35/06/09
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
الكلام في الجهّة الثانية: الكلام يقع في مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول في بعض الأطراف، بعد الفراغ عن اقتضاء العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية، وإلاّ إذا لم يقتضي العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية، فلا تصل النوبة إلى الكلام عن الجهة الثانية؛ إذا لا إشكال أنّ العلم الإجمالي حينئذٍ لا يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف.
بعبارة أخرى: أنّ البحث في الجهة الثانية يقع في أنّ الاقتضاء الثابت في الجهة الأولى الذي فرغنا عنه، أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية في مقابل عدم الاقتضاء أصلاً. الكلام هنا يقع في أنّ هذا الاقتضاء هل هو بنحو العلّية على نحوٍ يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف، أو ليس على نحو العلّية، فلا يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف ؟ هل هو على نحو العلّية، أو على نحو الاقتضاء ؟ الكلام في هذه الجهة .
هنا اختلفوا أيضاً في أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، أو هو مقتضٍ فقط؟ والمقصود بالاقتضاء في المقام هو التعليق، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية لكن على نحوٍ معلّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ولا يكون منافياً لأيّ شيءٍ، لا للعلم الإجمالي ولا لحكم العقل؛ لأنّها كلّها تعليقية، العلم الإجمالي فيه اقتضاء وجوب الموافقة القطعية وهو معنى التعليق كما قلنا. القائلون بالاقتضاء في الجهة الأولى اختلفوا، هناك رأي يقول بأنّه مقتضٍ فقط لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة، الرأي الآخر يقول أنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، الظاهر من المحقق النائيني(قدّس سرّه) في بعض كلماته هو القول بعدم العلّية، العلم الإجمالي فقط مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية،[1] فلا مانع من الترخيص في بعض الأطراف إذا تمّت شرائطه، وظاهر السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّه تابعه في ذلك، في حين ذهب المحقق العراقي(قدّس سرّه) إلى وجوب الموافقة القطعية[2] وهو الظاهر من كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في بعض عباراته كما سيأتي.[3]
المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي يقول بالاقتضاء لا بالعلّية ذكر عبارة يُفهم منها أنّه في مقام بيان ما يترتّب على القول بالاقتضاء. وبعبارة أخرى: كأنّه في مقام بيان ثمرةٍ لهذا النزاع، هل هو على نحو العلّية، أو لا ؟ ذكر ثمرة لهذا النزاع، قال:(أنّه لو كان في بعض أطراف العلم الإجمالي أصل أو إمارة بلا معارض، لأوجب انحلال العلم، أو عدم تأثيره من أوّل الأمر فأنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقّف على تحقق العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير وعدم انحلاله).[4] يقول هذا الأصل والإمارة يجري في ذاك الطرف؛ لأنّه لا معارض له من الطرف الآخر بحسب الفرض، وبالتالي يكون جريان الأصل في ذاك الطرف موجباً لانحلال العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما يتنجّز ويؤثر أثره إذا كان موجباً للعلم بالتكليف على كل تقدير، أمّا إذا لم يكن كذلك، بأن فرضنا أنّه على أحد التقديرين لا يوجد تكليف، وإنّما التكليف على التقدير الآخر، يقول: مثل هذا العلم الإجمالي ينحلّ ولو حكماً، وذكر أمثلة لذلك، يقول: لو فرضنا أنّ أحد الطرفين كان خارجاً عن محل الابتلاء؛ حينئذٍ الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء يجري بلا معارض؛ لأن الطرف الخارج عن محل الابتلاء لا يجري فيه الأصل، لا معنى لجريان الأصل والتأمين في طرفٍ خارج عن محل الابتلاء، فيجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء، أو كان في بعض الأطراف منجّز للتكليف كما إذا كانت الحالة السابقة لأحد الطرفين هي النجاسة، فجرى فيه استصحاب النجاسة، في هذه الحالة يقول: لا مانع من جريان الأصل المؤمن في الطرف الآخر؛ لأنّ هذا الأصل ليس له معارض.
على كل حال، يقول: عندما يُفترض إمكان جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض يجري هذا الأصل، ولا مانع من جريانه، ويجري آثار جريان الأصل في أحد الطرفين من الانحلال وغيره.
هذه الثمرة التي أشار إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) تُبيّن بهذا الشكل: إن قلنا بالاقتضاء في محل الكلام، فلا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض، ولا مشكلة فيه، يجري في هذا الطرف؛ لأنّه ليس له معارض؛ لأننا نقول بالاقتضاء بحسب الفرض، ومعنى الاقتضاء هو أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، لكن إذا ورد الترخيص وكانت شرائط جريان الأصل والترخيص تامّة في طرف، فلا مانع من جريانه، الاقتضاء لا يمنع من جريان الأصل في أحد الأطراف إذا تمّت شرائطه، ومن جملة شرائط جريان الأصل هو عدم وجود المعارض، فإذا افترضنا عدم وجود المعارض لا مانع من جريان الأصل في هذا الطرف، أمّا إذا قلنا بالعلّية التامّة، فلا يجري الأصل في ذاك الطرف حتّى إذا لم يكن له معارض؛ لأنّ هذا معنى أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية على نحو العلّية التامّة؛ لأنّه حينئذٍ يمنع من جريان الأصل حتّى في طرفٍ واحد، فتظهر الثمرة هنا، إن قلنا بالعلّية التامّة لا يجري الأصل في هذا الطرف الداخل في محل الابتلاء في مثال خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، أمّا إذا قلنا بالعلّية التامّة؛ فحينئذٍ لا يجري الأصل.
هذه الثمرة هل هي ثمرة للبحث الأوّل، أو للبحث الثاني ؟ هل هي ثمرة للبحث الأوّل، يعني للخلاف في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ؟ أو هي ثمرة للبحث الثاني، أي الخلاف في أنّه على نحو العلّية، أو ليس على نحو العلّية ؟ الظاهر أنّها ثمرة للبحث الثاني، بمعنى أنّ هذه الثمرة لا تترتب على الخلاف السابق؛ لأنّه في الخلاف السابق على كلا التقديرين بقطع النظر عن الخلاف الثاني لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض، أمّا على عدم الاقتضاء فواضح، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي أصلاً لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، فيمكن جريان الأصل في هذا الطرف إذا لم يكن له معارض. وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء لا على نحو العلّية، فأيضاً حينئذٍ نلتزم بجريان الأصل في ذلك الطرف إذا لم يكن له معارض؛ لأنّ القول بالاقتضاء لا يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف إذا تمّت شرائطه؛ بل هو معنى الاقتضاء أنّه لا مانع من جريان الأصل في بعض الأطراف، فإذن: على كلا التقديرين الأصل يجري في الطرف الداخل في محل الابتلاء إذا لم يكن له معارض، فلا يكون هذا ثمرة للبحث السابق، وإنّما يكون ثمرة لهذا البحث، يكون ثمرة للبحث أنّ الاقتضاء هل هو بنحو العلّية، أو لا؟ فإن كان بنحو العلّية، فهو يمنع من جريان الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء، وإلاّ فهو لا يمنع من جريان الأصل في ذلك الطرف، فيكون ثمرة للبحث الثاني.
الذي أريد أن أقوله هو: أنّ الذي يظهر من كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) لأنّه هناك خلاف في أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ماذا يريد أن يقول ؟ هل هو ينكر الاقتضاء كما تقدّم احتماله في البحث الأوّل وذكر بعض العبارات الظاهرة في أنّه يرى عدم الاقتضاء أصلاً ؟ أو أنّه يقول بالاقتضاء لكن لا على نحو العلّية ؟ ترتيب هذه الثمرة، الظاهر أنّه يقول بالاقتضاء لكن لا على نحو العلّية؛ ولذا جعل هذه ثمرة، إن قلنا بالاقتضاء يجري الأصل، وإلاّ، يعني إن قلنا بالعلّية التامّة؛ فحينئذٍ لا يجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء، كلماته مضطربة يمكن أن يُجعل هذا قرينة على أنّ مقصوده هو القول بالاقتضاء لا أنّه ينكر الاقتضاء أصلاً؛ لأنّ إنكار الاقتضاء في مقابل القول بالاقتضاء لا تترتب عليه هذه الثمرة، وإنّما هذه الثمرة تترتب على القول بالاقتضاء في مقابل العلّية؛ ولذا هو رتّب هذه الثمرة بعد أن ذكر المطلب قال: يظهر ممّا تقدّم أنّه لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض في مقابل القول بالعلّية التامة الذي يعني أننا نمنع من جريان الأصل حتّى إذا لم يكن له معارض.
هناك عبارة للمحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكر فيها هذه العبارة:(ومنه يظهر فساد القول بكون نفس العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فأنّك قد عرفت عدم ترتّبه عليه بنفسه، فكيف يُعقل كونه علّة له؛ بل ليس فيه اقتضاء لثبوته أيضاً إلاّ معنى كونه من أجزاء علّته).[5] لعلّ ــــــــــــ هذه في الطرف المقابل ــــــــــــ نسبة القول بالاقتضاء إليه لعلّها ناشئة من هذه، بمعنى أنّه بالنتيجة يقول أنّ العلم الإجمالي يقتضي، يعني نفترض أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول بعدم الاقتضاء، لكن بالنتيجة هو يقول بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولو باعتباره أحد أجزاء علّة وجوب الموافقة القطعية، باعتبار أنّ وجوب الموافقة القطعية كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) يثبت عندما يكون هناك علم إجمالي بضميمة حرمة المخالفة القطعية، هذا يوجب تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، فيتنجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الاحتمال في كل طرفٍ يبقى بلا مؤمّن، فيتنجّز في هذا الطرف وفي هذا الطرف. إذن: العلم الإجمالي ساهم في صنع وجوب الموافقة القطعية، هذا معنى أنّ العلم الإجمالي يقع أحد أجزاء علّة وجوب الموافقة القطعية، فقد يُنسب إليه الاقتضاء بهذا المعنى، وإلاّ عبارته التي نقلناها سابقاً هي ظاهرة في أنّه يقول بعدم الاقتضاء، ترتيب الثمرة هنا، إذا فرضنا أنّه ناظر إلى ترتيب الثمرة على النزاع بينه وبين الطرف المقابل، ظاهر في أنّه يقول بالاقتضاء؛ لأننّا قلنا أنّ هذه الثمرة إنّما تترتب على القول بالاقتضاء في مقابل العلّية لا على القول بالاقتضاء في مقابل نفي الاقتضاء، فعلى القول بالاقتضاء في مقابل نفي الاقتضاء لا تترتّب هذه الثمرة، فتبقى عبارته مضطربة، يعني هل ننسب إليه القول بالاقتضاء في المقام ؟ أو ننسب إليه القول بعدم الاقتضاء في محل الكلام ؟
على كل حال، لنفترض أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول بالاقتضاء في مقابل العلّية في محل كلامنا، ما هو دليله على ذلك ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) عندما نفترض أنّه يقول بالاقتضاء في محل الكلام، ما هو دليله على ذلك ؟ يبدو أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) لم يذكر دليلاً واضحاً على القول بالاقتضاء، لكنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكر شيئاً يمكن أن يستفاد منه أنّه هو الدليل على الاقتضاء في مقابل العلّية، الذي ذكره هنا في محل الكلام وفي مباحث القطع هو : أنّه يدّعي أنّه يقول بأنّ هناك من ادّعى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، وأنّ العلم الإجمالي إمّا أن يكون علّة تامّة لهما معاً، وإمّا أن لا يكون علّة تامّة لهما معاً،[6] وهذا يعني أننّا إذا قلنا بالعلّية التامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، فلابدّ أن نقول بها بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، هو قال هذه الدعوى التي ادّعاها البعض ليس عليها شاهد؛ بل بالإمكان أن نفرّق بين حرمة المخالفة القطعية وبين وجوب الموافقة القطعية، فنلتزم بالعلّية التامّة هناك ولا نلتزم بالعلّية التامّة في محل الكلام، وذلك لأنّ الترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال، بخلاف الترخيص في بعض الأطراف، فأنّه لا يضاد التكليف المعلوم بالإجمال ومن هنا كان العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعية بينما ليس علّة في محل الكلام لوجوب الموافقة القطعية؛ لماذا الترخيص في بعض الأطراف ليس فيه محذور، لا يوجد مانع يمنع منه، ذكر بأنّ مرجع الترخيص في بعض الأطراف إلى الاكتفاء عن الواقع بترك الطرف الآخر، أو فعله، في الشبهة التحريمية كأنّ الشارع يكتفي في ترك الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال بترك أحد الطرفين ويأذن بارتكاب الطرف الآخر، في الشبهة الوجوبية هو يأذن بترك أحد الطرفين وفعل الآخر؛ لأنّه يكتفي عن الواجب الواقعي المعلوم بالإجمال بأحد الطرفين ويأذن بترك الطرف الآخر في الشبهة الوجوبية، أو يأّذن في فعل الطرف الآخر في الشبهة التحريمية؛ بل يقول بعبارةٍ صريحة بأنّ الشارع عندما يأذن ويرخّص في أحد الطرفين هذا معناه أنّه اكتفى بالإطاعة الاحتمالية والاكتفاء عن الواقع بترك أحد الطرفين، وهذا مرجعه إلى جعل البدل كما يصرّح به أيضاً، الشارع يجعل هذا الطرف بدلاً عن الواقع ويأذن في ارتكاب الطرف الآخر؛ لأنّه جعل هذا الطرف بدلاً عن الحرام الواقعي، وعندما يجعل الشارع هذا الطرف بدلاً عن الحرام الواقعي؛ حينئذٍ يأذن ويرخّص في ارتكاب الطرف الآخر، ويقول: بأنّ هذا ليس عجيباً أن يجعل الشارع أحد الطرفين بدلاً عن الواقع؛ لأنّ مرجع ذلك إلى تجويز الشارع المخالفة الاحتمالية وهذا لا ضير ولا مشكلة فيه؛ بل هذا موجود حتّى في موارد العلم التفصيلي، فضلاً عن موارد العلم الإجمالي، في العلم التفصيلي أيضاً قد يكتفي الشارع بالموافقة الاحتمالية ويُرخّص بالمخالفة الاحتمالية، ثمّ يذكر أمثلة لذلك، يقول كالأصول الجارية في وادي الفراغ ـــــــــــــ كما يُسمّيه ــــــــــــ كقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز،[7] اكتفاء بالموافقة الاحتمالية في مورد العلم التفصيلي، علم تفصيلي بتوجّه التكليف إليه ووجوب الصلاة عليه، لكنّ الشارع يكتفي بالموافقة الاحتمالية ويجوّز المخالفة الاحتمالية، يقول هذا موجود في العلم التفصيلي فما ظنّك بالعلم الإجمالي الذي هو بالنتيجة لم ينكشف الواقع فيه انكشافاً تامّاً كما هو الحال في العلم التفصيلي، فلا مشكلة في أن يجوّز الشارع المخالفة الاحتمالية ويذكر بأنّ مرجع ذلك إلى جعل البدل، يعني الشارع عندما يجوّز ويرخّص في أحد الطرفين، فهذا معناه أنّه اكتفى عن الواقع بالطرف الآخر، فيجعل الطرف الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي، أو عن الواجب الواقعي المعلوم بالإجمال، فيُرخّص في أحد الطرفين، ولا توجد أيّ مشكلة في ذلك، ويُلتزم بهذا المقدار.
نعم، لا داعي لإثبات البدلية والاكتفاء عن الواقع بأحد الطرفين ولا نحتاج إلى نصّ خاصٍ عن البدلية، وإنّما إذن الشارع في أحد الطرفين يستلزم الاكتفاء بالطرف الآخر عن الواقع، يستلزم جعل الآخر بدلاً عن الواقع هو بنفسه، بلا حاجة إلى نصٍّ خاص يدل على البدلية. نعم، ذكر في بعض كلماته بأنّ الترخيص لابدّ أن يثبت بنصٍ خاص، ولا يكفي لإثبات البدلية به أن يثبت بعمومات(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام)، أو (لا تنقض اليقين بالشك)، أو(رُفع ما لا يعلمون)[8] هذا لا يكفي لإثبات البدلية، وإنّما الترخيص لابدّ أن يثبت بنصًّ خاصٍ يرد في المسألة، عندما يكون هناك نصٌّ خاصّ يدلّ على الترخيص في هذا الطرف، نستكشف منه أنّ الشارع اكتفى عن الواقع بالطرف الآخر، يعني جعله بدلاً، أمّا إذا كان الدليل على الترخيص ليس نصّاً خاصّاً، وإنّما هو عبارة عن هذه العمومات، يقول هذه لا تكفي لإثبات البدلية. بالنتيجة يبدو منه أنّه يستدل على جواز الترخيص في بعض الأطراف، وبالتالي القول بالاقتضاء لا العلّية، يستدل على ذلك بأنّه لا مانع من جعل الترخيص من قِبل الشارع ـــــــــــ ولو بالنص الخاص ــــــــــــ في بعض الأطراف؛ لأنّ مرجع ذلك إلى اكتفاء الشارع عن الواقع بأحد الطرفين، وهذا لا مشكلة فيه، الشارع هو اكتفى عن الواقع بهذا الطرف؛ فحينئذٍ يجوز للمكلّف أن يرتكب الطرف الآخر ويمكن افتراض الترخيص في الطرف الآخر. هذا ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) في المقام كدليلٍ على الاقتضاء في مقابل العلّية.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) أيضاً ذكر كلاماً لا يُفهم منه الاستدلال على القول بالاقتضاء في مقابل القول بالعلّية، لكن يُفهم منه أنّه يختار القول بالاقتضاء في مقابل العلّية؛ لأنّه ذكر في هذا المقام أنّ هناك خلافاً بينهم في أنّ اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية هل هو بنحو العلّية، أو لا ؟ وذكر أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وبعض الأساطين ذهبوا إلى العلّية، ثمّ استعرض أدلّتهم على القول بالعلّية، فذكر دليلين للقول بالعلّية وناقشها وكأنّه انتهى إلى الاقتضاء، وكأنّه يكفي في إثبات الاقتضاء رد الأدلّة التي يستدل بها القائل بالعلّية، ولا يظهر في كلماته الاستدلال على القول بالاقتضاء في مقابل القول بالعلّية بقطع النظر عن رد أدلّة الطرف المقابل، فردّ أدلة الطرف المقابل وكأنّه انتهى إلى الاقتضاء.
هذا هو الذي يُفهم من كلمات القائلين بالاقتضاء، ومنه يظهر أنّ الدليل عند المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أنّ الترخيص في بعض الأطراف ممكن ولا محذور فيه؛ لأنّ مردّه ومرجعه إلى جعل البدل، مرجعه إلى اكتفاء الشارع عن الواقع ببعض الأطراف، فيجوّز الشارع الطرف الآخر، وفي المقابل القائلون بالعلّية أيضاً استدلوا بأدلّة يأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.
الكلام في الجهّة الثانية: الكلام يقع في مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصول في بعض الأطراف، بعد الفراغ عن اقتضاء العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية، وإلاّ إذا لم يقتضي العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية، فلا تصل النوبة إلى الكلام عن الجهة الثانية؛ إذا لا إشكال أنّ العلم الإجمالي حينئذٍ لا يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف.
بعبارة أخرى: أنّ البحث في الجهة الثانية يقع في أنّ الاقتضاء الثابت في الجهة الأولى الذي فرغنا عنه، أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية في مقابل عدم الاقتضاء أصلاً. الكلام هنا يقع في أنّ هذا الاقتضاء هل هو بنحو العلّية على نحوٍ يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف، أو ليس على نحو العلّية، فلا يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف ؟ هل هو على نحو العلّية، أو على نحو الاقتضاء ؟ الكلام في هذه الجهة .
هنا اختلفوا أيضاً في أنّ العلم الإجمالي هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، أو هو مقتضٍ فقط؟ والمقصود بالاقتضاء في المقام هو التعليق، بمعنى أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية لكن على نحوٍ معلّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ولا يكون منافياً لأيّ شيءٍ، لا للعلم الإجمالي ولا لحكم العقل؛ لأنّها كلّها تعليقية، العلم الإجمالي فيه اقتضاء وجوب الموافقة القطعية وهو معنى التعليق كما قلنا. القائلون بالاقتضاء في الجهة الأولى اختلفوا، هناك رأي يقول بأنّه مقتضٍ فقط لوجوب الموافقة القطعية وليس علّة تامّة، الرأي الآخر يقول أنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، الظاهر من المحقق النائيني(قدّس سرّه) في بعض كلماته هو القول بعدم العلّية، العلم الإجمالي فقط مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية،[1] فلا مانع من الترخيص في بعض الأطراف إذا تمّت شرائطه، وظاهر السيد الخوئي(قدّس سرّه) أنّه تابعه في ذلك، في حين ذهب المحقق العراقي(قدّس سرّه) إلى وجوب الموافقة القطعية[2] وهو الظاهر من كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في بعض عباراته كما سيأتي.[3]
المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي يقول بالاقتضاء لا بالعلّية ذكر عبارة يُفهم منها أنّه في مقام بيان ما يترتّب على القول بالاقتضاء. وبعبارة أخرى: كأنّه في مقام بيان ثمرةٍ لهذا النزاع، هل هو على نحو العلّية، أو لا ؟ ذكر ثمرة لهذا النزاع، قال:(أنّه لو كان في بعض أطراف العلم الإجمالي أصل أو إمارة بلا معارض، لأوجب انحلال العلم، أو عدم تأثيره من أوّل الأمر فأنّ تنجيز العلم الإجمالي يتوقّف على تحقق العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير وعدم انحلاله).[4] يقول هذا الأصل والإمارة يجري في ذاك الطرف؛ لأنّه لا معارض له من الطرف الآخر بحسب الفرض، وبالتالي يكون جريان الأصل في ذاك الطرف موجباً لانحلال العلم الإجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي إنّما يتنجّز ويؤثر أثره إذا كان موجباً للعلم بالتكليف على كل تقدير، أمّا إذا لم يكن كذلك، بأن فرضنا أنّه على أحد التقديرين لا يوجد تكليف، وإنّما التكليف على التقدير الآخر، يقول: مثل هذا العلم الإجمالي ينحلّ ولو حكماً، وذكر أمثلة لذلك، يقول: لو فرضنا أنّ أحد الطرفين كان خارجاً عن محل الابتلاء؛ حينئذٍ الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء يجري بلا معارض؛ لأن الطرف الخارج عن محل الابتلاء لا يجري فيه الأصل، لا معنى لجريان الأصل والتأمين في طرفٍ خارج عن محل الابتلاء، فيجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء، أو كان في بعض الأطراف منجّز للتكليف كما إذا كانت الحالة السابقة لأحد الطرفين هي النجاسة، فجرى فيه استصحاب النجاسة، في هذه الحالة يقول: لا مانع من جريان الأصل المؤمن في الطرف الآخر؛ لأنّ هذا الأصل ليس له معارض.
على كل حال، يقول: عندما يُفترض إمكان جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض يجري هذا الأصل، ولا مانع من جريانه، ويجري آثار جريان الأصل في أحد الطرفين من الانحلال وغيره.
هذه الثمرة التي أشار إليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) تُبيّن بهذا الشكل: إن قلنا بالاقتضاء في محل الكلام، فلا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض، ولا مشكلة فيه، يجري في هذا الطرف؛ لأنّه ليس له معارض؛ لأننا نقول بالاقتضاء بحسب الفرض، ومعنى الاقتضاء هو أنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية، لكن إذا ورد الترخيص وكانت شرائط جريان الأصل والترخيص تامّة في طرف، فلا مانع من جريانه، الاقتضاء لا يمنع من جريان الأصل في أحد الأطراف إذا تمّت شرائطه، ومن جملة شرائط جريان الأصل هو عدم وجود المعارض، فإذا افترضنا عدم وجود المعارض لا مانع من جريان الأصل في هذا الطرف، أمّا إذا قلنا بالعلّية التامّة، فلا يجري الأصل في ذاك الطرف حتّى إذا لم يكن له معارض؛ لأنّ هذا معنى أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية على نحو العلّية التامّة؛ لأنّه حينئذٍ يمنع من جريان الأصل حتّى في طرفٍ واحد، فتظهر الثمرة هنا، إن قلنا بالعلّية التامّة لا يجري الأصل في هذا الطرف الداخل في محل الابتلاء في مثال خروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، أمّا إذا قلنا بالعلّية التامّة؛ فحينئذٍ لا يجري الأصل.
هذه الثمرة هل هي ثمرة للبحث الأوّل، أو للبحث الثاني ؟ هل هي ثمرة للبحث الأوّل، يعني للخلاف في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ؟ أو هي ثمرة للبحث الثاني، أي الخلاف في أنّه على نحو العلّية، أو ليس على نحو العلّية ؟ الظاهر أنّها ثمرة للبحث الثاني، بمعنى أنّ هذه الثمرة لا تترتب على الخلاف السابق؛ لأنّه في الخلاف السابق على كلا التقديرين بقطع النظر عن الخلاف الثاني لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض، أمّا على عدم الاقتضاء فواضح، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي أصلاً لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية، فيمكن جريان الأصل في هذا الطرف إذا لم يكن له معارض. وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء لا على نحو العلّية، فأيضاً حينئذٍ نلتزم بجريان الأصل في ذلك الطرف إذا لم يكن له معارض؛ لأنّ القول بالاقتضاء لا يمنع من جريان الأصل في بعض الأطراف إذا تمّت شرائطه؛ بل هو معنى الاقتضاء أنّه لا مانع من جريان الأصل في بعض الأطراف، فإذن: على كلا التقديرين الأصل يجري في الطرف الداخل في محل الابتلاء إذا لم يكن له معارض، فلا يكون هذا ثمرة للبحث السابق، وإنّما يكون ثمرة لهذا البحث، يكون ثمرة للبحث أنّ الاقتضاء هل هو بنحو العلّية، أو لا؟ فإن كان بنحو العلّية، فهو يمنع من جريان الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء، وإلاّ فهو لا يمنع من جريان الأصل في ذلك الطرف، فيكون ثمرة للبحث الثاني.
الذي أريد أن أقوله هو: أنّ الذي يظهر من كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) لأنّه هناك خلاف في أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ماذا يريد أن يقول ؟ هل هو ينكر الاقتضاء كما تقدّم احتماله في البحث الأوّل وذكر بعض العبارات الظاهرة في أنّه يرى عدم الاقتضاء أصلاً ؟ أو أنّه يقول بالاقتضاء لكن لا على نحو العلّية ؟ ترتيب هذه الثمرة، الظاهر أنّه يقول بالاقتضاء لكن لا على نحو العلّية؛ ولذا جعل هذه ثمرة، إن قلنا بالاقتضاء يجري الأصل، وإلاّ، يعني إن قلنا بالعلّية التامّة؛ فحينئذٍ لا يجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء، كلماته مضطربة يمكن أن يُجعل هذا قرينة على أنّ مقصوده هو القول بالاقتضاء لا أنّه ينكر الاقتضاء أصلاً؛ لأنّ إنكار الاقتضاء في مقابل القول بالاقتضاء لا تترتب عليه هذه الثمرة، وإنّما هذه الثمرة تترتب على القول بالاقتضاء في مقابل العلّية؛ ولذا هو رتّب هذه الثمرة بعد أن ذكر المطلب قال: يظهر ممّا تقدّم أنّه لا مانع من جريان الأصل في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض في مقابل القول بالعلّية التامة الذي يعني أننا نمنع من جريان الأصل حتّى إذا لم يكن له معارض.
هناك عبارة للمحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكر فيها هذه العبارة:(ومنه يظهر فساد القول بكون نفس العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فأنّك قد عرفت عدم ترتّبه عليه بنفسه، فكيف يُعقل كونه علّة له؛ بل ليس فيه اقتضاء لثبوته أيضاً إلاّ معنى كونه من أجزاء علّته).[5] لعلّ ــــــــــــ هذه في الطرف المقابل ــــــــــــ نسبة القول بالاقتضاء إليه لعلّها ناشئة من هذه، بمعنى أنّه بالنتيجة يقول أنّ العلم الإجمالي يقتضي، يعني نفترض أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول بعدم الاقتضاء، لكن بالنتيجة هو يقول بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولو باعتباره أحد أجزاء علّة وجوب الموافقة القطعية، باعتبار أنّ وجوب الموافقة القطعية كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) يثبت عندما يكون هناك علم إجمالي بضميمة حرمة المخالفة القطعية، هذا يوجب تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها، فيتنجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ الاحتمال في كل طرفٍ يبقى بلا مؤمّن، فيتنجّز في هذا الطرف وفي هذا الطرف. إذن: العلم الإجمالي ساهم في صنع وجوب الموافقة القطعية، هذا معنى أنّ العلم الإجمالي يقع أحد أجزاء علّة وجوب الموافقة القطعية، فقد يُنسب إليه الاقتضاء بهذا المعنى، وإلاّ عبارته التي نقلناها سابقاً هي ظاهرة في أنّه يقول بعدم الاقتضاء، ترتيب الثمرة هنا، إذا فرضنا أنّه ناظر إلى ترتيب الثمرة على النزاع بينه وبين الطرف المقابل، ظاهر في أنّه يقول بالاقتضاء؛ لأننّا قلنا أنّ هذه الثمرة إنّما تترتب على القول بالاقتضاء في مقابل العلّية لا على القول بالاقتضاء في مقابل نفي الاقتضاء، فعلى القول بالاقتضاء في مقابل نفي الاقتضاء لا تترتّب هذه الثمرة، فتبقى عبارته مضطربة، يعني هل ننسب إليه القول بالاقتضاء في المقام ؟ أو ننسب إليه القول بعدم الاقتضاء في محل الكلام ؟
على كل حال، لنفترض أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول بالاقتضاء في مقابل العلّية في محل كلامنا، ما هو دليله على ذلك ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) عندما نفترض أنّه يقول بالاقتضاء في محل الكلام، ما هو دليله على ذلك ؟ يبدو أنّ السيد الخوئي(قدّس سرّه) لم يذكر دليلاً واضحاً على القول بالاقتضاء، لكنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكر شيئاً يمكن أن يستفاد منه أنّه هو الدليل على الاقتضاء في مقابل العلّية، الذي ذكره هنا في محل الكلام وفي مباحث القطع هو : أنّه يدّعي أنّه يقول بأنّ هناك من ادّعى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية، وأنّ العلم الإجمالي إمّا أن يكون علّة تامّة لهما معاً، وإمّا أن لا يكون علّة تامّة لهما معاً،[6] وهذا يعني أننّا إذا قلنا بالعلّية التامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، فلابدّ أن نقول بها بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، هو قال هذه الدعوى التي ادّعاها البعض ليس عليها شاهد؛ بل بالإمكان أن نفرّق بين حرمة المخالفة القطعية وبين وجوب الموافقة القطعية، فنلتزم بالعلّية التامّة هناك ولا نلتزم بالعلّية التامّة في محل الكلام، وذلك لأنّ الترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال، بخلاف الترخيص في بعض الأطراف، فأنّه لا يضاد التكليف المعلوم بالإجمال ومن هنا كان العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة القطعية بينما ليس علّة في محل الكلام لوجوب الموافقة القطعية؛ لماذا الترخيص في بعض الأطراف ليس فيه محذور، لا يوجد مانع يمنع منه، ذكر بأنّ مرجع الترخيص في بعض الأطراف إلى الاكتفاء عن الواقع بترك الطرف الآخر، أو فعله، في الشبهة التحريمية كأنّ الشارع يكتفي في ترك الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال بترك أحد الطرفين ويأذن بارتكاب الطرف الآخر، في الشبهة الوجوبية هو يأذن بترك أحد الطرفين وفعل الآخر؛ لأنّه يكتفي عن الواجب الواقعي المعلوم بالإجمال بأحد الطرفين ويأذن بترك الطرف الآخر في الشبهة الوجوبية، أو يأّذن في فعل الطرف الآخر في الشبهة التحريمية؛ بل يقول بعبارةٍ صريحة بأنّ الشارع عندما يأذن ويرخّص في أحد الطرفين هذا معناه أنّه اكتفى بالإطاعة الاحتمالية والاكتفاء عن الواقع بترك أحد الطرفين، وهذا مرجعه إلى جعل البدل كما يصرّح به أيضاً، الشارع يجعل هذا الطرف بدلاً عن الواقع ويأذن في ارتكاب الطرف الآخر؛ لأنّه جعل هذا الطرف بدلاً عن الحرام الواقعي، وعندما يجعل الشارع هذا الطرف بدلاً عن الحرام الواقعي؛ حينئذٍ يأذن ويرخّص في ارتكاب الطرف الآخر، ويقول: بأنّ هذا ليس عجيباً أن يجعل الشارع أحد الطرفين بدلاً عن الواقع؛ لأنّ مرجع ذلك إلى تجويز الشارع المخالفة الاحتمالية وهذا لا ضير ولا مشكلة فيه؛ بل هذا موجود حتّى في موارد العلم التفصيلي، فضلاً عن موارد العلم الإجمالي، في العلم التفصيلي أيضاً قد يكتفي الشارع بالموافقة الاحتمالية ويُرخّص بالمخالفة الاحتمالية، ثمّ يذكر أمثلة لذلك، يقول كالأصول الجارية في وادي الفراغ ـــــــــــــ كما يُسمّيه ــــــــــــ كقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز،[7] اكتفاء بالموافقة الاحتمالية في مورد العلم التفصيلي، علم تفصيلي بتوجّه التكليف إليه ووجوب الصلاة عليه، لكنّ الشارع يكتفي بالموافقة الاحتمالية ويجوّز المخالفة الاحتمالية، يقول هذا موجود في العلم التفصيلي فما ظنّك بالعلم الإجمالي الذي هو بالنتيجة لم ينكشف الواقع فيه انكشافاً تامّاً كما هو الحال في العلم التفصيلي، فلا مشكلة في أن يجوّز الشارع المخالفة الاحتمالية ويذكر بأنّ مرجع ذلك إلى جعل البدل، يعني الشارع عندما يجوّز ويرخّص في أحد الطرفين، فهذا معناه أنّه اكتفى عن الواقع بالطرف الآخر، فيجعل الطرف الآخر بدلاً عن الحرام الواقعي، أو عن الواجب الواقعي المعلوم بالإجمال، فيُرخّص في أحد الطرفين، ولا توجد أيّ مشكلة في ذلك، ويُلتزم بهذا المقدار.
نعم، لا داعي لإثبات البدلية والاكتفاء عن الواقع بأحد الطرفين ولا نحتاج إلى نصّ خاصٍ عن البدلية، وإنّما إذن الشارع في أحد الطرفين يستلزم الاكتفاء بالطرف الآخر عن الواقع، يستلزم جعل الآخر بدلاً عن الواقع هو بنفسه، بلا حاجة إلى نصٍّ خاص يدل على البدلية. نعم، ذكر في بعض كلماته بأنّ الترخيص لابدّ أن يثبت بنصٍ خاص، ولا يكفي لإثبات البدلية به أن يثبت بعمومات(كل شيءٍ لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام)، أو (لا تنقض اليقين بالشك)، أو(رُفع ما لا يعلمون)[8] هذا لا يكفي لإثبات البدلية، وإنّما الترخيص لابدّ أن يثبت بنصًّ خاصٍ يرد في المسألة، عندما يكون هناك نصٌّ خاصّ يدلّ على الترخيص في هذا الطرف، نستكشف منه أنّ الشارع اكتفى عن الواقع بالطرف الآخر، يعني جعله بدلاً، أمّا إذا كان الدليل على الترخيص ليس نصّاً خاصّاً، وإنّما هو عبارة عن هذه العمومات، يقول هذه لا تكفي لإثبات البدلية. بالنتيجة يبدو منه أنّه يستدل على جواز الترخيص في بعض الأطراف، وبالتالي القول بالاقتضاء لا العلّية، يستدل على ذلك بأنّه لا مانع من جعل الترخيص من قِبل الشارع ـــــــــــ ولو بالنص الخاص ــــــــــــ في بعض الأطراف؛ لأنّ مرجع ذلك إلى اكتفاء الشارع عن الواقع بأحد الطرفين، وهذا لا مشكلة فيه، الشارع هو اكتفى عن الواقع بهذا الطرف؛ فحينئذٍ يجوز للمكلّف أن يرتكب الطرف الآخر ويمكن افتراض الترخيص في الطرف الآخر. هذا ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) في المقام كدليلٍ على الاقتضاء في مقابل العلّية.
السيد الخوئي(قدّس سرّه) أيضاً ذكر كلاماً لا يُفهم منه الاستدلال على القول بالاقتضاء في مقابل القول بالعلّية، لكن يُفهم منه أنّه يختار القول بالاقتضاء في مقابل العلّية؛ لأنّه ذكر في هذا المقام أنّ هناك خلافاً بينهم في أنّ اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية هل هو بنحو العلّية، أو لا ؟ وذكر أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وبعض الأساطين ذهبوا إلى العلّية، ثمّ استعرض أدلّتهم على القول بالعلّية، فذكر دليلين للقول بالعلّية وناقشها وكأنّه انتهى إلى الاقتضاء، وكأنّه يكفي في إثبات الاقتضاء رد الأدلّة التي يستدل بها القائل بالعلّية، ولا يظهر في كلماته الاستدلال على القول بالاقتضاء في مقابل القول بالعلّية بقطع النظر عن رد أدلّة الطرف المقابل، فردّ أدلة الطرف المقابل وكأنّه انتهى إلى الاقتضاء.
هذا هو الذي يُفهم من كلمات القائلين بالاقتضاء، ومنه يظهر أنّ الدليل عند المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أنّ الترخيص في بعض الأطراف ممكن ولا محذور فيه؛ لأنّ مردّه ومرجعه إلى جعل البدل، مرجعه إلى اكتفاء الشارع عن الواقع ببعض الأطراف، فيجوّز الشارع الطرف الآخر، وفي المقابل القائلون بالعلّية أيضاً استدلوا بأدلّة يأتي الكلام عنها إن شاء الله تعالى.