38/04/17
تحمیل
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
38/04/17
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / شرائط جريان الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر
كان الكلام في الأجوبة على الإشكال السابق وهو لزوم تخصيص الأكثر، قلنا في الجواب الثاني مرجعه إلى دعوى أنّ موارد النقض خارجة عن القاعدة بالتخصص لا بالتخصيص، وقلنا أنّ هذا قد يُقرّب بوجوه، وذكرنا الوجه الأول منها والوجه الثاني .
الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعلام وحاصل هذا الوجه هو منع انعقاد ظهور الحديث في الإطلاق على نحوٍ يشمل الأحكام الضررية بحسب طبعها، ويُضمّ إلى ذلك دعوى كون الضرر المتيقن من الحديث هو ما عدا هذه الأحكام، يعني المتيقن من الحديث هو رفع الأحكام التي لها حالتان، والتي هي ليست ضررية بطبعها، فكأنّه يُضم هذا الثاني وهو كون المتيقن من الحديث الأحكام غير الضررية بطبعها والتي لها حالتان إلى الأول وهو منع انعقاد الإطلاق في الحديث، والنتيجة هي أنّ الحديث لا يدل إلاّ على رفع الأحكام التي لها حالتان دون الأحكام الضررية بطبعها.
أمّا كون الأحكام غير الضررية بطبعها، يعني الأحكام التي لها حالتان قد تكون ضررية وقد لا تكون ضررية، هي القدر المتيقن من الحديث، فباعتبار أنّ مورد قاعدة لا ضرر هو قضية سمرة بن جندب، والحكم الذي طُبقت عليه هذه القاعدة هو عبارة عن حق الاستطراق إلى النخلة التي يملكها في بستان الأنصاري، ومن الواضح أنّ حق الاستطراق ضرره في إطلاقه لا في أصله، أصل حق الاستطراق إلى النخلة ليس فيه ضرر؛ بل دلّت الأدلة على أنّ الإنسان إذا باع بستانه واستثنى نخلة له حق الدخول إليها، وإنّما إطلاق حق الاستطراق إلى النخلة لصورة عدم الاستئذان من صاحب البستان هو الذي يكون فيه ضرر؛ لأنّ فيه هتك لحرمة من يسكن في البستان وحرمة أهله، بالنتيجة هو ضرري عليه، هذا هو مورد القاعدة، مورد القاعدة هو سنخ حكمٍ له حالتان ـــــــ حق الاستطراق ـــــــ قد يكون ضررياً وقد لا يكون ضررياً، مع الاستئذان لا يكون ضررياً، ومع عدم الاستئذان يكون ضررياً، فإذن: مورد القاعدة هو هذا النوع من الأحكام، أي الأحكام التي هي ليست ضررية بطبعها؛ فحينئذٍ يكون هذا هو القدر المتيقن من الحديث .
وأمّا منع انعقاد الإطلاق في الحديث، فيثبت باعتبار أنّ الأحكام التي هي ضررية بطبعها من قبيل وجوب الحج ووجوب الجهاد ووجوب الخمس والأحكام الثابتة في باب الأرش وفي باب الديّات والقصاص ....الخ، هي من الأحكام المشهورة في الإسلام، وحيث أنّ الصحابة كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكانت هذه الأحكام بطبيعة الحال تثقل عليهم ويشعرون بثقلها ومشقّتها عليهم ومع ذلك لم يُنقل أنّ أحداً من الصحابة تخيّل شمول قاعدة لا ضرر لمثل هذا النوع من الأحكام، ولو كان هناك ولو توهّم شمول حديث لا ضرر لمثل هذه الأحكام لنُقل ذلك وانعكس علينا، بينما لم يُنقل عن واحدٍ من الصحابة تخيّل أنّ يكون حديث لا ضرر شاملاً لمثل هذه الأحكام. هذا يكون قرينة متصلة بقاعدة لا ضرر تدلّ على اختصاص الحديث الشريف بخصوص الأحكام التي لا تكون ضررية بطبعها، وبهذا يثبت أنّ الأحكام الضررية بطبعها غير مشمولة للحديث وخارجة عنه، وبهذا يتم الجواب عن الإشكال .
ما ذكرناه أخيراً إذا كان قرينة متصلة بقاعدة لا ضرر على أنّ المنفي شرعاً هو سنخ معيّن من الأحكام وهو الأحكام غير الضررية بطبعها ....هذا الذي ذُكر يكون قرينة على اختصاص الحديث بالأحكام التي لا تكون ضررية بطبعها، إذا تمّ هذا يبدو أنّه لا حاجة إلى مسألة القدر المتيقن؛ لأننا نفترض أنّ هذا قرينة على الاختصاص، فحتى إذا فرضنا عدم وجود قدر متيقن، وفرضنا أنّ حديث لا ضرر ورد إلينا بلا مورد، نقل إلينا بهذا الشكل: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ضرر ولا ضرار، حتى إذا كان بلا مورد وبلا قدر متيقن، عندما يقال أنّ هذا الكلام اقترن بقرينةٍ متصلةٍ دالة على اختصاصه بالأحكام التي لا تكون ضررية بطبعها، فهذا يكفي لإثبات عدم شمول الحديث للأحكام الضررية بطبعها، لوجود قرينة متصلة بالكلام تدلّ على هذا الاختصاص، فإذن: الحديث الشريف لا يشمل الأحكام الضررية بطبعها ويختص بالأحكام غير الضررية بطبعها، سواء كان هناك قدر متيقن، أو لم يكن هناك قدر متيقن، كما فرضنا لو ورد لا ضرر بلا مورد، فعندما يقترن بقرينة تدل على اختصاصه بغير الأحكام الضررية بطبعها، يلتزم بهذا الاختصاص وبعدم شمول الحديث للأحكام الضررية بطبعها ولا يُفرّق وجود قدر متيقن، أو عدم وجود قدر متيقن.
نعم، إذا كانت هذه القرينة المتصلة بالحديث الشريف يُحتمل كونها قرينة على هذا الاختصاص لا أنها قرينة فعلاً واضحة الدلالة على الاختصاص، وإنما الحديث الشريف احتفّ بما يحتمل كونه قرينة على خلاف ظهوره، أي على الاختصاص لا على الإطلاق؛ حينئذٍ يدخل في باب الكلام المحتف بما يُحتمل كونه قرينة ويكون هذا مانعاً من انعقاد الإطلاق في الحديث، إذا منع من انعقاد الإطلاق هنا نحتاج إلى مسألة القدر المتيقن، هو يمنع من انعقاد الإطلاق في الحديث، وهنا نحتاج إلى إثبات أنّ الأحكام التي لا تكون ضررية بطبعها هي القدر المتيقن من الحديث؛ حينئذٍ يثبت عدم شمول الحديث للأحكام الضررية بطبعها، وهذا هو المطلوب، لكن هذا نحتاجه عندما نقول أنّ المتصل بالكلام يُحتمل كونه قرينة حتى يكون مانعاً من انعقاد الإطلاق ومجرّد منعه من انعقاد الإطلاق لا يكفي لإثبات ما نريده؛ لأنّ منعه من انعقاد الإطلاق يعني أنّ الحديث لا إطلاق فيه؛ بل يراد به إمّا هذه الحصة وإمّا هذه الحصة، هنا يأتي دور مسألة القدر المتيقن لتعيين أنّ هذا قدر متيقن، فهو مراد قطعاً، فيتعيّن هذا ولا يثبت شمول الحديث لحصة أخرى، يعني للأحكام الضررية بطبعها . هذا هو الوجه الثالث وهو وجه في حدّ نفسه لا بأس به، ويكون جواباً عن الإشكال ويكون مثبتاً لخروج الأحكام الضررية بطبعها عن الحديث تخصصاً لا بالتخصيص .
الوجه الرابع: لبيان خروج هذه الأحكام عن الحديث تخصصّاً لا تخصيصاً هو ما في الكفاية، صاحب الكفاية(قدّس سرّه) لديه عبارة في الكفاية في هذا المقام ، يقول ما نصّه: (ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها ، أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الثابت له بعنوانه ، لوضوح أنه العلة للنفي ، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه) .[1] أنّ الحكم الذي يُراد نفيه بلا ضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها الأولية من قبيل وجوب الوضوء، هذا الحكم ــــــ الوجوب ــــــ ثابت للوضوء بعنوانه الأولي، وهكذا وجوب الغسل، ولزوم المعاملة ......الخ، هذه هي التي تكون مشمولة بالحديث ويكون الحديث رافعاً لها، عندما تكون ضررية. وأمّا الأحكام الثابتة للأفعال بعنوان الضرر، فلا يُعقل أن تكون مرفوعة بهذا الحديث، والنتيجة هي اختصاص الحديث بخصوص ما كان من قبيل وجوب الوضوء ووجوب الغسل وأمثالهما، يعني خصوص الأحكام التي تثبت للأفعال بعناوينها الأولية والتي تكون لها حالتان، مرّة تكون ضررية، ومرّة تكون غير ضررية، وأمّا الأحكام التي تثبت للأفعال بعنوان الضرر، فهذه يستحيل أن تكون لا ضرر نافية لها؛ باعتبار أنّ الضرر هو العلّة للنفي ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه؛ بل يثبته ويقتضيه. الحكم الذي يثبت للفعل بعنوان الضرر يستحيل أن يكون الضرر نافياً له؛ لأنّه هو ثبت بعنوان الضرر، فكيف يُعقل أن يكون الضرر نافياً له ؟!
يمكن تفسير هذا الكلام بأنّ الذي يُفهم من قاعدة لا ضرر أنّ الضرر يكون مانعاً عن ثبوت الحكم، أنّ علّة النفي هو الضرر، فأنّ الضرر هو الذي أوجب نفي وجوب الوضوء عندما يكون ضررياً، وأوجب نفي وجوب الغسل عندما يكون ضررياً، وجوب الغسل عندما يكون ضررياً يُنفى بالقاعدة؛ لأنه ضرري، والضرر هو علّة النفي والمانع من ثبوت الحكم. إذن: هذه القاعدة التي يكون الضرر فيها مانعاً من ثبوت الحكم، لا يمكن أن تشمل ما يكون الضرر بنفسه مقتضياً لذلك الحكم، وإنّما يكون الضرر مقتضياً للحكم في الأحكام الضررية بطبعها، يعني في الأحكام التي تثبت للأفعال بعنوان الضرر، هذا معناه أنّ الضرر هو مقتضٍ لثبوت الحكم، فكيف يكون الضرر بنفسه مانعاً من ثبوت ذلك الحكم الذي يقتضيه ؟! هذا غير معقول !! كون الحكم ثابت بعنوان الضرر معناه أنّ الضرر هو الذي اقتضى ذلك الحكم، وعندما يكون الضرر يقتضي ثبوت ذلك الحكم، فكيف ينقلب ويكون رافعاً ونافياً لذلك الحكم الذي يقتضيه ؟! ومن هنا لابدّ من اختصاص القاعدة بالأحكام التي لا تكون ضررية بطبعها؛ لأنّ الأحكام الضررية بطبعها والتي يُعبّر عنها بالأحكام الثابتة للأفعال بعنوان الضرر، يقول: هذا معناه أنّ الضرر هو الذي اقتضى ثبوت هذا الحكم، فكيف يكون الضرر رافعاً لنفس الحكم الذي اقتضاه ؟! فلا يُعقل أن تكون لا ضرر شاملة لمثل هذه الأحكام، وإنّما يُعقل أن تكون شاملة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية، لا مانع من شمول لا ضرر له؛ لأنّ الضرر لم يقتضي ثبوت هذا الحكم حتى نقول كيف يُعقل أنّ الضرر الذي اقتضى ثبوت ذلك الحكم يكون نافياً له، وبهذا تختص القاعدة بالأحكام غير الضررية بطبعها.
ويجاب عن هذا الوجه بأن يقال: من قال أنّ الأحكام في باب الجهاد وفي باب الخمس والزكاة و.......الخ، هي ثابتة للأفعال بعنوان الضرر ؟ كلا، ليست ثابتة للأفعال بعنوان الضرر . وبعبارة أخرى: من قال أنّ الضرر هو المقتضي لثبوت تلك الأحكام حتى نقول أنّ الضرر المقتضي لثبوت الحكم كيف يُعقل أن يكون نافياً له ؟ من قال أنّ الضرر هو المقتضي لثبوت تلك الأحكام لموضوعاتها ؟ المقتضي لوجوب الجهاد هو مصالح خاصة لاحظها الشارع عندما حكم بوجوب الجهاد....وهكذا وجوب الخمس ووجوب الزكاة، هناك مصالح خاصة لاحظها الشارع وحكم على أساسها بوجوب الجهاد ووجوب الخمس ووجوب الزكاة......الخ. ليس المقتضي لثبوت الحكم هو كونه ضررياً، وإنّما المقتضي للحكم هو المصالح القائمة والموجودة في هذه الأفعال، هذه المصالح اقتضت أن يوجب الشارع هذه الأفعال، فحكم بوجوب الجهاد وبوجوب الخمس .....وهكذا . وعليه: لا مشكلة في أن تأتي لا ضرر وتنفي هذه الأحكام؛ وحينئذٍ لا يلزم منه المحذور العقلي الذي بيّنّه، المحذور العقلي إنّما يلزم عندما نفترض أنّ هذه الأحكام ثابتة للأفعال بعناوينها الأولية كما عبّر، أو الضرر هو المقتضي لثبوت هذه الأحكام، فيلزم هذا المحذور، فبالإمكان أن يقال أنّ لا ضرر تشمل الأحكام الضررية بطبعها كما تشمل غير الأحكام الضررية بطبعها والتي تكون لها حالتان. فإذن: لا محذور في كون لا ضرر رافعة ومانعة من الحكم الذي يكون ضررياً بطبعه، كما لا مانع من أن تكون رافعة لإطلاق الحكم الذي لا يكون ضررياً بطبعة .
نعم، هناك محذور آخر يمكن أن يقال في المقام وهو محذور اللّغوية وأمثالها، بمعنى أنه ما هي الفائدة والحكمة في أنّ الشارع يجعل حكماً في مورد الضرر، يجعل حكماً ضررياً بطبعه ثمّ بعد ذلك ينفيه بلا ضرر ؟ ما هي الحكمة من هذا ؟ إذا كان هناك محذور في المقام فهو محذور من هذا القبيل وليس محذوراً عقلياً، محذور عدم الفائدة واللّغوية، أنّه لا فائدة في أن يجعل الشارع وجوب الجهاد ووجوب الخمس والزكاة التي هي أهم الأحكام في الشريعة ثم بعد ذلك يشملها حديث لا ضرر كما يشمل الأحكام التي هي ليست ضررية بطبعها، فيرفع هذه الأحكام . هناك فائدة في جعل وجوب الوضوء عندما تشمله القاعدة؛ لأنّه يبقى شاملاً لصورة عدم كون الوضوء ضررياً، فيدل على وجوبه، لكن هذه الأحكام الضررية بطبعها، قاعدة لا ضرر ترفع أصل الحكم لا أنها ترفع إطلاقه، فما هي الحكمة في تشريعه ثم رفعه بعد ذلك بقاعدة لا ضرر، هذا محذور آخر غير المحذور العقلي الذي ذكره .