39/05/09


تحمیل

الأستاذ الشيخ باقر الايرواني

بحث الفقه

39/05/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:- مسألة ( 45 ) بعض مستحبات التجارة - المكاسب المحرّمة.

الأدب الحادي عشر:- كراهة التعامل مع المحارفين.

والمحارف مأخوذ من الحرفة بضم الحاء بمعنى الحرمان وسوء الحظ[1] ، وقد دلت على ذلك رواية الوليد بن صبيح:- ( قال لي أبو عبد الله عليه السلام:- لا تشتر من مُحارَف فإنَّ صفقته لا بركة فيها )[2] ، وكذلك ورد في روايته الأخرى التي هي بتغيير بغض الألفاظ ، ونصّها:- ( لا تشتر من مُحارَف شيئاً فإنَّ خلطته لا بركة فيها )[3] .

ولو خلّينا نحن وألفاظ هذ الرواية لكنا نقول إنه من المناسب القول بالحرمة لأنه يوجد فيها نهي والنهي ظاهر في التحريم حيث قالت ( لا تشترِ من مُحارَف ) ، ولكن يوجد عندنا قطع من الخارج بأنه لا يحتمل بطلان وحرمة معاملة أمثال هؤلاء ، فهذا القطع يجعلنا نحمل هذا النهي على الكراهة.

ونقل الحرّ العاملي(قده) كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام الحكم القصار الحكمة في نفيس الباب وهي:- ( شاركوا الذين قد أقبل عليهم الرزق فإنه اخلف للغنى وأجدر بإقبال الحظ )[4] .

لكن يمكن أن يقال:- إنَّ هذه الرواية تدل على رجحان المشاركة والشراء ممن أقبل عليه الرزق ونحن كلامنا في اثبات الكراهة لا في اثبات استحباب الشراء من غير المحارف.

إذن ثبت لحدّ الآن كراهة معاملة المحارَف.

ولكن نستدرك ونقول:- إنَّ كل مؤمن ليس بمُحارَف.

فإذن المحارف يكون من شريحة غير المؤمن فلاحظ رواية سعيد بن غزوان قال :- ( قال أبو عبد الله عليه السلام: المؤمن لا يكون محارَفاً )[5] .

أقول:- كان من المناسب للسيد الماتن(قده) أن يذكر معنى المحارَف ، ويذكر أنَّ المؤمن لا يكون محارفَاً ، فإنَّ ذكر هذه القضية مهم جداً.

الأدب الثاني عسر:- طلب تنقيص الثمن بعد العقد.

والمقصود منه أنَّه إذا تم العقد بعد ذلك يكره للمشتري أن يقول للبائع حطّ عنّي قسماً من الثمن فإنَّ نفس هذا العمل والطلب هو منهي عنه ، وتوجد روايتان في هذا المجال:-

الأولى:- رواية إبراهيم الكرخي قال:- ( اشتريت لأبي عبد الله عليه السلام جارية فلما ذهبت انقدهم قلت استحطّهم ، قالك- لا ، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة )[6] ، والصفقة هي أنَّ المتعارف في ذلك الزمن أن يضرب أحدهما يده بيد الآخر كنايةً عن تمام العقد وتحقق البيع ولزومه ، ثم بعد ذلك يطلب المشتري من البائع أن يحطَّ من الثمن وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك.

وهذه الرواية بناءً على مسلك القوم تدل على التحريم لأنَّ الموجود فيها مادّة ( نهى ) هي موضوعة إلى التحريم ، فنحتاج حينئذٍ للحمل على الكراهة لأننا نريد أن نقول بالكراهة لا بالحرمة ، أما بناءً على ما ذهبنا إليه من أنَّ مادة ( نهى ) الاخبارية لا تدل على اللزوم بل تلتئم مع الجامع فحينئذ ٍلا يمكن للفقيه البناء على الحرمة بل يكون القدر المتيقن هو الكراهة ، فبناءً على مسلك القوم نحتاج إلى توجيهٍ للحمل على الكراهة فانتظر ذلك.

الثانية:- رواية زيد الشحّام :- ( أتيت أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام بجارية أعرضها عليه فأخذ يساومني وأنا أساومه ثم بعتها عليه فضمن على يدي[7] فقلت: جعلت فداك إنما ساومتك لأنظر المساومة تنبغي أو لا تنبغي وقلت قد حططت عنك عشرة دنانير ، فقال: هيهات ألا كان هذا قبل الضمنة أما بلغك قول رسول الله صلى الله عليه وآله الوضيعة بعد الضمنة حرام )[8] ، وقال في حدائق:- ( الضُّمنَة بالنون أي لزوم البيع وضمان كلّ منهما ما صار إليه )[9] ، ولكن الموجود في الحدائق المطبوع هو ( الصُّمنة ) بالصّاد ، ولكن هذا خطأ مطبعي ، فالنقطة محذوفة وإلا فالصحيح هو ( الضمنة ).

وهذه الرواية الثانية تدل على أنَّ تنازل البائع عن قسمٍ من الثمن بعد لزوم البيع حرام حيث قالت ( أما بلغك قول رسول الله صلى الله عليه وآله: الوضيعة بعد الضمنة حرام ) ، وهذه قضية نتركها الآن ولكن سوف نستفيد منها فيما بعد.

إذن قد يقال إنَّ هاتين الروايتين تدلان على التحريم خصوصاً الأولى حيث قالت ( الوضيعة بعد الضمنة حرام ) ، والحال أنا نريد أن ننتهي إلى الكراهة ، فماذا نفعل ؟

وفي هذا المجال نقول:- توجد ثلاث روايات تدل على جواز الوضعية بعد الضمنة ، وهي:-

الأولى:- رواية المعلى بن خنيس:- ( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يشتري المتاع ثم يستوضع ؟ قال: لا بأس ، وأمرني فكلّمت له رجلاً في ذلك )[10] .

الثانية:- رواية يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام قال:- ( قلت له الرجل يستوهب من الرجل الشيء بعدما يشتري فيهب له يصلح له ؟ قال: نعم )[11] ، والوارد هنا هو تعبير ( يستوهب من الرجل الشيء ) ولم يقل يستوهب من الرجل قسماً من الثمن ، ولكن ليس من البعيد بقرينة تلك الرواية أنه يستوهب شيئاً من الثمن.

الثالثة:- رواية يوسف بن يعقوب قال:- ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام الرجل يشتري من الرجل البيع فيستوهبه بعد الشراء من غير أن يحمله على الكره ، قال: لا بأس به )[12] .

فإذن توجد روايتان تدلان على الحرمة وثلاث روايات تدل على الجواز ، فماذا نصنع ؟

إننا نحمل الروايات الظاهرة في الحرمة على الكراهة ، هكذا صنع الشيخ الطوسي(قده) كما نقل عنه ذلك صاحب الحدائق(قده) ثم علّق وقال :- ( وتبعه الجماعة كما هي عادتهم غالباً )[13] .

وقد ذكرت سابقاً أنَّ صاحب الحدائق(قده) يرفض الجمع بالحمل على الكراهة وبتحامل عليه حيث قال:- ( لا دليل على الجمع بالحمل على الكراهة أو الاستحباب وإن اتخذه الفقهاء طريقاً مهيعاً في جميع الأبواب وأنه كيف تصان به الأخبار من التنافي والخروج من العهدة مع تصريحهم بأنَّ الأصل في الأمر الوجوب وفي النهي التحريم )[14] ، يعني يريد أن يقول إنه كيف تريدون أن تصونون الأخبار بهذه الطريقة والحال أنَّ الخبر قد صرّح بالوجوب حيث يوجد فيه نهي والأصل في النهي التحريم ، فكيف تحمل التحريم على الكراهة فإن هذا لا يمكن[15] ؟!! ، وذكر أيضاً:- ( قدّمنا في غير موضعٍ من أنه وإن اشتهر هذا الجمع بين الأصحاب إلا أنه لا دليل عليه من سنّةٍ ولا كتاب )[16] .

ولكن نحن نقول:- إنَّ هذا جمعٌ عرفي ، فإنَّ العرف حينما يرى أخباراً بهذه الصورة فهو يجمع بينها بهذا الشكل.

فإذن هو رفض الجمع بالكراهة ، وعليه فماذا يفعل ؟

قال:- إني أصنع كما صنع صاحب الوافي حيث حمل الروايتين الأوليين الدالتان على الحرمة على الوضعية فإنهما قد وردتا في الوضيعة ، أما الثلاث الأخيرة فتحمل على الاستيهاب - أي طلب الهبة - فليس هو حطٌّ من الثمن وإنما هو هبة شيءٍ جديد والشاهد على ذلك هو الروايتان الأخيرتان من الثلاث الدالة على الكراهة فإنه يوجد فيهما معنى ( استوهبته ).

ثم أضاف شيئاً وقال:- إنه لا يمكن حمل الثانية على الكراهة فإنها تصرّح بالتحريم ، فهي قالت ( الوضيعة بعد الضمنة حرام ) وهذه صراحة بالحرمة وليس ظهوراً ، قال(قده):- ( إنَّ رواية الشام صريحة في التحريم فإن الوارد فيها " أما بلغك قول النبي صلى الله عليه وآله الوضيعة بعدى الضمنة حرام " ومثله لا يقبل الحمل على الكراهة ، ومن ثم جمع في الوافي بين الأخبار المذكورة بحمل أخبار الجواز على ما إذا كان الاستحطاط على جهة الهبة كما تضمّنه بعضها حملاً لمطلقها على مقيدها وإبقاء للخبرين الأوّلين على ظاهرهما من التحريم ، وهو جيد ).


[1] فترى جماعة من الناس سواء كان هذا سوء الحظ واقعاً أو تخيلاً فتراه أينما يضع يده فهو لا يوفّق، فلا توجد بركة في يده ولا في رزقة، وأما البعض الآخر فتوجد بركة في يده ورزقة وأموره.
[7] والمقصود من ( ضمن على يدي ) أنه حصل حصلت الضمنة اليت هي اللزوم، قال الحر في نهاية الحديث ( ورواه الكليني ... إلا أنه قال ( فضمّ على يدي )، وقال ( الوضيعة بعد الضُّمَّة ).