38/06/20
تحمیل
آیةالله الشيخ محمداسحاق الفیاض
بحث الأصول
38/06/20
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: أصالة البراءة
يقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: في أصالة البراءة الشرعية.
المقام الثاني: في أصالة الاحتياط الشرعية.
أما الكلام في المقام الأول: فيقع في جهتين:
الجهة الأولى: في مفاد أدلة البراءة الشرعية سعة وضيقا كما وكيفا.
الجهة الثانية: في نسبة أدلة أصالة البراءة الشرعية إلى أدلة أصالة الاحتياط الشرعية.
أما الكلام في الجهة الأولى: فقد استدل على أصالة البراءة الشرعية تارة بالكتاب وأخرى بالسنة وثالثا بالإجماع ورابعا بالاستصحاب.
أما الكتاب فقد استدل بجملة من الآيات:
منها: قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[1] بتقريب أن المراد من بعث الرسل بيان الأحكام الشرعية وهو المقدمة الأخيرة من رسالة النبي الأكرم(ص) فإن رسالته مركبة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وبيان ما في الكتب من الأحكام الشرعية والمراد من بعث الرسل في الآية الكريمة هو بيان الأحكام الشرعية من الوجوبات والتحريمات وغيرهما.
فالآية تدل على أن ما بُين من الأحكام الشرعية للناس وللعباد ووصل إليهم يعاقب على مخالفته ولا يمكن رفع استحقاق العقوبة عنهم واما إذا لم يصل إليهم ولم يتم الحجة عليهم فعندئذ لا عقاب فالمقصود بالآية الكريمة هو أنه الله تعالى لا يعذبهم حتى يتم الحجة عليهم ببيان الأحكام الشرعية بوصولها للناس بالعلم الوجداني او بالعلم التعبدي فلا يجوز لهم مخالفتها، ومع عدم وصولها إليهم لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبدي بل كانت واصلة بمجرد الاحتمال فهو مشمول للآية المباركة لأنه لم تصل إليهم الأحكام الشرعية فلا عقاب عليهم فالآية المباركة بهذا التقريب تدل على أصالة البراءة الشرعية.
وقد نوقش بدلالة الآية الكريمة بوجوه:
الوجه الأول: أن مفاد الآية نفي العذاب عن الأمم السابقة فإن الله تعالى لم يعذبهم إلا بعد إتمام الحجة عليهم من بعث الرسل وإنزال الكتب وبيان الأحكام الشرعية فيكون مفادها إخبار عن نفي العذاب عن الأمم السابقة قبل البيان وإتمام الحجة وليس مفادها نفي استحقاق العقوبة في الآخرة فهي أجنبية عن الدلالة على أصالة البراءة الشرعية باعتبار أن مفاد البراءة الشرعية نفي استحقاق العقوبة والمؤاخذة في الآخرة والآية لا تدل على ذلك.
والجواب عن ذلك:
أولا: أنه لا وجه لتقييد العذاب في الآية المباركة بالعذاب الدنيوي فإن هذا التقييد بحاجة إلى قرينة ولا قرينة في المقام لا في نفس الآية الكريمة ولا من خارجها.
ودعوى القرينة على ذلك من نفس الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ( كنا ) الذي هو فعل ماض يفيد الإخبار عن نفي العذاب عن الأمم السابقة قبل إتمام الحجة وبيان الأحكام الشرعية.
مدفوعة بأن المتفاهم العرفي من الآية الكريمة بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية ان هذه الجملة تدل على أنه لا يليق به تعالى عذاب شخص قبل بيان الحجة عليه بل ليس من شأنه تعالى ذلك فيستحيل أن يصدر من الله تعالى عقاب على العباد قبل إتمام الحجة عليهم ببيان الأحكام الشرعية.
فالآية المباركة تدل بوضوح على أن عقاب شخص أو أمة لا يمكن أن يصدر من الله تعالى قبل إتمام الحجة عليهم بلا فرق بين العقاب الدنيوي والعقاب الأخروي من هذه الناحية.
هذا مضافا إلى أن الآية الكريمة قد وردت في سياق الآيات المتكفلة للعذاب الآخروي:
منها: قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)[2] فإنها دالة على العقاب الأخروي.
ومنها: قوله تعالى: (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[3]
فإن الآية المبحوث عنها قد وردت في سياق هذه الآيات فقرينة السياق تدل على شمول هذه الآية الكريمة للعقوبة الأخروية أيضا ولا تختص بالعقوبة الدنيوية.
وثانيا: لو سلم ظهور الآية في العذاب الدنيوي ولكن بما أنه مورد الآية الكريمة لا أنه مفادها فإن مفاد الآية المباركة نفي العقاب قبل إتمام الحجة وهو عام ومطلق يشمل العقاب الدنيوي والعقاب الأخروي ومن الواضح ان المورد لا يصلح أن يكون مقيدا ومخصصا لا سيما ان المتفاهم العرفي من الآية المباركة أنه لا يليق بالله تعالى أن يعاقب شخصا قبل إتمام حجيته عليه ومن الواضح أنه لا فرق فيه بين العقاب الدنيوي والعقاب الأخروي. بل يمكن ان يقال أن دلالة الآية على نفي العقاب الأخروي أولى وآكد من نفي العقاب الدنيوي لأنه ليس من شأنه ان يعاقب عباده قبل إتمام الحجة عليهم في الدنيا ولا في الآخرة ولا شبهة أن العقاب الأخروي أشد بمراتب من العقاب الدنيوي فإذا لم يصدر من الله تعالى ولم يلق به العقاب الدنيوي فلا محالة لا يليق به العقاب الأخروي قبل إتمام الحجة عليه.
فالنتيجة أن هذا الوجه من الإشكال لا أساس له.
الوجه الثاني: ان الآية الكريمة ظاهرة في نفي العذاب الفعلي ومفاد أصالة البراءة نفي استحقاق العقاب ومن الواضح انه لا ملازمة بين استحقاق العقاب وبين العقاب الفعلي إذ يمكن ان يكون الشخص مستحقا للعقاب ومع ذلك لا يعاقب فعلا لسبب من الأسباب ولمانع من الموانع. وعليه فالآية الكريمة لا تدل على أصالة البراءة الشرعية.
ولكن قد ظهر الجواب عن ذلك مما تقدم وهو أن الآية ظاهرة على انه ليس من شأنه تعالى ولا يليق بمقامه عقوبة عبده قبل إتمام الحجة عليه فالآية دالة على نفي العقاب الدنيوي والأخروي ولا فرق بينهما ومن الواضح ان الشخص إذا كان مستحقا للعقوبة فإنه يليق به تعالى معقابته.
فهذا الوجه أيضا لا أصل له ولا يمكن المساعدة عليه.