32/11/03
تحمیل
المورد الثاني:- إذا شك المكلف في القدرة كما إذا فرض أنه شك هل هو قادر على أداء الحج بكامله والمفروض أنه شيخ كبير ويحتمل أن يطرأ عليه في أثناء الأعمال ما يعيقه عن إتمام العمل فهو شاك في القدرة على إتمام العمل ، وإذا لم يكن قادراً بحسب الواقع وفي علم الله فالحج لا يكون واجباً عليه ، نعم أحيانا قد تنتقل النوبة إلى النافلة وهذه قضية أخرى.
وعليه فما دامت القدرة شرطاً للوجوب والمفروض أنه يشك فيها إلى نهاية العمل وهي شرط إلى نهايته فالشك فيها يستلزم الشك في توجه التكليف إليه فيلزم إجراء أصل البراءة لأن المورد من موارد الشك في توجه التكليف وثبوته والحال أن الفقهاء يفتون بالوجوب.
وهكذا لو احتمل الإنسان في وسط صلاته أنه سوف يصيبه عارض ويموت ، إن هذا الاحتمال موجود ، فيلزم عدم وجوب الصلاة عليه لأن توجه الوجوب إليه مشروط بثبوت القدرة من بداية الصلاة إلى النهاية وحيث لا يجزم - وكل إنسان لا يجزم ببقائها إلى نهاية العمل - فسوف يشك في توجه وجوب الصلاة إليه فيكون المورد من موارد البراءة وبالتالي يلزم عدم وجوب الصلاة عليه وعدم وجوب الحج لاحتمال طرو مانع يمنعه من الإتمام .... وهكذا في كل الواجبات ، وهذه مشكلة صناعية كيف حلها ؟
وهذه المشكلة لا تأتي على مبنى من يقول إن القدرة ليست شرطاً في متعلق التكليف وإنما تتم على من يرى ذلك كالشيخ النائيني(قده).
ولأجل إيضاح هذا المطلب بشكل مختصر أقول:- هناك اتفاق على أن القدرة شرط في العقوبة ، فالذي ليس بقادر على أداء العمل يقبح عقابه ما دام ليس قادراً وهذه قضية بديهية ولم تقع محلاً للنزاع ومقصودي هو بين غير الأشاعرة أما هم فيقولون إن كل ما فعله الشارع يصير حسناً أما نحن الذين نحكِّم العقل فنقول عقاب غير القادر قبيح فالقدرة شرط في مرحلة استحقاق العقوبة جزماً ، وإنما الكلام في أن القدرة هل هي شرط في متعلق التكليف أو لا ؟ فالذي لا يقدر على الصوم هل يجوز تكليفه به بعد الاتفاق على أنه لا يجوز عقابه ما دام ليس قادراً وسؤالنا عن أصل التكليف بقطع النظر عن مسألة العقوبة ، فهل يمكن أن يثبت التكليف في حق غير القادر أو لا ؟
هناك رأي يبني عليه السيد الخوئي(قده)[1] حيث يقول:- لا محذور في ذلك فان التكليف اعتبار ولا محذور في ثبوت الاعتبار في حق غير القادر ، فاعتبر في ذمتك الآن أن تطير إلى السماء أو تجمع بين النقيضين ، فالتكليف لا يتجاوز حدود الاعتبار ، وما دام التكليف كذلك - والمفروض لا محذور في اعتبار شيء في ذمة غير القادر - فلا محذور في ثبوت أصل التكليف في حق غير القادر ، نعم لا يصح عقابه.
هذا ما سجله (قده) في هذا المورد والظاهر أنه موجود في المحاضرات ، ولكن طيلة حضوري عند (قده ) لم أسمع ذلك منه مرةً ولعل ذلك تراجعاً منه.
وممن بنى على ذلك السيد الخميني(قده)[2] .
وفي مقابل ذلك رأي الشيخ النائيني(قده) فانه قال:- القدرة كما أنها شرط في مرحلة العقوبة فهي شرط في مرحلة متعلق التكليف والوجه في ذلك أن التكليف وان كان اعتباراً ولكنه ليس محض الاعتبار وإنما هو اعتبار بداعي التحريك والباعثية ، وحيث أن تحريك غير القادر لا معنى له فتختص جميع التكاليف - بعد كونها مجعولة بداعي التحريك - بخصوص القادر.
وذكره السيد الشهيد(قده) في الحلقة ، ولكن من الغريب أنه لم ينسب إلى السيد الخوئي(قده) انه يبني على أن القدرة ليست شرطاً في متعلق التكليف وكان من المناسب الإشارة إلى ذلك ، كما ينقل إيراد الشيخ النائيني عليه.
إذن يوجد كلام وخلاف ورأيان في مسالة اشتراط القدرة في متعلق التكليف والمشكلة الصناعية التي ذكرناها إنما ترد على من يقول أن القدرة شرط في متعلق التكليف كالشيخ النائيني(قده) ، أما السيد الخوئي(قده) فلا ترد عليه مثل هذه المشكلة فالتفت إلى ذلك.
وعلى أي حال كيف علاج هذه المشكلة الصناعية ؟
وربما يخطر إلى الذهن هذا العلاج :- وهو أن العقل يحكم إن مجرد الشك في القدرة لا يكفي مبرراً للتهاون والترك بل عليك أيها المكلف أن تندفع وتأتي بالعمل ، انه لأجل هذا الحكم العقلي ترتفع المشكلة السابقة حيث يقال بعد حكم العقل المذكور يلزم على المكلف أن يمتثل ولا يعير أهمية لاحتمال طروّ العجز في الأثناء.
وجوابه ما أشرنا إليه سابقاً:- من أن العقل وان كان يحكم بذلك إلا أن حكمه تعليقي ، يعني انه يحكم بلزوم الامتثال إذا فرض أن الشرع لم يتنازل ، أما إذا فرض وجود آية أو رواية تقول إذا شككت في ثبوت التكليف فأجرِ البراءة ففي مثل ذلك يرفع العقل يده عن حكمه إذ هو قد حكم بلزوم الامتثال والإسراع تحفظاً على مصلحة الشرع ومصلحة صاحب الحق فإذا فرض أن صاحب الحق قد تنازل بنفسه فلا معنى لحكم العقل آنذاك ، وفي مقامنا حيث أن مقتضى إطلاق أدلة البراءة الشرعية جريان البراءة في المقام حيث يشك في ثبوت التكليف للشك في ثبوت القدرة فلا بد وأن يرفع العقل يده عن حكمه بلزوم الامتثال لأن حكمه تعليقي.
إذن المشكلة باقية لحد الآن ولا يمكن أن ترتفع من خلال طريق حكم العقل.
والجواب المناسب والصحيح أن يقال:- انه يوجد أصل عقلائي وسيرة عقلائية يحكم ببقاء القدرة في موارد الشك في تحقق القدرة وبقاءها في المستقبل ، فإذا فرضنا وجود مثل السيرة المذكورة وفرضنا أن الشرع لم يردع عنها فتكون ممضاة فيكون لدينا طريق لإحراز تحقق القدرة في المستقبل ، وبذلك لا يكون المورد من موارد الشك في ثبوت التكليف لأجل وجود المحرز لثبوت القدرة في المستقبل وذلك المحرز هو السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشرع ، أما كيف نثبت هذه السيرة فأن ذلك مجرد دعوى ؟
وفي الجواب أقول:- أن أدنى التفات إلى واقعنا الحياتي يرشدنا إلى ذلك ، فانا أبني داري وأنت تبني دارك ولعله قبل إتمام الدار يطرأ الموت فلو كنت أعلم الغيب هل كنت أفعل هذا وغيره ؟ كلا ، أن أمثال هذه الاحتمالات موجودة في جميع تصرفاتنا ولا نعير لها أهمية ، ولو أردنا أن نعير لها أهمية لتوقفت عجلة الحياة
إذن انعقاد هذه السيرة ينبغي أن يكون واضحاً والشواهد والمنبهات على هذه السيرة شيء واضح ، فإذا قبلنا بها - والمفروض أنها ممضاة لا رادع عنها - فسوف يكون لدينا محرز لثبوت القدرة بلحاظ المستقبل وبالتالي يلزم امتثال التكليف لوجود المحرز وهو هذه السيرة.
والفت النظر إلى شيء:- وهو أن هذا ليس تمسكاً بالاستصحاب الاستقبالي ، فانه يوجد طريقان لإثبات القدرة في المستقبل أحدهما التمسك بإطلاق روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ) فيقال إن من أفراد الاستصحاب هو الاستصحاب الاستقبالي يعني أن يكون اليقين الآن والشك في المستقبل على خلاف الاستصحاب العادي حيث أن اليقين في الزمان السابق والشك هو الآن وأما في استصحاب الاستقبالي فاليقين الآن فانا قادر الآن يقيناً واشك هل القدرة باقية إلى الغد أو لا ؟ انه قد يقال إن مقتضى إطلاق ( لا تنقض اليقين بالشك ) الشمول لكل يقين وشك بما في ذلك ما إذا كان اليقين الآن والشك في المستقبل فيكون الاستصحاب الاستقبالي حجة من خلال إطلاق روايات ( لا تنقض اليقين بالشك ).
إني لا أريد أن أتمسك بهذا الإطلاق إذ قد يشكك فيه ويقال هو منصرف إلى الفرد المتعارف وهو ما إذا كان اليقين قد ثبت سابقاً والشك قد ثبت الآن ، انه لأجل مشكلة احتمال الانصراف لا نتمسك بهذا الإطلاق بل نتمسك بالسيرة العقلائية الجزمية. وعليه تكون النتيجة هي أن الاستصحاب الاستقبالي حجة في باب الشك في القدرة المستقبلية لأجل السيرة وليس لأجل إطلاق حديث ( لا تنقض اليقين بالشك ) .
نعم من يرى تمامية هذا الإطلاق وعدم تحقق الانصراف فسوف يصير لدينا طريقان لإثبات القدرة في المستقبل.
[1] هامش أجود التقريرات 1 264 .
[2] تهذيب الأصول 1 244 .