37/04/07
تحمیل
الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
كان الكلام في مقدار الفحص الواجب، والكلام في المقام تارة يقع في مقدار الفحص من ناحية السند وثبوت الرواية، وأخرى يقع في مقدار الفحص من ناحية الدلالة، يعني بعد أن نثبت ثبوت الرواية يقع الكلام في مقدار الفحص الواجب بلحاظ الدلالة:
أمّا مقدار الفحص الواجب من ناحية السند وأصل الثبوت، الكلام هنا يقع كبروياً في أنّ هذا الفحص لابدّ أن تكون له نهاية، فالكلام يقع في أنّ هذه النهاية التي ينتهي عندها وجوب الفحص ويجوز إجراء البراءة، ما هي ؟ هل يجب أن يفحص حتى يحصل له العلم بعدم الدليل ؟ حينئذٍ ينتهي وجوب الفحص ويجوز له إجراء البراءة، أو يُكتفى بحصول الاطمئنان ؟ أو يُكتفى بحصول الظن ؟ هذا ما طرحه السيد الخوئي(قدّس سرّه) سابقاً.
بعد ذلك يقع الكلام صغروياً في أنّه متى تتحقق هذه الغاية والنهاية ؟ لنفترض أننا انتهينا في البحث الكبروي إلى أنّه لابدّ من حصول الاطمئنان بعدم الدليل، فيقع الكلام من ناحية صغروية أنّ الاطمئنان كيف يحصل ؟ هنا تأتي مسألة أنّ الاطمئنان هل يحصل بمراجعة الكتب الأربعة ـــــــ مثلاً ــــــ ؟ أو أنّه لا يحصل إلا بالفحص عن جميع الكتب ؟ هذا بحث صغروي بعد الفراغ عن كفاية الاطمئنان.
أما البحث الكبروي، فالظاهر أنّ النهاية في المقام هي عبارة عن حصول الحجة على عدم الدليل، باعتبار أنّ المفروض أنّ إجراء البراءة لا يجوز إلاّ مع عدم الدليل؛ لأنّ البراءة لا تجري مع وجود الدليل، فلكي يحرز المكلف أنّ شرط البراءة متوفر ويجري البراءة لابدّ أن يحرز عدم الدليل حتى يتمكن من إجراء البراءة، فلابدّ من الفحص لكي يحرز عدم الدليل، إحراز عدم الدليل يكون بقيام الحجّة عليه، العلم حجّة بلا إشكال، كما أنّ الظن ليس حجّة إلاّ أن يقوم دليل خاص على اعتباره، لكن مع قطع النظر عن هذا، الظن ليس حجّة ولا يحرز به المكلف عدم الدليل، فيبقى لدينا الاطمئنان، أنّ الاطمئنان هل يكفي في المقام، أو لا ؟ حينئذٍ يقال أنّ كفاية الاطمئنان في محل الكلام مبنية على كونه حجّة حاله حال سائر الحجج الأخرى، غاية الأمر أنّ حجيته ليست ذاتية كالعلم، وإنما حجيته تكون مجعولة، فمن هنا نحتاج إلى إثبات حجية الاطمئنان، ما هو الدليل على حجية الاطمئنان ؟ لأنّ الاطمئنان لا يخرج عن كونه ظناً، لكنه ظنّ بمستوى عالي؛ لأنّ احتمال الخلاف فيه يكون ضعيفاً جداً بنحوٍ لا يعتني به العقلاء، فإن كان الاطمئنان حجة؛ فحينئذٍ هو يكفي في محل الكلام. فما هو الدليل على حجية الاطمئنان ؟
في عبارة السيد الخوئي(قدّس سرّه) المتقدمة التي نقلناها عنه أشار إلى الدليل على حجية الاطمئنان وهو أنّ السيرة منعقدة على العمل بالاطمئنان في أمورهم التكوينية والتشريعية، ونضم إلى قيام السيرة عدم الردع، أنّ الشارع لم يردع العقلاء عن العمل بالاطمئنان في سيرتهم المذكورة، وبضميمة عدم الردع إلى قيام السيرة يثبت إمضاء تلك السيرة والرضا بالعمل بالاطمئنان، فيكون الاطمئنان حجة.
هذا الكلام يتوقف على إثبات عدم الردع، وبعبارة أخرى: يتوقف على نفي أن تكون الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن رادعة عن تلك السيرة، وإلاّ لو كانت الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم صالحة للردع عن هذه السيرة؛ حينئذٍ لا يمكن الاحتجاج بهذه السيرة، المهم في ثبوت حجية الاطمئنان أن نحرز عدم ردع الشارع، أمّا إذا كانت هناك آيات من القرآن الكريم وروايات تنهى عن العمل بغير العلم، والاطمئنان مهما كان هو ليس علماً لوجود احتمال الخلاف فيه، فإذن: لكي يتم هذا الدليل لابدّ من إثبات عدم صلاحية هذه الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن للردع عن هذه السيرة.
قد يقال: أنّ هذه الأدلة لا تصلح للردع عن العمل بالاطمئنان الذي انعقدت عليه السيرة، وذلك لأنّ هذا العمل خارج تخصصاً عن موضوع الآيات والروايات؛ لأنّ الاطمئنان يعتبر علماً عرفاً، غاية الأمر أنّه ليس علماً دقّياً حقيقياً، لكنه عرفاً يُعد علماً؛ فحينئذٍ لا تشمله تلك الآيات والروايات، فلا تصلح للردع عن هذه السيرة؛ لأنّ مورد السيرة خارج تخصصاً وموضوعاً عن الآيات والروايات، فيتم الدليل؛ وحينئذٍ تثبت حجية الاطمئنان.
لكن من غير الواضح أنّ العقلاء يبنون على أنّ الاطمئنان علم. صحيح أنّهم لا يعتنون باحتمال الخلاف، ويتعاملون مع الاطمئنان كما يتعاملون مع العلم، لكن ليس لازم ذلك أنّهم يعتبرون الاطمئنان علماً؛ بل الظاهر أنّ العقل والعرف لا يعتبره علماً، لو فرضنا أنّ نجاسة سقطت في إناء ضمن آنية كثيرة علم بها المكلف، نفترض أنّ عدد الآنية يبلغ مائتين إناء؛ حينئذٍ احتمال أن يكون هذا الإناء هو النجس تكون نسبته ضعيفة جداً 1 من 200 بالرغم من أنّ نسبة الخلاف نسبة ضعيفة العرف لا يرى نفسه أنّه عالم بطهارة هذا الإناء، فدعوى أنّ هذا علم عرفاً هي دعوى غير واضحة. هذا بالنسبة إلى محاولة السيد الخوئي(قدّس سرّه) لتصحيح الدليل.
قد يجاب بجواب آخر لتصحيح هذا الدليل، بأن يقال: أنّ هذه الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم لا تصلح للردع عن هذه السيرة، باعتبار أنّ الشارع لم ينصب طريقاً آخر بدل الاطمئنان، ولا معنى للردع عنه مع عدم نصب طريقٍ آخر مكانه. يقول: تارة يفتح الشارع طريقاً آخر للمكلف لمعرفة أحكامه غير الاطمئنان؛ حينئذٍ يمكن أن يقال أنّ الشارع يمكن أن يردع عن العمل بالاطمئنان بالآيات والروايات؛ لأنّ هناك طريقاً آخر جعله الشارع يمكن أن يحقق الهدف، لكن حيث لا يكون هناك طريق منصوب من قبل الشارع يقوم مقام الاطمئنان، في هذه الحالة لا معنى للردع عن الاطمئنان؛ إذ لا معنى لأن يردع الشارع عن طريقٍ ولا يجعل طريقاً مكانه؛ ولذا هذه الآيات لا تصلح للردع عن العمل بالاطمئنان، إلا إذا فُرض أنّ الشارع أقام طريقاً آخر مقام الاطمئنان، لكن حيث لم يُفرض ذلك، والشارع لم يقم طريقاً آخر غير الاطمئنان؛ فحينئذٍ هذه الآيات والروايات لا تصلح أن تكون رادعة عن العمل بالاطمئنان.
أقول: هذا الجواب أيضاً ليس واضحاً، باعتبار أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون تاماً بلحاظ السيرة المنعقدة على العمل بالظواهر؛ لأنّ هناك يمكن أن نقول ليس هناك طريقة أخرى لمعرفة مراد الشارع، إلا الأخذ بالظواهر، هنا يأتي هذا الكلام ــــــ إذا تم ــــــ فيقال أنّ الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم لا تصلح أن تكون رادعة عن السيرة المنعقدة على العمل بظواهر الكلام لتشخيص المراد؛ لعدم وجود طريق آخر نصبه الشارع لمعرفة مراداته وتشخيصها غير الأخذ بظواهر كلامه، فلا معنى للردع عنه. لكن في محل الكلام قد يقال يوجد طريق، نحن كلامنا في معرفة الأحكام الشرعية، هل ينحصر طريق معرفة الأحكام الشرعية بالاطمئنان ؟ أو أنّ الشارع جعل طريقاً آخر لمعرفة أحكامه وهو الإمارات ؟ الشارع أمر بالعمل بخبر الثقة وبيّن أنّه حجّة ويجب العمل به وترتيب الأثر عليه، وأنّ أحكامه تُعرف عن طريق العمل بأخبار الثقات، وقال لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا.... وأمثال هذه العبارات. فالقضية غير محصورة بالاطمئنان، فحتى لو سلّمنا هذا الدليل، لكن انطباقه في محل الكلام مشكل. نعم، في خصوص محل الكلام، أي في الفحص حتى يحصل الاطمئنان بعدم الدليل على الحكم الشرعي، قد يُدعى هذا المطلب، هذا الذي يثبت عدم وجود دليل، يمكن أن يقال بأنّه منحصر بالاطمئنان؛ لأنّه من غير المتوقع أن يقوم خبر ثقة يكون مفاده هو عدم وجود دليل في الكتب الأربعة، افتراض أنّ خبر الثقة يُخبر بالحكم الشرعي ممكن، لا أن يقوم خبر ثقة مفاده هو عدم وجود دليل على خلاف البراءة في الكتب الأربعة، فيمكن أن يقال أنّ إثبات عدم الدليل ينحصر بالاطمئنان، أو العلم وقلنا أنّه شيء نادر، فهنا يمكن أن يتم هذا الدليل، لكن بشكل عام الاطمئنان إذا كان المراد به إثبات الأحكام الشرعية والوصول إليها الطريق ليس منحصراً به كما ذكرنا.
الصحيح في الجواب عن هذا الإشكال وإتمام الدليل الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) هو أن يقال يمكن إثبات عدم صلاحية الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم بنفس انعقاد السيرة على العمل بالاطمئنان، هذه السيرة ليست سيرة جديدة وهي موجودة في زمان صدور النصوص وفي زمان الأئمّة(عليهم السلام) المسلمون يعملون بالاطمئنان في كل أمورهم، واستمرت هذه السيرة إلى يومنا هذا، وهذا معناه أنّ هذه الآيات لا تصلح للردع، وإلاّ لو كانت صالحة للردع عن العمل بالاطمئنان لما انعقدت هذه السيرة؛ لأنّ المفروض أنّ هذه الآيات والروايات تنهى عن العمل بغير العلم، فلو كانت صالحة للردع لما انعقدت هذه السيرة. إذن: من انعقاد السيرة في زمن الأئمة(عليهم السلام) وإلى يومنا هذا، هذا بنفسه دليل على أنّ هذه الآيات والروايات لا تصلح أن تكون رادعة عن العمل بالاطمئنان، وبهذا يثبت عدم الردع؛ وحينئذٍ يتم هذا الدليل الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه)، ومنه يظهر أنّ الصحيح هو أنّ الاطمئنان حجّة معتبرة يمكن التعويل عليها لإحراز أنّ الفحص أدّى إلى عدم الدليل؛ حينئذٍ يجوز إجراء البراءة. هذا كلّه إذا قلنا أنّ حجية الاطمئنان حجية مجعولة، وإلاّ إذا قلنا أنّ حجية الاطمئنان ذاتية كالعلم؛ فحينئذٍ تكون المسألة أوضح. هذا بالنسبة للبحث الكبروي، ونتيجته أنّه يجب على المكلف الفحص حتى يحصل له الاطمئنان.
أمّا بالنسبة للبحث الصغروي، هذاالاطمئنان الذي يجوّز للمكلف إجراء البراءة بعد حصوله بأي مقدار من الفحص يتحقق خارجاً ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) في عبارته السابقة يقول يكفي مراجعة الباب المناسب، وإذا رجع إلى هذا الباب المناسب ولم يعثر على دليل، فهذا كافٍ في حصول الاطمئنان بعدم الدليل، وبالتالي يجوز له إجراء البراءة . ولعلّ مقتضى إطلاق كلامه هو أنّه يكتفي بهذا المقدار حتى إذا احتمل وجود دليل في موضع ٍ آخر، كما لو كان يبحث في كتاب الصلاة واحتمل وجود دليلٍ في كتاب المضاربة، لا يجب عليه أن يبحث في كتاب المضاربة.
هذا الكلام الذي ذكره لعلّه ناشئ من قياس ما نحن فيه على عمل العقلاء في المولويات العرفية فيما بينهم، في عمل العقلاء بالنسبة إلى قوانين المولى العرفي يقال إذا جرت عادة هذا المشرع وواضع القوانين التشريعية والتنفيذية على أنّه يضعها في موضع معين كالجريدة الرسمية ــــــــ مثلاً ــــــــ هنا جرت عادة العقلاء والعرف على أن يراجعون هذا الموضع ولا يراجعون غيره، فإن وجدوا قانوناً عملوا به، وإن لم يجدوا فهذا يكفي لإجراء البراءة، ولا يرجعون إلى ما عداه، كأنّ ما نحن فيه أُريد أن يقاس بهذا، باعتبار أنّه هنا أيضاً يقال أنّ الأخبار مجموعة في الكتب الأربعة وأمثالها؛ فحينئذٍ يكتفي المكلف بمراجعة هذه الكتب في الأبواب المناسبة لها ولا يجب عليه أن يراجع ما هو أزيد من ذلك.
لكن يمكن أن يقال: أنّ هذا قياس مع الفارق، باعتبار أنّه في القوانين الوضعية، الجهات التي تصدر قوانين وضعية هي نفسها التزمت بأن تضع قوانينها في هذا الموضع، يعني جرت عادة السلطة التنفيذية أن تضع قوانينها في الجريدة الرسمية، هنا يكون هذا الكلام صحيحاً، والعقلاء يراجعون الجريدة الرسمية، فإن لم يجدوا أجروا البراءة، لكن في ما نحن فيه لا يوجد هكذا شيء، فلا نستطيع أن نقول جرت عادة الشارع على أن يضع الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية في الكتب الأربعة، إنّما هذه عادة من قبل العلماء(رضوان الله عليهم) حيث اتعبوا أنفسهم في جمع الأخبار وتبويبها وترتيبها، فوضعوا كل خبر في الباب المناسب له، هم الذين جمعوا الأخبار وهم جرت عادتهم على أن يضعوا كل خبر في الباب المناسب له وليست هي عادة المشرع ونفس صاحب الأحكام الشرعية، وهناك فرق بين المقامين، ومن هنا تكون مسألة الاكتفاء بالرجوع للباب المناسب فقط، وأنّ هذا يكفي في حصول الاطمئنان، هذا غير واضح. نعم، قد يتفق هذا وقد يحصل كثيراً أنّ الإنسان يحصل الاطمئنان بمراجعة الأبواب المناسبة بعدم الدليل، ونحن نتكلّم عن الاطمئنان الشخصي، خصوصاً إذا ضممنا إلى هذا أنّه في كلمات الفقهاء الذين بذلوا جهدهم لمتابعة الأخبار والاستدلال بها أيضاً لا نجد في كلماتهم ما يشير إلى وجود دليل لا في الابواب المناسبة يوجد دليل، ولا في كلمات الفقهاء توجد إشارة إلى وجود دليل، هذا عادةً يحصل الاطمئنان بعدم الدليل؛ لأنّه إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجهد الذي بذله علماؤنا(رضوان الله عليهم) في تبويب الأبواب وترتيبها؛ حينئذٍ يحصل عادة الاطمئنان من ذلك، لكن ليس بالضرورة أن يحصل الاطمئنان دائماً، قد تأتي إشارة إلى شيءٍ يتعلق بالمطلب في كتاب آخر؛ حينئذٍ يجب عليه مراجعته ولا يحصل الاطمئنان بمجرّد مراجعة الأبواب المناسبة. حتى وإن كانوا قد بذلوا جهدهم، لكن بالنتيجة قد يفلت منهم دليل، أو أنهم لا يلتفتون إلى دليل، فالمناط هو حصول الاطمئنان الشخصي، أن يفحص الفقيه في مظان وجود الدليل إلى أن يحصل له الاطمئنان بعدم الدليل، وهذا يختلف من مسألةٍ إلى أخرى ومن استنباط إلى استنباط ومن كتابٍ إلى كتاب، ربما بعض الكتب تعز فيها النصوص بحيث إذا راجع الباب ولم يجد نصوصاً يستبعد أن يكون هناك نص آخر، لكن بعض الأبواب تكثر فيها النصوص، وهناك نصوص متشابكة يعني تدخل في مسائل متعددة، فقد يُذكر هذا النص في باب وله ارتباط بالباب الذي يبحث عنه الفقيه ويريد أن يستنبط حكمه، الظاهر أنّه لابدّ من حصول الاطمئنان الشخصي، أمّا أنّ هذا الاطمئنان يحصل بمجرّد مراجعة الباب المناسب فقط ونقول أنّ هذه قاعدة عامة، فلا يكفي هذا، وإنّما نقول إن حصل الاطمئنان بمراجعة الأبواب المناسبة، فبها، وإن لم يحصل الاطمئنان لابدّ من التفتيش أكثر من ذلك ولابدّ من حصول الاطمئنان حتى يجوز له إجراء البراءة.
كان الكلام في مقدار الفحص الواجب، والكلام في المقام تارة يقع في مقدار الفحص من ناحية السند وثبوت الرواية، وأخرى يقع في مقدار الفحص من ناحية الدلالة، يعني بعد أن نثبت ثبوت الرواية يقع الكلام في مقدار الفحص الواجب بلحاظ الدلالة:
أمّا مقدار الفحص الواجب من ناحية السند وأصل الثبوت، الكلام هنا يقع كبروياً في أنّ هذا الفحص لابدّ أن تكون له نهاية، فالكلام يقع في أنّ هذه النهاية التي ينتهي عندها وجوب الفحص ويجوز إجراء البراءة، ما هي ؟ هل يجب أن يفحص حتى يحصل له العلم بعدم الدليل ؟ حينئذٍ ينتهي وجوب الفحص ويجوز له إجراء البراءة، أو يُكتفى بحصول الاطمئنان ؟ أو يُكتفى بحصول الظن ؟ هذا ما طرحه السيد الخوئي(قدّس سرّه) سابقاً.
بعد ذلك يقع الكلام صغروياً في أنّه متى تتحقق هذه الغاية والنهاية ؟ لنفترض أننا انتهينا في البحث الكبروي إلى أنّه لابدّ من حصول الاطمئنان بعدم الدليل، فيقع الكلام من ناحية صغروية أنّ الاطمئنان كيف يحصل ؟ هنا تأتي مسألة أنّ الاطمئنان هل يحصل بمراجعة الكتب الأربعة ـــــــ مثلاً ــــــ ؟ أو أنّه لا يحصل إلا بالفحص عن جميع الكتب ؟ هذا بحث صغروي بعد الفراغ عن كفاية الاطمئنان.
أما البحث الكبروي، فالظاهر أنّ النهاية في المقام هي عبارة عن حصول الحجة على عدم الدليل، باعتبار أنّ المفروض أنّ إجراء البراءة لا يجوز إلاّ مع عدم الدليل؛ لأنّ البراءة لا تجري مع وجود الدليل، فلكي يحرز المكلف أنّ شرط البراءة متوفر ويجري البراءة لابدّ أن يحرز عدم الدليل حتى يتمكن من إجراء البراءة، فلابدّ من الفحص لكي يحرز عدم الدليل، إحراز عدم الدليل يكون بقيام الحجّة عليه، العلم حجّة بلا إشكال، كما أنّ الظن ليس حجّة إلاّ أن يقوم دليل خاص على اعتباره، لكن مع قطع النظر عن هذا، الظن ليس حجّة ولا يحرز به المكلف عدم الدليل، فيبقى لدينا الاطمئنان، أنّ الاطمئنان هل يكفي في المقام، أو لا ؟ حينئذٍ يقال أنّ كفاية الاطمئنان في محل الكلام مبنية على كونه حجّة حاله حال سائر الحجج الأخرى، غاية الأمر أنّ حجيته ليست ذاتية كالعلم، وإنما حجيته تكون مجعولة، فمن هنا نحتاج إلى إثبات حجية الاطمئنان، ما هو الدليل على حجية الاطمئنان ؟ لأنّ الاطمئنان لا يخرج عن كونه ظناً، لكنه ظنّ بمستوى عالي؛ لأنّ احتمال الخلاف فيه يكون ضعيفاً جداً بنحوٍ لا يعتني به العقلاء، فإن كان الاطمئنان حجة؛ فحينئذٍ هو يكفي في محل الكلام. فما هو الدليل على حجية الاطمئنان ؟
في عبارة السيد الخوئي(قدّس سرّه) المتقدمة التي نقلناها عنه أشار إلى الدليل على حجية الاطمئنان وهو أنّ السيرة منعقدة على العمل بالاطمئنان في أمورهم التكوينية والتشريعية، ونضم إلى قيام السيرة عدم الردع، أنّ الشارع لم يردع العقلاء عن العمل بالاطمئنان في سيرتهم المذكورة، وبضميمة عدم الردع إلى قيام السيرة يثبت إمضاء تلك السيرة والرضا بالعمل بالاطمئنان، فيكون الاطمئنان حجة.
هذا الكلام يتوقف على إثبات عدم الردع، وبعبارة أخرى: يتوقف على نفي أن تكون الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن رادعة عن تلك السيرة، وإلاّ لو كانت الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم صالحة للردع عن هذه السيرة؛ حينئذٍ لا يمكن الاحتجاج بهذه السيرة، المهم في ثبوت حجية الاطمئنان أن نحرز عدم ردع الشارع، أمّا إذا كانت هناك آيات من القرآن الكريم وروايات تنهى عن العمل بغير العلم، والاطمئنان مهما كان هو ليس علماً لوجود احتمال الخلاف فيه، فإذن: لكي يتم هذا الدليل لابدّ من إثبات عدم صلاحية هذه الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن للردع عن هذه السيرة.
قد يقال: أنّ هذه الأدلة لا تصلح للردع عن العمل بالاطمئنان الذي انعقدت عليه السيرة، وذلك لأنّ هذا العمل خارج تخصصاً عن موضوع الآيات والروايات؛ لأنّ الاطمئنان يعتبر علماً عرفاً، غاية الأمر أنّه ليس علماً دقّياً حقيقياً، لكنه عرفاً يُعد علماً؛ فحينئذٍ لا تشمله تلك الآيات والروايات، فلا تصلح للردع عن هذه السيرة؛ لأنّ مورد السيرة خارج تخصصاً وموضوعاً عن الآيات والروايات، فيتم الدليل؛ وحينئذٍ تثبت حجية الاطمئنان.
لكن من غير الواضح أنّ العقلاء يبنون على أنّ الاطمئنان علم. صحيح أنّهم لا يعتنون باحتمال الخلاف، ويتعاملون مع الاطمئنان كما يتعاملون مع العلم، لكن ليس لازم ذلك أنّهم يعتبرون الاطمئنان علماً؛ بل الظاهر أنّ العقل والعرف لا يعتبره علماً، لو فرضنا أنّ نجاسة سقطت في إناء ضمن آنية كثيرة علم بها المكلف، نفترض أنّ عدد الآنية يبلغ مائتين إناء؛ حينئذٍ احتمال أن يكون هذا الإناء هو النجس تكون نسبته ضعيفة جداً 1 من 200 بالرغم من أنّ نسبة الخلاف نسبة ضعيفة العرف لا يرى نفسه أنّه عالم بطهارة هذا الإناء، فدعوى أنّ هذا علم عرفاً هي دعوى غير واضحة. هذا بالنسبة إلى محاولة السيد الخوئي(قدّس سرّه) لتصحيح الدليل.
قد يجاب بجواب آخر لتصحيح هذا الدليل، بأن يقال: أنّ هذه الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم لا تصلح للردع عن هذه السيرة، باعتبار أنّ الشارع لم ينصب طريقاً آخر بدل الاطمئنان، ولا معنى للردع عنه مع عدم نصب طريقٍ آخر مكانه. يقول: تارة يفتح الشارع طريقاً آخر للمكلف لمعرفة أحكامه غير الاطمئنان؛ حينئذٍ يمكن أن يقال أنّ الشارع يمكن أن يردع عن العمل بالاطمئنان بالآيات والروايات؛ لأنّ هناك طريقاً آخر جعله الشارع يمكن أن يحقق الهدف، لكن حيث لا يكون هناك طريق منصوب من قبل الشارع يقوم مقام الاطمئنان، في هذه الحالة لا معنى للردع عن الاطمئنان؛ إذ لا معنى لأن يردع الشارع عن طريقٍ ولا يجعل طريقاً مكانه؛ ولذا هذه الآيات لا تصلح للردع عن العمل بالاطمئنان، إلا إذا فُرض أنّ الشارع أقام طريقاً آخر مقام الاطمئنان، لكن حيث لم يُفرض ذلك، والشارع لم يقم طريقاً آخر غير الاطمئنان؛ فحينئذٍ هذه الآيات والروايات لا تصلح أن تكون رادعة عن العمل بالاطمئنان.
أقول: هذا الجواب أيضاً ليس واضحاً، باعتبار أنّ هذا الجواب يمكن أن يكون تاماً بلحاظ السيرة المنعقدة على العمل بالظواهر؛ لأنّ هناك يمكن أن نقول ليس هناك طريقة أخرى لمعرفة مراد الشارع، إلا الأخذ بالظواهر، هنا يأتي هذا الكلام ــــــ إذا تم ــــــ فيقال أنّ الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم لا تصلح أن تكون رادعة عن السيرة المنعقدة على العمل بظواهر الكلام لتشخيص المراد؛ لعدم وجود طريق آخر نصبه الشارع لمعرفة مراداته وتشخيصها غير الأخذ بظواهر كلامه، فلا معنى للردع عنه. لكن في محل الكلام قد يقال يوجد طريق، نحن كلامنا في معرفة الأحكام الشرعية، هل ينحصر طريق معرفة الأحكام الشرعية بالاطمئنان ؟ أو أنّ الشارع جعل طريقاً آخر لمعرفة أحكامه وهو الإمارات ؟ الشارع أمر بالعمل بخبر الثقة وبيّن أنّه حجّة ويجب العمل به وترتيب الأثر عليه، وأنّ أحكامه تُعرف عن طريق العمل بأخبار الثقات، وقال لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا.... وأمثال هذه العبارات. فالقضية غير محصورة بالاطمئنان، فحتى لو سلّمنا هذا الدليل، لكن انطباقه في محل الكلام مشكل. نعم، في خصوص محل الكلام، أي في الفحص حتى يحصل الاطمئنان بعدم الدليل على الحكم الشرعي، قد يُدعى هذا المطلب، هذا الذي يثبت عدم وجود دليل، يمكن أن يقال بأنّه منحصر بالاطمئنان؛ لأنّه من غير المتوقع أن يقوم خبر ثقة يكون مفاده هو عدم وجود دليل في الكتب الأربعة، افتراض أنّ خبر الثقة يُخبر بالحكم الشرعي ممكن، لا أن يقوم خبر ثقة مفاده هو عدم وجود دليل على خلاف البراءة في الكتب الأربعة، فيمكن أن يقال أنّ إثبات عدم الدليل ينحصر بالاطمئنان، أو العلم وقلنا أنّه شيء نادر، فهنا يمكن أن يتم هذا الدليل، لكن بشكل عام الاطمئنان إذا كان المراد به إثبات الأحكام الشرعية والوصول إليها الطريق ليس منحصراً به كما ذكرنا.
الصحيح في الجواب عن هذا الإشكال وإتمام الدليل الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) هو أن يقال يمكن إثبات عدم صلاحية الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم بنفس انعقاد السيرة على العمل بالاطمئنان، هذه السيرة ليست سيرة جديدة وهي موجودة في زمان صدور النصوص وفي زمان الأئمّة(عليهم السلام) المسلمون يعملون بالاطمئنان في كل أمورهم، واستمرت هذه السيرة إلى يومنا هذا، وهذا معناه أنّ هذه الآيات لا تصلح للردع، وإلاّ لو كانت صالحة للردع عن العمل بالاطمئنان لما انعقدت هذه السيرة؛ لأنّ المفروض أنّ هذه الآيات والروايات تنهى عن العمل بغير العلم، فلو كانت صالحة للردع لما انعقدت هذه السيرة. إذن: من انعقاد السيرة في زمن الأئمة(عليهم السلام) وإلى يومنا هذا، هذا بنفسه دليل على أنّ هذه الآيات والروايات لا تصلح أن تكون رادعة عن العمل بالاطمئنان، وبهذا يثبت عدم الردع؛ وحينئذٍ يتم هذا الدليل الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه)، ومنه يظهر أنّ الصحيح هو أنّ الاطمئنان حجّة معتبرة يمكن التعويل عليها لإحراز أنّ الفحص أدّى إلى عدم الدليل؛ حينئذٍ يجوز إجراء البراءة. هذا كلّه إذا قلنا أنّ حجية الاطمئنان حجية مجعولة، وإلاّ إذا قلنا أنّ حجية الاطمئنان ذاتية كالعلم؛ فحينئذٍ تكون المسألة أوضح. هذا بالنسبة للبحث الكبروي، ونتيجته أنّه يجب على المكلف الفحص حتى يحصل له الاطمئنان.
أمّا بالنسبة للبحث الصغروي، هذاالاطمئنان الذي يجوّز للمكلف إجراء البراءة بعد حصوله بأي مقدار من الفحص يتحقق خارجاً ؟ السيد الخوئي(قدّس سرّه) في عبارته السابقة يقول يكفي مراجعة الباب المناسب، وإذا رجع إلى هذا الباب المناسب ولم يعثر على دليل، فهذا كافٍ في حصول الاطمئنان بعدم الدليل، وبالتالي يجوز له إجراء البراءة . ولعلّ مقتضى إطلاق كلامه هو أنّه يكتفي بهذا المقدار حتى إذا احتمل وجود دليل في موضع ٍ آخر، كما لو كان يبحث في كتاب الصلاة واحتمل وجود دليلٍ في كتاب المضاربة، لا يجب عليه أن يبحث في كتاب المضاربة.
هذا الكلام الذي ذكره لعلّه ناشئ من قياس ما نحن فيه على عمل العقلاء في المولويات العرفية فيما بينهم، في عمل العقلاء بالنسبة إلى قوانين المولى العرفي يقال إذا جرت عادة هذا المشرع وواضع القوانين التشريعية والتنفيذية على أنّه يضعها في موضع معين كالجريدة الرسمية ــــــــ مثلاً ــــــــ هنا جرت عادة العقلاء والعرف على أن يراجعون هذا الموضع ولا يراجعون غيره، فإن وجدوا قانوناً عملوا به، وإن لم يجدوا فهذا يكفي لإجراء البراءة، ولا يرجعون إلى ما عداه، كأنّ ما نحن فيه أُريد أن يقاس بهذا، باعتبار أنّه هنا أيضاً يقال أنّ الأخبار مجموعة في الكتب الأربعة وأمثالها؛ فحينئذٍ يكتفي المكلف بمراجعة هذه الكتب في الأبواب المناسبة لها ولا يجب عليه أن يراجع ما هو أزيد من ذلك.
لكن يمكن أن يقال: أنّ هذا قياس مع الفارق، باعتبار أنّه في القوانين الوضعية، الجهات التي تصدر قوانين وضعية هي نفسها التزمت بأن تضع قوانينها في هذا الموضع، يعني جرت عادة السلطة التنفيذية أن تضع قوانينها في الجريدة الرسمية، هنا يكون هذا الكلام صحيحاً، والعقلاء يراجعون الجريدة الرسمية، فإن لم يجدوا أجروا البراءة، لكن في ما نحن فيه لا يوجد هكذا شيء، فلا نستطيع أن نقول جرت عادة الشارع على أن يضع الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية في الكتب الأربعة، إنّما هذه عادة من قبل العلماء(رضوان الله عليهم) حيث اتعبوا أنفسهم في جمع الأخبار وتبويبها وترتيبها، فوضعوا كل خبر في الباب المناسب له، هم الذين جمعوا الأخبار وهم جرت عادتهم على أن يضعوا كل خبر في الباب المناسب له وليست هي عادة المشرع ونفس صاحب الأحكام الشرعية، وهناك فرق بين المقامين، ومن هنا تكون مسألة الاكتفاء بالرجوع للباب المناسب فقط، وأنّ هذا يكفي في حصول الاطمئنان، هذا غير واضح. نعم، قد يتفق هذا وقد يحصل كثيراً أنّ الإنسان يحصل الاطمئنان بمراجعة الأبواب المناسبة بعدم الدليل، ونحن نتكلّم عن الاطمئنان الشخصي، خصوصاً إذا ضممنا إلى هذا أنّه في كلمات الفقهاء الذين بذلوا جهدهم لمتابعة الأخبار والاستدلال بها أيضاً لا نجد في كلماتهم ما يشير إلى وجود دليل لا في الابواب المناسبة يوجد دليل، ولا في كلمات الفقهاء توجد إشارة إلى وجود دليل، هذا عادةً يحصل الاطمئنان بعدم الدليل؛ لأنّه إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجهد الذي بذله علماؤنا(رضوان الله عليهم) في تبويب الأبواب وترتيبها؛ حينئذٍ يحصل عادة الاطمئنان من ذلك، لكن ليس بالضرورة أن يحصل الاطمئنان دائماً، قد تأتي إشارة إلى شيءٍ يتعلق بالمطلب في كتاب آخر؛ حينئذٍ يجب عليه مراجعته ولا يحصل الاطمئنان بمجرّد مراجعة الأبواب المناسبة. حتى وإن كانوا قد بذلوا جهدهم، لكن بالنتيجة قد يفلت منهم دليل، أو أنهم لا يلتفتون إلى دليل، فالمناط هو حصول الاطمئنان الشخصي، أن يفحص الفقيه في مظان وجود الدليل إلى أن يحصل له الاطمئنان بعدم الدليل، وهذا يختلف من مسألةٍ إلى أخرى ومن استنباط إلى استنباط ومن كتابٍ إلى كتاب، ربما بعض الكتب تعز فيها النصوص بحيث إذا راجع الباب ولم يجد نصوصاً يستبعد أن يكون هناك نص آخر، لكن بعض الأبواب تكثر فيها النصوص، وهناك نصوص متشابكة يعني تدخل في مسائل متعددة، فقد يُذكر هذا النص في باب وله ارتباط بالباب الذي يبحث عنه الفقيه ويريد أن يستنبط حكمه، الظاهر أنّه لابدّ من حصول الاطمئنان الشخصي، أمّا أنّ هذا الاطمئنان يحصل بمجرّد مراجعة الباب المناسب فقط ونقول أنّ هذه قاعدة عامة، فلا يكفي هذا، وإنّما نقول إن حصل الاطمئنان بمراجعة الأبواب المناسبة، فبها، وإن لم يحصل الاطمئنان لابدّ من التفتيش أكثر من ذلك ولابدّ من حصول الاطمئنان حتى يجوز له إجراء البراءة.