39/04/12
تحمیل
الأستاذ الشيخ باقر الايرواني
بحث الفقه
39/04/12
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع:- حرمة حلق اللحية - مسألة ( 43 ) - المكاسب المحرّمة.
الوجه الرابع:- رواية الجعفريات - أو الأشعثيات - بسندٍ ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:- ( حلق اللحية من المثلة ومن مثّل فعليه لعنة الله )[1] ، وتقريب الدلالة واضح صغرىً وكبرى ، فحلق اللحية مثلة والذي يفعل المثلة علية اللعن واللعن يدل على التحريم ، فثبت المطلوب.
والكلام تارة يقع في الدلالة وأخرى في السند:-
أما الدلالة:- فقد أشكل السيد الخوئي(قده) في كلتا المقدمتين اللتين ركّب منهما هذا الدليل:-
المناقشة الأولى:- هي إنَّ المثلة تتضمن معنىً اضافي وهو قصد التنكيل ، فمن فعل بغيره فعلاً وقد قصد بذلك التنكيل فهذا عبارة أخرى عن المثلة ، أما إذا لم يقصد التنكيل فهذا ليس بمثلة ، ومن المعلوم أنَّ الذي يحلق لحية نفسه لا يقصد بذلك التنكيل ، نعم لو فرض أنَّ شخصاً كبير السنّ مثلاً له محاسن جميلة وله شأنية في المجتمع ويأتي شخص ويحلق لحيته فهذا تنكيل به وهو مثلة ، أما محل كلامنا وهو أن يحلق الانسان لحيته أو يحلقها له الغير – كالحلّاق - فهذا ليس من المثلة[2] .
وفيه:-
أوّلاً:- لو سلّمنا إنَّ ما أفاده من ان المثلة أخذ فيها قصد التنكيل فما أفاده من أنَّ مقامنا ليس من ذلك هذا يتم لو كان الحديث يريد أن يبين الفرد الحقيقي للمثلة ، أما إذا كان الحديث بصدد التوسعة والتنزيل والحكومة الموسِّعة فحينئذٍ حتى الذي حلق لحية نفسه لا بقصد التنكيل يكون فرداً ادّعائياً من المثلة وإن لم يكن فرداً حقيقياً ، والمقصود هو هذا المعنى ، يعني بيان الفرد الادّعائي ، فالحديث في صدد الادّعاء والتنزيل والحكومة الموسِّعة ، ووجه ذلك:- هو أنَّ بيان الفرد الواقعي ليس من شأن المشرّع ، نعم من الوجيه أن يبيّن لك فرداً ويقول أنا أحكم عليه بأنه مثلة وإن لم يكن مثلة ، أما بيان الأفراد الحقيقية لمعنى اللفظ فهذا وظيفة اللغوي وليس من وظيفة المشرّع ، إنما وظيفة المشرّع أذا أراد أن يبيّن المعنى فهو يبيّن المعنى الادعائي والتنزيلي ، فكأنه يقول افترض أنَّ حلق اللحية ليس من المثلة حقيقةً ولكن أنا أريد أن أجعله من المثلة حتى أرتّب عليه الكبرى وهي ( ومن مثّل فعليه لعنة الله ).
ثانياً:- من قال إنَّ المثلة قد أخذ فيها قصد التنكيل فإنَّ هذا أوّل الكلام ، فلعله من بعض الاستعمالات الحديثية[3] نفهم أنَّ قصد التنكيل ليس بمعتبر ، ونذكر رواية واحدة ، وهي ما رواه الشيخ الطوسي(قده) بإسناده عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن حفض عن أبي عبد الله عليه السلام - وهي معتبرة السند - قال :- ( حلق الرأس في غير حجّ ولا عمرة مثلة )[4] ، فهنا ماذا يقصد من المثلة فمرة يحلق الإنسان في الحج أو العمرة فهذا لا بأس به أما في الحالات العادية[5] فهذا ملفت للنظر فيكون مثلة ، فالحديث يقول إنَّ هذا مثلة رغم أنَّ الشخص لم يقصد التنكيل بنفسه مع ذلك عبر عنه بالمثلة أي فعل فعلاً غير متعارف وإن لم يقصد بذلك التنكيل ، إذن كلمة المثلة استعملت في الأحاديث من دون أن يراد قصد التنكيل كجزء في مفهومها.
المناقشة الثانية[6] :- إنَّ النهي لا يدل على التحريم فإنه يستعمل في غير موارد الحرمة - أعني في موارد الكراهة - ، مثل الحديث المعروف في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:- ( يا علي لعن الله ثلاثة آكل زاده وحده وراكب الفلاة وحده والنائم في بيت وحده )[7] ، هنا الحديث قال ( لعن الله ثلاثة ) والحال أنَّ هذه الثلاثة لا يحرم فهيا ما ذكر ، يعني آكل الزاد لا يحتمل أنه حرام وإنما المقصود هو بيان الكراهة فليدعو شخصاً آخر ليأكل معه وكذلك في السفر في الصحراء وحده فإنَّ هذا ليس بصحيح وهكذا النائم في البيت وحده ، فالمقصود هنا أنه يراد الكراهة جزماً ، فإنَّ اللعن يستعمل في الكراهة أيضاً لا في خصوص الحرمة.
بيد أنه فصّل في المحاضرات[8] فقال:- هناك لعن إخباري وهناك لعن إنشائي ، فإذا فرض أنَّ اللعن كان إخبارياً - يعني إخبار عن اللعن الإلهي لا أنَّ المتكلم ينشئ اللعن من الآن - فهذا لا يدل على التحريم ، من قبيل الحديث المتقدم ( لعن الله ثلاثة ) ، يعني هذا إخبار عن صدور اللعنة الإلهية لا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن ينشئ اللعن ، فها الحديث لا يدل على التحريم ، والوجه في ذلك: هو أنَّ اللعن عبارة عن البعد عن الله تعالى وعن ساحة كرمه ورحمته ، والبعد كما يتحقق بفعل الحرام يتحقق بفعل المكروه أيضاً ، فإنَّ الانسان إذا فعل المكروهات أيضاً سوف يبتعد شيئاً ما وبدرجة من الدرجات عن الله تعالى وعن ساحة رحمته ، فإذن اللعن الإخباري يتلاءم مع الكراهة.
نعم اللعن الانشائي يدل على التحريم ، كما هو في الحديث الشريف الذي نتكلّم عنه - وهو ( حلق اللحية من المثلة ومن مثّل فعليه لعنه الله ) - فهنا لعلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد اللعن بقصد الانشاء ، وإذا كان بقصد الإنشاء فهذا يدل على التحريم[9] .
وفيه:- إن اللعن ليس هو البعد عن الله فقط بل يتضمن شيئاً حسب فهمنا العرفي وهو الطرد والسخط فلو قيل ( فلان لعنه الله ) ليس أبعده فقط وإنما مع السخط والغضب فهذا العنصر مأخوذ وإذا كان هذا العنصر مأخوذاً فحينئذٍ يفيد التحريم بلا فرق بين أن يكون إخبارياً أو يكون إنشائياً فإنه على كلا التقديرين يكون دالاً على التحريم.
وأما ما أفاده أوّلاً فيردّه:- صحيح أنَّ اللعن يستعمل في موارد الكراهة إلا أنَّ هذا لا ينفي ظهوره في الحرمة ، فإذا كان له ظهور في الحرمة في حدّ نفسه فإذن وجود هذه الاستعمالات لا يزعزع ذلك الظهور ، فكما هو الحال في صيغة الأمر والنهي فإنَّ صيغة الأمر دالة على الوجوب أي ظاهرة في الوجوب والحال أنها كثيراً ما تكون مستعملة في باب المستحبّات ، وهكذا صيغة النهي هي ظاهرة في الحرمة والحال أنها كثيراً ما تكون مستعملة ما في المكروهات ، فإذن الاستعمال لقرينةٍ في المعنى الآخر لا يتنافى مع دعوى الظهور ، نعم من حقّ السيد الخوئي أن يقول إنه لا ظهور أصلاً لمادّة اللعن في الحرمة كما سنبين هذا في آخر كلامنا ، أما أن نقول إنَّ الاستعمال في المكروهات يزعزع هذا الظهور فلا ، فإنَّ الاستعمال في المكروهات لا يزعزع الظهور إن كان موجوداً.
فإذن لابد وأن يناقش السيد الخوئي(قده) من البداية ويقول:- نحن نمنع ظهور مادّة اللعن في الحرمة لا أنه يستشهد بالمانع ، بل من المناسب له أنّ يستشهد بعدم المقتضي فيقول ( إنه أصلاً لا اقتضاء فيها ولا ظهور بالحرمة ) ، فإنَّ التمسّك بالمانع فرع وجود المقتضي ، فإذا سلّمنا وجود هذا المقتضي فوجود هذه الاستعمالات لا يمنع حينئذٍ من الظهور في صيغة الأمر وفي صيغة النهي فإنها تستعمل في الكراهة أو الاستحباب لكنه رغم ذلك نقول لها ظهور في الحرمة أو لها ظهور في الوجوب ، فإذن الاستعانة بالاستعمالات في المكروهات لا يزعزع من ظهور مادّة اللعن في الحرمة ، وهذه قضية ظريفة يجدر الالتفات إليها.
والخلاصة:- إنه ربما يدّعى أنها ظاهر في حدّ نفسها في الحرمة لأنها تتضمن لمعنى الإبعاد فقط وإنما اضافةً للسخط والطرد فيستفاد منها التحريم حينئذٍ ، وهو شيء لا بأس به ، إلا أن الركون إليه بنحو الجزم وأنَّ مادّة اللعن ظاهرة في التحريم شيء صعب ، ولكن من استظهر ذلك فله الحق ، ولكننا نقول: إنَّ تناسبها مع الحرمة شيء مقبول ولكنه لم يبلغ إلى درجة الظهور في التحريم ولذلك يكون ظهورها في التحريم فيه تردّد وإشكال كما ذكرنا في بعض الأبحاث.
والنتيجة النهائية:- هي أنَّ هذ الرواية قد يتأمل فيها من حيث الدلالة على التحريم من حيث أنَّ مادة اللعن لا نجزم بظهورها في التحريم.
فإذن تصير المناقشة في المقدّمة الثانية وليس في المقدمة الأولى.