33/03/04


تحمیل
  (بحث يوم السبت 4 ربيع الأول 1433 ه 63)
 الدليل الرابع : ما يُدّعى من أن الغالب حصول العلم من خبر العادل الواحد أو من القرائن التي تحتفّ بالواقعة أو من خبر الثقة - وإن لم يكن عادلاً فالإصرار على عدم الاكتفاء بذلك ولزوم تحقق البيّنة التي هي شهادة عدلين يدل على عدم التعويل على العلم الحاصل قبل تحقّقها .
 وهذا الدليل في الحقيقة نظير الدليل الثاني المتقدّم ولكن هناك طُبّق على باب الإقرار والشهادة أربعاً وهنا يُطبّق على البيّنة نفسها .
 ويرد عليه ما تقدّم من أن هذا إن تمّ فإنما يدلّ على اعتبار العلم الحدسي الناشئ مما أُشير إليه [1] ولا يدلّ على عدم اعتبار العلم الحسّي بالواقع نفسه مباشرة فلا يكون منافياً لما دلّ على اعتباره [2] وجواز أن يحكم القاضي استناداً إليه .
 على أنه يمكن منع دعوى أغلبية حصول العلم من المناشئ المذكورة .. وعلى ذلك فيمكن أن يقال بإمكان حمل الأدلة الدالة على اشتراط التعدد في الشهود على أنها غير ناظرة إلى حالة حصول العلم بشهادة الشاهد الواحد حتى تنفي اعتباره ، ويكونُ المفهوم من إصرارها على اشتراط انضمام شاهد آخر هو عدم جواز التعويل على شهادة الشاهد الواحد لا على عدم اعتبار العلم الحاصل منه لو فُرض تحقّقه - .
 نعم .. لو فرضنا أن حصول العلم من تلك المناشئ غالبي - كما ادُّعي ذلك في باب الزنا في الإقرار والشهادة - فعدم الاكتفاء به هنا والإصرار على لزوم اكتمال البيّنة يعني عدم الاعتبار به فلا يمكن توجيه الأدلة حينئذ على عدم حصول العلم لأنه خلاف فرض كون حصوله غالبياً ولكن حيث لا واقع لهذه الغالبية فيمكن تنزيل الأدلة التي تصرّ على اشتراط انضمام شاهد آخر على عدم حصول العلم أصلاً لا على عدم اعتباره .
 الدليل الخامس : ما يُلاحظ من أن الشارع المقدّس اهتمّ - بحسب ما وصل إلينا من الروايات بطرق الإثبات في باب القضاء ووضّحها وبيّن شروطها وأحكامها وكيفية تحققها كما هو الملاحظ في باب البيّنة وباب اليمين حيث ورد الكثير من الروايات التي تبيّن ما يتعلّق بهما من الشروط والأحكام في حين أن العلم لو كان مثلهما من طرق الإثبات لكان المناسب - بل لعله المتعين - أن يرد ولو دليل واحد على الأقلّ يُتعرّض فيه إلى ذلك فيكشف عدم الورود عن عدم كونه من تلك الطرق فيدلّ بالتالي على عدم نفوذ علم القاضي في باب القضاء .
 ولكن هذا الدليل في الحقيقة لا يتمّ في المدّعى أعني العلم الحسّي وذلك باعتبار ارتكازية الاعتماد عليه في أذهان العقلاء والمتشرعة وقيام سيرتهم العملية على الاستناد إليه فبضميمة عدم الردع عن هذه السيرة من جهة الشرع وتعويل الشارع المقدّس على هذا الارتكاز المتشرّعي والعقلائي في ترك بيان الاعتماد عليه إثباتاً يُثبت كونه مُمضىً شرعاً فلا يحتاج حينئذ إلى ورود دليل على اعتباره بالخصوص ، ومثل هذه الارتكازية والسيرة الجارية غير متوفّرة في العلم الحدسي فيتأتّى حينئذ أن يقال بشأنه إنه لو كان العلم الحدسي للقاضي معتبراً لكان المناسب أن يُشار إلى اعتباره ونفوذه ولو في بعض الروايات مع أنه لم ترد رواية واحدة - على الأقلّ تشير إلى هذا المعنى فيكون ذلك مؤشّراً على أن العلم الحدسي ليس من طرق الإثبات القضائية فالدليل المتقدّم إن تمّ فإنما يتم في غير ما هو المطلوب من العلم الحسّي .
 هذا تمام ما يُستدلّ به على عدم النفوذ وقد تقدّم ما يُستدلّ بها على النفوذ فنصل بعد استعراض أدلة الدعويين إلى ما يُستحصل من النتيجة بشأنهما وهي تتلخّص في أمرين [3] :
 الأول :

إن ما تم من أدلة النفوذ - على ما تقدّم سابقاً - هو معتبرة الحسّين بن خالد ومعتبرة سليمان بن خالد - هذا مع افتراض أن الآيات الشريفة التي تأمر بالحكم بالقسط والعدل والحق [4] وكذلك الآيات التي تبيّن حدّ الزاني والسارق [5] غير تامة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك :
 فأما معتبرة الحسّين بن خالد فلا إشكال في أنها تدلّ على نفوذ علم الحاكم الحسّي في حقوق الله بقرينة ما ورد فيها من قوله (عليه السلام) : (نظر إلى رجل يزني ..) [6] ، وليس فيها دلالة على نفوذ علم القاضي في حقوق الناس بل هي ساكتة عن ذلك بالبيان الذي تقدّم سابقاً كما أنه لا يمكن التعدّي عن موردها وهو العلم الحسّي إلى غيره [7] .
 وأما معتبرة سليمان بن خالد فقد تقدّم أن ظاهرها المفروغية عن جواز القضاء بالرؤية والمشاهدة عند حصولهما وقد تقدّم سابقاً أنه لا خصوصية لهما وإنما ذُكرا باعتبار أنهما يمثّلان الحسّ الموجب لحصول العلم فتكون هذه الرواية ظاهرة في اعتبار العلم الحسّي وجواز التعويل عليه وأن البيّنة واليمين إنما يُلتجأ إليهما في حال عدم حصول هذا العلم .
 هذا .. وقد تقدّم أن القدر المتيقَّن من هذه الرواية هو حقوق الله حيث منعنا الإطلاق فيها على نحو تكون شاملة لحقوق الله وحقوق الناس بتقريب أن الرواية ليست في مقام البيان من هذه الجهة وإنما هي سؤالاً وجواباً في مقام بيان كيفية الحكم عند عدم حصول العلم ، وأما جواز الاعتماد على العلم الحسّي عند حصوله فهو شيء قد أُخذ مفروغاً عنه فيها فهي ليست في صدد بيانه فلا يمكن التمسّك بإطلاقها من هذه الجهة ولأجل هذا قلنا إن مفاد المعتبرتين واحد في اعتبار العلم الحسّي في حقوق الله لأنه هو القدر المتيقَّن من مفاد معتبرة سليمان بن خالد بعد منع وجود إطلاق لها .
 ولكن الصحيح أن يقال إن الإطلاق وإن كان ممنوعاً - بالبيان المتقدّم إلا أن القدر المتيقَّن من موردها هو حقوق الناس لا حقوق الله [8] لقيام القرينة عليها وهي التعبير بالقضاء الذي هو ظاهر فيها دون إقامة الحدود فإنه لا يُستعمل في شأنها هذا اللفظ فالرواية ظاهرة في جواز أن يستند القاضي إلى علمه الحسّي بمقتضى التعبير بالرؤية والمشاهدة وذلك في حقوق الناس بمقتضى التعبير بالقضاء .
 فالنتيجة أن مقتضى الجمع بين معتبرة الحسّين بن خالد الواردة في حقوق الله [9] ومعتبرة سليمان بن خالد الواردة في حقوق الناس هو الالتزام باعتبار العلم الحسّي مطلقاً [10] .
 الثاني :

إن ما سيق من أدلة عدم النفوذ لم تتمّ دلالة شيء منه على ذلك كما هو ظاهر بالمراجعة .
 فتحصّل من جميع ما تقدّم أن النتيجة التي نصل إليها هي التفصيل بين شقّي العلم فأما الحسّي منه فهو نافذ ومعتبر ويجوز الاستناد إليه مطلقاً أي في حقوق الله وفي حقوق الناس - ، وأما الحدسي فهو غير نافذ ولا يجوز الاستناد إليه مطلقاً .
 هذا تمام الكلام في هذه المسألة [11] .


[1] أي من خبر الواحد عادلاً كان أو ثقة أو من القرائن التي تحتفّ بالواقعة .
[2] أي العلم الحسّي .
[3] سيتبيّن أن الأول منهما يتضمّن استدراكاً مؤثّراً في ما يُتوصّل إليه من النتيجة .
[4] وهي الدليل الأول من أدلة النفوذ .
[5] وهي الدليل الرابع من أدلة النفوذ .
[6] فالنظر إشارة إلى العلم الحسّي والزنا إشارة إلى حقّ الله تعالى من إقامة الحدّ على مرتكبه .
[7] وهو العلم الحدسي .
[8] أقول بياناً لذلك : إنه لا يخفى أن الرواية حيث دلّت على اعتبار العلم الحسّي من جهة أخذه مفروغاً منه وإنما كانت بصدد السؤال عن كيفية القضاء في حال غياب هذا العلم وقد مُنع أن يكون لها إطلاق بحيث تكون شاملة لحقوق الله وحقوق الناس فلا بد من أن يكون لها مورد ينفذ فيه ذلك العلم المعتبر ومع عدم قيام القرينة على كون موردها هو حقوق الله أو حقوق الناس بالخصوص يكون المصير إلى اختيار حقوق الله مورداً لها لأنه الأخفّ مؤونة إذ لا يستلزم وجود مرافعة ولا توقُّف إنفاذ الحدّ على إذن أحد ولكن بعد التنبّه إلى وجود قرينة على أحدهما بالخصوص فلا بد من المصير إليه من هذه الجهة والقرينة هاهنا هي التعبير بالقضاء فإنه إنما يناسب حقوق الناس ولا يناسب حقوق الله إذ لا يُعبّر عن إقامة الحدود بالقضاء .
[9] أي في إقامة الحدود .
[10] أي في حقوق الله وفي حقوق الناس .
[11] وهي المسألة الثامنة .