37/12/24


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

37/12/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- حكم الاعتماد على الوسائل الحديثة في اثبات أو نفي النسب ، مسألة ( 23 ) الكهانة - المكاسب المحرمة.

حكم الاعتماد على الوسائل الحديثة في إثبات أو نفي النسب:-

الوسائل العلمية التي تعتمد على تحليل الجينات الوراثية هل يمكن الاعتماد عليها في اثبات أنّ هذا ابن ذاك أو أنّ هذه بنت ذاك أو ننفي البتيّة أو الولديّة ؟ وهذه مسألة ابتلائية في زماننا هذا لم تكن موجودة في ذلك لزمان.

والجواب:- تارةً نفترض أنّ هذه الوسائل العلمية تورث العلم ، وأقصد من العلم ما يعم الاطمئنان وأخرى لا تورث ذلك وإنما تورث الظن ، فإن أورثت الظن فهي ليست حجّة فإنّ الظن لا يغني من الحق شيئاً كما هو واضح ، وأما إذا أورثت العلم فمن المناسب أن تكون حجّة من باب حجّية العلم وبعد أن حصل العلم بأنّ هذا تولد من ذاك لا وجه للتوقف حينئذٍ ، نعم قد تقول إنه كيف يمكن حصول العلم ؟ ونجيب:- إنّ هذه قضيّة أخرى ، إنّ هذا نقاش من حيث الصغرى ونحن كلامنا لو ثبتت الصغرى وأنه أورثت العلم حينئذٍ نعتمد أو لا أما أنها تورث العلم أو لا تورث العلم فهذه القضية لا ترتبط بالفقيه وإنما ترتبط بالمكلّف نفسه.

ولكن قد يستدلّ بوجهين على عدم حجّية هذه الوسائل الحديثة حتى لو أورثت العلم:-

الوجه الأوّل:- إنّ مقتضى قاعدة الفراش أنّ الشارع قد جعل الحجّية للفراش فمتى ما كانت المرأة لها فراش حينئذٍ يلحق الولد بالفراش أي بالزوج ، هذه طريق الشرع المقدس وهو أنّ المدار على قاعدة الفراش والاعتماد على هذه الوسائل الحديثة هو في الحقيقة هجرٌ لقاعدة الفراش وهذا لا يجوز ، هكذا تقول، أو قل بعبارة أخرى:- إنَّ قاعدة الفراش تدل بالدلالة الالتزامية العرفية على أنّ غير الفراش ليس بحجّة ومن ذلك هذه الوسائل الحديثة ، فهي إذن ليست بحجّة من باب أنّ عدم الحجّية مدلول التزامي لقاعدة الفراش.

وفيه:- إنّ قاعدة الفراش شرّعت حالة الشك ، يعني إذا كان هناك شكٌّ ولا يدرى أنّ هذا الولد هل تولّد من الزوج الشرعي الذي هو فراش أو تولّد من إنسان آخر من خلال السفاح فقاعدة الفراش في حالة الشك تقول هو من الزوج الشرعي ، أما إذا فرض أنه لا يوجد شك فلا مورد لقاعدة الفراش ونحن قد فرضنا أنّ الوسائل العلمية قد أورثت العلم - هكذا فرضنا - نعم أنت تشكك في حصول العلم وهذا حقٌّ لك والآن نحن حينما نتكلّم فنحن نتكلّم إذا فرض حصول علم والفقيه لا يتدخّل في أنه حصل علم أو لم يحصل علم ، فإذا فرض أنّه حصل العلم كما لو اتفقت جميع هذه الوسائل الحديثة في جميع المناطق بحيث أورثت لنا العلم حينئذٍ قاعدة الفراش لا مورد لها لأنّ موردها حالة الشك وإلا حالة العلم لا معنى للإرجاع إلى قاعدة الفراش ، فإذا علمنا أنّ هذا الولد ليس للزوج كما لو كان الزوج بمجرّد أنه بمجرد عقد على المرأة سجن أو توفي فإذا حملت هذه المرأة فهل يلحق هذا الولد بهذا الزوج لقاعدة الفراش ؟!! إنّ هذا لا معنى له لأنّ الزوج لم يجتمع معها ولم يرها بل عقد عليها فقط فقاعدة الفراش لا تأتي في صورة العلم وإنما تأتي في صورة الشك ، نعم يوجد رأي ينسب إلى أبي حنيفة وهو أن مجرّد العقد يكفي به حتى لو جزمنا بعدم الدخول ولا بحكم الدخول قد حصل.

وأما بالنسبة إلى مسالة اللعان فربّ قائل يقول:- إنّ تشريع اللعان يدلّ بالدلالة الالتزامية على أنّ انتفاء الولد يكون باللعان ولا يكون بوسيلةٍ أرى ومنها هذه الوسائل العلمية ، فعلى هذا الأساس يدلّ على النفي عن اتّباع هذه السائل العلمية.

والجواب:- إنّ اللعان يأتي إذا فرض أنّ المورد كان مورداً لقاعدة الفراش ، يعني كان يوجد فراش فالزوج موجود وولدت الزوجة الولد ولكن الزوج يقول هذا ليس ابني بعد فرض أنّ قاعدة الفراش موجودة ، فهنا نقول له مادام قاعدة الفراش موجودة فلا ينتفي عن إلا باللعان ، أما إذا لم تكن قاعدة الفراش موجودة فهل نحتاج إلى لعان كما لو عقد على المرأة بالتلفون مثلاً ولم يرها - حتى تحتمل ما تحتمل - فقاعدة الفراش ليس لها معنى في مثل هذه الحالة وانتفاء الولد سوف لا يحتاج إلى مسألة اللعان ، فمسالة اللعان تأتي في مورد جريان قاعدة الفراش ونحن قد فرضنا في محلّ كلامنا أنّ قاعدة الفراش لا تجري لحصول العلم بأنّ هذا الولد ليس لفلان ، ومع حصول العلم وعدم جريانها لا يمكن إذن التمسّك بالدلالة الالتزامية لمسألة شرعية اللعان فإنّ المورد ليس مورداً للعان مادامت قاعدة الفراش لا تجري.

الوجه الثاني:- إنّ عدم وجود ما ينفي حجّية - أو شرعية - هذه الوسائل لا يكفي وحده لثبوت الحجّية ، فنحن نريد أن تثبت لنا الحجّية وأنت تقول لا يوجد رادع عنها لأنّ قاعدة الفراش هنا ليست رادعة ، فمجرّد عدم وجود الرادع لا يثبت الحجّية ، فيلزم أن تثبت لي حجّية هذه الوسائل العلمية الحديثة ومجرّد عدم الرادع لا يكفي ؟

والجواب:- هناك قضية ظريف يلزم الالتفات إليها ونستفيد منها في موارد متعدّدة ، وهي أن عنوان الابن أو البنت هل هو عنوان شرعي تدخّل فيه الشارع وحدّد من هو الابن ومن هي البنت أو هو قضية تركها إلى العرف ولم يتدخل في ذلك أبداً ؟ الصحيح هو الثاني ، فإنه لا توجد عندنا آية ولا رواية تقول من هو الابن ومن هي النبت ، فمادام لا يوجد تدخّل من قبل الشارع في هذا المجال فهذا معناه أنّ الشرع قد أوكل القضية إلى العرف ، فدائماً الشرع إذا لم يتدخّل في قضيّة ولكنه صبّ الحكم على عنوانٍ وقال ﴿ حرّمت عليكم امهاتكم وبناتكم ....﴾ فهو لم يقل من هي بناتكم فحينئذٍ هذا معناه أنه أوكل القضيّة إلى العرف ، وهذه مسألة سياّلة نستفيد منها في موارد متعدّدة ، مثل مسألة النفقة للزوجة فالشرع لم يتدخّل في كيفية النفقة للزوجة وإنما تركها للعرف ، فالنفقة المناسب في كلّ زمانٍ تختلف فيف ذلك الزمان تكفي الغرفة الصغيرة الواحدة أما في زماننا فلعلّها تكفي الشقة ولعلّه في زمانٍ آخر يكون بشكلٍ آخر ، وهكذا بالنسبة إلى مسائل صلة الرحم ، أو الأقارب - الأرحام - من هم ؟ وكيف تصير صلة الرحم والقطيعة كيف تصير وهل الشرع تدخّل أو لا ؟ صلة الرحم لم يدلّ دليل على أنها بم تتحقّق والقطيعة بم تتحقّق ، يعني إذن ترك هذا الأمر إلى العرف ، فإذا رجعنا إلى العرف فمتى يصدق أنّ هذا صلة ومتى يصدق أنّ هذا قطيعة ؟ أقول - وأنا كإنسان عرفي وليس فقيهاً - مرّة كان أقاربي من الدرجة الأولى كأخي وأختي ومرّة كان ابن خالي أو ابن عمّي فهنا يفرق عرفاً ، فحكم الأخ غير حكم ابن العم ، ولا تقل:- من أين لك هذا فهل وردت فيه رواية ؟ فأقول:- هذا هو المدرك وهو العرف ، ويفرق بين ما إذا كانوا يعيشون معي في بلدي وبين ما إذا كانوا يعيشون في بلدٍ آخر ، فإذا كانوا في بلدي فالصلة تحتاج إلى شيء أكثر ، أما إذا كانوا في بلدٍ آخر فلعلّه الفترة الزمنية تؤثر ، والآن صار عندنا الموبايل وهو قد خفّف علينا فنتّصل بهم ونسأل عنهم وهذا نحوٌ من الصلة ، فالمقصود أنّ القضية متروكة إلى العرف مادام الشارع لم يتدخّل.

وهنا في قضية الابن والبنت لم يتدخّل الشارع فيها ، فإذا لم يتدخّل فإذن هو أوكل الأمر إلى العرف ، فنرجع إلى العرف ونسأله من هو الابن ومن هي البنت ؟ فيقول العرف:- من تكوّن من ماء الرجل هو الابن وهي البنت ولا يوجد ميزانٍ ثانٍ عرفي ، وبناءً على هذا مادام أنّ الوسائل العلمية الحديثة أثبتت أنّ هذا الولد من ماء هذا الرجل وجزء منه فيثبت عنوان الابن ، لأننا قلنا إنّ عنوان الابن ليس له تحديد شرعي غير ما يراه العرف ، فحينئذٍ مادامت الوسائل الحديثة أثبتت ذلك وحصل العلم فنرتّب عليه آثار الابن في استحقاقه للإرث ومسألة حرمة الزواج وما شاكل ذلك.

وهذا أيضاً ننتفع به في مسألة الزنا ، فإذا زنى شخص بامرأة وتولّد من الزنا بنت فهذه البنت هل يجوز للزاني أن ينظر إليها أو لا ؟وهل يتمكن أن يتزوّج بها أو لا ؟ قد يتسرّع شخص بادئ ذي بدء ويقول إنه لا توجد بينهما علاقة فإنّ العلاقة بينهما منتفية فلا يجوز النظر ويجوز له التزويج بها ، كلا فإنّ هذا غير صحيح ، بل نفس ما قلناه يأتي هنا ، فإنّ الشرع لم يتدخّل في هذا المجال فهي بنتٌ ، وإذا صدق عليها عنوان البنت فسوف يشملها قانون ﴿ حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ﴾ ، نعم الدليل الشرعي أقصى ما دلّ على أنّ البنت أو ابن من الزنا لا يرث ، فحكم الإرث قد نفي ، أما ما زاد على الإرث فلم يدل دليل على انتفائه ، فجميع الآثار حينئذٍ سوف تترتّب على البنت من الزنا أو الابن من الزنا ما عدى أثر واحد وهو الإرث للنكتة التي أشرت إليها.

إذن الخلاصة من كلّ هذا:- هو أن الوسائل الحديثة إن أورثت العلم فلا محذور في الاعتماد عليها فإنّ قاعدة الفراش لا تجري لأنّ موردها هو حالة الشك ولا تجري حالة العلم ، والمثبت لترتيب الآثار موجودٌ وهو صدق عنوان البنوّة بالمفهوم العرفي فتترتب جميع آثار البنوّة آنذاك.

نعم يبقى إذا جاءنا شخص فقد نقول له من قال إنه يحصل هنا علمٌ من هذه الوسائل الحديثة ؟!! ، ولكن إذا أتى بتقارير كثيرة ومن جهات عديدة فإذا كثرت التقارير فليس من البعيد أن يحصل العلم ، فإذا حصل العلم فحينئذٍ لا توجد مشكلة من هذه الناحية.

وبهذا ننهي حديثنا عن مسألة القيافة.

 

مسألة ( 23 ):- الكهانة حرام وهي الاخبار عن المغيبات بزعم أنه يخبره بها بعض الجان . أما إذا كان اعتماداً على بعض الأمارات الخفية فالظاهر أنه لا بأس به إذا اعتقد صحته أو اطمأن به.

..........................................................................................................

فصّل(قده) بين نحوين ، بين ما إذا كان الكاهن يعتمد في إخباره على التابع من الجن فلا يجوز ، وبين ما إذا كان يعتمد على غير مسألة الجن فيجوز لكن بشرط أن يحصل عنده علم أو اطمئنان بما يخبر به وإلا سوف يصير هذا الإخبار إخباراً كاذباً ، هذا من حيث المسألة.

وما أصل معنى الكهانة:- ذكر ابن الأثير في نهايته أنّ العرب كان عندهم الإخبار عن الأمور المستقبليّة ويعبّر عنهم بالكهنة وكانوا يعتقدون بوجود تابعٍ من الجنِّ يخبره بذلك ، وبعضٌ آخر يعتمد على نفس سؤال السائل وحاله ونطقه ، فالكاهن يفهم من كلام الشخص ومن قسمات وجهه بعض الأمور ويخبره عنها وهذا ما يصطلح عليه بالعرّاف ، ونصّ عبارته:- ( الكاهن:- من يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان وقد كان في العرب كهنة يزعم بعضهم أنّ له تابعاً من الجنِّ يلقي إليه الأخبار ، وبعضهم يزعم أنه يعرف الأمور من خلال كلام أو فعل أو حال من يسأله ويخصّون ذلك باسم العرّاف )[1] .