38/05/10


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

38/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: مسألة ( 32 ) حكم الرشوة – المكاسب المحرمة.

وفيه:- إنَّ هذه الرواية أجنبية عن المقام من ناحيتين:-

الأولى:- إنها ناظرة إلى نشر العلم وليس إلى مسألة القضاء ، فهي لم تفرض القضاء بدايةً ولا نهايةً وإنما هو ينشر العلوم ، فإذن هي أجنبية عن مسألة القضاء بشكلٍ كلّي.

الثانية:- هو في الحقيقة لا يأخذ المال سلفاً – مقدّماً – وإنما هو يبيّن ذلك للناس وهم يدفعون أليه المال بعد ذلك وهذا يسمّى صلة أو مساعدة لا أنه من باب الرشوة والأجر.

إذن الرواية أجنبية عن المقام من ناحيتين.

اللهم إلا أن يجيب الشيخ الأعظم(قده):- كما قد يلوح ذلك من عبارة المكاسب ، وذلك أنَّ ذيل الرواية هو يدل على الحصر ، يعني أنَّ غير هذا هو حلال والحرام هو هذا فقط ، فذيل الرواية قال:- ( إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدىً من الله ليبطل به الحقوق ) [1] ، فالمحرم أيها الناس هو هذا أما غيره فلو كان في باب القضاء وكان أجرة مقدّمة مشروطة كلّه جائز إنما المحرّم هو ابطال الحقوق ، فإذا كان ابطال الحقوق هو المحرّم فقط فعلى هذا الأساس مادام الحكم هنا بالحق ولا إبطال للحقوق فالرواية تدل على أنه يجوز له أن يشترط الأجرة مقابل القضاء من الأوّل ، فالرواية وإن كان لم يذكر فيها القضاء لكن الحصر يستفاد منه بالمفهوم أنَّ كل غير ذلك جائز فنستفيد منها الجواز في موردنا ، هكذا قد يدافع الشيخ عن نفسه.

ونحن نقول له:- إنَّ هذا الحصر في الحقيقة هو بالنسبة إلى ما هو مذكور في الصدر ، فالسؤال كان هو: ( قلت:- إنَّ في شيعتك قوماً يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم فلا يعدمون البّر والصلة والاكرام ) فهو مقابل ذاك يريد أن يقول هذا ليس بمستأكل إنما المستأكل من كان هدفه ابطال الحقوق والأحكام ، فإذن لا يمكن أن نستفيد من المفهوم هذه الدائرة الوسيعة ، وإنما نستفيد من المفهوم الدائرة الضيّقة وهو أنَّ المستأكل هو من يفترض أنه يبيّن ما يقصد به إبطال الحقوق فهذا إذا أخذ المال يكون مستأكلاً ، فالكلام هو في هذه الدائرة أما البقيّة فمسكوت عنه ، فالامام عليه لا يريد أن يبيّن المفهوم بدائرته الوسيعة.

إذن نحن نوافق الشيخ الأعظم(قده) في أنه يوجد حصر وهذا الحصر له مفهوم ، ولكن مفهومه بالنسبة إلى ذاك ، فالشخص الذي يأتي في الصحن الشريف مثلاً ويبيّن مسألة أو مسألتين ثم يأتي الناس ويعطونه مبلغاً من المال ليس مستاكلاً ، فالامام عليه السلام يقول هذا ليس مستاكلاً إنما المستأكل هو الذي يبيّن أحكاماً باطلةً ، فالرواية بيّنت هذا المقدار فقط أما أكثر من هذا فليس منظوراً له فيها ، فلا يمكن أن يستفاد من هذا الحصر أنه يجوز الدفع إليه حتى إذا كان بعنوان الرشوة أو الأجرة المسبقة لكن على الحكم بالحق فإنَّ هذا مسكوت عنه.

هذا مضافاً إلى أنّ سندها ضعيف لأنه يشتمل على عدة مجاهيل كتميم بن بهلول وأبيه وحمزة بن حمران ، ولعلّه يوجد غيرهم.

إذن من خلال هذا اتضح أنَّ هذه الرواية لا يمكن التمسّك بها لإثبات الجواز ، فغاية ما عندنا أننا نمتلك وجهين لإثبات الحرمة كلاهما قد ناقشنا فيه.

ونضيف وجهين آخرين للحرمة:-

الوجه الأوّل:- إنَّ الحكم بين الناس والقضاء بينهم شيء واجب ، وما كان واجباً لا يجوز أخذ الأجرة عليه ، فإن أخذ الأجرة على الواجبات لا يجوز.

وفيه:- إنه قد تقدّم منّا في مسألة أخذ الواجبات أنَّ حيثية الوجوب بما هي هي لا تمنع من أخذ الأجرة ، وإن حاول بعض الأعلام التشبث بذلك لبعض لبيانات ، لكننا ناقشنا تلك البيانات إذ أنَّ حيثية الوجوب بما هي هي لم يثبت عندنا أنها تمنع من صحّة الاجارة.

الوجه الثاني:- أن يدّعى أنَّ مناصب الحكم والافتاء والقضاء مبنيّة في الشرع الاسلامي على المجانية ، كما ادعى ذلك السيد الخوئي(قده) ، وله عبارة في هذا المجال حيث قال:- ( على أنَّ الأمور التي يكون وضعها على المجانية فإنَّ أخذ الأجرة عليها يعدُ رشوة في نظر العرف ومن هذا القبيل القضاوة والافتاء )[2] ، وله تعبير آخر يقرب من هذا حيث يذكر أنَّ هذا هو منصب الأئمة والانبياء عليهم افضل الصلاة والسلام فإذا حصل عليه الانسان وتفضّل الله به عليه فلا ينبغي له أن يطلب عليه الأجرة ، ونصّ عبارته:- ( إنَّ هذا المعنى هو الذي تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع فإنَّ القضاء من المناصب الإلهية التي جعلها الله للرسول فلا ينبغي لمن يتفضل الله عليه بهذا المنصب الرفيع أن يأخذ عليه الأجرة ).[3]

والمهم هو عبارته الأولى وهو أنَّ هذا مبنيّ على المجّانية ، فإذا ثبتت هذه الكبرى وهي أنَّ هذا مبنيّ على المجانية فلا يبقى عندنا فنقول إنَّ الأجرة باطلة ، ومن الواضح أنَّ غاية ما يثبت هو أنَّ الاجارة باطلة يعني الحرمة الوضعية أما الحرمة التكليفية فلا تثبت ، ولكن كيف نثبت الصغرى يعني أنَّ القضاء والحكم والافتاء مبنيّ على المجّانية ؟!!

إن قلت:- إنَّ المستفاد من النصوص هو ذلك.

قلت:- إنَّ هذا عهدته عليك.

وعلى أيّ حال هذه الدعوى مقبولة كبرىً ، وإنما الكلام في الصغرى.

إذن هذه الوجوه الأربعة لإثبات الحرمة كلها محلّ تأمل ، أما رواية حمزة بن حمران التي قد يتمسّك بها للجواز كما حاول ذلك الشيخ الأعظم فهي أيضاً قابلة للتأمل.

أجل يمكن أن يقال:- توجد رواية وهي رواية يوسف بن جابر المتقدّمة حيث يمكن أن يستفاد منها حرمة أن يطلب المال لأجل أن يفتي ، يعني سوف تصير الوجوه للحرمة خمسة ، ونصّها :- ( قال أبو جعفر عليه السلام:- لعن رسول الله الله صلى الله عليه وآله من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له و....ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقهه فسألهم الرشوة )[4] بتقريب:- أنَّ هذا الذي يطلب مالاً على الحكم هو بالتالي يطلب مالاً على بذل ما عنده من الفقه وحينئذٍ يكون مشمولاً لهذه الرواية ، فإذا قلنا إنَّ اللعن يدل على التحريم فحينئذٍ نستفيد من هذه الرواية التحريم ، فالمهم هو اثبات أنَّ اللعن يدل على التحريم ، بالإضافة إلى السند فإنه محلّ تأمل فإنَّ يوسف بن جابر لم يثبت توثيقه وكذلك عبد الرحمن ، فالرواية إذن قابلة للمناقشة سنداً كما أنه قد يتأمل في دلالتها أيضاً باعتبار أنَّ اللعن ليس واضحاً في الحرمة ، ولكن مع ذلك يكون الاحتياط في الفتوى لأجلها ولأجل ما هو مشهور بين الفقهاء شيئاً حسناً ، إذ من باب الاحتياط الوجوبي لا يجوز أخذ الأجرة على نفس الحكم ومنشأ هذا الاحتياط الوجوبي الشهرة زائداً هذه الرواية فإنَّ ذلك وإن لم يصلح مستنداً للفتوى الجزمية لكنه لا بأس به للاحتياط الوجوبي.

أما الصورة الرابعة:- وهي أنَّ الرشوة تؤخذ على منصب القضاء ، فإنه ينبغي التفصيل بين ما إذا كان ذلك من قبل السلطان العادل وهذا الحاكم يكون في ظل الدولة الاسلامية فيجوز ، وبين ما إذا فرض أنه ليس كذلك فلا يجوز.

أما أنه لا يجوز في الشق الثاني فلا أقول إنَّ ذلك من باب صحيحة عمّار بن مروان في النقل الثاني الذي ورد فيه عبارة ( أجور القضاة ) والتي حملناها على القضاة في الدولة الجائرة لأنه لم يثبت أنَّ النقل الوارد عن عمّار بن مروان هو موجود حتماً ، فإذا ثبت أنه موجود فحينئذٍ نتمسّك به ، أما إذا قلنا هو ليس بموجودٍ فلا يمكن التمسّك به ، نعم إلا بناءً على أصالة عدم الزيادة بالبيان المتقدّم ، فإذن هذا لعلّه فيه شيء من التأمل.

والأحسن التمسّك بصحيحة عبد بن سنان المتقدّمة في الصنف الرابع حيث ورد فيها:- ( سئل أبو عبد الله عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان الرزق ، قال:- ذلك السحت )[5] ، وقد قلنا إنّ المنصرف منها هو قاضي الجور ، فإذن هي تدل على التحريم ، بل نتمسّك بصحيحة عمّار بن مروان أيضاً بعد ضم أصالة عدم الزيادة لمن قبلها بالبيان الذي ذكرناه فإنها تكون تامّة أيضاً.

وأما إذا فرض أنَّ الدولة عادلة والحاكم عادل فحينئذٍ المناسب هو الجواز ، لعدم الدليل على الحرمة ،فنتمسّك بالبراءة وهو يكفينا ، نعم قد يتمسّك هنا لإثبات الحرمة بتلك الوجوه الأربعة التي ذكرناها في الصورة الثالثة.

إذن المناسب هو الجواز إذا كان في ظلّ الدلة العادلة لعدم الدليل على الحرمة.