33/02/24


تحمیل
  (بحث يوم الأربعاء 24 صفر الخير 1433 ه 59)
 كنّا قد استعرضنا الأدلة التي استُدلّ بها على نفوذ علم القاضي في باب القضاء وذكرنا أن ما تمّ منها سنداً ودلالة دليلان :
 أحدهما : معتبرة الحسين بن خالد [1]
  [2] ، والآخر : معتبرة سليمان بن خالد [3]
  [4] ،
 أما معتبرة الحسين بن خالد فقد دلّت على جواز أن يقضي الحاكم بعلمه ولكن بقيدين :
 أحدهما : أن يكون علمه عن حسّ .
 والآخر : أن يكون قضاؤه في خصوص حقّ الله تعالى .
 وأما معتبرة سليمان بن خالد فقد دلّت على أن تحيّر النبي المذكور إنما كان في حال عدم الرؤية والشهادة فتدلّ على المفروغية عن عدم تحيّره في حال الرؤية والشهادة لأنه يقضي حينئذ بعلمه ويمكن التعدّي عن موردها للقطع بعدم الخصوصية إلى مطلق القاضي فتدلّ حينئذ على أنه يجوز للقاضي أن يحكم استناداً إلى الرؤية والشهادة - وغيرهما مما يورث العلـم الحسّي فإن العرف لا يُفرّق في العلم المستند إلى الحسّ المتعارف بين النبي وغيره فلا يرى خصوصية هنا للنبي حتى يجوز له فقط أن يقضي استناداً إلى علمه الحسّي المتعارف بل يمكن التعدّي إلى غيره ولو لم يكن نبياً ، نعم .. قد يُفرّق بينهما في العلم المستند إلى أمور أخرى ليست متعارفة ولكنه خارج عن محلّ الكلام .
 هذا .. وقد ذكرنا أن في هذه الرواية من جهة إطلاقها وعدمه وقبولها للتقييد وعدمه احتمالات ثلاثة :
 الأول :

أنها مطلقة وإطلاقها يقبل التقييد .
 الثاني :

أنها مطلقة وإطلاقها آبٍ عن التقييد .
 الثالث :

أنها غير مطلقة .
 وقد ذكرنا في ما سبق ما يترتّب على كل احتمال من هذه الاحتمالات الثلاثة وانتهينا إلى أن الكلام يقع في أن معتبرة سليمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ ولو فُرض وجود إطلاق لها فهل هو قابل للتقييد أم لا ؟
 وأقول : قد يُدّعى ترجيح الاحتمال الأول [5]
  [7] ويُرتّب عليه ما تقدّم ذكره من الجمع بتقييد إطلاقها بمعتبرة الحسين بن خالد فيكون مفاد الروايتين حينئذ واحداً وهو الالتزام بنفوذ علم الحاكم في باب القضاء ولكن مشروطاً بشرطين :
 الأول :

أن يكون مستنداً إلى الحسّ .
 الثاني :

أن يكون في حقّ الله تعالى .
 وتقريب هذا الجمع هو باعتبار وضوح دلالة رواية الحسين بن خالد على الاختصاص بالعلم الحسّي لما ورد فيها من إسناد إقامة الحدّ إلى النظر في قوله : " الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره " ، وعلى الاختصاص بحقوق الله تعالى لما ورد فيها من إقامة الحدّ على من صدر منه الزنا وشرب الخمر وهذان الحدّان من حقوق الله كما هو واضح - فالرواية إذاً ظاهرة في جواز استناد الحاكم في إقامة الحدّ الذي هو من حقوق الله تعالى إلى علمه الحسّي .
 وأما معتبرة سليمان بن خالد فهي تدلّ - بالتقريب الذي أشرنا إليه سابقاً - على المفروغية من نفوذ العلم الحسّي للقاضي ولكنها مطلقة من جهة الحقّ النافذ ذلك العلم فيه فيقال إن هذا الإطلاق يُقيّد بمعتبرة الحسين بن خالد فتكون النتيجة نفوذ علم الحاكم في خصوص حقوق الله إذا كان مستنداً إلى الحسّ .
 ولكن هذا التقريب غير صحيح لما ذكرناه سابقاً من أن معتبرة الحسين بن خالد ليس فيها دلالة على عدم نفوذ علم القاضي في حقوق الناس حتى تصلح لتقييد الإطلاق في معتبرة سليمان بن خالد وإنما تقتصر دلالتها على نفوذ علمه في حقوق الله فهي ساكتة عن حقوق الناس بعد المطالبة ، وما يصلح لتقييد الإطلاق إنما هو ما لو دلّت معتبرة الحسين بن خالد على عدم نفوذ علم القاضي في حقوق الناس فيكون مقتضى الجمع بين مفاد الإطلاق من نفوذ علم القاضي في حقوق الله وحقوق الناس ومفاد المعتبرة من عدم نفوذ علمه في حقوق الناس بحسب الفرض هو تقييد الإطلاق بخصوص حقوق الله وإخراج حقوق الناس من أن يكون مشمولاً له ، وأما مع كونها تدلّ على نفوذ علم القاضي في حقوق الله - من غير أن تكون لها دلالة على عدم نفوذ علمه في حقوق الناس - فإن هذا المدلول لا ينافي مدلول معتبرة سليمان بن خالد من الإطلاق الشامل لنفوذ علمه في حقوق الله وحقوق الناس .. ومن هنا قد يقال بأنه لا مانع حينئذ من التمسّك بهذا الإطلاق لإثبات نفوذ علم القاضي في حقوق الله وحقوق الناس .
 هذا .. ولكن الصحيح أن يقال بمنع وجود إطلاق أصلاً في معتبرة سليمان بن خالد بتقريب أن هذه المعتبرة ليست مسوقة لبيان نفوذ علم القاضي المستند إلى الحسّ حتى نتمسّك بإطلاقها لإثبات شموله لحقوق الله وحقوق الناس وإنما هي مسوقة أساساً لبيان الوظيفة التي ينبغي العمل بها عند عدم وجود العلم كما يشهد به سؤال النبي حيث قال : (كيف أقضي بما لم أشهد ولم أرَ ؟) ، نعم .. المدلول العرفي لهذا السؤال كما تقدّم في تقريب الاستدلال بهذه الرواية هو المفروغية عن عدم التحيّر في باب القضاء في حالة وجود علم مستند إلى النظر والشهادة أو غير ذلك من أدوات العلم الحسّي لأن القاضي يقضي حينئذ بعلمه ولا يمكن التمسّك بإطلاق هذه المفروغية لإثبات نفوذ علم الحاكم الحسّي في حقوق الله وحقوق الناس لأن هذا ليس مدلولاً مطابقياً للكلام إذ الرواية كما ذكرنا - ليست مسوقة لبيان جواز الاستناد في العلم الحسّي في باب القضاء ليجوز التمسّك بإطلاقها بل هو مدلول التزامي عرفي لا إطلاق له .
 ومن هنا ننتهي إلى أن الاحتمال الثالث [8] هو الأرجح في النظر ومقتضاه إجمال الرواية فلا يمكن أن يُستفاد منها شمول دائرة جواز القضاء لحقوق الله وحقوق الناس أو اختصاصها بأحدهما دون الآخر وعلى ذلك فلا يمكن الانتفاع بهذه الرواية في المقام فتكون رواية الحسين بن خالد من هذه الجهة بلا معارض فتنفرد بالدلالة على ما ذُكر في الاحتمال الأول من نفوذ علم القاضي المستند إلى الحسّ في حقوق الله تعالى .
 هذا ما ننتهي إليه بعد استعراض الأدلة التي يُستدلّ بها على نفوذ علم القاضي في باب القضاء .
 وأما ما استُدلّ به في مقابل ذلك من عدم نفوذ علم القاضي فهي أيضاً أدلة عديدة :
 الدليل الأول :

الروايات التي يُستفاد منها حصر القضاء بالبيّنات والأيمان ، وهذا الحصر يقتضي عدم جواز القضاء استناداً إلى العلم ، وهو [9] يتمثّل في عدة روايات :
 الرواية الأولى :

معتبرة سليمان بن خالد المتقدّمة حيث ذُكرت هنا دليلاً على عدم نفوذ علم القاضي وهي كما تقدّم - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : في كتاب عليّ (عليه السلام) أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه فقال : يا ربّ كيف أقضي في ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحى الله عزّ وجل إليه أن احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بيّنة " [10] .
 وهذه الرواية كما ذكرنا - معتبرة سنداً ، والمستفاد منها حصر القضاء باليمين والبيّنة الذي يُستفاد منه بالنتيجة عدم نفوذ علم القاضي .
 وأقول : تقدّم سابقاً ذكر هذه الرواية وذكر كيفية الاستدلال بها على نفوذ علم القاضي في باب القضاء وقد قلنا هناك بأنّا إنما نلتزم بدلالتها على نفوذ علمه المستند إلى الحسّ ولا نلتزم بدلالتها على نفوذ علمه مطلقاً وعلى ذلك فلا بأس أن يُدّعى هنا أن الحصر المُستفاد من هذه الرواية إنما هو بالنسبة إلى علمه الحدْسي بتقريب أن صدر الرواية ظاهر في نفوذ علم القاضي المستند إلى الحسّ في باب القضاء وذيلها يحصر القضاء بخصوص البيّنات والأيمان فيُستفاد من ذلك أن ما عدا ما ذُكر وهو علم القاضي الحدْسي - لا يكون نافذاً [11] ، ولا مجال لهذه الدعوى في العلم الحسّي كما هو واضح [12] .. ومن هنا فليس في هذه الرواية دلالة على ما ينافي ما انتهينا إليه بعد استعراض الأدلة السابقة من نفوذ علم القاضي إذا كان مستنداً إلى الحسّ .
 الرواية الثانية :

ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعاً ، عن ابن أبي عمير ، عن سعد [13] وهشام بن الحكم [14] ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
 " قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجته من بعض فأيُّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً [15] فإنما قطعت له به قطعة من النار " [16] .
 وهذه الرواية صحيحة السند وتدلّ على أن القضاء منحصر بخصوص البيّنات والأيمان ومقتضى ظاهرها الأولي أن هذا الحصر حصر حقيقي فتكون دالة على عدم نفوذ ما عدا الأيمان والبينّات في القضاء ومنه علم القاضي ولو كان مستنداً إلى الحسّ .
 وسيأتي التعقيب عليها إن شاء الله تعالى .


[1] وهي الدليل السابع بالترتيب المتقدّم :
[2] عن الحسين بن خالد ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) : " قال : سمعته يقول : الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الحق إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته وإذا كان للناس فهو للناس " .
[3] وهي الدليل الثامن بالترتيب المتقدّم :
[4] " قال : في كتاب علي (عليه السلام) أن نبياً من الأنبياء شكا إلى ربه فقال : يا ربّ كيف أقضي في ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحى الله عز وجل إليه أن احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بينة " .
[5] وقد تقدّم ذكر ما يترتب على الاحتمال الثاني والثالث :
[6] فأما على الاحتمال الثاني فيكون من قبيل دوران الأمر بين المطلَق والمقيِّد والمختار تقديم المطلق فتتغير النتيجة حينئذ بمعنى أنه ليس في البين إلا قيد واحد وهو أن يكون العلم مستنداً إلى الحسّ ولا يُخصّص بحقّ الله بل يعمّ حقّ الناس أيضاً تمسّكاً بإطلاق معتبرة سليمان بن خالد .
[7] وأما على الاحتمال الثالث فيُشكّ حينئذ في أن دائرة جواز القضاء هل هي خصوص حقّ الله تعالى أم خصوص حقّ الناس أم الأعمّ منهما فتكون الرواية حينئذ مجملة ولا يمكن الانتفاع بها في المقام فتكون رواية الحسين بن خالد في هذه الحالة بلا معارض فتنفرد بالدلالة على ما ذُكر في الاحتمال الأول .
[8] وهو عدم وجود إطلاق لمعتبرة سليمان بن خالد .
[9] أي هذا الدليل .
[10] الكافي مج7 ص415 ، الوسائل أبواب كيفية الحكم الباب الأول الحديث الأول مج27 ص229 .
[11] أي تكون دالة حينئذ على عدم نفوذ علم القاضي المستند إلى الحَدْس .
[12] وذلك لمنافاة هذه الدعوى لصدر الرواية الظاهر في نفوذ علم القاضي المستند إلى الحسّ .
[13] هو سعد ابن أبي خلف .
[14] في الوسائل : عن سعد عن هشام .
[15] يعني استناداً إلى البيّنات والأيمان .
[16] الكافي مج7 ص414 ، الوسائل الباب الثاني من أبواب كيفية القضاء الحديث الأول مج27 ص232 .