباً غيرياً مقدّمياً.
الاحتمال الرابع: أن يكون وجوبه وجوباً إرشادياً صِرفاً إلى ما يحكم به العقل.
الاحتمال الخامس: أن يكون وجوبه وجوباً شرطياً، بمعنى أنّ الفحص شرط في حجّية الأدلة الدالة على الأحكام أو الأصول النافية للتكليف، هو شرطٌ في العمل بتلك الأدلة، يجب عليه أن يفحص كوجوب شرطي للعمل بتلك الأدلة. هذه احتمالات موجودة في الوجوب النفسي، لكي نصل إلى نتيجة لابدّ أن نستعرض هذه الاحتمالات:
أمّا احتمال كونه وجوباً نفسياً على غرار سائر الواجبات النفسية الاستقلالية، الظاهر أنّ هذا لا مجال له، ولا مجال لنسبته أيضاً إلى المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك(قدّس سرهما) وذلك لوضوح أنّ هذا يقتضي أنّ المكلف التارك للتعلم والتارك للفحص إذا احتاط بلحاظ الواقع أيضاً يستحق العقاب؛ لأنّه ترك واجباً نفسياً كما لو ترك الصلاة وترك الصوم، هو ترك واجباً نفسياً بالنتيجة حتى إذا احتاط بلحاظ الواقع مع أنّه لا يُلتزم بذلك ولا يمكن أن يلتزم بأنّ المكلف التارك للتعلّم إذا احتاط يستحق العقاب؛ لأنّه خالف الواجب النفسي المستقل.
يُضاف إلى ذلك مسألة أنّ الأدلة الدالة على وجوب التعلّم تأبى عن حملها على الوجوب النفسي، وفي الحقيقة تأبى عن حملها على أن يكون المتكلم بهذا الكلام قد أعمل مولويته في هذا الكلام، يعني تأبى عن حملها على التعبّد الصرف من قِبل الشارع؛ حينئذٍ يشترك في هذه النكتة الوجوب النفسي والوجوب التهيؤي وحتى الوجوب الشرطي؛ لأنّه في كل هذه الاحتمالات يوجد إعمال مولوية من قِبل المولى، يعني يوجد هناك نوع من التعبّد الصادر من قِبل الشارع، إمّا باعتباره واجباً نفسياً، أو باعتباره واجباً تهيؤياً الذي هو نوع من أنواع الواجب النفسي أيضاً، أو بجعله شرطاً في حجّية الأدلة الدالة على الأحكام النافية والأصول النافية، في كل هذه الحالات المولى يُعمل مولويته في هذا المجال، ويُعبّد المكلّف بشيءٍ تكون نتيجته إمّا الوجوب النفسي، أو الوجوب التهيؤي، أو الوجوب الشرطي، بالنتيجة لابدّ من فرض وجود تعبّد بالنسبة إلى هذه الاحتمالات الثلاثة، بينما إذا راجعنا روايات وجوب التعلّم وأهمها معتبرة مسعدة بن زياد، هذه الرواية تأبى عن الحمل على مسألة التعبّد وإعمال المولوية، الظاهر أنّ وجوب الفحص ليس أمراً تعبّدياً أعمل الشارع في المولوية وأوجب على العبد التعلم، ويمكن أن يُفهم هذا مما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّه يقول أنّ ظاهر هذه الروايات هو إفحام العبد عندما قيل له(هلاّ تعلمت) هو أُفحم وسكت ولم يجب بشيءٍ، معناه أنه كان لا يمكنه أن يقول أنا لا أعلم بوجوب التعلّم؛ لأنّ وجوب التعلّم ليس وجوباً شرعياً مجعولاً من قبل الشارع، بينما هو سابقاً عندما قيل له(هل تعلّمت ؟ فإن قال: نعم، قيل له: هلاّ عملت ؟ وإن قال: لا، لم أعلم، قيل له: هلاّ تعلّمت ؟) بعد أن ادعى الجهل وقيل له: هلاّ تعلمت؟ لم يكن هناك مجال لكي يقول أني لم أعلم بوجوب التعلّم، وإنما أُفحم وألقيت عليه حجّة ولا يمكنه الجواب عندئذٍ. وهذا معناه أنّ وجوب التعلّم غير الوجوبات والتكاليف التي ادّعى الجهل فيها عندما قيل له(هل علمت ؟ فقال: لا لم أعلم) أي لا يعلم بالتكليف الشرعي، فقيل له هلاّ تعلمت ؟ هذا كأنّه شيء أُفحم به المكلف وسكت، وهذا لا يكون إلا إذا فرضنا أنّ وجوب التعلّم ثابت بقطع النظر عن الجعل الشرعي، يعني أنّه ثابت في ارتكاز العبد وواضح عنده، فيُفهم من هذا الإفحام أنّ وجوب التعلّم في الروايات ليس وجوباً أُعمل فيه التعبّد وأُعملت فيه المولوية، وإنّما هو أمر يدركه العبد ويدركه العقلاء ويكون أمراً ثابتاً عند العقلاء وليس مجعولاً تعبّدياً من قِبل الشارع، بينما إذا قلنا أنّ وجوب التعلّم وجوب نفسي أو وجوب تهيؤي، أو وجوب شرطي، فهذا معناه أنّ هناك إعمال تعبّدٍ وجعلٍ من قِبل الشارع، بينما ظاهر الرواية يأبى عن الحمل على ذلك.
إذا تمّ هذا المطلب؛ فحينئذٍ كما ينفي الوجوب النفسي والوجوب التهيؤي، كذلك ينفي الوجوب الشرطي؛ لأنّ في الوجوب الشرطي أيضاً يوجد إعمال تعبّدٍ وعناية، والشارع أعمل مولويته وجعل الفحص شرطاً في حجّية الأدلة الدالة على نفي التكليف أو الأصول النافية للتكليف.
الآن نأتي إلى مسألة الوجوب الغيري المقدّمي: هل وجوب التعلّم ووجوب الفحص وجوب غيري مقدّمي أو لا ؟ ذكرنا في السابق أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) قال لا ليس كذلك؛ ولذا ميّز بينه وبين الوجوبات الغيرية المقدّمية(المقدّمات المفوّتة) قال: أنّ هذا بابه باب آخر؛ لأنّ ملاك المقدمية الذي هو التوقف، أي أن يتوقف الواجب عليه، ولا يمكن الإتيان بالواجب من دونه، التي تستدعي الوجوب الغيري غير موجود فيه، هذا التوقف غير موجود بالنسبة إلى التعلّم، موجود بالنسبة إلى السير مع القافلة بالنسبة إلى الحج، وموجود بالنسبة إلى الغسل قبل الفجر بالنسبة إلى الصوم؛ لأنّ الصوم يتوقف على هذا الغُسل، في محل الكلام فعل الواجبات وترك المحرمات لا يتوقف على التعلّم؛ لأنّه يمكنه الاحتياط كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وعن طريق الاحتياط هو يفعل الواجبات ويترك المحرّمات. إذاً: لم يصر التعلّم مقدّمة لفعل الواجب ولا صار مقدّمة لترك الحرام حتى نقول بأنّ فعل الواجب يتوقف على المقدّمة، فالتوقف الذي هو ملاك المقدّمية موجود، فيجب بالوجوب الغيري. لكن أُعترض على المحقق النائيني(قدّس سرّه) بما تقدّم من أنّ هذا ليس على إطلاقه؛ لأنّه في بعض الأحيان يكون التوقف واضحاً وفعلياً، بمعنى أنّ المكلّف لا يمكنه أن يأتي بالواجب من دون تعلّم، فيكون هناك توقف، فيتحقق ملاك المقدّمية كما مُثّل له سابقاً بما إذا فُرض أنّ ترك التعلم أدّى إلى الغفلة مطلقاً، عن الفعل وعن حكمه، هو غافل أصلاً عن الحكم إطلاقاً وعن موضوعه، مثل هذا الغافل لا يتأتى منه الاحتياط؛ إذ أنّ الاحتياط يحتاج نوعاً من الالتفات، أي يحتاج الالتفات إلى الموضوع وأن تكون صورة العمل واضحة عنده، والالتفات إلى أنّ هذا التكليف مشكوك ويحتمل أن يكون واجباً؛ فعندئذٍ يتأتّى منه الاحتياط. في هذه الحالة يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفاً على التعلم، فيتحقق ملاك الوجوب الغيري الذي هو التوقف والمقدمية.
في حالة ثانية ذُكرت كنقض على المحقق النائيني(قدّس سرّه) وهي حالة ما إذا كان الواجب من العبادات، وقلنا كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) باشتراط الامتثال التفصيلي مهما أمكن، بمعنى أنّ المكلف الذي يمكنه أن يؤدي امتثالاً تفصيلياً مع الجزم لا يجوز له أن يحتاط في العبادات؛ لأنّ الاحتياط امتثال، لكنّه ليس امتثالاً تفصيلياً، وإنّما هو امتثال إجمالي، يعني أنّ المكلف لا يعلم أنّ الامتثال تحقق بالقصر أو بالتمام، إذا تمكّن من الامتثال التفصيلي وجب عليه الامتثال التفصيلي في العبادات؛ حينئذٍ يقال في هذه الحالة حتى مع الالتفات وعدم الغفلة هنا يكون الإتيان بالواجب بتمام قيوده ومنها الامتثال التفصيلي، يكون موقوفاً على التعلم؛ لأنّه لا يمكنه أن يأتي بالعبادة مع الجزم ومع الامتثال التفصيلي إلاّ إذا عرف حكمها، فيتوقف حينئذٍ فعل الواجب بقيوده وشروطه على التعلم، هنا أيضاً ملاك التوقف وملاك الوجوب الغيري يكون حينئذٍ متحققاً في المقام. في هذه الحالات ماذا نعمل ؟ في غير هذه الحالات عندما يتمكن المكلف من الاحتياط، قلنا بعدم وجود ملاك التوقف في الفحص والتعلّم، وبإمكان المكلف أن يأتي بالواجبات ويترك المحرّمات عن طريق الاحتياط، فإذاً: لا يتصف الفحص والتعلم بالوجوب الغيري، لكن في هذه الحالات ملاك التوقف والمقدمية موجود، فإذا كان ملاك التوقف والمقدمية موجوداً، فلابدّ أن نلتزم بالوجوب الغيري للفحص وللتعلم في هذه الموارد، أمّا في غيرها فلابدّ أن نختار أحد الأقوال في المسألة، كأن يكون وجوبه طريقي، أو وجوب إرشادي، لكن في هذه الموارد لا فرق بين الفحص وبين أي مقدّمة من المقدمات المفوتة، فلابدّ أن يُلتزم بالوجوب الغيري.