33/11/06
تحمیل
(بحث يوم الأحد 6 ذو القعدة 1433 هـ 169)
الموضوع : الكلام في المسألة الخامسة والأربعين : ذكر أدلة القائلين بعدم اشتراط القرعة في القسمة والاكتفاء بالتراضي / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده) .
كان الكلام في اعتبار القرعة في القسمة بمعنى ان القسمة إذا كانت حاصلة بمجرد التراضي بين الشريكين من غير أن تتضمن القرعة فهل تترتب عليها الآثار وتكون صحيحة ولازمة أم أنها تفتقر في ذلك الى القرعة ، وقد تقدّم ذكر وجوه أربعة استدل بها القائلون بعدم اشتراط القرعة في القسمة والاكتفاء بالتراضي ويمكن اعتبارها جميعاً دليلاً واحداً فيكون هو الدليل الأول بأن يقال :
إن مجرّد التراضي يكفي في تحقق القسمة ويدل عليه أمور أربعة :
أوّلها : قاعدة أن (الناس مسلّطون على أموالهم) المعبّر عنها بقاعدة السلطنة .
ثانيها : النبوي المعروف : (لا يحلّ مال امرئ إلا بطيب نفسه) .
ثالثها : الأخبار الواردة في قسمة الدين وغيره كصحيحة غياث بن إبراهيم .
رابعها : ما تكرر في كلماتهم من أن عموم أدلة القرعة موهون بكثرة التخصيص .
ويمكن أن يُضاف إلى ذلك وجه خامس وهو التمسّك بالآية الشريفة : (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)
[1]
فإن كلاً من الطرفين راض بالتراضي بينه وبين الطرف الآخر فتدل الآية الكريمة على كفاية التراضي في المقام .
ولكن هذا الوجه مخدوش كالوجهين الأوّلين - بعدم صدق التجارة في المقام وإنما الموجود هو عبارة عن ازالة الشيوع عن الحصص .
وأما الوجه الثالث فالروايات الواردة في قسمة الدين هي أربع روايات بمضمون واحد ولذا نكتفي بقراءة واحدة منها وبها يتضح الحال في باقي الروايات وهي صحيحة غياث بن ابراهيم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) :
" في رجلين بينهما مال منه ما بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما ، واحتال كل واحد منهما بنصيبه ، فقبض أحدهما ولم يقبض الآخر ، فقال : ما قبض أحدهما فهو بينهما وما ذهب فهو بينهما "
[2]
.
وقوله (عليه السلام) : (في رجلين بينهما مال) فهم منه الفقهاء الاشتراك والشركة بلا خلاف بينهم في ذلك ، وقوله : (ومنه غائب عنهما) يعني أن بعضاً من المال هو دين عند الناس .
ومحلّ الاستدلال قوله : (فاقتسما الذي بأيديهما) حيث يظهر من هذه الرواية أن هذه القسمة صحيحة ويترتب عليها الأثر من دون أن تكون هناك قرعة حيث لم يرد ذكر لها في الرواية وهذا يدل على كفاية التراضي بالقسمة ولو من دون اجراء القرعة ، ومثل الكلام يقال في بقية الروايات إذ لا فرق بينها في المضمون .
وهذا الوجه اعتُرض عليه باعتراضين :
الأول : ما احتمله الشيخ صاحب الجواهر (قده) من كون القرعة مأخوذة في مفهوم القسمة فلا تصدق القسمة مفهوماً من دون افتراض القرعة فإذا كان الأمر كذلك فالروايات تكون قد أشارت ضمناً الى القرعة فصحيحة غياث بن إبراهيم عندما تقول اقتسما بأيديهما فإنه يعني أنهما اقتسماه بالقرعة أي اقترعا على ما بأيديهما لفرض أن القرعة مأخوذة في مفهوم القسمة وعلى ذلك فلا يصح الاستدلال بهذه الروايات على عدم اعتبار القرعة .
الاعتراض الثاني : أن الأخبار ليست ناظرة الى كيفية التقسيم وأنه هل يكون بالتراضي أو بالقرعة وإنما هي ناظرة الى مجرّد اقتسام ما بأيديهما وإلى ما هو دين عند الناس فلا يمكن على هذا أن يُستفاد من عدم ذكر القرعة فيها عدم اعتبارها
[3]
فلا تكون هذه الرواية ونظائرها دليلاً على عدم اعتبار القرعة في القسمة ، نعم .. لو كانت الروايات بصدد بيان كيفية التقسيم وبماذا يتحقق وسكتت عن القرعة فيمكن أن يقال حينئذ انها تدل على عدم اعتبار القسمة في القرعة ولكن الروايات كما مرّ ليست بهذا الصدد .
أما الاعتراض الأول
[4]
الذي يُستفاد من كلام صاحب الجواهر فقد علّله بما نصّه - تقريباً - : (أن القسمة تمييز الحق عن الآخر
[5]
ولا مميّز له في الشرع غير القرعة التي هي لكل أمر مشكل .
ولكن هذا الكلام لا يخلو من مصادرة فإن دعوى أن لا مميّز للحقّ في الشرع غير القرعة أول الكلام فإن محلّ البحث هو عن أن الحقوق هل تحتاج ليتميّز بعضها عن بعض وتخرج عن حالة الاشاعة إلى القرعة او لا تحتاج إليها بل يكفي في ذلك التراضي .. على ان غاية ما يثبت به - لو تمّ - هو اعتبار القرعة شرعاً في القسمة ولا يثبت أنها مأخوذة في مفهومها فهذا الاعتراض يظهر أنه غير تام.
وأما بالنسبة إلى الاعتراض الثاني
[6]
فالظاهر أنه تام فإن المتكلم بمضمون تلك الأخبار حتى لو كان يرى اعتبار القرعة في القسمة فإنه لا يرى ضرورة لذكر القرعة لأنه ليس في مقام بيان كيفية تحقّق القسمة وإنما هو في مقام بيان مجرد الاقتسام فلا ضرورة تقتضي منه في أن يذكر كل ما هو معتبر في القسمة ، وهذا نظير ما لو أخبر الشخص بقيامه ببيع داره - مثلاً فإنه لا يرى ضرورة في أن يذكر في ضمن ذلك كل ما هو معتبر في البيع فلا يُستفاد من عدم ذكره لأمرٍ مّا أن هذا الأمر ليس دخيلاً ومعتبراً في البيع فإنه ليس في مقام البيان من هذه الجهة .
وطبعاً ليس المراد القول بأن مرجع ذلك الى اعتبار القرعة في مفهوم القسمة ولكن المتكلم لا يرى حاجة لذكرها لأنّا قد فرغنا من بيان بطلان هذا الأمر في ردّ الاعتراض الأول وانتهينا إلى أن القرعة ليست مأخوذة قطعاً في مفهوم القسمة وإنما الكلام في شيء آخر وهو في أن القرعة هل هي معتبرة شرعاً في القسمة أم لا فالذي يقول باعتبارها شرعاً لا يرى ضرورة لذكر القرعة التي تتحقق بها القسمة عند الحديث عن التقسيم كما جاء في الرواية فعدم ذكره لها ليس فيه دلالة على عدم اعتبارها فيها كما لا يعني أيضاً عدم دخالة القرعة في مفهوم القسمة بمعنى أنه لا يصلح دليلاً على أيّ من هذين الأمرين .
ومن هنا يظهر ان هذا الدليل ليس تاماً لإثبات القول الأول .
الدليل الثاني
[7]
: ما يُستفاد من كلام جماعة من انه لو فُرض وجود دليل فيه اطلاق أو عموم يدل على اعتبار القرعة فهذا الإطلاق أو العموم موهون بكثرة ما خرج عنه - على ما أشرنا إليه في الدرس السابق إجمالاً - لأن من الواضح أن الاحكام الشرعية قاطبة لا تجري فيها القرعة حتى إذا اشتبهت أو كانت مجهولة كما أن أغلب الموضوعات لا تثبت بالقرعة أيضاً فلا يجوز تعيين الهلال بالقرعة حتى اذا اشتبه ومثله سائر الموضوعات التي تترتب عليها الاحكام الشرعية حتى اذا تطرّق إليها الاشتباه والإجمال .
فالخارج إذاً من عمومات أدلة القرعة أو إطلاقاتها هو الأكثر والباقي هو القليل وهذا مما يوجب الوهن فيها فلا يجوز التمسك بها في محل الكلام ومن المحتمل أن يكون هذا المورد من جملة الكثير الذي خرج عنها .
وأجيب عنه بأن خروج الاكثر وإن كان سبباً في وهن العام أو المطلق إلا أنه لا يصير سبباً في سقوطه عن الاعتبار وحينئذ يُلتزم بأنه لا يجوز التمسك به إلا في المورد الذي تمسك به الأصحاب فكأن عملهم بالقرعة في موردٍ مّا جابر للوهن المذكور ولمّا كان أكثر فقهائنا (رض) يعتبرون القرعة في باب التقسيم ويرون لزوم ان تكون القسمة بالقرعة لا بالتراضي فهذا المقدار يكفي في التمسّك بعمومات أدلة القرعة وإطلاقاتها في محل الكلام بل يمكن القول بأنه يظهر من المتأخرين أنهم لا يرون أن خروج الأكثر عن عمومات أدلة القرعة ومطلقاتها مُلزماً بعدم جواز التمسّك به إلا في المورد الذي تمسّك به الأصحاب وهذا معناه بحسب الصناعة أن خروج الأكثر لا يسقط العموم والإطلاق عن الاعتبار .
هذا إذا سُلّم بأن خروج الأكثر هو خروج من باب التخصيص وإلا فيُحتمل أن يكون من باب التخصّص لا التخصيص بمعنى أن الأحكام الشرعية خارجة تخصّصاً من ادلة القرعة فهي غير مشمولة لها أصلاً وعلى هذا تكون القضية أوضح
[8]
.
والحاصل أن خروج الاكثر لا يمنع من العمل بأدلة القرعة اذا تمت شرائطها فلا يمكن أن يقال بالاكتفاء بالتراضي وعدم اعتبار القرعة في القسمة من جهة أن ادلة القرعة لا يمكن جريانها في محل الكلام بل يقال بإمكان التمسك بها وإجرائها في محل الكلام وإن خرج منها الاكثر .
ومن هنا يظهر ان هذا الدليل ليس تاماً أيضاً .
الدليل الثالث : ما ذكره الشيخ البحراني في الحدائق من دعوى اختصاص أدلة القرعة بصورة التنازع والتشاح ، وأما في صورة التراضي - كما هو المفروض في محل الكلام
[9]
فلا دليل على اعتبار القرعة فيها .
وأجيب عنه بأن بعض روايات القرعة أو أكثرها
[10]
وإن كانت واردة في صورة التنازع والتشاح - كما ذكره - بلا اشكال :
منها : رواية الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
" إذا وقع الحر والعبد والمشرك بامرأة في طهر واحد وادعوا الولد أقرع بينهم وكان الولد للذي يخرج سهمه "
[11]
.
ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله) في ذيل رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) :
" إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوّضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المُحِقّ "
[12]
.
ومنها : رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال :
" إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادعوه جميعا أقرع الوالي بينهم .. "
[13]
.
ولا ريب في أن صورة النزاع والتشاح في هذه الروايات واضحة إلا أن هناك في ادلة القرعة ما ليس وارداً في هذه الصورة بل يظهر منه التعميم أو الإطلاق بمعنى أن القرعة كما تجري في صورة التشاح والتنازع تجري في صورة التراضي أيضاً ويشهد لذلك بعض الروايات :
منها : رواية سيابة وإبراهيم بن عمر عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) :
" في رجل قال : أول مملوك أملكه فهو حر فورث ثلاثة قال : يقرع بينهم فمن اصابته القرعة أعتق قال : والقرعة سنة "
[14]
.
ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) :
" في الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم ، قال: كان علي (عليه السلام) يسهم بينهم "
[15]
.
فالموصي هنا لم يعين الثلث والسائل أراد أن يعرف أيّ ثلث يُعتق في حكم الشرع فأجابه الإمام (عليه السلام) بأنه يُعيَّن بالقرعة .
ومنها : صحيحة الحسين بن المختار :
" قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (عليه السلام) : فقال له أبو عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيان أحدهما حر والأخر مملوك لصاحبه فلم يعرف الحر من العبد ؟ فقال أبو حنيفة : يعتق نصف هذا ونصف هذا ، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ليس كذلك ولكنه يُقرع بينهما فمن أصابته القرعة فهو الحر ، ويعتق هذا فيجعل مولى لهذا "
[16]
.
ومن الواضح أنه لم يُفترض النزاع والتشاح في هذه الروايات .. ولكن يمكن أن يقال إنه لا يبعد اشتمال هذه الروايات على النزاع والتشاح ولو بالمستوى الشأني بمعنى أن هذه الموارد لا تأبى عن افتراض النزاع والتشاح فيها .
والأحسن في الجواب عن هذا الدليل أن يقال إن هذه الروايات وان وردت في التنازع فعلاً كما أورده المستدل أو شأناً كما أورده المجيب إلا أن التنازع فيها هو مورد لها وليس فيها ما يدل على اختصاص دليل القرعة بهذا المورد بمعنى أنه ليس لها مفهوم ينفي جريان القرعة في غير هذا المورد نعم .. لا يمكن في المقابل الاستدلال بهذه الروايات على اعتبار القرعة في غير موردها من التنازع والتشاح لأنها ناظرة إلى موردها وتطبّق القرعة في هذا المورد لكن اذا تمّت لدينا مطلقات تدل على اعتبار القرعة مطلقاً فيمكن التمسك بها ولا تكون تلك الروايات مانعاً عن التمسّك بالإطلاق لما ذكرناه من عدم دلالتها على الاختصاص من جهة عدم اشتمالها على المفهوم .
وهل هناك مثل هذه الروايات المطلقة ؟
هذا ما سيأتي التنبيه عليه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
[1] النساء / 29 .
[2] الفقيه مج3 ص97 ، التهذيب مج6 ص212 ، الوسائل الباب الثالث عشر من احكام الضمان الحديث الأول مج18 ص435 .
[3] أي عدم اعتبار القرعة .
[4] أي اخذ القرعة في مفهوم القسمة .
[5] أي عن الحقّ الآخر .
[6] وهو أن الأخبار ليست ناظرة الى كيفية التقسيم وأنه هل يكون بالتراضي أو بالقرعة وإنما هي ناظرة الى مجرّد الاقتسام .
[7] أي في إثبات القول بكفاية التراضي في تحقق القسمة وعدم اعتبار القرعة في ذلك .
[8] أي في أن خروج الأكثر لا يسقط العموم والإطلاق عن الاعتبار .
[9] حيث إنّنا نفترض في محلّ الكلام انهما تراضيا بالقسمة فيقال هل يكفي هذا في القسمة أم لا بد من القرعة .
[10] والتحقّق من هذا يحتاج الى سبر لروايات القرعة (منه دامت بركاته) .
[11] الكافي مج5 ص490 ، الوسائل مج21 ص171 .
[12] الكافي مج5 ص491 ، الوسائل مج21 ص172 .
[13] الفقيه مج3 ص92 ، الوسائل مج21 ص171 .
[14] التهذيب مج6 ص239 ، الوسائل مج27 ص257 .
[15] الفقيه مج3 ص94 ، الوسائل مج23 ص103 .
[16] الكافي مج7 ص138 ، الوسائل مج26 ص312 .