38/08/18


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/08/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 35 ) حرمة الكذب – المكاسب المحرمة.

الرواية الثالثة:- الخصال عن أبيه عن سعد عن أحمد بن الحسين بن سعيد عن أبي الحسين بن الحضرمي عن موسى بن القاسم عن جميل بن دراج عن محمد بن سعيد عن المحاربي عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال:- ( ثلاثة يحسن فيهن الكذب المكيدة في الحرب وعدتك زوجتك والاصلاح بين الناس )[1] .

و دلالتها واضحة ، بل لعلها صريحة حيث قالت ( ثلاثة يحسن فيهن الكذب ) وأحدها عِدَةُ الزوجة.

إنما الكلام في سندها:- فإنَّ الخصال عن أبيه لا مشكلة فيه ، أما سعد بن عبدالله الأشعري فهو من أعاظم أصحابنا ، وأحمد بن الحسين بن سعيد الأهوازي الملقب بـ( دندان ) فهو لم يوثق بل لعله ضُعِّف ، نعم قد ورد في رجال كامل الزيارات فإذا بنينا على وثاقة كل من ورد في كامل الزيارات فأيضاً لا ينفعنا ذلك باعتبار أنه قد ضُعِّف فتصير معارضة ، فعلى كلا التقديرين لا ينفعنا ، وأما الحسن بن الحضري فهو مجهول ، وأما موسى بن القاسم فلا يبعد أنه البجلي الجليل ، أما جميل بن دراج فهو من أعاظم أصحابنا ، أما محمد بن سعيد فهو مجهول ، وأما المحاري فهو ذريح بن محمد المحاربي وهو ثقة ، فالمشكلة إذن هي وجود ثلاثة من مجاهيل في السند.

هذه هي الروايات الثلاث ، وههنا إشكالات ثلاثة:-

الاشكال الأوّل:- إنَّ هذه الروايات لا تنفع في اثبات جواز الكذب مع الأهل فإنها ناظرة إلى العدة يعني إلى الوعد وليست ناظرة إلى الإخبار ، فإذن هناك قضيتان لابد من التمييز بينهما والرواية ناظرة إلى الوعد الذي هو من مقولة الإنشاء وليست ناظرة إلى الكذب في الإخبار فإذن موردنا وهو الكذب في الإخبار مع الأهل خارج تخصصاً من مورد الروايات فإنها ناظرة إلى شيءٍ وكلامنا في شيءٍ آخر ، فنحن كلامنا في الكذب في الإخبار بينما هي ناظرة إلى الوعد مع الأهل والوعد من مقولة الإنشاء ، وهذا ما يظهر من كلمات السيد الخوئي(قده) حيث قال:- ( إنَّ الظاهر منه جواز الكذب من حيث خلف الوعد لا من حيث الإخبار فلا يجوز أن يحكي عن تحقق أمر في المستقبل مع علمه بعدم تحققه في الخارج )[2] .

وهو غريب:- فإنَّ الرواية تستثني من مورد حرمة الكذب هذه الموارد الثلاثة وبناء على ما ذكره لا يكون هذا استثناءً من حرمة الكذب وإنما الاستثناء يصير في موردين في المكيدة مثلاً والاصلاح بين الناس أما في عدة الزوجة فلا والحال أنَّ الرواية تقول يحسن الكذب في مورد الوعد مع الأهل ، فإذن من هذا نستنتج أن الكذب يجوز مع الأهل ، يعني حتى لو أخبرها بأنه غداً سوف نسافر معاً من دون أن يأتي بلفظ ( إن شاء الله ) حتى تقول هذا تعليق على المشيئة بل يقول لهم ( غداً سوف أسافر بكم ) وهو من الآن ناوٍ على أن لا يسافر وما قاله كذب صريح والرواية تقول الكذب مع الأهل جائز فهذا يكون مشمولاً ، فما ذكره(قده) غريب.

الاشكال الثاني:- ما ذكره السيد الخميني(قده)[3] من أنَّ هذه الروايات قد تعارض فيها ظهوران فهي مجملة الظهور الأوّل أنه يجوز الكذب مع الأهل والظهور الثاني أنه يجوز الوعد كاذباً مع الأهل والوعد من جنس الانشاء والكذب من جنس الإخبار فيحصل تعارض بين هذين الظهورين فالرواية على هذا الأساس تكون مجملة ولا يمكن التمسّك بها في مورد الإخبار فإنها ناظرة إلى الوعد والعد من مقولة الانشاء.

وهو غريب أيضاً:- فإنَّ الوعد كما قد يكون إنشائياً يكون إخبارياً فإنَّ بعض أنحاء الوعد تكون إخبارية كما إذا فرض أنه قال ( غداً نسافر إلى بلد كذا ) وهو يكذب في ذلك فإنَّ هذا وعدٌ إخباري لا أنه مجرّد إنشاء حتى يقال إنَّ الكذب بلحاظه لا يصدق ، فإذن هذا وعدٌ إخباري فإنه ليس كل وعدٍ يكون إنشائياً ، بل بعض أنحاء تكون أخباراً كهذا ولذلك ترى أنه يوصف بالكذب جزماً ، فالآن لو قال شخص ( غداً نسافر ) وهو بانٍ على أنه لا يسافر فكلّنا يقول هو يكذب.

فإذن لا معارضة في البين ، بل الرواية ناظر إلى الوعد الإخباري وتريد أن تجوّز فيه الكذب ، فلا معارضة إذن بين الظهورين ، إنما تكون المعارضة بين الظهورين إذا كان الوعد يختص بالإنشاء ، ولكنه يكون أيضاً من جنس الإخبار أحياناً وهنا الروايات تريد أن تجوّز الكذب.

الاشكال الثالث:- ولعلّه أوجه الاشكالات وأهمها ، وهو أنَّ يقال إنَّ هذه الروايات ضعيفة السند ، ومعه كيف يجسر الفقيه على الفتوى بجواز الكذب ؟

ونحن نقول:- إنَّ ما ذكر وجيه إذا فرض أنه لا يحصل له اطمئنان بحقانية هذا المضمون الذي اتفقت عليه هذه الروايات الثلاث وأنه أحد الموارد الثلاثة التي يجوز فيها الكذب هو الكذب في العدة مع الأهل ، فإذا لم يحصل هذا الاطمئنان للفقيه فهذا الاشكال تام فيفتي آنذاك بالحرمة ولا يعتني لهذه الروايات ، أما إذا فرض أنه حصل له اطمئنان فحينئذٍ لا بأس بالإفتاء بالجواز كما لعلّه حصل هذا الاطمئنان للسيد الحكيم(قده) في منهاجه القديم فإنه أفتى بالجواز حيث قال:- ( نعم لو كان حال الوعد بانياً على الخلف[4] فالظاهر حرمته إلا إذا كان قد وعد أهله بشيء وهو لا يريد أن يفعله ) فلابد أنه استند إلى هذه الروايات وكأن تعددها أورث له الاطمئنان ، وهذه قضية تابعة لنفسية الفقيه.

ونحن نقول:- إنَّ الاحتياط الوجوبي هو الوسيلة الوسطى والمثلى ، فيحتاط وجوباً بالترك ، فلا يفتي بالحرمة لوجاهة هذا ، ولا يفتي بالجواز لأنَّ ضِعاف السند قد لا تفيد الاطمئنان.

وهناك قضية نشير إليها:- وهي أنه لو جوّزنا الكذب مع الأهل كما جوّز ذلك السيد الحيكم(قده) فلابد وأن نستثني مورداً وهو ما إذا فرض أنَّ صدور هذا من ربَّ الأسرة يوجب تعويد الأطفال والأهل على الكذب فلهاذ يمكن أن يقالب أنه لا يجوز لقوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا انفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ﴾ فهذا أمر خاص بربِّ الأسرة ، يعني كل واحد منّا مسؤول عن المجتمع المسلم بما في ذلك أسرته ولكن ربّ السرة له مسؤولية خاصة ، فتوجد مسؤولية عامّة فكل مسلم مسؤول عن الآخرين ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) فهذه مسؤولية عامة ، وتوجد مسؤولية خاصة موجّهة إلى ربِّ الأسرة فربُّ الأسرة لابد وأن يقي أهله من النار يعني يحفظهم من الانحراف فإذا علّمهم على الكذب حينئذٍ هذا لا يجوز ، وعلى هذا الأساس هذا ينبغي صدوره مرّة أو مرتين مثلاً لا أنه يكون حالةً مستمرة وإلا فقد يتعلم الأطفال أو الأهل الكذب من خلال هذا الأسلوب.

إن قلت:- هل أنت أشد خوفاً على الناس من الله ومن الاسلام من النبي ومن أهل البيت ؟! فإذا كانت الروايات قد جوّزت ذلك وقالت من أحد موارد جواز الكذب هو الوعد مع الأهل فيكف تأتي أنت وتقول هذا لا يجوز ذلك لأنه يستلزم من ذلك تعلّم أهله على الكذب ؟!! فلا معنى لأن يتوقّف الإنسان ويصير محتاطاً أكثر من الله تعالى ؟

والجواب:- المفروض أننا لم نستند إلى أنفسنا وإنما استندنا إلى قوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا انفسكم وأهليكم ﴾ ، فأنا قلت يوجد دليل ثانٍ لا يجوّز ذلك إذا فرض أنَّ الفعل هذا صار سبباً لتعويد الأهل والأطفال على الكذب.

مضافاً إلى إننا لا نحتمل في حق الاسلام أنه يجوّز لنا الكذب حتى لو أوجب انحراف أفراد الأسرة ، فإذن لابد وأن نقول إنَّ هذا يختص بالموارد التي لا يلزم منها هذا المحذور كما لو كان لمرّة أو مرّتين وما شاكل ذلك أو كانت توجّهات الأطفال ضعيفة بحيث لم يلتفتوا إلى أنَّ هذا كذب أما إذا كانت ذهنيتهم جيدة فلابد من الالتفات إلى هذه القضيّة . هذا إذا جوزنا الكذب فلابد أن نستثني هذه الحالة.

كما أنه لو لم نجوّز الكذب مع الأهل بأن قلنا إنَّ هذه الروايات ضعيفة السند فلا يمكن الاستناد إليها فينبغي أن نستثني من ذلك مورداً نحكم فيه بالجواز رغم أننا لا نأخذ بهذه الروايات ، كما إذا فرض أنه إذا لم أعد زوجتي أقول لها ( سأسافر بكم ) فسوف تسوء علاقتنا شيئاً فشيئاً وربما يصل الأمر إلى ما لا يحمد عقباه فحينئذٍ يمكن الحكم بجوازه بالعنوان الثانوي من باب الحفاظ على الأسرة فحينئذٍ نحكم بالجواز بمقدار الضرورة.

ولكني أرشد إلى شيء:- وهو أنه يوجد عندنا شيء يمكن الاستناد إليه والاعتماد عليه دائماً وهي كلمة ( إن شاء الله ) بقصد التعليق لا بقصد التبرّك - لأننا نأتي بهذه العبارة بقصد التبرّك لا التعليق - فيأتي بكلمة ( إن شاء الله سوف أسافر بكم في العطلة ) ويقصد بذلك التعليق فهذا احتياط في محلّه ويحلّ لنا مشكلة الكذب ، ولكن قد قلت إنَّ هذا طريق نسلكه من باب الاحتياط.

ولكن يمكن أن يقال:- أنَّ هذا المقدار ليس بواجب ، فرغم أنَّ الطريق مفتوحٌ ولكنه ليس من اللازم أن تأتي بكلمة ( إن شاء الله ) تمسّكاً بإطلاق الروايات لو بنينا على حجيتها ، فإنَّ الروايات مطلقة حيث جوّزت الكذب مع الأهل فنتمسّك بإطلاقها ، فهي لم تقيد بأن يقول ( إن شاء الله ) بل قالت الكذب جائز هنا فحينئذٍ لا حاجة إلى كلمة ( إن شاء الله ) ، فإذا أردنا أن نسير على طبق الموازين العلمية فمن المناسب إذا كنّا من المجوّزين فنجوّز ذلك حتى إذا كان يمكن الفرار بواسطة كلمة ( إن شاء الله ) ولكن مع ذلك لا يلزم ذلك تمسّكاً بإطلاق الروايات.

ولا تقل:- إنَّ الروايات ناظرة إلى حالة الضرورة ، ففي باب الضرورة هي قد جوّزت فإذا كان عنك مخرج وهو التعليق من خلال كلمة ( إن شاء الله ) فلا ضرورة لك.

فنقول:- إنَّ هذا حدس لا دليل عليه ، وهذا مجرّد احتمال لا مثبت له فنتمسّك بالإطلاق.

ولكن يبقى ما أشرت إليه صحيحاً وهو أنه لمن أراد الاحتياط فلا بأس أن يأتي بكلمة ( إن شاء الله ) فتحلّ له المشكلة.


[2] محاضرات في الفقه الجعفري، الخوئي، ج1، ص496.
[4] وفصده مع غير الزوجة.