37/04/26
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية
من جملة البحوث التي ترتبط بالبحث المتقدم هو البحث عن حكم العمل الصادر من المكلف إذا أجرى البراءة قبل الفحص، ما هو حكم العمل الصادر من الجاهل التارك للفحص من حيث الصحة والبطلان ؟ هل يحكم بصحة العمل، أو بطلانه ؟ وما هو الميزان في الحكم بصحته، أو بطلانه ؟
قالوا: أنّ الأمر في المعاملات واضح، باعتبار أنّ العلم والجهل لا دخل لهما في صحة المعاملة وفسادها، إنما هي تناط بالواقع، فالمعاملة التي تكون مطابقة للواقع بأن تكون واجدة لكل الشرائط المعتبرة في صحّة المعاملة تكون المعاملة صحيحة حتى إذا صدرت من الجاهل بحكم المعاملة التارك للفحص عن تقصير، ولا أثر لجهله وتركه للفحص في ذلك. كما أنّ العكس أيضاً صحيح، بمعنى أنّ المعاملة إذا لم تكن واجدة لما هو معتبر فيها واقعاً تعتبر باطلة ولا يترتب عليها الأثر حتى إذا كان المكلّف عالماً بحكمها ليس للعلم والجهل دخل في صحة المعاملة أو بطلانها، وإنّما الذي له دخل هو المطابقة للواقع وعدم المطابقة للواقع، وإنما الكلام في العبادات، إذا ترك المكلف الفحص وجاء بفعل عبادي لا يعلم ما هو حكمه، فهل يُحكم بصحة فعله أو بطلانه ؟ قد يُستشكل في الحكم بصحة العبادة الصادرة من الجاهل التارك للفحص الغير العلم بحكمها، قد يُستشكل بإشكال معروف، وهو: دعوى عدم تحقق قصد الإطاعة وقصد القربى في ما يأتي به الجاهل بحكم العبادة، باعتبار أنّ هذا الجاهل التارك للفحص لا يعلم حكم هذا الفعل ـــــــ بحسب الفرض ـــــــ هذا المكلف لا يستطيع أن يقصد الامتثال والإطاعة بهذا الفعل، والمفروض أنّها عبادة متقومة بقصد الامتثال وقصد الإطاعة، وهذا المكلف لا يستطيع أن يقصد ذلك بهذا الفعل، باعتباره متردداً غير عالم بحكمه، ومن الواضح أنّ قصد امتثال الأمر فرع إحراز الأمر بذلك الشيء وقصد الإطاعة فرع إحراز أنّ الشارع أمر بهذا الشيء حتى يقصد به إطاعة المولى، وإلاّ من دون إحراز الأمر وتعلّق التكليف بهذا الفعل كيف يمكنه أن يقصد الإطاعة عندما يأتي بهذا الفعل ؟ أو يقصد امتثال الأمر المتعلق به وهو لا يعلم تعلّق الأمر به؛ فحينئذٍ لا يتأتى منه قصد القربة وقصد امتثال الأمر وقصد الإطاعة، هذه أمور لا يمكن أن تصدر من هذا الجاهل المتردد الذي لا يعلم ما هو حكم العمل كما هو المفروض في محل الكلام؛ لأننا نتكلّم عن مكلّفٍ تارك للفحص وللتعلّم وصدر منه الفعل الذي يعتبر فيه أن يصدر على نحو عبادي، في هذه الحال قد يُستشكل في صحة الفعل من هذه الجهة.
لكنّ هذا الإشكال مردود من قِبل المحققين المتأخرين بأنّه يكفي في عبادية العبادة وصحّة التقرّب بها وقصد الامتثال، ويكفي في تحقق قصد الإطاعة احتمال أن يكون الفعل مأموراً به من قِبل الشارع، احتمال الأمر في هذا الفعل الذي هو يجهل حكمه ويجهل تعلق الأمر به، هذا يكفي في عبادية العبادة، فإذا جاء بالفعل لاحتمال أن يكون قد أمر به الشارع، فأنّه يحقق ما هو شرط في العبادة من قصد الإطاعة وقصد التقرّب؛ وحينئذٍ لا إشكال من هذه الناحية؛ بل اعتبروا قصد الإطاعة المتحقق في هذه الحالة أوضح من قصد الإطاعة المتحقق في حالة العلم، بمعنى أنّ المكلّف يأتي بالفعل لاحتمال أنّ الشارع أمر به. إذاً: هو متقرّب إلى المولى حتى في ما يحتمل أنّ المولى أمر به، هذا يكفي ومن دون أن يلزم من ذلك تشريع محرّم؛ لأنّه يأتي بالفعل لاحتمال تعلق الأمر به وليس جازما بذلك، والمفروض أنّه متردد وشاك حتى يكون من باب التشريع، كلا هو ليس مشرّع، وإنّما يأتي بالفعل لاحتمال أنّ الشارع أمر به، فيتحقق قصد التقرّب المعتبر في باب العبادات، ومن هنا فالفعل الذي يصدر من الجاهل التارك للفحص لا مشكلة في أن يصدر منه على نحوٍ قربي وأن يكون عبادة، فمن هذه الجهة لا توجد مشكلة؛ لأنّه لا يعتبر في عبادية العبادة إحراز الأمر حتى يقال أنّ هذا غير محرز للأمر، فلا يتأتى منه قصد التقرّب وقصد العبادة، لا يعتبر ذلك في العبادة؛ بل الجاهل الذي يحتمل وجود الأمر يمكن أن يصدر منه الفعل على نحو عبادي وعلى نحوٍ مقرّبٍ.
الفعل الذي يصدر من الجاهل التارك للفحص الذي لا يعلم ما هو حكمه، هل يحكم بصحة هذا الفعل، أو يحكم ببطلانه ؟ هنا أيضاً ذكروا أنّه لا ينبغي الإشكال في الحكم ببطلان العمل حكماً ظاهرياً قبل انكشاف الحال، يعني إذا فرضنا أنّ الاشتباه والشك والتردد بقي مستمراً، وهذا المكلّف صدر منه فعل عبادي، فهل يُحكَم بصحة هذا الفعل وإجزائه والاكتفاء به، أو لا ؟ قالوا: لا ينبغي الإشكال في الحكم ببطلان العمل قبل انكشاف الحال، ومقصودهم من(قبل انكشاف الحال) بمعنى أن العقل هنا يتدخل ويحكم بعدم إجزاء هذا الفعل الذي جاء به عن الواقع؛ لأنّه لا يحرز مطابقته للواقع، فكيف يجتزء به ؟! الفعل الذي صدر منه، ما دامه لا يحرز أنّه هو الواقع وهو المطابق للواقع، فلا يمكنه أن يكتفي به، باعتبار أنّه مكلف بأن يأتي بالصلاة ــــــ مثلاً ـــــــ هذا التكليف اشتغلت به الذمة ودخل في عهدته، فلابدّ أن يُفرغ عهدته من هذا التكليف يقيناً، ومن الواضح أنّه إذا اكتفى بالفعل الذي جاء به مع الشك في كونه مطابقاً للواقع، أو لا ؛ لأنّه لا يعلم ما هو؛ حينئذٍ العقل يقول بأنّ هذا لا يجوز الاكتفاء والاجتزاء به، وهذا معناه الحكم بالبطلان، فأنّ المراد بالحكم بالبطلان هنا هو عدم الاجتزاء بما صدر منه، ليس المقصود بذلك أنّ ما صدر منه مخالف للواقع، كلا ؛ لأنه لم ينكشف الحال والتردد والجهل بقي معه؛ وحينئذٍ لا يمكنه أن يجتزي بهذا الفعل، المطلوب منه الفعل الصحيح، وهو جاء بفعلٍ لا يعلم أنّه مطابق للواقع أو ليس مطابقاً للواقع، فكيف يجتزي بهذا الفعل ؟! قالوا: أنّ هذا هو المقصود بالعبارة الشهيرة عن الفقهاء من الذين يذكرون بأنّ عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل، مقصودهم قبل انكشاف الحال، العامي عندما يعمل عملاً، يصلي، يصوم .....الخ. من دون تقليد ولا احتياط، يعني جاء بعمل لا يعلم أنّه مطابق للواقع. قالوا أنّ هذا العمل محكوم بالبطلان، لكن لا بمعنى أنّه محكوم بالبطلان مطلقاً حتى إذا أنكشف مطابقته للواقع، وإنّما المقصود هو أن يحكم ببطلانه ظاهراً قبل انكشاف الحال، بمعنى أنّه لا يكون مجزياً؛ لأنّه لا يعلم بأنّه يُفرغ الذمّة عما اشتغلت به يقيناً، فالعقل يقول أنّ هذا غير مجزئ ظاهراً ما دام لم ينكشف الحال.
فإذاً: قبل انكشاف الحال لا ينبغي النزاع في البطلان بهذا المعنى، وإنّما الكلام يقع في ما إذا انكشف الحال وتبيّن الواقع؛ فحينئذٍ يقع الكلام في أنّه هل يُحكم بصحة الفعل، أو لا ؟
السيد الخوئي(قدّس سرّه) هنا ذكر بأنّ الصور المتصورة في المقام أربعة، وذكر هذه الصور وذكر ما هو الحكم في كل واحدة منها: [1]
الصورة الأولى: هي صورة ما إذا انكشف مخالفة العمل ـــــــ الذي صدر منه في حال الجهل عندما ترك الفحص ـــــــ للواقع مطلقاً، بمعنى أنّه مخالف للواقع بحسب فتوى ــــــ نتكلم عن العامي ــــــ من يجب عليه تقليده فعلاً، وكذلك بحسب فتوى من كان يجب عليه تقليده حين صدور العمل منه. مع افتراض التعدد، بأنّ نفترض أنّه عندما صدر منه العمل كان يجب عليه تقليد(زيدٍ) لكن بعد ذلك وجب عليه تقليد شخص آخر فعلاً، هنا نفترض أنّ الفعل الصادر منه تبيّن مخالفته للواقع حسب فتوى كلٍ منهما. في هذه الحالة ذكر أنّه لا ينبغي الإشكال في الحكم ببطلان هذا العمل، لكونه مخالفاً للواقع حسب كلتا الحجتين؛ بل لا وجه حينئذٍ للحكم بصحة العمل بعد انكشاف مخالفته للواقع بحسب كلتا الحجتين.
الصورة الثانية: أن نفترض العكس، يعني انكشاف مطابقة العمل للواقع بحسب كلتا الحجتين، هنا لا ينبغي الإشكال في الحكم بصحة العمل؛ لأنه عمل مطابق للواقع بحسب كلتا الحجتين، فلا وجه للتردد والتوقف في الحكم بصحة ذلك العمل.
الصورة الثالثة: أن يُفترض انكشاف مطابقة العمل للواقع لكن بحسب أحدى الحجتين لا بحسب كلٍ منهما، هنا يُفرض في هذه الصورة أنّه مطابق للواقع بحسب فتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل، لكن بحسب الحجة الفعلية، من يجب الرجوع إليه الآن، هذا يرى أنّ عمله الصادر سابقاً هو عمل مخالف للواقع. هنا استظهر البطلان وقال الظاهر أنه يُحكم ببطلان هذا العمل، باعتبار أنه مخالف للحجة الفعلية، من يجب عليه تقليده فعلاً يقول له يجب عليك القضاء والإعادة؛ لأنه يرى أنّ العمل الصادر منه عمل مخالف للواقع بحسب فتواه؛ فحينئذٍ يُحكم ببطلانه، فيجب عليه القضاء أو الإعادة. وأما مجرّد أنّ عمله موافق لفتوى ذلك المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده والمفروض أنّه لم يقلده، هذا غير كافٍ لإثبات صحة العمل؛ لأنّ تلك الحجّة الفعلية زالت وخرجت عن كونها حجة فعلية، ولو باعتبار صيرورة المجتهد الثاني أعلم من الأول، فتسقط فتواه عن الاعتبار، والمفروض في محل الكلام أنّ هذا العامّي لم يستند إليها حين صدور العمل، لو كان العامّي حين صدور العمل استند إلى الفتوى السابقة هنا يمكن تصحيح العمل باعتبار أنّه عمل استند إلى ما هو حجة في حقه في وقته، لكن المفروض في محل كلامنا عدم الاستناد؛ لأنه جاهل أصلاً وتارك للتقليد، والمفروض في محل الكلام أنه لم يستند عندما صدر منه العمل إلى فتوى المجتهد السابق، وإنما الموجود فقط هو الموافقة، أنّ عمله السابق وافق رأي المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده، هو يرى أنّ هذه الموافقة وحدها لا تكفي؛ بل إنّما تكفي مع فرض الاستناد. ما ذكره هو أنّه لا يوجد مقتضٍ للحكم بصحة العمل في هذا الفرض؛ لأنّ المقتضي لصحة العمل هو إمّا أدلة خاصة تدل على عدم الإعادة من قبيل(لا تعاد) والتمسك بحديث (لا تعاد) في المقام مبني على افتراض عدم اختصاص الحديث بالناسي؛ لأنّه يحتمل اختصاص الحديث بالناسي؛ حينئذٍ لا يجوز الاستدلال به في المقام لإثبات صحة العمل السابق؛ لأنّها تختص بالناسي ونحن نتكلم في الجاهل. بناءً على عدم اختصاصها بالناسي وتعميمها للجاهل كما هو يرى أيضاً، لكنه يرى عدم شمولها للجاهل المقصر، والمفروض في محل كلامنا أنّ الجاهل مقصر؛ لأنّه تارك للفحص والتعلم عمداً، فيكون جاهلاً مقصراً لا قاصراً، والمفروض أنّ حديث(لا تعاد) لا يشمل الجاهل المقصر وإنما يختص بالجاهل القاصر، فلا يجري الحديث في المقام، فلا يمكن إثبات الصحة وعدم وجوب الإعادة استناداً إليه. وإمّا أن يكون المقتضي للصحة هو قاعدة الإجزاء في باب الأوامر الظاهرية، إنّ الأوامر الظاهرية إذا امتثلها المكلف فأنها تجزي عن الواقع. هنا أيضاً يقول بأنّ القاعدة في المقام لا تجري باعتبار أنّ القاعدة إنما تجري عندما يُفترض أنّ المكلف الذي صدر منه العمل إذا استند في عمله إلى ذلك الأمر الظاهري، يعني جاء بالعمل امتثالاً للأمر الظاهري؛ حينئذٍ يقال بأنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري يجزي ويغني عن الأمر الواقعي، لكن المفروض في محل كلامنا أنه لا يوجد استناد، فهو تارك للفحص وجاهل بالحكم الظاهري، فهو لم يستند في عمله إلى الحكم الظاهري، وفي مثله لا تجري قاعدة الإجزاء. إذاً: لا مقتضي للحكم بالصحة وعدم الإعادة.
ما ذكرناه نحن يختلف عن هذا، نحن قلنا أنّ التعليل يكون باعتبار أنّ الحجّة الفعلية تأمره بالقضاء وعدم الاكتفاء بذلك العمل؛ لأنّ المفروض أنّ العمل مخالف للواقع بحسب فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده فعلاً، هذا يقول له يجب عليك القضاء، أو الإعادة، العمل الذي صدر منك سابقاً غير مطابق للواقع، يبقى مجرّد أنّ العمل الذي صدر منه سابقاً كان موافقاً لفتوى من كان يجب عليه تقليده سابقاً. قلنا بأنّهم يقولون أنّ هذا إنما يكون في حالة الاستناد، يعني إذا استند في عمله إلى من يجب عليه تقليده سابقاً، ثمّ اختل شرط من شرائط التقليد، في هذه الحالة حينئذٍ يقولون أنّ العمل عندما صدر، صدر عن حجّة واستند فيه المكلّف إلى حجّة، فيحكم بصحته. هذا الشيء غير موجود في محل الكلام؛ لأنّ المفروض عدم الاستناد وإنما هناك مجرّد مطابقة، العمل الذي صدر منه يطابق فتوى من كان يجب عليه تقليده سابقاً، وهذه المطابقة بحسب رأيه لا تكفي لإثبات صحة العمل.
الصورة الرابعة: نفس الصورة الثالثة، لكن مع الاختلاف في مطابقة العمل للواقع بحسب فتوى من يجب عليه تقليده سابقاً، هنا أيضاً نفترض انكشاف مطابقة العمل للواقع، لكن بحسب فتوى المجتهد الفعلي، لكن بحسب فتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده سابقاً وهو لم يقلده بحسب الفرض، فأنّه يرى بأنّ العمل مخالف للواقع، في هذه الحالة حكم بصحة الفعل، باعتبار أنّ الحجّة الفعلية قامت على صحة العمل، فبإمكانه أن يقلّد هذه الحجّة الفعلية ويتبع هذه الحجّة الفعلية لإثبات عدم القضاء، لنفترض أنّ الحجّة السابقة كان يقول له عملك باطل ويجب عليك القضاء، لكن حجية قول ذاك المجتهد سقطت بحسب الفرض؛ لأنّه فعلاً هو يجب عليه تقليد مجتهد آخر؛ لأنه صار أعلم من ذاك، فبإمكانه أن يرجع إلى المجتهد الذي يجب عليه تقليده فعلاً ويقلده في مسألة عدم وجوب القضاء لذلك الفعل الذي صدر عنه سابقاً. وهذا هو معنى صحة العمل الذي صدر عنه