38/01/15


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/01/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 24 ) النجش - المكاسب المحرمة.

والكلام يقع أوّلاً في التقريب الأوّل:- أعني بلحاظ ما أفاده العلمان الشيخ الأعظم وصاحب الجواهر ، ونتحدث مرّة بلحاظ عنوان الإضرار وأخرى بلحاظ العناوين الأخرى كالخديعة والغش وما شاكل ذلك.

أما بالنسبة إلى عنوان الإضرار:- فالإضرار في مقامنا لم يصدر بالمباشرة من الناجش وإنما الناجش سبّب إلى إضرار الطرف الآخر وذلك الطرف الآخر هو حينما أقدم باختياره واشترى السلعة بالثمن الأعلى قد أوقع نفسه في الضرر ، فالذي باشر الضرر هو المشتري لا هذا الناجش وإنما الناجش مجرّد مسبّب لتصوّر المشتري أنّ هذه السلعة تسوى هذا المقدار من الثمن فاقدم عليها ، وحينئذٍ نقول التسبيب إلى وقوع الغير في الضرر يمكن التأمل في حرمته ، ولذلك ترى أنه لو فرض أن تاجراً في السوق استورد سلعةً معيّنة بكثرة وعرضها في السوق وبالتالي هبطت قيمة السلعة في السوق وتضرّر الباعة الموجودون في السوق حيث كانوا يبيعونها بالسعر العالي فهم اشتروها بسعر عالٍ لكن هبط ذلك السعر بسبب استيراد هذا الشخص لهذه السلعة بكمية كبيرة ، إذن هو أضرّهم ولكن أضرّهم بهذا المعنى يعني سبّب إلى إضرارهم فهل يحتمل فقيه في مثل هذه الحالة حرمة هذا التسبيب إلى الاضرار ؟ كلا .

ويمكن أن نقرّب تقريباً آخر لإثبات عدم الحرمة:- وهو التمسّك بفكرة القصور في المقتضي ، يعني نقول إن دليل حرمة الإضرار بالغير هو بنفسه قاصر عن شمول مثل هذا الإضرار ، فإنّ المفهوم منه هو الإضرار المباشري أما التسبيب إلى الإضرار فهو ليس إضراراً بالغير حقيقةً وإنما هو تسبيبٌ فمثل حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) - أو ( لا إضرار ) على اختلاف ما هو الثابت في الرواية ففي بعضها ضرار وفي بعضها إضرار كما بينا ذلك في قاعدة لا ضرر ، وضرار بمعنى إضرار - إن مثل هذه الرواية يمكن أن نقول هي ناظرة إلى أن أضرّ بالغير مباشرةً كأن أوجّه السيل إلى بيت جاري أو أوجّه الحريق إلى بيت جاري فهذا إدخالٌ للإضرار على الجار مباشرةً فيمكن أن يقال هو مشمول بمثل هذا الحديث ، أما أني لا أضرّ الغير بالمباشرة وإنما أسبّب للإضرار كما هو الحال في محلّ كلامنا فإنّ الذي باشر الإضرار هو المشتري نفسه دون ذلك المسبِّب ، فبالتالي يصدق عليه أنه سبَّب إلى إضراره ولكن نتسامح ونقول قد أضرّه ، نعم أنا سبَّبت إلى الإضرار ، فدليل حرمة الاضرار ناظر إلى الاضرار المباشري أما التسبيب للإضرار فشمول الدليل له أوّل الكلام ، ولا أقل نقول لو لم يقيّد المتكلّم بخصوص الإضرار المباشري والحال أنّ مراده الإضرار المباشري لا يستهجن منه الاطلاق ولا يقال له لِمَ لم تقيّد بالإضرار المباشري ؟! ، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول إن دليل حرمة الاضرار فيه قصوراً عن شمول حالة التسبيب إلى الضرر.

ولكني استدرك وأقول:- لا يليق بالمؤمن أن يرتكب مثل ذلك.

إذن هذا بالنسبة إلى عنوان الإضرار واتضح أنه لتقريبين لا يمكن الحكم بالحرمة من ناحيته.

وأما من ناحية العنوان الثاني وهو عنوان الغش والخديعة:- فأيضاً يمكن أن يقال إنّ الخديعة المباشرية والغش المباشري هو حرام ، كالحليب المشوب بالماء يقدّمه البائع للمشتري بعنوان أنه حليب خالص ، فهذا باشر في غشّه وخديعته وهنا يشمله مثل ( من غشّنا فليس منا ) أو ما شاكل ذلك ، أما إذا فرض أني اشتريت منه فتخيّل المشتري الآخر أنّ هذا حليباً خالصاً فاشترى اعتماداً عليَّ ففي مثل هذه الحالة هل يحتمل أحد أنّ فعلي هذا محرّم لأني أوقعت الآخر في الغش - حتى لو كان غرضي أن يشتري هو بعد ذلك وسوف يتضرّر - ؟! إنّ هذا ليس بحرام ، نعم كون هذا ليس مناسباً لي فهذه قضية ثانية ، أما أنَّ التسبيب إلى الغش هو حرام فلا فإنه هناك قصور في المقتضي ، بل لعلّه هناك مانع كما أشرنا إليه.

إذن اتضح من خلال ما ذكرناه أنَّ التمسّك بدليل حرمة الإضرار أو بدليل حرمة الغش والخديعة شيءٌ مشكل وذلك للقصور في المقتضي ، بل ولوجود المانع كما أو ضحنا ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده العلمان.

وأذكر شيئاً:- وهو أنه قد يقول قائل أنّ ما دلّ على حرمة الإضرار المباشري يدلّ بتنقيح المناط العرفي على حرمة التسبيب للإضرار ، فالعرف يلغي الخصوصية من هذه الناحية ولا يرى فرقاً بين الإضرار بالمباشرة أو التسبيب إلى الاضرار.

والجواب:- إنَّ عهدة هذه الدعوى على مدّعيها ، فنحن نجزم بعدم الفرق من حيث أنه غير مناسب للمؤمن ، أما أنّ العرف يسوّي بينهما فلا ، فقد قلت في مثال التاجر أنَّ العرف يقول له أحسنت ولا شيء في ذلك فدع التاجر يستورد السلعة بكثرة ويهبط سعر السلعة حتى وإن خسر التجّار الآخرون ، فالعرف هنا لا يرى في ذلك حرمة بل يراه حسناً ، وهذا منبّهٌ على أنّ إلغاء الخصوصية شيءٌ مشكل.

وأما بالنسبة إلى ما أفاده الحاج ميرزا علي الايرواني - من أنه يصدق عنوان الكذب لأنه بالدلالة الالتزامية كأن الناجش يريد أن يقول أنا أريد أن اشتري هذه السلعة بهذا السعر العالي والحال أنه لا يريد أن يشتريها بذلك - فيمكن أن يقال في مناقشته:- إنّ الكذب محرّمٌ ولكن ما كان كذباً بالدلالة المطابقية ، أما ما كان كذباً بالدلالة الالتزامية فهذا لم يثبت تحريمه ، فمثلاً لو قلت إنّ هذه الدار هي داري وملكي والحال هي ليست ملكي وإنما هي مغصوبة من قبلي فهذا الكلام كذبٌ ، وبالدلالة الالتزامية لا يجوز لأحدٍ أن يزاحمني فهل يعدّ مثل هذا المورد قد صدرت منّي كذبتان مرّة بلحاظ المدلول المطابقي ومرّة بلحاظ المدلول الالتزامي ؟! كلا ، بل العرف يرى أنّ هذا الشخص قد كذب مرّة واحدة ، أما بلحاظ المداليل الالتزامية فلا يصدق عنوان الكذب.

وأنبّه على نكتةٍ جانبية من باب الكلام يجرّ الكلام:- إنَّ هذا الذي ذكرته - وهو أنّ الكذب يصدق بلحاظ المدلول المطابقي ولا يصدق بلحاظ المدلول الالتزامي - شيء آخر غير ما وقع الخلاف فيه بين الأعلام في مبحث الأصل المثبت وأن صدق عنوان الخبر - لا عنوان الكذب - هل يصدق على المداليل الالتزامية أو يختصّ عنوان الخبر بلحاظ المدلول المطابقي ؟ هنا يوجد نزاع في مسألة الأصل المثبت قد قرأناه في الكفاية لا بأس أن نشير إليه ، فالأصليون اتفقوا على شيءٍ وهو أنّ المداليل الالتزامية للأصول العمليّة ليست حجّة بينما هي حجّة بلحاظ باب الأمارات ، فالخبر إذا كان له مدلول التزامي يكون حجّة بلحاظ مدلوله الالتزامي كما هو حجّة بلحاظ مدلوله المطابقي ، بينما في الأصول العمليّة قالوا لا يكون حجّة بلحاظ المدلول الالتزامي ومن هنا قالوا الأصل المثبت ليس حجة ، وهذه النتيجة التي اتفقوا عليها وقع الكلام بينهم في كيفية تخريجها الفنّي ، وصاحب الكفاية(قده)[1] في مبحث الأصل المثبت ذكر أنّ الوجه في الفرق هو أنّ من أخبر عن شيءٍ فقد أخبر عن مداليله الالتزامية والإخبار لا يختصّ بالمدلول المطابقي بل يعمّ المدلول الالتزامي ، فإذا صدق عنوان الخبر بلحاظ المدلول الالتزامي نتمسّك بإطلاق دليل حجّية الخبر ويثبت حجّية الخبر بلحاظ المدلول المطابقي وبلحاظ المدلول الالتزامي ، وهذا بخلافه في باب الأصول العمليّة فدليل الاستصحاب يقول ( لا تنقض اليقين بالشك ) يعني ما كنت على يقينٍ منه لا تنقضه بالشك ، وأنا كان عندي يقين بحياة الولد مثلاً فلا تنقضه بالشكّ ، أما اللازم وهو نبات اللحية فسابقاً لا يوجد عندي يقين به فإنه لو كان عندي يقين سابق به لكنت استصحب نبات اللحية ولا حاجة إلى أن أثبته من خلال استصحاب الحياة ، فأنا باستصحاب الحياة أريد أن أثبت نبات اللحية ونبات اللحية لا يقين سابق بلحاظه فدليل ( لا تنقض اليقين بالشك ) لا يمكن أن يشمل هذا المدلول الالتزامي بل يشمل المدلول المطابقي فقط.

هذا فرقٌ بين باب الأمارات وبين باب الأصول العملية ذكره صاحب الكفاية(قده).

والاشكال الذي سُجِّل على صاحب الكفاية:- هو أنه أنت قلت ( من أخبر عن شيء فقد أخبر عن مداليله الالتزامية ) ، ونحن نقول:- لا نسلّم هذه المناقشة فإنَّ صدق عنوان الخبر عرفاً فرع القصد وهذا المخبِر لم يقصد الإخبار عن المداليل الالتزامية ، بل لعلّ المداليل الالتزامية ليست في ذهن المخبِر أبداً ، فعنوان الخبر لا يصدق إلا إذا كان المخبر قاصداً الإخبار عن المداليل الالتزامية ، فعنوان الخبر لا يصدق.

وإذا اتضح هذا فالذي أريد أن أقوله الآن:- هذا الذي ذكرته مع الحاج ميرزا علي الايرواني غير هذا المطلب ، فأقول للحاج ميرزا علي الايرواني إنه حتى لو سلّمنا أن عنوان الخبر يصدق بلحاظ المداليل التزامية وإن لم يكن هناك قصد الإخبار ولكن رغم هذا يمكن أن نقول إنّ عنوان الكذب لا يصدق عرفاً إلا بلحاظ المداليل المطابقية دون المداليل الالتزامية.


[1] كفاية الأصول، الآخوند، التنبيه السابع.