25-03-1435


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

35/03/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضـوع:- مسألة (408 ) / الحلق والتقصير / حج التمتع / مناسك الحج للسيد الخوئي(قد).
مسألة( 408 ):- إذا لم يقصّر ولم يحلق نسياناً أو جهلاً منه بالحكم إلى أن خرج من منى رجع وقصّر أو حلق فيها فإن تعذر الرجوع أو تعسّر عليه قصّر في مكانه وبعث بشعر رأسه إلى منى لو أمكنه ذلك.
المسألة المذكورة تشتمل على أحكامٍ ثلاثةٍ، بيد أنه قبل بيان هذه الأحكام نشير إلى قضيتين فنّيتين:-
الأولى:- إن هذه المسألة والتي تأتي بعدها هما معاً مرتبطتان بمن نسي الحلق أو التقصير في منى فكان من المناسب دمجهما في مسألة واحدة بعدما كانتا معاً ناظرتين إلى من نسي الحلق أو التقصير في منى، فالمسألة الأولى تشتمل على أحكام ثلاثة في حقّ من نسي الأوّل يلزمه أن يرجع إلى منى ليحلق أو يقصّر والثاني إذا تعذّر أو تعسّر الرجوع  حلق أو قصّر في مكانه والثالث يلزمه أن يرسل شعره إلى منى ليلقى فيها، وأما الحكم الذي تستمل عليه لمسألة التالية هو أنه لو أتى بأعمال مكّة وهو ناسٍ أن يحلق أو يقصّر ثم التفت بعدها فهل يبطل بذلك طوافه ؟ كلا لا يبطل، فكان من المناسب صياغة المسألة صياغةً واحدةً فيقال:- ( مسألةٌ:- من نسي الحلق أو التقصير في منى ثم التفت فعليه أن يرجع إلى منى ليؤدي الوظيفة، وإذا لم يمكن فعل ذلك في مكانه ويرسل شعره إلى منى، وإذا التفت إلى ذلك بعد طواف الحج والسعي فليس عليه الاعادة ) فبذلك تأتي الأحكام مترابطة فيسهل آنذاك ضبطها.
الثانية:- إن المسألة الأولى التي قلنا بأنها تشتمل على أحكامٍ ثلاثةٍ هي وإن اشتملت على أحكامٍ ثلاثةٍ بالدلالة المطابقية إلا أنها تشتمل على حكمٍ رابعٍ بالدلالة الالتزاميّة وهو أنه يجب الحلق والتقصير في منى في حقّ الملتفت لا أن ذلك مجرّد راجح، إن هذا لم يشر إليه(قده) بشكلٍ صريحٍ ولكنّه يستفاد ضمناً من هذه المسالة بأحكامها الثلاثة، وعلى هذا الأساس تصير الأحكام التي نبحثها خمسة.
ونبتدئ الآن بالحكم الأوّل الذي لم تشر إليه المسألتان بالصراحة:-
الحكم الأول:- وجوب الحلق أو التقصير في منى.
لا إشكال من حيث الفتوى في لزوم الحلق أو التقصير في منى، قال في المدارك:- ( هذا الحكم مقطوعٌ به في كلام الأصحاب، بل ظاهر التذكرة والمنتهى أنه موضع وفاق )[1]، وفي الجواهر ما نصّه:- ( بلا خلاف أجده )[2].
ولكن ما هو الدليل على ذلك ؟
استدل صاحب المدارك والجواهر(قده) بصحيحة الحلبي وتبعهم على ذلك السيد الخوئي(قده)[3] وهي:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلٍ نسي أن يقصّر من شعره أو يحلقه حتى ارتحل من منى، قال:- يرجع إلى منى حتى يلقي شعره بها حلقاً كان أو تقصيراً )[4]، وقريب منها رواية أبي بصير التي ورد في سندها البطائني ونصّها:- ( سألته عن رجلٍ جهل أن يقصّر من رأسه أو يحلق حتى ارتحل من منى، قال:- فليرجع إلى منى حتى يحلق شعره بها أو يقصّر، وعلى الصرورة أن يحلق )[5]، والمهم لمن لا يبني على وثاقة البطائني هو صحيحة الحلبي.
بيد أن فيها اشكالاً من حيث الدلالة:- وهو أن الرواية قالت:- ( يرجع إلى منى حتى يلقي شعره بها ) فهي قالت يلقي ولم تقل يحلق فلا يستفاد منها وجوب الحلق في منى بل لعلها تريد أن تقول إنه يحلق أينما كان غايته عليه أن يحمل الشعر ويلقيه في منى، إن هذا إشكال وارد على دلالة هذه الرواية .
ومن هنا حاول السيد الخوئي(قده) أن يقرّب الدلالة بشكلٍ لا يرد هذا الإشكال:- حيث ذكر أن المراد من إلقاء الشعر هو الحلق فإن الإلقاء يستعمل بمعنى النزع والفصل والقطع فيقال ( ألقى فلانٌ ثوبه ) أي نزعه وأزاله وبهذا المعنى يكون المراد من الإلقاء هو قطع الشعر وازالته من الرأس لا أن المقصود هو إلقاءه بعد كونه منزوعاً ومقطوعاً، كلّا بل المراد من ( ألقى شعره ) يعني نزعه وفصله يعني حلقه كما في ( نَزَعَ ثوبه ) بمعنى فصله، هكذا ذكر(قده) ويقصد بذلك التغلّب على الإشكال المذكور.
وواضحٌ أن هذا الاشكال يرد على هذه الرواية وأما الرواية الثانية - أعني رواية ابي بصير - فلا يرد عليها لأنها قالت:- ( فليرجع إلى منى حتى يحلق شعره بها أو يقصّر ) إذ دلالتها واضحة على المطلوب ولذلك من يبني على وثاقة البطائني لا تعود لديه مشكلة وإنما المشكلة فيمن لا يبني على وثاقته.
بل قد يقال:- إن رواية ابي بصير هي بالنقل المذكور وإن كانت واضحة الدلالة ولكن الشيخ الصدوق(قده) رواها بشكل آخر وهو:- ( حتى يلقي شعره بها حلقاً كان أو تقصيراً وعلى الصرورة الحلق )، إنه لم يقل ( حتى يحلق شعره ) كما هو موجود في النقل السابق فإنه في النقل السابق الوارد هو ( حتى يحلق شعره ) وهذا واضحٌ في أنه يحلق شعره في منى أما في نقل الشيخ الصدوق فقالت الرواية ( حتى يلقي ) فعادة المشكلة، اللهم إلا أن يقال إنه لو لم يكن في نقل الشيخ الصدوق تكملة لكان الإشكال في محلّه بيد أنه توجد تكملة حيث قال:- ( حتى يلقي شعره بها حلقا كان أو تقصيراً  )،إنه لا يبعد آنذاك أن يكون المستفاد بقيد ( حلقا ًأو تقصيراً ) ) أن المقصود من الإلقاء هو الحلق أو التقصير، فعليه لا مشكلة في دلالة هذه الرواية وإنما المشكلة في صحيحة الحلبي.
والذي نريد أن نقوله:- إن صحيحة الحلبي لو سلمنا بدلالتها ولم نقل بأنها حياديّة من هذه الناحية ولو بقرينة أنه جاء فيها نفس الذيل الموجود في نقل الشيخ الصدوق - يعني جاء فيها تعبير ( حلقاً كان أو تقصيراً ) - فقد يقول أحدٌ إن الدلالة تامّة من هذه الناحية، بيد أنه يواجهنا إشكالٌ آخر في الدلالة وهو ما أشرنا إليه في أبحاثٍ سابقةٍ في نظائر هذه الرواية وهو أن الحكم المذكور حكم تفريعيٌّ مفرَّع على غيره وليس حكماً مستقلاً والأحكام المفرَّعة على غيرها تكتسب حيثيّة الوجوب أو الاستحباب من الحكم المفرَّع عليه بخلاف ما إذا كانت أحكاماً مستقلة فإنه يستفاد منها الحكم مباشرةً، فهنا لو كان الإمام عليه السلام يذكر ( يلقي شعره في منى حلقاً أو تقصيراً ) ابتداءً فيمكن أن نقول إنه يستفاد منه وجوب الإلقاء الذي هو عبارة أخرى عن الحلق يعني يجب الحلق، ولكن الإمام عليه السلام لم يذكر ذلك ابتداءً وإنما سأله السائل عمّن نسي الحلق أو القصير في منى والإمام فرّع على ذلك أنه يرجع إلى منى ويلقي شعره فهذا لا يستفاد منه الوجوب آنذاك بل إن كان نفس الحلق في منى واجباً فهذا يصير واجباً وإذا كان مستحبّاً فهذا يصير مستحبّاً، هكذا ينبغي أن يكون الحال في الأحكام التفريعيّة، نظير ما لو سأل شخصٌ وقال ( نسيت القنوت قبل الركوع في الركعة الثانية ) فيأتي الجواب ( ائت به بعد الركوع ) إنه هنا لا يكون قولنا ( ائت به بعد الركوع ) دالاً على لزوم ذلك بل المقصود هو أنه يوجد مجالٌ لإدراك هذا المستحب، وإذا قال السائل ( لم أغتسل يوم الجمعة ) لسببٍ وآخر فيقال ( ائت به يوم السبت ) فلا يستفاد من ذلك الوجوب بل بيان توسعة دائرة الاستحباب .... وهكذا في نظائر ذلك، وهنا أيضاً أنت ثبّت في المرحلة الأولى أن الحكم في المفرَّع عليه هو الوجوب فحينئذٍ نستفيد الوجوب من الحكم المفرّع أما أنك تريد أن تستفيد الوجوب في المفرَّع عليه من الحكم المفرَّع فهذا دخولٌ للبيوت من غير أبوابها لأن الحكم المفرّع هو تابعٌ للحكم المفرَّع عليه وعليه فلا يمكن أن نستفيد الوجوب من هذه الصحيحة - أي صحيحة الحلبي - باعتبار أن الحكم فيها حكمٌ مفرَّعٌ على غيره.
إن قلت:- نحن نشعر بالوجدان أن مثل تعبير ( يلقي شعره أو يحلق شعره ) نستفيد منه الوجوب وما ذكرته أشبه بمحاولة الوقوف أمام ما نشعر به وجداناً - يعني أشبه بإدخال الصناعة في مقابلة الوجدان -.
قلت:- هذا جيّدٌ ولا تترك وجدانك لأجل الصناعة ولكن الذي أقوله هو أن الوجدان هل هو قاضٍ بأن جملة ( يلقي شعره ) هي دائماً وكيفما اتفق تدلّ على الوجوب أو أنها تدلّ على الوجوب في مساحةٍ معيّنة ؟ إن الذي نشعر به بالوجدان أنها تدلّ على الوجوب إذا كانت مستقلّة أما إذا فرض أنها كانت مفرَّعة على غيرها فالوجدان قاضٍ على أنه لا بد من ملاحظة الحكم المفرَّع عليه كما ذكرت لك في المثالين السابقين وعلى منوالهما أمثلة كثيرة . إذن هذا ليس وقوفاً أما الوجدان بآلات صناعيّة بل هو بيانٌ لحكومة الوجدان في هذه المساحة دون تلك المساحة، وعليه يشكل دلالة هذه الصحيحة - أي صحيحة الحلبي - على الوجوب.
ومما يؤكد ذلك صحيحة مسمع حيث جاء فيها:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نسي أن يحلق رأسه أو يقصّر حتى نفر، قال:- يحلق في الطريق أو أين كان )[6]، إنها لم تقل ( يلزمه أن يرجع إلى منى ) بل حكمت بأنه يحلق في مكانه وهذا يؤيد على أن المهم هو أصل الحلق والواجب هو أصل الحلق أما أنه في منى فلا يمكن أن نستفيد الوجوب.
وحمل الشيخ الطوسي(قده) - على نقل الحرّ العاملي في ذيل هذه الرواية - هذه الرواية على حالة تعذّر العود ووافقه على ذلك السيد الخوئي(قده) فإنه قال:- إنه بقرينة صحيحة الحلبي الدالّة على الوجوب نحمل هذه الرواية على حالة العذر.
ولكن نقول له:- لِمَ نظرت إلى الصحيحة الأولى أولاً وقلت هي دالة على الوجوب فنحمل هذه الثانية على حالة التعذّر ؟! بل لننظر إلى هذه الرواية أوّلاً فتكون حينئذٍ قرينةً على أن ما جاء في صحيحة الحلبي هو حكمٌ مستحبٌّ فإن صحيحة مسمع قالت:- ( يحلق في مكانه ) وهذا يدلّ على أنه لا يجب عليه أن يرجع إلى منى، وتلك الرواية وإن كان ظاهرها وجوب الرجوع إلى منى ولكن بقرنة هذه نحمل تلك على الاستحباب . إذن لا موجب للنظر إلى تلك الرواية أوّلاً حتى تصير قرينةً على حمل هذه على حالة التعذّر بل للنظر إلى هذه الرواية أوّلاً لتصير قرينةً على حمل تلك الرواية - التي دلت بالظهور على لزوم العود إلى منى - على الاستحباب، وعلى هذا الأساس من هذه الناحية لا يمكن حمل هذه الرواية على حالة التعذّر.