32/11/06


تحمیل

الأمر الثاني:- بعد أن عرفنا أن الكفارة يلزم دفعها إلى الفقراء نسأل هل يكفي دفعها إلى فقير واحد أو لا بد من دفعها إلى مجموعة بحيث يصدق أقل الجمع وهو ثلاثة ؟ فان عنوان ( مساكين ) جمع واقله ثلاثة فهل يكفي الواحد أو لابد من الدفع إلى ثلاثة فما زاد ؟

 والجواب:- انه وان ورد في بعض الروايات عنوان ( مساكين ) ولكن لا ينبغي أن يفهم منه إرادة الجمع وإنما المقصود منه بيان المصرفية ، يعني تصرف الكفارة للفقراء ، فذكر كلمة ( الفقراء ) هو لبيان المصرف ، أو بتعبير آخر هو الجنس الصادق على الواحد والأكثر وليس المقصود هو إفادة الجمع ، كما هو الحال بالنسبة إلى الصدقات في باب الزكاة فقد قالت الآية الكريمة ( إنما الصدقات للفقراء ... ) فهناك أيضاً لا ينبغي أن يفهم إرادة الجمع وإنما المقصود هو الجنس لبيان المصرف ، وهذا مطلب يكاد أن يكون واضحاً ولا ينبغي التشكيك فيه.

 نعم إذا فرض - وهذا بحث فرضي - أنه حصل لنا إجمال ولا ندري أن كلمة ( الفقراء ) قصد منها الجنس لبيان المصرف أو الجمع فنرجع آنذاك إلى الأصل العملي وهو يقتضي البراءة ، بمعنى أنا نجزم بلزوم دفع الكفارة إلى الفقراء ولكن إضافةً إلى هذا هل يوجد واجب آخر اشتغلت به الذمة وهو أن يكون الدفع إلى أكثر من واحد - يعني إلى اقل الجمع - انه شك في تكليف زائد فتجري البراءة عنه.

 والمسألة على ما يظهر لا خلاف فيها فانه لم يشر إليها في كلمات الفقهاء وعدم الإشارة يمكن أن نفهم منه المفروغية عن كون كلمة ( الفقراء ) هي من باب المصرف ولا يقصد منها الجمع.

الأمر الثالث:- هل يجوز أن يدفع إلى الجزار بعض أجزاء الكفارة ؟ المناسب بمقتضى القاعدة هو التفصيل بين ما إذا كان فقيراً فيجوز الدفع له بالمقدار الذي لا يزول معه عنوان الفقر ويتبدل إلى الغنى ، أما إذا لم يكن فقيراً فلا يجوز أن يدفع إليه شيء - ولو الجلد - لأنه ليس مصرفاً لها.

 وربما يقال إن بعض الروايات يمكن أن يفهم منها ذلك ، يعني أنه لا يجوز دفع شيء من الذبيحة إلى القصاب وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ، وهذه الروايات وان كانت مطلقة - يعني لا تقيد بما إذا كان الجزار غنياً فالنهي لم تقيده بحالة غناه - ولكن جواز الدفع إليه إذا كان فقيراً لا ينبغي التشكيك فيه فانه فقير كسائر الفقراء ولا يحتمل أن الذبح بنفسه يصير سبباً لمنع دفع شيء منها إليه ، فالمنصرف منها هو ما إذا كان غنياً كما فهم ذلك غير واحد من الفقهاء كصاحب المدارك[1] وصاحب الجواهر[2] ، قال في المدارك ( ولا يخفى أن المنع من منع إعطاء الجزارين منها إنما هو على وجه الأجرة ، أما لو أعطاه صدقة وكان مستحقاً لذلك فلا بأس به لأنه من المستحقين وقد باشره وتاقت نفسه إليها ، كما ذكره في المنتهى ).

أما الروايات فهي:-

الرواية الأولى:- صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يعطى الجزار من جلود الهدي وجلالها[3] شيئاً )[4] ، وموضع الشاهد هو في الجلود لأنها جزءاً من الكفارة وقد نهى صلى الله عليه وآله من دفع ذلك إلى الجزار.

 يبقى أنها خاصة بالهدي وكلامنا في الكفارة فلا بد من تتميم ذلك بدعوى أن عنوان الهدي يصدق على الكفارة أيضاً ، فان تم هذا وقبلناه فبها وإلا فالاستدلال بالرواية مشكل لاختصاصها بالهدي.

 وهناك مناقشة أشرنا إليها أكثر من مرة وإذا قبلناها فهي سيالة في روايات كثيرة وحاصلها:- إنا قرأنا في علم الأصول أن صيغة النهي ومادته تدلان على التحريم ، فلو قال الإمام ( لا تدفع إلى الجزار شيئاً من الذبيحة ) فهمنا من ذلك الحرمة فان هذا صيغة نهي وهي تدل على الحرمة ، وهكذا لو استعان بالمادة بأن قال ( أنهاكم من دفع شيء من الذبيحة إلى الجزار ) أو ( أنتم منهيون عن ذلك ) فانه يفهم التحريم أيضاً.

 ولكن هناك حالة ثالثة لم نقرأها في علم الأصول وهي أن يُنقَل أنه صدر من الإمام نهي كما هو الحال في هذه الرواية فإنها تقول ( نهى النبي ) وهذا هل يستفاد منه التحريم - وتوجد عندنا روايات متعددة بهذا الشكل أو لا ؟

 انه يمكن أن يشكك ويقال إن اللفظ الصادر من الإمام عليه السلام لم ينقل إلينا فلعله لفظ مقرون بقرينة يفهم منها النزاهة والكراهة دون التحريم ، ولا يكون الناقل خائناً أو مشتبهاً في نقله كي يُنفى ذلك بأصالة الأمانة في النقل ، فانه بالتالي قد صدر نهي من الإمام - حتى لو كان كراهتياً - فلا مثبت لكون ذلك النهي سنخ نهي تحريمي.

 وعليه فيمكن التوقف في استفادة التحريم مما كان من هذا القبيل ، وهذه نكتة ظريفة ينبغي التأمل فيها.

الرواية الثانية:- صحيحة معاوية بن عمار ( سألت أبي عبد الله عليه السلام عن الاهاب[5] فقال:- تصدق به أو تجعله مصلىً ينتفع به في البيت ولا تعطه الجزارين ، وقال:- نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يعطى جلالها وجلودها وقلائدها الجزارين وأمره أن يتصدق بها )[6] .

 وهذه الرواية يمكن استفادة الإلزام منها فانه عليه السلام قال ( تصدق به ) و( تصدق ) فعل أمر فيستفاد منه الإلزام فلا مشكلة من هذه الناحية.

 وإنما المشكلة في أن السؤال هو عن الاهاب ، ولكن أي اهاب ؟ فهل هو اهاب الهدي أو الكفارات أو اهاب الحيوان الذي اذبحه تبرعاً ؟ انه شيء مجمل.

 ونفس هذه الطرحة ليست طرحة عرفية ، يعني أنه لا معنى لأن يأتي شخص ويقول للإمام عليه السلام أسألك عن الاهاب ؟ انه سؤال مجمل ، بل لابد من تشخيص القضية وأنه مثلاً أذبح في الحج أو كفارة في الإحرام أو عقيقة لولدي ؟ ... وهكذا ، انه لابد من وجود شيء اقترن به السؤال وإلا فهو ليس سؤالاً عرفياً ، ومعه لا يمكن أن نضم فكرة أن ترك الاستفصال يدل على العموم ، يعني حيث أن الإمام لم يستفصل فهذا معناه أن هذا الحكم عام لجميع أنواع الحيوان ، كلا بل نحن ندعي أنه لابد أن يكون هذا السؤال مقروناَ بما يشخص هويته والمقصود منه وإلا فهو ليس سؤالاً عرفياً ، وما دام هناك مشخص للسؤال فلا معنى لضم فكرة ترك الاستفصال ، فأمر هذه الرواية مشكل أيضاً . ولا يخفى أنها نكتة ظريفة.

الرواية الثالثة:- صحيحة معاوية الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام ( قال ذبح رسول الله صلى الله عليه وآله عن أمهات المؤمنين بقرةً بقرة ونحر هو ستاً وستين بدنة ، ونحر علي أربعاً وثلاثين بدنة ولم يعط الجزارين من جلالها ولا من قلائدها ولا من جلودها ولكن تصدق به )[7] .

 وهي محل إشكال من ناحيتين:-

الأولى:- إنها تنقل فعلاً للنبي صلى الله عليه وآله والفعل أعم من الإلزام ، فلعله لم يعط الجزارين من جلودها لا من باب الحرمة بل من باب الكراهة.

الثانية:- إن ما صدر من النبي صلى الله عليه وآله صدر في حجه ، فانه لم يرتكب محرماً من محرمات الإحرام حتى يحتاج إلى كفارة ، و أيضاً ذبحه ستاً وستين واضح في أنه لحج التمتع . فهي إذن خاصة بهدي حج التمتع وكلامنا في الكفارات.

 اللهم إلا أن يدعي مدع أن هذا إذا ثبت في الهدي يثبت في الكفارات أيضاً لعدم احتمال التفصيل من هذه الناحية.

 ومن خلال هذا كله اتضح أن التمسك بهذه الروايات لإثبات حرمة إعطاء شيء من أجزاء الذبيحة إلى الجزار شيء مشكل.

 بل توجد رواية أخرى لعله يفهم منها الجواز ، وهي رواية صفوان بن يحيى الأزرق ( قلت لأبي إبراهيم عليه السلام الرجل يعطي الأضحية من يسلخها بجلدها ، قال:- لا بأس به إنما قال الله عز وجل " فكلوا منها وأطعموا " والجلد لا يؤكل ولا يطعم )[8] ، فإنها دلت على جواز دفع الجلد فتكون هذه الرواية سبباً لحمل تلك الروايات إن تمت دلالتها على الكراهة.

 بيد أن هذه الرواية تشتمل على مشكلتين:-

الأولى:- من حيث الدلالة ، حيث أنها واردة في الأضحية وهي شيء مستحب ، فلعل جواز دفع شيء للجزار من باب أنه شيء مستحب واستفادة التعميم أمر مشكل.

 اللهم إلا أن يقال:- إن كلمة الأضحية تطلق على كل حيوان يذبح ، فإن تمت هذه الدعوى فحيث انه عليه السلام لم يستفصل فيتم بذلك العموم ، إلا أن قبول هذه الدعوى والجزم بها أمر شيء مشكل.

والثانية:- هي أن السند محل إشكال ، إذ قد رواها الشيخ الصدوق(قده) في العلل عن أبيه ومحمد بن الحسن عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد بن يحيى عن علي بن إسماعيل عن صفوان بن يحيى الأزرق ، وهذا الأخير - أعني صفوان الأزرق - شخص مجهول ، ولعله يوجد اشتباه وسهو أو تحريف في النقل ولعل الصواب هو ( عن صفوان بن يحيى عن صفوان عن يحيى الأزرق ) وإلا فلا يوجد عندنا صفوان الأزرق ، ولكن هذا لا يفيدنا أيضاً لأن يحيى الأزرق مجهول أيضاً.

والخلاصة:- سواء كان الراوي هو يحيى الأزرق أو صفوان الأزرق فعلى كل التقادير هو شخص مجهول.

 وبهذا اتضح أن التمسك بالروايات أمر مشكل ، والمناسب التمسك بما تقتضيه القاعدة ، فان كان الجزار فقيراً جاز دفع شيء إليه لأنه مصداق للمستحق وإلا فلا.

[1] المدارك 8 77.

[2] الجواهر 19 - 214

[3] الجلال هوج مع جل وهو الثوب الذي يلقى على الدابة

[4] الوسائل 14 173 43 أبواب الذبح ح1.

[5] الاهاب هو الجلد

[6] المصدر السابق ح5.

[7] الوسائل 14 173 43 أبواب الذبح ح3 .

[8] المصدر السابق ح8.