38/02/01
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
38/02/01
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: مسألة(26) الغش - المكاسب المحرمة.
والشيء المهم في كلامه هو أنَّ الغش بعنوانه ليس بحرام.
ونحن نسأله ونقول:- لماذا نفس الغش ليس بحرام ؟ أما أن الحرام مثلاً هو شيء آخر كالكذب أو تسمّيه تصرّف في مال الغير من دون إذنه فإنّ هذا ليس بمهم ، والمهم هو أنه لماذا الغش بعنوانه ليس بحرام ؟
قلنا:- قد تمسّك لذلك بوجهين :-
الأوّل:- إنَّ ظاهر النصوص ذلك ، وهو لم يعبّر بظاهر النصوص بل قال المنساق من النصوص - فمنصرف النصوص والتبادر والظاهر كل هذه التعابير المقصود منها في كلام الفقيه واحد فالمنساق من النصوص يعني المستفاد وظاهرها والمفهوم منها هو أن الحرام شيء آخر لا نفس الغش - ، وهذه دعوى فقط.
الثاني:- برهان السبر والتأمّل ، وحاصله:- إنه إذا كان عنوان الغش هو الحرام فعلى ماذا ينطبق ؟ فهل المقصود أنّ نفس شوب اللبن بالماء حرام ؟ يعني بائعة اللبن تضيف الماء على اللبن في بيتها فهل هذا هو الحرام ؟ إنَّ هذا لا تحتمل حرمته ، فأنت في بيتك تضع الماء على اللبن أو هي تريد أن تصنع ذلك فإنّ هذا ليس بحرام ولا يحتمل فقيه أنَ نفس إراقة الماء على اللبن هو بنفسه حرام ، فهذا لا يحتمل أنه هو الحرام ، فإذا كان الغش هو هذا فهذا لا يحتمل حرمته.
وإذا كان الغش الذي يدّعى أنه حرام هو مجرّد عرضه للبيع فتأتي باللبن الذي خلط بالماء وتعرضه للبيع بغضّ النظر عن مجيء المشتري أو عدم مجيئه وهل يحتمل أنَّ هذا حرام ؟! إنَّ هذا لا يحتمل فقيه حرمته أيضاً.
يبقى احتمال ثالث:- وهو أن نقول إنَّ إنشاء البيع هو الحرام على هذا اللبن المشوب بالماء . وهذا أيضاً ليس بحرامٍ فإنه لو فرضنا أنها لم تأخذ الثمن حيث قالت أنا أبيعه لك ولكن أبرئ ذمتك عن الثمن فهل فعلت حراماً ؟ كلا لم تفعل حراماً ، أو فرضنا أنها أخذت نصف الثمن أو ما شاكل ذلك ، فنفس إنشاء البيع لا يحتمل أنه حرام ، فالغش في البيع لا يمكن أن نقول هو الحرام لأنّ محتملات الحرمة ثلاثة وكلّها لا يحتمل حرمتها.
فإذن لا يمكن أن نقول إنَّ نفس الغش حرام لأنه لا يوجد شيء يمكن أن ينطبق عليه الغش الحرام ، من هنا يتعيّن أن نقول المحرّم هو شيءٌ آخر ، أما ما هو ذلك الشيء الآخر ؟ فهذا ليس بمهم ، وهو(قده) قال هو عنوان الكذب أو التصرّف في الثمن من دون رضا صاحبه لأنَّ المشتري قد دفع الثمن في مقابل اللبن الخالص لا أنه يحصل مقابله على لبنٍ مغشوش فهذا تصرُّف من دون رضا صاحبه.
ثم قال:- وإذا ثبت أنَّ أخذ الثمن - وهذه كلمة ليست مهمة ولكن لا بأس بها - لا يجوز لأنه تصرف في مال الغير من دون رضا صاحبه فسوف يثبت أنَّ هذا العمل ليس محرّماً - وهو الغش - كما أشرنا وإنما هو فاسد وضعاً والروايات تريد أن تشير إلى الحرمة الوضعية بمعنى الفساد لا بمعنى الحرمة التكليفية ، لأنَّ حرمة التصرف في الثمن من شؤون فساد المعاملة وليس من شؤون حرمة المعاملة ، فإنَّ المعاملة إذا كانت في ذاتها حراماً ولم تكن فاسدة فالتصرف في الثمن لا مشكلة فيه ، إنما التصرّف في الثمن يصير حراماً من جهة أنها لابدّ وأن تكون فاسدة ، فمادام يحرم التصرّف في الثمن فهذا يكشف عن فساد المعاملة ، فالروايات التي حرّمت الغش ترشد إلى الفساد الوضعي ولا تبيّن الحرمة التكليفية ، فالغش بنفسه ليس بحرام ، نعم الحرام هو شيءٌ آخر وهو الكذب أو التصرّف في مال الغير من دون رضا صاحبه.
وأكرّر وأقول:- إنَّ الأساس والمهم في كلامه والعمود الفقري فيه هو أنه لا يمكن أن نلتزم بحرمة الغش تكليفاً لبرهان السبر والتأمل.
ويردّه:- نحن نسلّم إنَّ ما أفاده من أنَّ محتملات الحرمة ثلاثة وكلّها باطلة ، ولكن يوجد احتمال رابع لم يذكره وهو أنَّ يكون المحرّم هو إنشاء المعاملة بشرط التسليم والقبض لا الانشاء وحده كما قال حتى يقول لا يحتمل حرمته ، بل هذا احتمالٌ لم يأتِ إلى ذهنه ولو كان في ذهنه فلا أقل أن يذكره ثم يردّه ، بل دع المجموع هو المحرّم ، كما هو الحال في البيوع المحرّمة تكليفاً مثل بيع الخمر ، فالخمر نقول محرّمٌ بيعه تكليفاً ، وما هو المقصود من حرمة بيعه تكليفاً فهل هو نفس الانشاء ؟ كلا ، فإنَّ الانشاء من دون أن يعطيه الخمر ليس بحرام ، وإنما الحرام هو الانشاء المقترن أو المشروط بحصول التسليم بعد ذلك ، فهنا إذا اجتمع هذان المطلبان تثبت الحرمة ، وهنا أيضاً نقول إنَّ الغش حرام بمعنى إنشاء البيع على الشيء المغشوش بإضافة التسليم والتسلّم ومن دون تقليل الثمن ولا التنازل عنه فهذا يكون محرّماً تكليفاً ، ولنلتزم بهذا فإنه لا مشكلة فيه.
هذا مضافاً إلى أنَّ سلب الحرمة عن الغش وإثباتها لغيره وهو الكذب مثلاًً أو التصرّف من دون إذنه مخالف لظاهر الروايات ، فإنَّ الروايات نهت عن الغش وحمل هذا على خلاف ظاهره يحتاج إلى قرنة ودليل ، إلا اللهم أن يتمسّك ببعض الروايات من قبيل صحيحة الحلبي المتقدّمة:- ( سألته عن ارجل يكون عنده لونان من طعام واحد سعرهما شتى[1] وأحدهما أجود من الأخر فيخلطهما جميعاً ثم يبيعهما ، فقال:- لا يصحّ له أن يغش المسلمين حتى يبينه ) ، فلعله يستشهد بهذه الرواية فإن الغش إذا كان حراماً فالبيان وعدم البيان لا داعي إليه ، مثل الخمر فإنه إذا كان بيعه حرام فبيان أن هذا خمر لا يصيّره حلالاً ، فالغش إذا كان بنفسه حرام فالبيان لا مدخلية له ، فعلى هذا الأساس لعلّ بعض الروايات تساعد على هذا المعنى - يعني أنَّ الغش بعنوانه ليس بحرام - وإلا كان المناسب أن يكون البيان وعدم اللبيان لا مدخلية له فإنَّ حرمة الشيء لا ترتفع بالبيان ، فعلّه يتمسّك بهذه الرواية وما شاكلها بهذا الشكل.
والجواب:- لعلّه توجد خصوصيّة في المورد، ففي باب الخمر نسلّم أن البيان لا دخلية له فإنَّ الخمر خمرٌ ولا يتغيّر بالبيان ، وهذا بخلافه في الغش فإنه في البيان يرتفع عنوان وموضوع الغش ، فعلى هذا الأساس ما أفاده مخالف لظاهر الروايات ، خصوصاً مثل صحيحة هشام بن الحكم التي تمسكنا بها حيث جاء فيهاك- ( كنت أبيع السابري في الظلال فمرّ بي أبي الحسن الأوّل عليه السلام موسى عليه السلام فقال لي:- يا هشام إنَّ البيع في الظلال غشٌّ والغش لا يحلّ ) ، فالغش هو نفسه عنوانٌ ، أي متى ما صدق الغشُّ فلا يحلّ ، فرفعك اليد عن هذا الظاهر لا وجه له.
مضافاً إلى أنه ذكر أنه حرام من باب الكذب ، ونحن نقول:- أنَّ الكذب لا يصدق اللفظي منه كما قلنا ، فأيُّ كذبٍ لفظيٍّ موجود ؟! فإنَّ البائع لا يقول إنَّ هذا ليس بمغشوش ، فإن قال هو ليس بمغشوش فهذا كذب ، أما إذا فرض أنه لم يقل له هذا ليس بمغشوش بل قال له هذا لبنٌ ولم يتكلم بأكثر من ذلك فحينئذٍ لا يصدق الكذب ، فلابدّ - كما قلنا - أنه يقصد من ذلك الكذب العملي ، ونحن نعلّق ونقول:- إنَّ الكذب العملي ليس بحرام بل المحرّم هو الكذب اللفظي ، فالكذب العملي ليس بحرام كما لو جاءني شخص وقدمت له زاداً أخذته من بيته وهو لا يعلم ويعتقد أنه من بيتي فهذا حرام قطعاً ولكن هل هو حرام من باب الكذب العملي ؟! كلا هو ليس بحرام من باب الكذب العملي[2] .
فإذن الكذب اللفظي ليس بصادق والكذب العملي ليس بمحرّم.
النقط الثانية:- ما هو موضوع الغش ؟
الغش من المفاهيم العرفية وموضوع عرفي ، وحينما يدخل الفقيه لتحقيقه وبيان مفهومه وتوضيحه يدخل بما هو إنسان عرفي ، وأحياناً بعض المفاهيم العرفيّة هي واضحة في الجملة لكن تقديم ضابط لها جامع مانع قد يكون صعباً ، ولعلَّ من هذا القبيل مفهوم الغش ، فتقديم ضابط جامع له قد يصعب ، ولعلَّ الأولى في مثل هكذا موارد الإحالة على العرف كما صنع السيد الماتن(قده) ، فهو في عبارة المتن بيّن مناشئ للغش وهي جيّدة ولكن لم يقل لا يتحقّق الغش في غير هذه الموارد ، ونعم ما صنع .
أما الشيخ الأعظم(قده) فحاول أن يحدّد الغش حيث قال:- ( والذي يظهر من ملاحظة العرف واللغة في معنى الغش أنَّ كتمان العيب الخفي - وهو الذي لا يظهر بمجرد الاختبار المتعارف قبل البيع - غش فإنَّ الغش كما يظهر من اللغة خلاف النصح )[3] ، فإذن هو عرّفه بهذا الشكل وهو كتمان العيب الخفي فأخذ هذا الضابط.
وهل الضابط هو مجرّد كتمان العيب الخفي يكون غشاً ، فلو فرض أنَّ البائع قال للمشتري أبيع لك هذا الموجود كما لو أتى مشترٍ يريد أن يشتري بيتي وأساس بيتي ضعيف وبناءه ليس بالشكل الجيد وجاره مؤذي وغير ذلك فقلت له أنا أبيعك هذا البيت الموجود أمامك ولم أخبره بشيءٍ فهنا يصدق كتمان العيب الخفي ولكن هذا ليس بغش ، وهكذا الحال في السلعة منتهية الصلاحية فيجوز له أن يبيعها في حالة أن يقول للمشتري أنا أبيعك هذا الموجود فإن أردته فخذه وإن لم ترده فلا تأخذه ولا يقول له إنه سالم أو منتهي الصلاحية وإنما يقول له أنا أبيعك هذا الموجود فلا مشكلة هنا ولا صدق الغش حينئذٍ ، فالشيخ الأنصاري(قده) عرّف هذا التعريف وهو تعريفٌ ليس بضابط والأفضل الإحالة على العرف.