37/03/09
تحمیل
الموضـوع:- مسألة (
17 ) حرمة الغناء والاستماع إليه، هل
تعليم الغناء وتعلمه حرام أو لا ؟ - المكاسب المحرمة -كتاب التجارة.
وفي هذا المجال قد يقال:- نتمسّك بإطلاق الأدلة الدالة على حرمة الغناء، فهي كما تدلّ على حرمة الاستماع تدلّ بإطلاقها على حرمة السماع أيضاً، هكذا قد يقال بادئ ذي بدء.
بيد أنّه أشرنا فيما سبق إلى أنّ ما يرتبط بحرمة الاستماع هي روايات ثلاث، وواحدة من تلك الروايات هي صحيحة مسعدة بن زياد التي ورد فيها " أني أدخل الكنيف وأسمع الجواري يغنّين بالعود " وهذه الرواية قد أخذت عنصر الاستماع . فإذن لا يمكن التمسّك بها بعد أخذها لعنوان الاستماع.
وكذلك الرواية الثانية - وهي رواية الطاطري - فهي قد أخذت عنصر الاستماع أيضاً فكيف نتمسّك بالإطلاق.
ولا يوجد ما يصلح التمسّك بإطلاقه إلّا الرواية الثالثة، أعني صحيحة زيد الشحّام حيث قال عليه السلام بالنسبة إلى معنى ( "واجتنبوا قول الزور " قال:- يعني الغناء )، فالإمام عليه السلام فسّر قول الزور بالغناء وهنا قلنا قد يتمسّك بالإطلاق.
ولكن قلنا فيما سبق أنّ هذا ليس من موارد الإطلاق إذ لا يوجد مفهومٌ يمكن التمسّك بإطلاقه، إنما هذا من موارد حذف المتعلّق فهناك كلمة محذوفة جزماً ولكن لا ندري ما هي فهل المقصود هو ( اجتنبوا فعل الغناء ) فتختصّ حينئذٍ بإصدار الغناء وفعله، أو المقصود هو الاستماع فحينئذٍ سوف تختصّ بالاستماع، أو أنّ المقدّر هو الأعم - ( أي ما يرتبط بالغناء ) - فحينئذٍ تكون دالة على حرمة، وحيث إنّ ذلك المتعلّق المحذوف ليس متعيّن لنا فيحصل لنا الإجمال فنتمسّك بالقدر المتيقن والقدر المتيقّن ليس من البعيد أنه هو صدور الغناء وحده أو بإضافة الاستماع أمّا السماع فليس من القدر المتيقّن، اللهم إلّا أن يقال إنّ نفس حذف المتعلّق هو دالٌّ على العموم، فإن ثبت هذا المطلب الذي أشار إليه علماء البلاغة فبها، ولكني في تردّد من هذه الناحية.
وعلى أيّ حال استفاد التعميم للسماع مشكلٌ من جهة هذه الرواية لأنّ حذف المتعلّق لا نجزم بأنّه عرفاً هو بنفسه من دوال العموم.
هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا فذاك يتمّ إذا لم يكن هناك أثر ظاهر وإلّا فيقدّر الأثر الظاهر، من قبيل ﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ فهنا يوجد مقدّر جزماً ولا نتمسّك بقاعدة حذف المتعلّق يدل على العموم - يعني حتى في مثل لمس الأم - وإنما يكون المدار على الأثر الظاهر - يعني الزواج -، وهذا من الأمور الواضحة.
وهنا قد يقال إنّه يوجد أثر ظاهر يكون هو المقدّر، والأثر الظاهر بالنسبة إلى الغناء هو فعله، أو بإضافة الاستماع إليه، أمّا السماع فليس من الآثار الظاهرة، وعلى هذا الأساس يشكل استفادة تحريم السماع - يعني بحيث يكون حراماً كالاستماع - فنتمسّك بالبراءة بعد قصور المقتضي.
ولكن يأتي كلّ هذا الكلام لو كان المدرك لنا في إثبات حرمة الغناء لفظياً، ولكن تقدّم منّا التأمل في ذلك وأنّ الدليل لبّي وهو ما أشرنا إليه سابقاً - من أن المسألة عامة البلوى فيلزم أن يكون حكمها واضحاً .... الخ -، ومادام الدليل لبّياً فنقول حينئذٍ إنَّ القدر المتيقّن منه هو الاستماع فإنّه الأمر الابتلائي - أو صدور الغناء -، أمّا استماعه فليس هو الأمر الابتلائي حتى يحتاج إلى بيان حكمه.
هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا أنّ السماع ابتلائيٌّ كالاستماع ولكن لا يوجد من قبل الفقهاء موقفٌ إجماعيٌّ أو مشهورٌ ينسبُ إليهم، بل لعلّهم لم يتعرضوا إلى هذه المسألة.
والنتيجة من كلّ هذا:- إنّ إثبات حرمة السماع بالدليل أمرٌ مشكلٌ سواء كان الدليل لفظياً - كما هو على مشرب القوم -، أو كان لبّياً - كما هو الحال على ما سلكناه -، فالدليل قاصرٌ، ومعه يكون المرجع أصل البراءة.
إن قلت:- إنّه يمكن إضافة شيء آخر لإثبات عدم الحرمة، وذلك بأن يقال:- إنّ السماع أمرٌ قهريٌّ، كما إذا كنت جالساً وفتح شخصٌ الآلة الخاصة بهذا المجال، أو مررت بطريقٍ وطرق سمعي ذلك، فهذا أمرٌ قهريٌّ وليس بيد المكلف، ومادام قهرياً فالحرمة ليست محتملة أصلاً لأنها لا تثبت إلّا للأمر الاختياري.
قلت:- ليس جميع أفراد السماع كذلك، نعم بعضها كما ذكر، ولكن بعضها اختياريٌّ، كما لو فرض أنّي أردت المرور بطريقٍ وأعلم أنّه توجد فيه أغاني ولكن ذهني كان ليس مع الغناء وإنما هو في عالمٍ آخر، فهنا لا يكون السماع أمراً غير اختياريٍّ بل هو اختياري، فلو كان جميع أفراد السماع هي غير اختيارية لكنّا نتمسّك بمسألة أنّه غير اختياريٍّ، أمّا إذا كانت بعض الأفراد اختياريّة فهذا لا ينفع التمسك به، نعم هو ينفع في مجال الأفراد غير الاختياريّة.
الأمر الثاني:- إنّ استماع الغناء[1] كما عرفنا حرامٌ لما أشرنا إليه من الوجهين.
وقد يسأل وتقول:- هل هو حرامٌ حتى إذا كان بداعي غير شيطاني كما لو فرض أني لم استع إليه بداعي الطرب والتلذّذ وما شاكل ذلك وإنما بداعي معرفة أنّ هذا من أيّ مقامٍ من المقامات أو أريد معرفة صاحب الصوت ؟
وهذا ليس تكراراً لما سبق فإنّ ما سبق كان ناظراً إلى فعل الغناء بداعي بيان أنّه مثلاً هو هكذا يكون فأريد أن أبيّن لغيري أنّ الصوت الغنائي هو هذا وليس ذاك فآتي بالصوت الغنائي بداعٍ غير شيطانيّ لكنّ هذا في فعل الغناء، ولكن كلامنا هو في الاستماع وليس في فعل الغناء فأنا أستمع لكي أعرف صاحب الصوت أو من أيّ مقامٍ هو أو ما شاكل ذلك وهل هذا محرّمٌ أيضاً كما لو كان بالداعي الشيطاني أو أنه ليس بمحرم ؟
يمكن أن يقال:- إنّ الدليل إذا كان لفظياً فهو منصرفٌ عن مثل هذه الحالة، فهو ناظر إلى حالة الاستماع بداعٍ شيطاني ؟ فمثل صحيحة مسعدة واضحة، فهي ناظرة إلى الاستماع الذي يكون بداعٍ شيطاني، فهو يطيل الجلوس في الكنيف لكي يستأنس بالصوت الجميل، وهكذا بالنسبة إلى رواية الطاطري، وأمّا صحيحة زيد الشحام التي قالت ( اجتنبوا قول الزور يعني الغناء ) لا يبعد أنّ يقال هو منصرفٌ - أي الاجتناب الذي هو الأثر الظاهر يعني الاستماع إلى الغناء الذي يكون بداعٍ شيطاني - فنقدّر الأثر الظاهر فهو منصرفٌ إلى مثل هذه الحالة.
إن قلت:- قد قرأنا في الكفاية أنّ الانصراف له منشآن هما إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال، وكثرة الوجود ليست منشأً صحيحاً، وكثر الاستعمال في المقام ليست ثابتة، فكيف تدّعي الانصراف ؟
قلت:- قد أجبنا عن ذلك وقلنا إنّ المهم هو الرجوع إلى وجداننا، فإن شعرنا بالانصراف أخذنا به حتى إذا لم تكن هناك كثرة استعمال ولا ينبغي أن تقيدنا الآراء الأصولية، وهذه قضية ينبغي الالتفات إليها، فمادمت تشعر بالوجدان بالانصراف فذلك يعني أنّه لا يوجد ظهورٌ في السعة والإطلاق سواء قال صاحب الكفاية(قده) بأنّ الانصراف الحجّة هو ما نشأ من كثرة الاستعمال أو لم يكن.
فمثلاً ورد أنّ ثمن الجارية المغنّية سحت ولذلك يكون بيعها حراماً، فلو فرض أني اشتريت الجارية المغنّية وقد تابت، أو فرض أني اشتريتها واشترطت عليها أن لا تغنّي، أو نستفيد من صوتها في المجال المباح، فهل ثمنها سحت أيضاً ؟!! فإذا صار البناء هو التمسّك بالإطلاق بعرضه العريض فهذا إطلاقٌ فهي حتى لو تابت الآن يصدق عليها أنها جارية مغنّية، أو إذا فرض اشترطنا عليها عدم الغناء، أو هي أعطت ضماناً بذلك ونحن نعلم أنها صادقة في هذا المجال، ففي مثل هذه الحالة هل يمكن أن يلتزم فقيهٌ بالحرمة ؟!!
والشيخ الأعظم(قده) تعرض في المكاسب إلى هذه المسألة وقال إنّه لا يوجد إشكالٌ في ذلك، ولكنه لم يأتِ بمسألة الانصراف وما بعدها من المناقشة التي بينتها، ولكني أردت أن استفيد من رأي الشيخ الأعظم ورأي الاعلام ومن وجدانك.
إذن نقول في حقّ الجارية المغنية في مثل هذا المورد أنّه إذا فرض أنها تابت فلا إشكال والمنشأ هو الانصراف، فالدليل منصرف عن التي تابت، وهذا الانصراف ليس ناشئاً من كثرة الاستعمال ولا من كثرة الوجود،ولا يهمّنا العلم بمنشئه بل نشعر به بوجداننا، فهذا الشعور الوجداني يكفينا.
وهكذا الحال في مسألة رؤية الهلال، فالذي ورد أنه هو ( صم للرؤية وافطر للرؤية ) ، فقد يتمسّك بعضٌ بالإطلاق ويقول هي شاملة للعين المسلّحة، ولكن يمكن أن يدّعي شخصٌ بأنه يوجد انصرافٌ إلى العين المجرّدة، ولا يمكن أن يردّ بأنّ الانصراف لابد وأن يكون له منشأ وأن منشأه كثرة الاستعمال وكثرة الاستعمال ليست ثابتة في هذا المعنى أمّا كثرة الوجود فليست حجّة فهذا الانصراف باطل، فهنا قد يدّعى الانصراف والحال أنّه لا يوجد استعمالٌ، وإن كنّا لا نتمسّك بدعوى الانصراف، بل نتمسّك بمبنانا في باب الإطلاق فنقول لو ظهر المتكلم وقال إنّ مقصودي من هذا الكلام هو خصوص العين المجرّدة فلا يقال له لماذا لـم تقيّد فإنه يقبح منك الاطلاق والحال أن مرادك هو المقيد ؟ إذ يمكن أن يجيب ويقول:- إني لم أقيد من باب أنه لا حاجة إلى التقييد لأنّ الحالة العامّة للناس حين صدور النصّ هي العين المجرّدة، فإذن لا يقبح هذا الاطلاق على تقدير كون المراد هو المقيّد - يعني خصوص الرؤية بالعين المسلحة - .
ولكن من أراد أن يتمسّك بالانصراف لا يردّ بأنّ الانصراف ينشأ إمّا من كثرة وجود أو من كثرة الاستعمال والأول ليس موجوداً والثاني ليس بحجّة.
عود إلى صلب الموضوع:- قلنا إذا كان الدليل لفظياً في مسالتنا - الذي هو مثل صحيحة زيد الشحام - فيمكن أن يقال بانصرافه إلى الاستماع بالداعي الشيطاني دون الداعي الآخر، وإذا كان الدليل لبّياً - وهو ما أشرنا إليه من أن المسالة عامّة البلوى فيلزم ان يكون حكمها واضحاً - فحينئذٍ يرد عليه أنّ القدر المتيقّن منه هو الاستماع بالداعي الشيطاني لأنّ هذه هي المسألة الابتلائية والتي يلزم أن يكون حكمها واضحاً، أمّا الاستماع بداعٍ غير شيطاني فليست هي المسألة الابتلائية وليس للفقهاء رأي واضح فيها أيضاً حتى يمكن أن نستنتج من ذلك الحرمة، فنرجع إلى أصل البراءة مادام المقتضي قاصراً - سواء كان لبّياً أو لفظياً -.
الأمر الثالث:- هل تعليم الغناء وتعلّمه حرام - وهذا ليس موجوداً في عبارة المتن - كالاستماع وفعل الغناء أو لا ؟
والجواب:- تعرّض السيد الماتن(قده) إلى ذلك[2]، وكان كلامه في التعليم، ولكن يمكن أن نعمّه للتعلّم، حاصل ما ذكره:- هو إن التعليم - ونحن نضيف التعلّم - تارةً يكون بنفس الغناء، يعني أنَّ المعلم والتعلّم تارةً تستعينون بالغناء فيأتي شخصٌ ليعلمهم الغناء من خلال غنائه فهو يغنّي وهم يستمعون إليه، وهذا حرامٌ بلا إشكالٍ من باب الاستماع إلى الغناء، وإذا كان المعلّم هو نفسه يغنّي فهذا يكون حراماً من باب أنّه فعل الغناء.
وأمّا إذا كان من باب بيان قواعده، فهو يعلّمه القواعد من دون أن يزاول هو أو شخص آخر الغناء، فهذا ليس بفعلٍ للغناء ولا استماعٌ له، ولكن رغم ذلك قد يقال بحرمته من باب الروايات التي عبّرت بأنّه كفرٌ، ونقل(قده) روايةً[3] عن جعفر بن محمد عليهما السلام:- ( لا يحلّ بيع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق وتعلّمه كفر )[4]، ولكنها ضعيفة السند كما ذكرنا، والوارد فيها عبارة ( لا يحلّ بيع الغناء ) فإنّ هذا ما ورد في المستدرك المطبوع فلابد وأن نفسرها بشيءٍ مناسب كأن يكون المقصود هو ( لا يحلّ بيع المغنّي أو المغنّية ) أو غير ذلك وشاهدنا هو قوله عليه السلام:- ( تعلّمه كفر ).
وأذكر روايةً على منوال هذه الرواية:- وهي رواية الطاطري - الطاهري - فقد ورد فيها أنّ تعليمه كفر، فتلك الرواية ورد فيها أن تعلّمه كفر وهذه ورد فيها أنّه نفاق، ولكن تلك الرواية ضعيفة بالطاطري ووالده وهذه أيضاً ضعيفة السند.
وبالتالي يمكن أن يقال:- إذن يلزم أن يفصّل نفس تفصيل السيد الخوئي(قده)، فإذا كان التعليم من طريق فعل الغناء فهذا حرامٌ لحرمة نفس الغناء، وإذا كان من طريق بيان قواعده فالمستند هو الرواية - أو الروايتان - ولكنهما ضعيفتان، فالمرجع هو البراءة.
وفي هذا المجال قد يقال:- نتمسّك بإطلاق الأدلة الدالة على حرمة الغناء، فهي كما تدلّ على حرمة الاستماع تدلّ بإطلاقها على حرمة السماع أيضاً، هكذا قد يقال بادئ ذي بدء.
بيد أنّه أشرنا فيما سبق إلى أنّ ما يرتبط بحرمة الاستماع هي روايات ثلاث، وواحدة من تلك الروايات هي صحيحة مسعدة بن زياد التي ورد فيها " أني أدخل الكنيف وأسمع الجواري يغنّين بالعود " وهذه الرواية قد أخذت عنصر الاستماع . فإذن لا يمكن التمسّك بها بعد أخذها لعنوان الاستماع.
وكذلك الرواية الثانية - وهي رواية الطاطري - فهي قد أخذت عنصر الاستماع أيضاً فكيف نتمسّك بالإطلاق.
ولا يوجد ما يصلح التمسّك بإطلاقه إلّا الرواية الثالثة، أعني صحيحة زيد الشحّام حيث قال عليه السلام بالنسبة إلى معنى ( "واجتنبوا قول الزور " قال:- يعني الغناء )، فالإمام عليه السلام فسّر قول الزور بالغناء وهنا قلنا قد يتمسّك بالإطلاق.
ولكن قلنا فيما سبق أنّ هذا ليس من موارد الإطلاق إذ لا يوجد مفهومٌ يمكن التمسّك بإطلاقه، إنما هذا من موارد حذف المتعلّق فهناك كلمة محذوفة جزماً ولكن لا ندري ما هي فهل المقصود هو ( اجتنبوا فعل الغناء ) فتختصّ حينئذٍ بإصدار الغناء وفعله، أو المقصود هو الاستماع فحينئذٍ سوف تختصّ بالاستماع، أو أنّ المقدّر هو الأعم - ( أي ما يرتبط بالغناء ) - فحينئذٍ تكون دالة على حرمة، وحيث إنّ ذلك المتعلّق المحذوف ليس متعيّن لنا فيحصل لنا الإجمال فنتمسّك بالقدر المتيقن والقدر المتيقّن ليس من البعيد أنه هو صدور الغناء وحده أو بإضافة الاستماع أمّا السماع فليس من القدر المتيقّن، اللهم إلّا أن يقال إنّ نفس حذف المتعلّق هو دالٌّ على العموم، فإن ثبت هذا المطلب الذي أشار إليه علماء البلاغة فبها، ولكني في تردّد من هذه الناحية.
وعلى أيّ حال استفاد التعميم للسماع مشكلٌ من جهة هذه الرواية لأنّ حذف المتعلّق لا نجزم بأنّه عرفاً هو بنفسه من دوال العموم.
هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا فذاك يتمّ إذا لم يكن هناك أثر ظاهر وإلّا فيقدّر الأثر الظاهر، من قبيل ﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ فهنا يوجد مقدّر جزماً ولا نتمسّك بقاعدة حذف المتعلّق يدل على العموم - يعني حتى في مثل لمس الأم - وإنما يكون المدار على الأثر الظاهر - يعني الزواج -، وهذا من الأمور الواضحة.
وهنا قد يقال إنّه يوجد أثر ظاهر يكون هو المقدّر، والأثر الظاهر بالنسبة إلى الغناء هو فعله، أو بإضافة الاستماع إليه، أمّا السماع فليس من الآثار الظاهرة، وعلى هذا الأساس يشكل استفادة تحريم السماع - يعني بحيث يكون حراماً كالاستماع - فنتمسّك بالبراءة بعد قصور المقتضي.
ولكن يأتي كلّ هذا الكلام لو كان المدرك لنا في إثبات حرمة الغناء لفظياً، ولكن تقدّم منّا التأمل في ذلك وأنّ الدليل لبّي وهو ما أشرنا إليه سابقاً - من أن المسألة عامة البلوى فيلزم أن يكون حكمها واضحاً .... الخ -، ومادام الدليل لبّياً فنقول حينئذٍ إنَّ القدر المتيقّن منه هو الاستماع فإنّه الأمر الابتلائي - أو صدور الغناء -، أمّا استماعه فليس هو الأمر الابتلائي حتى يحتاج إلى بيان حكمه.
هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا أنّ السماع ابتلائيٌّ كالاستماع ولكن لا يوجد من قبل الفقهاء موقفٌ إجماعيٌّ أو مشهورٌ ينسبُ إليهم، بل لعلّهم لم يتعرضوا إلى هذه المسألة.
والنتيجة من كلّ هذا:- إنّ إثبات حرمة السماع بالدليل أمرٌ مشكلٌ سواء كان الدليل لفظياً - كما هو على مشرب القوم -، أو كان لبّياً - كما هو الحال على ما سلكناه -، فالدليل قاصرٌ، ومعه يكون المرجع أصل البراءة.
إن قلت:- إنّه يمكن إضافة شيء آخر لإثبات عدم الحرمة، وذلك بأن يقال:- إنّ السماع أمرٌ قهريٌّ، كما إذا كنت جالساً وفتح شخصٌ الآلة الخاصة بهذا المجال، أو مررت بطريقٍ وطرق سمعي ذلك، فهذا أمرٌ قهريٌّ وليس بيد المكلف، ومادام قهرياً فالحرمة ليست محتملة أصلاً لأنها لا تثبت إلّا للأمر الاختياري.
قلت:- ليس جميع أفراد السماع كذلك، نعم بعضها كما ذكر، ولكن بعضها اختياريٌّ، كما لو فرض أنّي أردت المرور بطريقٍ وأعلم أنّه توجد فيه أغاني ولكن ذهني كان ليس مع الغناء وإنما هو في عالمٍ آخر، فهنا لا يكون السماع أمراً غير اختياريٍّ بل هو اختياري، فلو كان جميع أفراد السماع هي غير اختيارية لكنّا نتمسّك بمسألة أنّه غير اختياريٍّ، أمّا إذا كانت بعض الأفراد اختياريّة فهذا لا ينفع التمسك به، نعم هو ينفع في مجال الأفراد غير الاختياريّة.
الأمر الثاني:- إنّ استماع الغناء[1] كما عرفنا حرامٌ لما أشرنا إليه من الوجهين.
وقد يسأل وتقول:- هل هو حرامٌ حتى إذا كان بداعي غير شيطاني كما لو فرض أني لم استع إليه بداعي الطرب والتلذّذ وما شاكل ذلك وإنما بداعي معرفة أنّ هذا من أيّ مقامٍ من المقامات أو أريد معرفة صاحب الصوت ؟
وهذا ليس تكراراً لما سبق فإنّ ما سبق كان ناظراً إلى فعل الغناء بداعي بيان أنّه مثلاً هو هكذا يكون فأريد أن أبيّن لغيري أنّ الصوت الغنائي هو هذا وليس ذاك فآتي بالصوت الغنائي بداعٍ غير شيطانيّ لكنّ هذا في فعل الغناء، ولكن كلامنا هو في الاستماع وليس في فعل الغناء فأنا أستمع لكي أعرف صاحب الصوت أو من أيّ مقامٍ هو أو ما شاكل ذلك وهل هذا محرّمٌ أيضاً كما لو كان بالداعي الشيطاني أو أنه ليس بمحرم ؟
يمكن أن يقال:- إنّ الدليل إذا كان لفظياً فهو منصرفٌ عن مثل هذه الحالة، فهو ناظر إلى حالة الاستماع بداعٍ شيطاني ؟ فمثل صحيحة مسعدة واضحة، فهي ناظرة إلى الاستماع الذي يكون بداعٍ شيطاني، فهو يطيل الجلوس في الكنيف لكي يستأنس بالصوت الجميل، وهكذا بالنسبة إلى رواية الطاطري، وأمّا صحيحة زيد الشحام التي قالت ( اجتنبوا قول الزور يعني الغناء ) لا يبعد أنّ يقال هو منصرفٌ - أي الاجتناب الذي هو الأثر الظاهر يعني الاستماع إلى الغناء الذي يكون بداعٍ شيطاني - فنقدّر الأثر الظاهر فهو منصرفٌ إلى مثل هذه الحالة.
إن قلت:- قد قرأنا في الكفاية أنّ الانصراف له منشآن هما إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال، وكثرة الوجود ليست منشأً صحيحاً، وكثر الاستعمال في المقام ليست ثابتة، فكيف تدّعي الانصراف ؟
قلت:- قد أجبنا عن ذلك وقلنا إنّ المهم هو الرجوع إلى وجداننا، فإن شعرنا بالانصراف أخذنا به حتى إذا لم تكن هناك كثرة استعمال ولا ينبغي أن تقيدنا الآراء الأصولية، وهذه قضية ينبغي الالتفات إليها، فمادمت تشعر بالوجدان بالانصراف فذلك يعني أنّه لا يوجد ظهورٌ في السعة والإطلاق سواء قال صاحب الكفاية(قده) بأنّ الانصراف الحجّة هو ما نشأ من كثرة الاستعمال أو لم يكن.
فمثلاً ورد أنّ ثمن الجارية المغنّية سحت ولذلك يكون بيعها حراماً، فلو فرض أني اشتريت الجارية المغنّية وقد تابت، أو فرض أني اشتريتها واشترطت عليها أن لا تغنّي، أو نستفيد من صوتها في المجال المباح، فهل ثمنها سحت أيضاً ؟!! فإذا صار البناء هو التمسّك بالإطلاق بعرضه العريض فهذا إطلاقٌ فهي حتى لو تابت الآن يصدق عليها أنها جارية مغنّية، أو إذا فرض اشترطنا عليها عدم الغناء، أو هي أعطت ضماناً بذلك ونحن نعلم أنها صادقة في هذا المجال، ففي مثل هذه الحالة هل يمكن أن يلتزم فقيهٌ بالحرمة ؟!!
والشيخ الأعظم(قده) تعرض في المكاسب إلى هذه المسألة وقال إنّه لا يوجد إشكالٌ في ذلك، ولكنه لم يأتِ بمسألة الانصراف وما بعدها من المناقشة التي بينتها، ولكني أردت أن استفيد من رأي الشيخ الأعظم ورأي الاعلام ومن وجدانك.
إذن نقول في حقّ الجارية المغنية في مثل هذا المورد أنّه إذا فرض أنها تابت فلا إشكال والمنشأ هو الانصراف، فالدليل منصرف عن التي تابت، وهذا الانصراف ليس ناشئاً من كثرة الاستعمال ولا من كثرة الوجود،ولا يهمّنا العلم بمنشئه بل نشعر به بوجداننا، فهذا الشعور الوجداني يكفينا.
وهكذا الحال في مسألة رؤية الهلال، فالذي ورد أنه هو ( صم للرؤية وافطر للرؤية ) ، فقد يتمسّك بعضٌ بالإطلاق ويقول هي شاملة للعين المسلّحة، ولكن يمكن أن يدّعي شخصٌ بأنه يوجد انصرافٌ إلى العين المجرّدة، ولا يمكن أن يردّ بأنّ الانصراف لابد وأن يكون له منشأ وأن منشأه كثرة الاستعمال وكثرة الاستعمال ليست ثابتة في هذا المعنى أمّا كثرة الوجود فليست حجّة فهذا الانصراف باطل، فهنا قد يدّعى الانصراف والحال أنّه لا يوجد استعمالٌ، وإن كنّا لا نتمسّك بدعوى الانصراف، بل نتمسّك بمبنانا في باب الإطلاق فنقول لو ظهر المتكلم وقال إنّ مقصودي من هذا الكلام هو خصوص العين المجرّدة فلا يقال له لماذا لـم تقيّد فإنه يقبح منك الاطلاق والحال أن مرادك هو المقيد ؟ إذ يمكن أن يجيب ويقول:- إني لم أقيد من باب أنه لا حاجة إلى التقييد لأنّ الحالة العامّة للناس حين صدور النصّ هي العين المجرّدة، فإذن لا يقبح هذا الاطلاق على تقدير كون المراد هو المقيّد - يعني خصوص الرؤية بالعين المسلحة - .
ولكن من أراد أن يتمسّك بالانصراف لا يردّ بأنّ الانصراف ينشأ إمّا من كثرة وجود أو من كثرة الاستعمال والأول ليس موجوداً والثاني ليس بحجّة.
عود إلى صلب الموضوع:- قلنا إذا كان الدليل لفظياً في مسالتنا - الذي هو مثل صحيحة زيد الشحام - فيمكن أن يقال بانصرافه إلى الاستماع بالداعي الشيطاني دون الداعي الآخر، وإذا كان الدليل لبّياً - وهو ما أشرنا إليه من أن المسالة عامّة البلوى فيلزم ان يكون حكمها واضحاً - فحينئذٍ يرد عليه أنّ القدر المتيقّن منه هو الاستماع بالداعي الشيطاني لأنّ هذه هي المسألة الابتلائية والتي يلزم أن يكون حكمها واضحاً، أمّا الاستماع بداعٍ غير شيطاني فليست هي المسألة الابتلائية وليس للفقهاء رأي واضح فيها أيضاً حتى يمكن أن نستنتج من ذلك الحرمة، فنرجع إلى أصل البراءة مادام المقتضي قاصراً - سواء كان لبّياً أو لفظياً -.
الأمر الثالث:- هل تعليم الغناء وتعلّمه حرام - وهذا ليس موجوداً في عبارة المتن - كالاستماع وفعل الغناء أو لا ؟
والجواب:- تعرّض السيد الماتن(قده) إلى ذلك[2]، وكان كلامه في التعليم، ولكن يمكن أن نعمّه للتعلّم، حاصل ما ذكره:- هو إن التعليم - ونحن نضيف التعلّم - تارةً يكون بنفس الغناء، يعني أنَّ المعلم والتعلّم تارةً تستعينون بالغناء فيأتي شخصٌ ليعلمهم الغناء من خلال غنائه فهو يغنّي وهم يستمعون إليه، وهذا حرامٌ بلا إشكالٍ من باب الاستماع إلى الغناء، وإذا كان المعلّم هو نفسه يغنّي فهذا يكون حراماً من باب أنّه فعل الغناء.
وأمّا إذا كان من باب بيان قواعده، فهو يعلّمه القواعد من دون أن يزاول هو أو شخص آخر الغناء، فهذا ليس بفعلٍ للغناء ولا استماعٌ له، ولكن رغم ذلك قد يقال بحرمته من باب الروايات التي عبّرت بأنّه كفرٌ، ونقل(قده) روايةً[3] عن جعفر بن محمد عليهما السلام:- ( لا يحلّ بيع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق وتعلّمه كفر )[4]، ولكنها ضعيفة السند كما ذكرنا، والوارد فيها عبارة ( لا يحلّ بيع الغناء ) فإنّ هذا ما ورد في المستدرك المطبوع فلابد وأن نفسرها بشيءٍ مناسب كأن يكون المقصود هو ( لا يحلّ بيع المغنّي أو المغنّية ) أو غير ذلك وشاهدنا هو قوله عليه السلام:- ( تعلّمه كفر ).
وأذكر روايةً على منوال هذه الرواية:- وهي رواية الطاطري - الطاهري - فقد ورد فيها أنّ تعليمه كفر، فتلك الرواية ورد فيها أن تعلّمه كفر وهذه ورد فيها أنّه نفاق، ولكن تلك الرواية ضعيفة بالطاطري ووالده وهذه أيضاً ضعيفة السند.
وبالتالي يمكن أن يقال:- إذن يلزم أن يفصّل نفس تفصيل السيد الخوئي(قده)، فإذا كان التعليم من طريق فعل الغناء فهذا حرامٌ لحرمة نفس الغناء، وإذا كان من طريق بيان قواعده فالمستند هو الرواية - أو الروايتان - ولكنهما ضعيفتان، فالمرجع هو البراءة.
[1] فالسماع قد انتهينا منه وإذا عبرت سابقاً بالسماع فالمقصود هنا هو
الاستماع.
[2] مصباح الفقاهة، الخوئي، تسلسل23، ص489.
[3] وقلنا أنه متى ما سمعت بدعائم الاسلام يعني على قواعدنا الحديثية
في السند هو أن الطابع العام عليه أنها ضعيفة لأنها مراسيل كتحف العقول ومكارم
الاخلاق، وهكذا الحال بالنسبة إلى المستدرك إذ الطابع العام على رواياته أنها
ضعيفة.