32/11/13


تحمیل
 وصل الكلام بناءً إلى المقبولة والاستدلال بها على النصب العام للقضاة بشرائط ومواصفات معيّنة ، ونصّها :
 " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك ؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقا ثابتا له لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر [1] الله أن يكفر به ، قال الله تعالى : (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به)، قلت : فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضَوا به حكماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله وعليه ردّ [2] والرادّ علينا الراد على الله وهو على حدّ الشرك بالله .. الحديث " [3] .
 وهذه الرواية الشريفة تامة سنداً كما هو الصحيح ويُستدلّ بها على النصب العام الذي يُستفاد من قوله (عليه السلام) : (فاني قد جعلته عليكم حاكماً) والضمير في (جعلته) يعود إلى الشخص الذي روى حديثهم ونظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم (عليهم السلام) وقد تقدّم أن المقصود بالحاكم هو القاضي كما هو المناسب لمورد السؤال من المنازعة في دين أو ميراث .
 وقد طُرح إشكال في هذه الرواية - ويجري في سائر الروايات وقد تقدّم ذكره في أول هذا الكتاب - وحاصله أن يقال إننا نسلّم أن في هذه الرواية نصّاً على النصب إلا أنه نصب مؤقت بفترة وجود الإمام [4] لأنه صادر منه (عليه السلام) في وقته باعتباره وليّ الأمر فهو نصب ولائي ناشئ من إدراك الإمام (عليه السلام) لمصلحة ولا يعبّر عن حكم شرعي واقعي فلا يكون ثابتاً لا في هذا الزمان ولا حتى في زمان مَن بعده مِن الأئمة (عليهم السلام) فالنتيجة أنه لا يمكن الاستدلال به على النصب العام في زماننا .
 وقد تقدّم الجواب عنه بما محصّله أنه لا فرق بين الأحكام الولائية والأحكام الإلهية في أنها إذا صدرت تكون باقية وثابتة إلى أن يأتي ما يُلغيها ويقطع بقاءها غاية الفرق بينهما إنما هو في ما يرفع هذا الحكم فالحكم الإلهي الواقعي لا يُرفع إلا بالنسخ في حين أن الحكم الولائي يرفعه الإمام نفسه أو الإمام اللاحق وإلا فكل من الحكمين سواءٌ في شأنية البقاء والاستمرار وفي لزوم الالتزام به من قِبَل المكلّفين .
 وقد حاول بعضهم الجواب عنه بإنكار أن يكون النصب نصباً ولائياً فزعم أنه من باب الإخبار عن الحكم الشرعي والجعل الإلهي - أي جعل الفقيه قاضياً كما هو الحال في إخباره (عليه السلام) عن أيّ حكم شرعي آخر .
 وهذه المحاولة وإن كانت تحلّ الإشكال إلا أنها خلاف الظاهر فإن الرواية ظاهرة في النصب لا الإخبار كما يشهد به قوله (عليه السلام) فيها : (قد جعلته عليكم حاكماً) .
 واعتُرض أيضاً على الاستدلال بالرواية بما حاصله أن الرواية ليست ناظرة إلى محلّ الكلام الذي هو القاضي المنصوب فلا يُستفاد منها نصب الفقيه قاضياً بالنصب العام وإنما هي ناظرة إلى قاضي التحكيم ويُستفاد منها مشروعية القضاء للتحكيم باعتبار أن قول الإمام (عليه السلام) : (فاني قد جعلته عليكم حاكماً) متفرّع على قوله قبل ذلك : (فليرضَوا به حكماً) فيكون نصب الفقيه قاضياً وجعله حاكماً هو في طول التراضي وهذا شأن قاضي التحكيم وأما القاضي المنصوب فنصبه إنما يكون بقطع النظر عن افتراض التحاكم والتراضي .
 ونظير هذا الإشكال ما ذكره السيد الخوئي (قده) في الرواية الثالثة - أعني معتبرة أبي خديجة - ولكنه لم يذكره في هذه المقبولة بل يرى أنها تامة الدلالة إلا أنها ضعيفة السند بعمر بن حنظلة حيث لم يثبت توثيقه لديه ، والتعبير في هذا الإشكال وما ذكره في المعتبرة واحد والأسلوب واحد وليس من الواضح أنه لمَ خصّ الإشكال بتلك الرواية دون هذه فإن هذه الرواية قد يُتوهّم أيضاً وروده فيها .
 وحلّ الإشكال - بحيث يظهر الجواب عنه في هذه المقبولة ومعتبرة أبي خديجة الآتية - هو بأن يقال : إن الذي يُفهم من لسان هذه الرواية أن قوله (عليه السلام) : (فاني قد جعلته عليكم حاكماً) بمثابة التعليل للرضا بكونه حاكماً فقوله : (فليرضَوا به حكماً) كأنه قد عُلّل بقوله (لأني قد جعلته عليكم حاكماً) فليس جعله حاكماً هو في مرتبة متأخرة عن التراضي به وإنما هو بمثابة العلة أي أنه إنما أمرهم بالرضا به حكماً لأنه (عليه السلام) جعله عليهم حاكماً فيكون الرضا به حكماً في طول جعله حاكماً فلا يكون هذا النصب المستفاد من قوله (عليه السلام) : (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) في طول التراضي والتحاكم وإنما هو نصب مستقل بل الأمر بالرضا به هو الذي يكون في طوله ومتفرع عليه فتكون الرواية ظاهرة الدلالة في القاضي المنصوب وفي النصب العام بعد دفع الإشكالات الدلالية عنها وكذلك السندية .
 الرواية الثالثة : معتبرة أبي خديجة :
 " بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال : قل لهم : إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضياً وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر " [5] .
 وثمة رواية أخرى لأبي خديجة : " قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه " [6] .
 وقد ذكر السيد الخوئي (قده) أن هذه الرواية ناظرة إلى قاضي التحكيم لأن قوله : (فاني قد جعلته عليكم قاضياً) متفرّع على قوله : (فاجعلوه بينكم) أي حاكماً وقاضياً فيكون في طوله ، وإذا كان الجعل في طول التراضي والتحاكم فيكون القاضي حينئذ قاضيَ تحكيم لا قاضياً منصوباً .
 والجواب عنه هو الجواب المتقدم نفسه وهو أن المستفاد من العبارة أن قوله (عليه السلام) : (فاني قد جعلته عليكم قاضياً) بمثابة قوله : (لأني قد جعلته عليكم قاضياً) فيكون الأمر بالرجوع إليه في طول نصبه قاضياً لا أن نصبه قاضياً يكون في طول تحاكمهم إليه وتراضيهم به .. فالإنصاف أن الرواية سالمة من هذا الأشكال وهي ناظرة إلى النصب العام للقاضي بقطع النظر عن التحاكم والتراضي .
 ومن هنا يتبيّن أننا لا نحتاج في الحقيقة إلى الاستدلال على النصب العام إلى دليل آخر لأن هاتين الروايتين تكفيان لإثبات النصب العام ، والسيد الخوئي (قده) كما أشرنا بعد أن ردّ هذه الروايات بضعف السند أو عدم الدلالة استدلّ على النصب العام الذي هو محلّ الكلام بحكم العقل بوجوب حفظ النظام مع وضوح توقف حفظ النظام على القضاء الذي به استتباب الأمن وإقامة العدل فيكون القضاء واجباً كفاية - إذ ليس ثمة احتمال كونه واجباً عينياً لأن حفظ النظام يتأدّى بوجوبه على نحو الكفاية - وهذا كما يقتضي الوجوب الكفائي المشار إليه يقتضي أيضاً أن يحكم الشارع بنفوذ هذا القضاء وذلك لوضوح أن مجرد وجوب القضاء على نحو الكفاية بل وتصدّي بعض من يلتزم بهذا الوجوب لا ينحفظ به النظام ما لم يكن حكم القاضي نافذاً .. إذاً لا بد من فرض وجود قضاة يجب عليهم القضاء ويحكم الشارع بنفوذ قضائهم لأن حفظ النظام لا يتمّ إلا بذلك .
 ومن هذا الدليل يُستكشف على نحو الجزم أن الشارع نصب قضاة وحكم بنفوذ قضائهم لأجل حفظ النظام فلا حاجة إلى تجشّم البحث عن رواية تدل على هذا المضمون ، وأولئك القضاة المنصوبون من قبل الشارع لذلك الغرض هم الفقهاء أخذاً بالقدر المتيقّن مما استُكشف بذلك الدليل واقتصاراً عليه باعتبار ما تقدّم مراراً من أن نفوذ حكم شخص على آخر على خلاف الأصل فيُقتصر في مخالفته على القدر المتيقّن من مورده ولا إشكال في أن القدر المتيقّن هو الفقيه باعتبار الحاجة في مورد القضاء إلى استنباط الأحكام من أدلتها المقررة [7] وهو عمل الفقيه دون غيره ، ولا احتمال جزماً أن ينصب الشارع غير الفقيه قاضياً دون الفقيه وإنما الاحتمال في أن ينصب كلاًّ منهما فيدور الأمر بين الأخذ بكل منهما أو الاقتصار على أحدهما وكل ذلك مخالف للأصل المذكور [8] ولكن لما دل العقل على لزوم نصب القاضي فيُقتصر في مخالفة الأصل على القدر المتيقّن من ذلك وهو الفقيه .. مضافاً إلى إمكان الاستدلال على المدّعى بما يُعرف بدليل الحسبة وهو غير مسألة حفظ النظام ومحصّله :
 أن هناك أموراً يُعبّر عنها - في كلمات فقهائنا (رض) - بالمعروف فكل معروف نحن نقطع بلا بدية تحقّقه في الخارج شرعاً كما نقطع بأن الشارع لا يريد تحقّقه من أيٍّ أحد بل يريد تحقّقه من أفراد مخصوصين كما نجد ذلك - مثلاً في الولاية على أموال الغائب أو اليتيم فإن هذا معروف ونحن نقطع بأن الشارع يريد تحقّقه خارجاً ولا يرضى بتفويته كما نقطع بأنه لا يريد تحقّقه من أيّ أحد وإنما يريد تحقّقه من أشخاص معيّنين يتصدّون لهذا الأمر - الذي نقطع بأن الشارع يريد تحقّقه خارجاً -فيدور الأمر بين جماعة يُمثّلون القدر الذي يُتيقّن برضا الشارع بتحقّق ذلك الأمر على أيديهم وآخرين يُشكّ في رضا الشارع بهم فيؤخذ بالقدر المتيقّن ويُترك ما وراءه ولا ريب أن القدر المتيقّن في ما نحن فيه إنما يُمثّله الفقهاء دون غيرهم .
 فهذا دليل آخر يُثبت المطلوب .. ولكن من الممكن إدخاله في الدليل السابق أعني دليل حفظ النظام باعتبار أن منشأ لا بدية ما نقطع به من أن الشارع يريد تحقّق ذلك الأمر في الخارج على كل حال ولا يرضى بتفويته إنما هو إرادة الشارع لحفظ النظام .
 وهذا الدليل في نظرنا تام بل إن تطبيقه في محلّ الكلام لعله أوضح من تطبيقه على ولاية الفقيه وإن كنّا قد طبّقناه على بحث ولاية الفقيه في محلّه وذلك لأن الارتباط بين القضاء والاجتهاد وما يستتبع ذلك من الاستنباط ومعرفة الأحكام الشرعية أوضح من ارتباط الولاية العامة بالاجتهاد حيث إنه في بحث ولاية الفقيه تأتّت شبهة إمكان أن يوجد من هو أكفأ من الفقيه في إدارة شؤون المجتمع مما يؤدّي إلى عدم ضرورة أن يكون هذا الدليل منتجاً لانحصار الولاية العامة بالفقيه بمعنى أنه لا يُشكّل القدر المتيقّن إذ لعل غيره إذا كان يحمل مواصفات خاصة تؤهّله لتلك المهمة [9] يكون أولى منه فاحتجنا في ذلك البحث لدفع هذه الشبهة إلى بيان ارتباط الولاية العامة بمعرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على مواردها ولا إشكال في أن الفقيه هو الأقدر على معرفة رأي الشارع وتمييز ما يريده ممّا لا يريده ، وهذه الشبهة لا تجري هاهنا لوضوح الارتباط بين القضاء ومعرفة الأحكام الشرعية فإن القضاء حكم شرعي يحتاج في معرفته إلى استنباط الأحكام الشرعية من مداركها المقررة إلا أنه مما تُفصَل به الخصومة ويُحلّ به النزاع ، ففي هذا المورد يكون الفقيه المجتهد هو القدر المتيقّن ممّن يريد الإمام (عليه السلام) تصدّيهم للقيام لمنصب القضاء من باب الحسبة أو من باب حفظ النظام .
 إذاً فهذا الدليل في محلّ الكلام تام بل هو تام حتى في باب إثبات الولاية العامة للفقيه .
 فالنتيجة أنه لا ينبغي التشكيك في ثبوت النصب العام بناءً على ما تقدّم من الأدلة .
 ثم يأتي الكلام على الجهة الثانية من البحث وهي الشرائط المعتبرة في القاضي .


[1] كذا في الوسائل مج27 ص137 ، ولكن في ص13 منها وفي الكافي مج1 ص67 والتهذيب مج6 ص218 بلفظ (وقد أمر الله) .
[2] كذا في الوسائل مج27 ص137 ، ولكن في ص13 منها وفي الكافي والتهذيب بلفظ (وعلينا ردّ) .
[3] الوسائل مج27 ص137 الباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي الحديث الأول .
[4] أي الذي صدر منه ذلك النصب .
[5] الوسائل مج27 ص137 الباب الحادي عشر من أبواب صفات القاضي الحديث السادس ، و(التداري) مخفّف التدارؤ وهو التدافع ، وفي التهذيب مج6 ص303 : (تداري بينِكم) - بإضافة (التداري) إلى (بينكم) - ، و(تتحاكموا) بتاءين ، و(ممّن قد عرف) بزيادة (ممّن) .
[6] الوسائل مج27 ص13 الباب الأول من أبواب صفات القاضي الحديث الخامس ، وفي الكافي مج7 ص412 وفيه : (قضائنا) بدل (قضايانا) .
[7] ولذلك اشتُرط الاجتهاد في القاضي .
[8] وهو عدم ولاية أحد على أحد ولا نفوذ لحكم أحد على أحد .
[9] أي إدارة شؤون المجتمع .