33/01/14


تحمیل
  (بحث يوم السبت 14 محرم الحرام 1433 ه 40)
 كان الكلام في قاضي التحكيم ونفوذ قضائه وذكرنا في مقام الاستدلال عدة روايات استُدلّ بها على ذلك وانتهى الكلام إلى الرواية الأخيرة وهي ما رُوي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من أنه قال : " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله " ، وذكرنا تقريب الاستدلال بها وكان حاصله أن هذا الحديث ظاهر في أن سبب اللعن هو عدم العدل من الحاكم لا نفس التراضي به حَكَماً فالرواية تركّز على عدم العدل في الحكم لا على أصل الحكم فيُفهم من ذلك أن حكم الحاكم الذي تراضى به الطرفان مما لا مانع منه وإنما المانع [1] في ما إذا حُكم بغير طريق العدل فيُفهم من هذا إمضاء حكم الحاكم الذي يتراضى به الطرفان ونفوذ قضائه وذلك عبارة عن قاضي التحكيم .
 وهذه الرواية مضافاً إلى عدم تماميتها سنداً يمكن الإشكال في دلالتها باعتبار أنها مسوقة أساساً لبيان المنع من الحكم بغير العدل وليست مسوقة لبيان نفوذ قضاء الحاكم الذي تراضى به الطرفان - الذي اصطُلح عليه بقاضي التحكيم - .
 وبعبارة أخرى إن الرواية مسوقة لبيان لزوم الحكم بالعدل على القاضي وحرمة أن يحكم بالظلم والجور ، وأما مسألة نفوذ حكمه - بعد أمره بأن يحكم بالعدل - مطلقاً أو باشتراطٍ فالرواية ليست بصدد البيان من هذه الجهة لكي يمكن التمسّك بإطلاقها لإثبات نفوذ قضاء هذا القاضي [2] مطلقاً [3] .
 هذا ما يتعلّق بهذا النبويّ الذي ذُكر في جملة ما ذُكر من الأدلة في كلماتهم (رض) في محلّ الكلام ولنجعله الدليل الأول ممّا تُذيَّل به الأقسام التي تقدّم سردها في مقام الاستدلال على المطلوب .
 الدليل الثاني : التمسّك بالسيرة العقلائية القائمة على الالتزام بقضاء قاضي التحكيم بعد التراضي به وحيث لم يرد ردع من قبل الشارع عنها فيُستكشف من ذلك إمضاء التداعي إلى الحاكم بمجرد التراضي به ويكون حكمه نافذاً ولازماً فيثبت بذلك مشروعية قضاء التحكيم .
 وقد ادُّعي أنه لا سبيل إلى إنكار قيام هذه السيرة وأنها موجودة في الأعراف المختلفة ونُقل تحقّقها في زمان سابق على بعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث كانوا يتحاكمون إلى أشخاص معيّنين بعد التراضي بهم فيكون نفوذ حكمهم في طول التراضي وتلك ميزة قاضي التحكيم ، وقد استُشهد بعدّة قضايا في المقام :
 منها : قضية نزاع قريش والمشاجرة التي وقعت بينهم في من يتصدّى منهم لنصب الحجر الأسود حيث تراضوا بأول من يخرج عليهم من باب عيّنوه وقُدّر أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو أول من خرج عليهم من ذلك الباب فتراضوا به حكماً لحلّ نزاعهم وفصل خصومتهم .
 ومنها : قضية يهود بني قريضة الذين حُكّم فيهم سعد بن معاذ فحكم بهم بالحكم المعروف ونُفّذ فيهم حكمه بعد أن تراضوا هم والمسلمون على أن يكون هو الحَكَم فيهم .
 ومنها : قضية صفّين وما جرى فيها من التحكيم حيث تراضى الطرفان على تحكيم شخصين معيّنين .
 وهذه الدلائل تكشف عن أن هذا كان أمراً مألوفاً ومتعارفاً عند العقلاء فلا يمكن إنكار انعقاد السيرة على مسألة التحكيم ونفوذ حكم الحاكم بعد فرض التحكيم .
 وفي المقابل قد يقال بأن هذه السيرة مردوع عنها ويكفي في الردع الموجب لعدم استكشاف الإمضاء ما دلّ من الأدلة على اعتبار النصب في القاضي وأن القضاء من المناصب التي تتوقف على الجعل من قبل الشارع وأنه لا يكون إلا لنبي أو وصيّ نبي أو لمن يُجعَل من قبلهم (عليهم السلام) فهذا المنصب مقصور على أشخاص معيّنين قد جُعلوا لهذا المنصب ولا يكفي فيه مجرّد تراضي الطرفين ليكون من تراضيا به قاضياً شرعياً فهذه الأدلة - وهي كثيرة قد جُعلت رادعاً عن هذه السيرة بعد التسليم بأصل انعقادها .
 ولكن للمستدلّ أن يدّعي في مقام التخلّص من هذا الإشكال أنه بالإمكان أن نستكشف من هذه الوقائع التي تقدّم ذكرها إمضاء الشارع لهذا النوع من القضاء وإقراره لحكم قاضي التحكيم في أمثالها وحينئذ فلا يتأتّى القول بأن مثل تلك الأدلة تكون رادعاً عن هذه الطريقة ففي قضية سعد بن معاذ لا ريب في أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان راضياً بذلك وممضياً لهذا التحكيم بل الظاهر من بعض الأخبار أنه هو الذي عرض على يهود بني قريضة أن يكون الحَكَم رجلاً حليفاً لهم وهو سعد بن معاذ وهم قد رضوا به على أمل أن يحكم لهم لا عليهم ، وكذلك في قضية صفّين فإنه وإن بدا أن هناك اعتراضاً إلا أنه لم يكن منصبّاً على كبرى الرجوع إلى الحاكم والرضا به حَكَماً للفصل في الخصومة أي أصل التحكيم وجعل شخصين يحكمان في هذا النزاع وإنما كان الاعتراض على الشخصيات التي اقتُرحت للحكم في هذه القضية ولذا رشّح الإمام (عليه السلام) كما في بعض الروايات عبد الله ابن عباس لكي يكون هو أحد الحكمين .
 هذا .. ولكن الجزم بذلك [4] مشكل جداً فإن القضية تفتقر إلى مراجعة تاريخية وإلى سبر الروايات ومعرفة تفاصيل الأحداث لاسيما ما ذُكر من مسألة نصب الحجر الأسود إذ من الظاهر أنه ليس من باب الحكومة والتحكيم وإصدار الأحكام المُلزمة تجاه الأطراف المتنازعة بل هو أشبه ما يكون بباب المصالحة بين طرفين متخاصمين واقتراح حلّ وسط يرضى به كل منهما أو هو اتّفاق على ترشيح شخص معيّن لكي يوقع الصلح يبن الطرفين وهذا ما يجعله أجنبياً عمّا نحن فيه فإن كلامنا في قاضٍ يتراضى به الطرفان على نحوٍ يكون حكمه ملزماً لكل منهما بناءً على تعاهدهما والتزامهما ورضاهما بحكمه .
 ومما يُمكن إدخاله في هذا الباب أيضاً آية الشقاق وهي قوله تعالى : (وإن خفتم شقاقَ بينِهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما إن الله كان عليما خبيراً) [5] .
 وبغضّ النظر عن مرجع الضمائر في (يريدا) و(بينَهما) في كون المراد بهما الزوجين أو الحكمين أو الزوجين في الأولى والحكمين في الثانية فالذي يظهر من الآية الشريفة أنها تعالج مسألة الصلح بين الزوجين اللذين وقع الخلاف بينهما ليصلح الحكمان بينهما لا ليفرضا عليهما حكماً وقضاء يكون ملزماً لهما ولعل قوله تعالى : (إن يريدا إصلاحاً) يشير إلى هذا المعنى وهو أن القرار النهائي الذي يصدر من الحكمين يكون موضع رضا من قبل الطرفين فتكون الآية الشريفة إذاً أجنبية عن محلّ الكلام ومن الصعوبة بمكان إقحامها في المقام للاستدلال بها على المطلوب .
 نعم .. من المسلّم به أن هناك سيرة قائمة وتبانياً من العقلاء على التحاكم إلى شخص يكون حكمه نافذاً ويكون نفوذ حكمه فرع تراضي الطرفين وتعاهدهما فعلى تقدير المنع من كون تلك الأدلة [6] رادعة عنها فيتمّ حينئذ مثل هذا الدليل ، وأما إذا قلنا بدلالة الأدلة على اشتراط النصب وأن القضاء من المناصب الإلهية التي لا تكون إلا لنبي أو وصيّ نبي ولا تثبت بمجرد التراضي بل تحتاج إلى جعل ونصب فلا يكون ذلك الدليل حينئذ تامّاً ولأجل هذا نصّ الفقهاء (رض) على أن القاضي لا يكون قراره مشروعاً بمجرد توافق أهل بلدة على تعيينه قاضياً من غير جعل ونصب .
 الدليل الثالث : التمسّك بأدلة وجوب الوفاء بالشرط بدعوى أن المتنازعين تعاقدا على قبول حكم الحاكم الذي تراضيا به سواء كان هذا التعاقد على الالتزام بحكمه فيكون من قبيل شرط الفعل أو على نفوذ حكمه فيكون من قبيل شرط النتيجة .. وعلى كل حال فإن أدلة وجوب الوفاء بالشرط تدلّ على لزوم الالتزام بحكم هذا الحاكم وتنفيذه من قبل الطرفين أو على نفوذ حكمه مباشرة ، واستبطانُ التحاكم للتعاقد والاشتراط من قبل الطرفين مما لا مجال لمنعه ، واستفادةُ وجوب الالتزام من مثل (المؤمنون عند شروطهم) وسائر الأدلة الدالة على وجوب الالتزام بالشرط واضح لا غبار عليه .. وعليه فيتم مثل هذا الدليل على مشروعية قضاء قاضي التحكيم .
 ولكن لوحظ على هذا الدليل :
 أولاً : إن المشهور لا يلتزم بوجوب الوفاء بالعقد الابتدائي ، وأدلة : (المؤمنون عند شروطهم) وأمثالها إنما تشمل الشروط الواقعة في ضمن عقد والتزام - ولذا يُعبّر عن الشرط بأنه التزام في ضمن التزام - ، وأما الشرط الابتدائي فهو داخل في باب الوعد الذي دلّت الأدلة على استحباب الوفاء به لا وجوب الالتزام به .
 وثانياً : إن أدلة الوفاء بالشرط على تقدير أن تكون شاملة لمثل محلّ الكلام فهي تدل على نفوذ الشرط عندما يكون الشرط من قبيل الأمور غير الخطيرة كالسفر إلى البلد الفلاني أو التصدّق بالشيء الفلاني وأمثال ذلك فالتشارط حينئذ يُنتج لزوم الوفاء بذلك ، وأما إذا كان الشرط من قبيل الأمور الخطيرة كالأعراض والأموال والدماء وأمثالها لتكون نتيجته هو الفصل في هذه الأمور بالتفريق بين الزوجين - مثلاً أو الحكم باستحقاق أحد المتداعيين للمال دون الآخر أو القصاص في الدماء فلا تدل تلك الأدلة على نفوذ الشرط في أمثال ذلك فإن لسانها لا يتعدّى إلزام الشخص بما ألزم به نفسه مما هو ليس بلازم عليه ابتداءً في الشرع .
 هذا .. وسيأتي التعقيب على ما لوحظ آنفاً إن شاء الله تعالى .


[1] المشار إليه باللعن .
[2] أي الذي تراضى به الطرفان .
[3] أي وإن لم يكن منصوباً .
[4] أي كون المقام من قبيل التحكيم .
[5] النساء / 35 .
[6] التي أشير إليها سابقاً .