35/02/04
تحمیل
الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ قاعدة التسامح في أدلّة السنن
كان الكلام في الاحتمال الثالث في تفسير أخبار(من بلغ) ويبدو أنّه تامّ،ولكنّه مبني على مسلك الطريقية، مبني على مسلك تفسير الحجّية بإلغاء احتمال الخلاف والطريقية؛ حينئذٍ الحجية لا يناسبها هذا اللّسان الموجود في هذه الأخبار، لسان إبداء احتمال المخالفة للواقع، ومن هنا لا يمكن أنْ نفسّر الأخبار بأنّ المقصود بها هو حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبات. أمّا إذا اخترنا مسلكاً آخراً في الحجّية، لا ينافيه هذا اللّسان، هذا اللّسان لا يكون منافياً لتفسير الحجّية بالمنجّزية والمعذّرية، أو تفسيرها بجعل الحكم المماثل وأمثاله.
لكن قد يقال: يمكن الخدشة في هذا الاحتمال باعتبار أنّه ينافي ظاهر بعض الأخبار وهي الأخبار التي تقيّد العمل بما إذا جاء به رجاء ذلك الثواب، أو رجاء أنْ يكون كما قاله الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، برجاء أنْ يكون مطابقاً للواقع. لا يبعد أنّ هذه قرينة على عدم حدوث هذا الاحتمال؛ لأنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع الإتيان بالعمل رجاءً، والتماس ذلك الثواب، هذا موجود في بعض أخبار الباب، هذا إنّما يكون عندما لا يكون الشيء ثابتاً، وإنّما هو احتمال صرف، مجرّد احتمال؛ فحينئذٍ يقال: يؤتى به برجاء ذلك الشيء الغير الثابت، هو قال: من جاء بالعمل اعتماداً على الخبر الضعيف برجاء أنْ يكون الثواب ثابتاً يكون له ذلك الثواب؛ لأنّ الخبر الضعيف حجّة، واستفيدت حجّيته من هذه الأخبار، هذا لا يناسب إلاّ ما إذا كان الشيء غير ثابت، لا ثبوتاً وجدانياً، ولا ثبوتاً تعبّدياً، وإنّما هو احتمال صرف، الإتيان بالعمل رجاءً يناسب ذلك، أمّا إذا فرضنا أنّ الشيء كان ثابتاً وجداناً، أو كان الشيء ثابتاً ثبوتاً تعبّدياً. أمّا إذا فرضنا الحجّية، وأنّ مفاد الأخبار هو جعل الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب، تقييد العمل وترتّب الثواب عليه بما إذا جاء به رجاء ذلك الثواب، هذا لا يناسب جعل الحجّية؛ لأنّه إذا قامت الحجّة على الثواب وعلى الاستحباب، فلا معنى لأنّ يأتي به برجاء ذلك الثواب، كيف ؟ والثواب ثابت ــــــ بحسب الفرض ــــــ الثواب والاستحباب ثابت بالحجّة والدليل المعتبر، فيأتي به لاستحبابه وليس برجاء الاستحباب والثواب، هذا لا يناسب الحجّية، وإنّما يقال: المناسب في هكذا حالة أنْ يقال أنّ من بلغه ثواب على عمل، فعمله، كان له مثل ذلك الثواب، ولا داعي لتقييد العمل بالرجاء، فأنّ تقييد العمل بالرجاء لا يناسب الحجّية، وإنّما يناسب عدم الثبوت، وأنّه ليس هناك إلاّ الاحتمال الصرف كما هو الحال في موارد الإتيان بالعمل رجاءً، أو لاحتمال المطلوبية، أو رجاء أنْ يكون الثواب ثابتٍ، هذا لا معنى له عندما يكون ذلك الشيء ثابتاً ثبوتاً وجدانياً، أو ثبوتاً تعبّدياً، هذا لا ينسجم. هذا يمكن جعله قرينة على نفي ذلك الاحتمال، وهذا لا يُفرّق فيه بين المسالك في جعل الحجّية، لا علاقة له بلسان جعل الحجّية من الطريقية، أو المنجّزية، أو أيّ شيء آخر، ليس له علاقة بذلك، وإنّما يقول أنّ هذه الروايات، والمقصود بها الروايات التي تقيّد العمل الذي يُعطى عليه الثواب بما إذا جاء به رجاءً، التماس ذلك الثواب، هذه الروايات لا تناسب الاحتمال الثالث، ومن هنا يمكن أن يقال بأنّ الاحتمال الثالث خلاف ظاهر بعض أخبار الباب في المقام. هذا فيما يخص الاحتمال الثالث، وسنرجع إليه بعد ذلك.
قد يقال: أنّ نفس هذا الكلام الذي جرى في الاحتمال الثالث يجري أيضاً في الاحتمال الخامس المتقدّم، والذي هو أنْ يكون مفاد الأخبار هو الاحتياط لإدراك المستحبّات الواقعية، فالشارع يطلب من المكلّف أنْ يأتي بكل عملٍ بلغه عليه الثواب، لا لأنّ الخبر الضعيف حجّة كما في الثالث، وإنّما لأجل الاحتياط وإدراك الملاكات الاستحبابية الواقعية، فأنّ طريقة إدراك الملاكات الواقعية للمستحبّات يكون بجعل هذا الاحتياط، بأنْ يقال له: كلّما بلغك استحباب شيءٍ أعمله، وبذلك يدرك المكلّف الملاكات الواقعية للمستحبات الواقعية، فهو مجرّد احتياط لا يتضمّن جعل حجّية للخبر الضعيف، وإنّما الغرض منه هو الحفاظ على الملاكات الواقعية للمستحبّات الواقعية عندما يكون الشارع مهتمّاً بها، فعندما يكون هناك اهتمام من قِبل الشارع بهذه الملاكات الواقعية، ولأجل أنْ لا تضيع هذه الملاكات يأمر بالاحتياط بهذا النحو، يعني إذا بلغك ثواب واستحباب فعل، أعمله، وبذلك يصل الشارع إلى غرضه وهو الحفاظ على الملاكات الواقعية للمستحبّات الواقعية. هذا الاحتمال الخامس.
قد يقال: بأنّ نفس الكلام السابق يأتي في الاحتمال الخامس باعتبار أنّ الاحتمال الخامس يشترك مع الاحتمال الثالث في أنّ كلاً منهما حكم مولوي طريقي من أجل التحفّظ على الملاكات الواقعية، كل منهما يشترك في هذا الجانب، جعل الحجّية للخبر الضعيف أيضاً هو حكم مولوي طريقي الغرض منه الحفاظ على الواقع، والوصول إلى الواقع، ويكون الغرض من الاحتياط في محل الكلام هو إدراك الملاكات الواقعية الأهم بنظر المولى؛ وحينئذٍ، عندما يهتم بالملاكات الواقعية، إمّا أنْ يجعل الخبر الضعيف الدال على استحباب شيءٍ حجّة لكي يصل إلى الواقع، أو يجعل الاحتياط بهذا المعنى الذي ذكرناه. إذن: في الاحتمال الخامس جعل الاحتياط في مورد بلوغ الاستحباب إنّما هو لغرض امتثال المستحبّات الواقعية، وإدراك ملاكاتها؛ وحينئذٍ يأتي نفس الإشكال السابق، فيقال: بأنّ هذا لا يناسب لسان الأخبار التي تصرّح بإبداء احتمال الخلاف كما هو الحال في الاحتمال الثالث، يعني أنّ غرض كلٍ منهما هو إدراك الواقع والحصول على الملاكات الواقعية، فكما أنّ لسان الأخبار التي تصرّح بإبداء احتمال الخلاف لا يناسب جعل الحجّية أيضاً لا يناسب جعل الاحتياط؛ لأنّ كلاً منهما حكم طريقي غرضه الوصول إلى الواقع، فلا يكون مناسباً له أيضاً.
لكن الظاهر أنّ الأمر ليس هكذا، فهناك فرق بين الاحتمال الثالث وبين الاحتمال الخامس؛ لأنّ عدم مناسبة لسان الأخبار في الاحتمال الثالث إنّما هي باعتبار أنّ الحجّية المفروضة في الاحتمال الثالث تعني إحراز الواقع، تعني جعل الشيء طريقاً للواقع وإلغاء احتمال الخلاف وتتميم الكشف، وهذا المعنى ليس موجوداً في الاحتمال الخامس، هذا المعنى الذي على أساسه وردت المناقشة السابقة على الاحتمال الثالث، ليس موجوداً في الاحتمال الخامس، ففي الاحتمال الخامس لا يوجد جعل شيءٍ طريقاً إلى الواقع، إنّما الاحتمال الخامس هو مجرّد احتياط من قِبل المولى للتحفّظ على الملاكات الواقعية التي يهتم بها، لكنّه لم يجعل شيئاً كاشفاً عن الواقع، ولم يجعل شيئاً محرزاً للواقع حتّى يقال لا معنى لأنْ يقول هذا يحرز الواقع وإنْ لم يُصب الواقع، هذا يُحرز الواقع ويبدي احتمال مخالفته للواقع، هذا لا يناسبه، هذا الشيء ليس موجوداً في الاحتمال الخامس، الاحتمال الخامس احتياط، بمعنى أنّ الشارع لكي يتحفّظ على الملاكات الواقعية المهمّة في نظره يأمر المكلّف بأنْ يأتي بكل عمل بلغه عليه الثواب، أو بلغه استحبابه من دون أنْ يكون هناك كاشف عن الواقع محرز للواقع، ومن دون جعل شيءٍ طريقاً ومحرزاً للواقع حتّى يقال بأنّ هذا لا يتناسب مع التصريح بإبداء احتمال الخلاف، الأمر ليس هكذا في الاحتمال الخامس، الاحتمال الخامس هو عبارة عن طريقة يتحفّظ بها المولى على إدراك الملاكات الواقعية، فالاحتمال الخامس إنْ لم نقل أنّه يناسب التصريح بإبداء احتمال الخلاف، فأنّه لا ينافيه؛ لأنّه يقول أنا أجعل لك الاحتياط وآمرك بأنْ تأتي بكل عمل بلغك عليه الثواب وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع، وبهذا يتحفّظ المولى على الملاكات الواقعية. لو كان الاحتياط والإتيان بالعمل يقتصر على خصوص ما يكون مطابقاً للواقع، لما وصل إلى مقصوده وإلى غرضه، وإنّما يصل إلى مقصوده عندما يوسّع من دائرة الاحتياط، فيجعل الاحتياط في موارد العلم، وفي موارد الاحتمال، وفي موارد الشكّ، وفي موارد الظنّ، حتّى يصل إلى مطلوبه وهو الوصول إلى الملاكات الواقعية، إنْ لم نقل أنّ هذا الاحتمال الخامس يناسب التصريح بإبداء احتمال الخلاف، وإن كنت تحتمل المخالفة، أنا أجعل لك الاحتياط ؛ لأنّ غرضي هو الحفاظ على الملاكات الواقعية، والحفاظ على الملاكات الواقعية لا يكون إلاّ بجعل الاحتياط، وإنْ كنت شاكّاً في الإصابة، أو كنت تحتمل الإصابة، فإذا لم نقل أنّ هذا مناسب، فهو لا ينافيه بشكل واضح، ويناسبه، ولا نستطيع أنْ نقول أنّ إبداء احتمال الخلاف الذي هو مضمون الأخبار لا يناسب الاحتمال الخامس كما كان يقال في الاحتمال الثالث، فعدم المناسبة في الاحتمال الثالث واضحة، بينما عدم المناسبة في الاحتمال الخامس ليست هكذا.
نعم، يمكن أنْ يُناقش في الاحتمال الخامس ويُستبعد هذا الاحتمال بأنْ يقال:
أوّلاً: لا يوجد في أخبار الباب ما يمكن اعتباره قرينة على الاحتمال الخامس، فيكون احتمالاً ثبوتياً صرفاً، والظهور الأوّلي للأخبار ليس هذا الاحتمال، الظهور الأوّلي للأخبار هو الاحتمال الأوّل الذي كان هو الإرشاد إلى حكم العقل بحُسن الاحتياط، أو الاحتمال الرابع الذي كان هو مجرّد الوعد الإلهي، وأنّ المصلحة هي في نفس الوعد(من بلغه ثواب على عمل، فعمله، أنا أعطيه هذا الثواب) بلا جعل استحباب، ولا حجّية للخبر الضعيف؛ لأنّ هذا هو المناسب لشأن المولى(سبحانه وتعالى)كما نقلنا عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، أنّه إذا أُسند إليه ثواب، فأنّه يعطيه ولو لم يكن ذلك الثواب ثابتاً، وهذا هو المناسب لشأنه وعظمته، فالظهور الأوّلي ليس هو الاحتمال الخامس، وإنّما هو الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الرابع، أو مُلفّق بينهما.
ثانياً: نرجع إلى ما هو موجود في بعض هذه الأخبار من تقييد العمل بأنْ يؤتى به برجاء ذلك الثواب، والتماس ذلك الثواب كما هو موجود في بعض الأخبار. هذا التقييد أيضاً لا يناسب الاحتمال الخامس، كما كان لا يناسب الاحتمال الأوّل، أو الاحتمال الثالث حيث قلنا أنّه لا يناسب الحجّية، ترتّب الثواب على الإتيان بالعمل برجاء ثبوت الثواب، هذا لا يناسب الحجّية، الحجّية تعني الثبوت، ولا معنى حينئذٍ لأنْ يقال بأنّ ترتّب الثواب يتوقّف على أنْ يأتي به برجاء ذلك الثواب، هذا يناسب عدم الثبوت، كما قلنا ذلك، هنا أيضاً نقول في الاحتمال الخامس بأنّ تقييد العمل بالإتيان به رجاءً، هذا أيضاً لا يناسب الاحتمال الخامس، حيث لا علاقة للاحتياط بالإتيان بالعمل برجاء ذلك الثواب، الاحتياط والغرض منه وهو إدراك المصالح الواقعية والملاكات الواقعية المهمّة لا يتوقّف على الإتيان بالعمل برجاء ذلك الثواب إطلاقاً، إذا قال له(إذا بلغك ثواب على عمل، فعملته، كان لك ذلك الثواب) والغرض من هذا نفسّره بالاحتياط، لغرض إدراك المستحبّات الواقعية، وبهذا يدرك المستحبّات الواقعية، إذا ابتلى المكلّف بذلك وجاء بما يعلم أنّه مستحب، وما يحتمل أنّه مستحب، وما بلغه أنّه مستحب، بذلك يدرك المستحبّات الواقعية، سواء جاء به لأجل التماس ذلك الثواب، أو جاء به لا لأجل التماس ذلك الثواب، تقييد العمل بالإتيان به برجاء ذلك الثواب ليس دخيلاً في الاحتياط الذي يكون الغرض منه هو الحفاظ على الملاكات الواقعية؛ لأنّ الحفاظ على الملاكات الواقعية يتحققّ بالإتيان بالعمل الذي بلغه عليه ثواب، فإذا جاء به فقد أدرك الملاكات الواقعية. أمّا أنْ نقيّد ذلك بالتماس الثواب، فهذا لا يتناسب مع الاحتمال الخامس الذي هو عبارة عن الاحتياط كما هو الحال في الاحتياط في الأحكام الإلزامية، الاحتياط في الشبهات التحريمية لا يقيّد بأنْ يترك الفعل لاحتمال الحرمة، وإنّما هو إذا ترك الفعل في الشبهات التحريمية، فقد تحقق الغرض من الاحتياط وهو اجتناب المفاسد الواقعية، ونفس الكلام أيضاً يقال في الشبهات الوجوبية، الاحتياط المجعول في الشبهات الوجوبية، إذا فسّرناه بأنّ الغرض منه هو الحفاظ على المصالح الواقعية بالواجبات الواقعية، فيأمر بالاحتياط في كل شبهة وجوبية، يتحققّ الغرض بلا حاجة إلى التقييد بأنْ يأتي بالفعل لاحتمال وجوبه، وأنْ يأتي بالفعل التماس ذلك الوجوب المحتمل، لا يتوقّف على ذلك، بينما الروايات تصرّح بذلك، يعني تقول بأنّ ترتّب الثواب وتحققّ الغرض يتوقّف على الإتيان بالعمل الذي بلغه عليه الثواب التماس ذلك الثواب، أو رجاء أنْ يكون الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قاله، وأمثال هذه التعبيرات. هذا أيضاً لا ينسجم مع الاحتمال الخامس.
أورد على الاحتمال الأوّل الذي هو الإرشاد، يعني حمل الروايات على أنّها في مقام الإرشاد إلى حكم العقل بحُسن الانقياد، أورد عليه بأنّه خلاف ظاهر الخطاب الصادر من المولى في أنّه صادر منه بما هو مولى لا بما هو عاقل. الظهور الأوّلي للخطاب الصادر من المولى هو أنّه صادر منه بما هو مولى، أمّا أنْ نحمل هذا الخطاب على أنّه صادر منه بما هو عاقل، فهذا خلاف الظهور الأوّلي للخطاب الصادر منه، من دون فرق بين أنْ يكون هذا الخطاب بلسان الطلب، أو الترغيب في الفعل، أو أنْ يكون بلسان الوعد على الثواب، كلٌ منهما مولوي، فالظهور الأوّلي يقتضي أنْ يكون المولى طلب الفعل بما هو مولى، ووعد بالثواب أيضاً بما هو مولى، هذا ما يقتضيه الظهور الأوّلي للخطاب، فحمله على الإرشاد يكون خلاف الظاهر.
هذا المطلب وإن كان صحيحاً، فالظهور الأوّلي للخطاب هو أنّه صادر من المولى بما هو مولى، لكن قد تكون هناك قرينة يمكن إبرازها في نفس هذه الروايات تقتضي أنّ الخطاب الصادر من المولى لم يصدر منه بما هو مولى، وإنّما صدر منه بما هو عاقل. قالوا: أنّ التماس ذلك الثواب هو الانقياد الذي يحكم العقل بحُسنه، هذه هي القرينة، أنْ يأتي بالفعل لاحتمال أنّ الشارع يريده، هذا معنى رجاء ذلك الثواب، أو رجاء الاستحباب، أو التماس أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قاله، هذا انقياد للمولى(سبحانه وتعالى)، هذا الانقياد الذي يُفترض في هذه الرواية بقرينة التماس ذلك الثواب، أو رجاء ذلك الثواب، وأمثال هذه التعبيرات، هذا ممّا يحكم العقل بحُسنه بقطع النظر عن الشارع، فالعقل يستقل بحُسن الانقياد للمولى(سبحانه وتعالى)، والروايات هي إرشاد إلى ذلك وليس أكثر من هذا، وليس فيها إعمال مولوية، بقرينة أنّها واردة في مورد يحكم العقل بحُسنه، وهذا يكون قرينة على أنّ الخطاب الصادر من المولى لم يصدر منه بما هو مولى، وأنّ المولى هنا لم يعمل مولوية، وإنّما حكم وأرشد إلى ما يحكم به العقل من الحسن وليس أكثر من هذا.
أقول: يمكن جعل هذه قرينة على صرف الخطاب المولوي عن ظهوره الأوّلي كما قالوا، ولا يحتاج إلى تأمّل في هذه القرينة. الشيء الآخر هو أنّ استبعاد هذا الاحتمال لمجرّد أنّ الظهور الأوّلي للخطاب المولوي هو أنّه صادر منه بما هو مولى لا بما هو مرشد وعاقل، استبعاد الاحتمال الأوّل لمجرّد ذلك هذا فيه نوع من الاستعجال؛ لأننّا لابدّ أنْ نلحظ سائر الاحتمالات الثبوتية المحتملة في تفسير هذه الأخبار، فإنْ أمكن إثبات واحدٍ منها بدليل وقرائن؛ فحينئذٍ نلتزم به ونقول أنّ الاحتمال الأوّل خلاف الظهور الأوّلي، فلا نستطيع أنْ نلتزم به ــــــ فرضاً ــــــ لعدم وجود قرينة عليه، فلا يمكن الالتزام به، فنلتزم بما دلّ الدليل عليه من سائر الاحتمالات الأخرى. أمّا إذا فرضنا فرضاً أننّا لم نصل إلى نتيجة في الاحتمالات الأخرى، بحيث لا يمكن إثبات الاحتمال الثاني، ولا الاحتمال الثالث، ولا الرابع ولا الخامس، كل هذه الاحتمالات لا يمكن إثباتها بدليل وبقرائن واضحة؛ حينئذٍ تكون الأخبار مجملة من هذه الناحية، أي أنّها تصاب بالإجمال، والإجمال يعطي نفس النتيجة التي يعطيها الاحتمال الأوّل؛ لأنّ الاحتمال الأوّل يقول: ليس هناك حكم مولوي في هذا المورد، فلا نستطيع أنْ نستفيد حكماً مولوياً، وإنّما هناك فقط حكم عقلي، وما صدر من الشارع هو مجرّد إرشاد إلى الحكم العقلي، ليس هناك حكم مولوي صادر من المولى بما هو مولى، فإذا وصلنا إلى الإجمال في الأخبار، فأنّه يؤدي إلى هذه النتيجة أيضاً، يعني ليس هناك حكم مولوي، في موارد بلوغ الاستحباب لا يوجد حكم مولوي، فنبقى نحن والحكم العقلي بحسن الانقياد؛ لأننّا لا نستطيع أنْ نستفيد حكماً مولوياً صادراً من المولى بما هو مولى من هذه الأخبار لكونها مجملة ـــــ مثلاً ـــــ فاستبعاد هذا الاحتمال لمجرّد أنّه خلاف الظهور الأوّلي للخطاب الصادر من المولى، كأنّه لا يخلو من شيء.
نعم، الشيء الذي ذُكر، ونوقش به الاحتمال الأوّل هو مسألة أنّه يخالف ظاهر الأخبار من جهة أنّ الأخبار تكاد تكون صريحة في إعطاء نفس الثواب الذي بلغه، بهذا المضمون(كان له ذلك الثواب)، يعني هذا الثواب الذي بلغه من حيث الكم، ومن حيث الكيف، ومن حيث النوع، هذا يُعطى له، هنا لا نستطيع أنْ نقول أنّ هذا حكم إرشادي من قبل الشارع؛ لأنّ العقل لا يستقل بتحديد كمية الثواب، أو نوعيته، العقل إنّما يستقل باستحقاق الثواب، أمّا كميّة الثواب ونوعيته، ويستقل بأنّه يستحق ذلك الثواب الذي بلغه، وطبعاً هو يختلف باختلاف الأخبار واختلاف الموارد، فهذا ممّا لا يستقل العقل بإدراكه، ومن هنا يكون ما يدركه العقل يختلف عن ما يُستفاد من الأخبار، الأخبار فيها إعطاء ذلك الثواب بكمّه ونوعه، إعطاء نفس ذلك الثواب، وهذا لا يمكن تفسيره إلاّ على اساس إعمال مولوية، يعني أنّ الشارع أعمل مولويته، فقال أنّ الثواب الذي بلغك أنا أعطيه لك، هنا لا يمكن أنْ يكون مرشداً، لا يمكن أنْ يكون هذا صادراً منه بما هو مرشد، وإنّما هو صادر منه بما هو مولى.
إذن: الاحتمال الأوّل يقول نحمل الأخبار على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل، وإنْ كان صحيحاً بالنسبة إلى حكم العقل بأصل استحقاق الثواب، لكن بلحاظ أنّ الروايات لا تحكم بأنّ له ثواب، فلو قالت الروايات(له ثواب) حينئذٍ يكون هناك تطابق بين ما في الروايات وما في الحكم العقلي، لكنّها لا تقول ذلك، وإنّما تحددّ الكم والنوع كما يُفهم من الأخبار، وهذا ممّا لا يدركه العقل، فلا معنى لحمل الأخبار على الإرشاد.
ومن هنا قد يقال: نحن نختار احتمالاً جديداً غير ما تقدّم، وهذا الاحتمال ملفّق من الاحتمال الأوّل والاحتمال الرابع الذي هو الوعد المولوي بإعطاء الثواب، يعني نلتزم بإعمال المولوية بمقدار تحديد كميّة الثواب ونوعية الثواب المعطى، هنا نلتزم بالمولوية، وأمّا في الباقي، فنلتزم بأنّ ما صدر من الشارع إنّما هو إرشاد إلى حكم العقل.
كان الكلام في الاحتمال الثالث في تفسير أخبار(من بلغ) ويبدو أنّه تامّ،ولكنّه مبني على مسلك الطريقية، مبني على مسلك تفسير الحجّية بإلغاء احتمال الخلاف والطريقية؛ حينئذٍ الحجية لا يناسبها هذا اللّسان الموجود في هذه الأخبار، لسان إبداء احتمال المخالفة للواقع، ومن هنا لا يمكن أنْ نفسّر الأخبار بأنّ المقصود بها هو حجّية الخبر الضعيف في باب المستحبات. أمّا إذا اخترنا مسلكاً آخراً في الحجّية، لا ينافيه هذا اللّسان، هذا اللّسان لا يكون منافياً لتفسير الحجّية بالمنجّزية والمعذّرية، أو تفسيرها بجعل الحكم المماثل وأمثاله.
لكن قد يقال: يمكن الخدشة في هذا الاحتمال باعتبار أنّه ينافي ظاهر بعض الأخبار وهي الأخبار التي تقيّد العمل بما إذا جاء به رجاء ذلك الثواب، أو رجاء أنْ يكون كما قاله الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، برجاء أنْ يكون مطابقاً للواقع. لا يبعد أنّ هذه قرينة على عدم حدوث هذا الاحتمال؛ لأنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع الإتيان بالعمل رجاءً، والتماس ذلك الثواب، هذا موجود في بعض أخبار الباب، هذا إنّما يكون عندما لا يكون الشيء ثابتاً، وإنّما هو احتمال صرف، مجرّد احتمال؛ فحينئذٍ يقال: يؤتى به برجاء ذلك الشيء الغير الثابت، هو قال: من جاء بالعمل اعتماداً على الخبر الضعيف برجاء أنْ يكون الثواب ثابتاً يكون له ذلك الثواب؛ لأنّ الخبر الضعيف حجّة، واستفيدت حجّيته من هذه الأخبار، هذا لا يناسب إلاّ ما إذا كان الشيء غير ثابت، لا ثبوتاً وجدانياً، ولا ثبوتاً تعبّدياً، وإنّما هو احتمال صرف، الإتيان بالعمل رجاءً يناسب ذلك، أمّا إذا فرضنا أنّ الشيء كان ثابتاً وجداناً، أو كان الشيء ثابتاً ثبوتاً تعبّدياً. أمّا إذا فرضنا الحجّية، وأنّ مفاد الأخبار هو جعل الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب، تقييد العمل وترتّب الثواب عليه بما إذا جاء به رجاء ذلك الثواب، هذا لا يناسب جعل الحجّية؛ لأنّه إذا قامت الحجّة على الثواب وعلى الاستحباب، فلا معنى لأنّ يأتي به برجاء ذلك الثواب، كيف ؟ والثواب ثابت ــــــ بحسب الفرض ــــــ الثواب والاستحباب ثابت بالحجّة والدليل المعتبر، فيأتي به لاستحبابه وليس برجاء الاستحباب والثواب، هذا لا يناسب الحجّية، وإنّما يقال: المناسب في هكذا حالة أنْ يقال أنّ من بلغه ثواب على عمل، فعمله، كان له مثل ذلك الثواب، ولا داعي لتقييد العمل بالرجاء، فأنّ تقييد العمل بالرجاء لا يناسب الحجّية، وإنّما يناسب عدم الثبوت، وأنّه ليس هناك إلاّ الاحتمال الصرف كما هو الحال في موارد الإتيان بالعمل رجاءً، أو لاحتمال المطلوبية، أو رجاء أنْ يكون الثواب ثابتٍ، هذا لا معنى له عندما يكون ذلك الشيء ثابتاً ثبوتاً وجدانياً، أو ثبوتاً تعبّدياً، هذا لا ينسجم. هذا يمكن جعله قرينة على نفي ذلك الاحتمال، وهذا لا يُفرّق فيه بين المسالك في جعل الحجّية، لا علاقة له بلسان جعل الحجّية من الطريقية، أو المنجّزية، أو أيّ شيء آخر، ليس له علاقة بذلك، وإنّما يقول أنّ هذه الروايات، والمقصود بها الروايات التي تقيّد العمل الذي يُعطى عليه الثواب بما إذا جاء به رجاءً، التماس ذلك الثواب، هذه الروايات لا تناسب الاحتمال الثالث، ومن هنا يمكن أن يقال بأنّ الاحتمال الثالث خلاف ظاهر بعض أخبار الباب في المقام. هذا فيما يخص الاحتمال الثالث، وسنرجع إليه بعد ذلك.
قد يقال: أنّ نفس هذا الكلام الذي جرى في الاحتمال الثالث يجري أيضاً في الاحتمال الخامس المتقدّم، والذي هو أنْ يكون مفاد الأخبار هو الاحتياط لإدراك المستحبّات الواقعية، فالشارع يطلب من المكلّف أنْ يأتي بكل عملٍ بلغه عليه الثواب، لا لأنّ الخبر الضعيف حجّة كما في الثالث، وإنّما لأجل الاحتياط وإدراك الملاكات الاستحبابية الواقعية، فأنّ طريقة إدراك الملاكات الواقعية للمستحبّات يكون بجعل هذا الاحتياط، بأنْ يقال له: كلّما بلغك استحباب شيءٍ أعمله، وبذلك يدرك المكلّف الملاكات الواقعية للمستحبات الواقعية، فهو مجرّد احتياط لا يتضمّن جعل حجّية للخبر الضعيف، وإنّما الغرض منه هو الحفاظ على الملاكات الواقعية للمستحبّات الواقعية عندما يكون الشارع مهتمّاً بها، فعندما يكون هناك اهتمام من قِبل الشارع بهذه الملاكات الواقعية، ولأجل أنْ لا تضيع هذه الملاكات يأمر بالاحتياط بهذا النحو، يعني إذا بلغك ثواب واستحباب فعل، أعمله، وبذلك يصل الشارع إلى غرضه وهو الحفاظ على الملاكات الواقعية للمستحبّات الواقعية. هذا الاحتمال الخامس.
قد يقال: بأنّ نفس الكلام السابق يأتي في الاحتمال الخامس باعتبار أنّ الاحتمال الخامس يشترك مع الاحتمال الثالث في أنّ كلاً منهما حكم مولوي طريقي من أجل التحفّظ على الملاكات الواقعية، كل منهما يشترك في هذا الجانب، جعل الحجّية للخبر الضعيف أيضاً هو حكم مولوي طريقي الغرض منه الحفاظ على الواقع، والوصول إلى الواقع، ويكون الغرض من الاحتياط في محل الكلام هو إدراك الملاكات الواقعية الأهم بنظر المولى؛ وحينئذٍ، عندما يهتم بالملاكات الواقعية، إمّا أنْ يجعل الخبر الضعيف الدال على استحباب شيءٍ حجّة لكي يصل إلى الواقع، أو يجعل الاحتياط بهذا المعنى الذي ذكرناه. إذن: في الاحتمال الخامس جعل الاحتياط في مورد بلوغ الاستحباب إنّما هو لغرض امتثال المستحبّات الواقعية، وإدراك ملاكاتها؛ وحينئذٍ يأتي نفس الإشكال السابق، فيقال: بأنّ هذا لا يناسب لسان الأخبار التي تصرّح بإبداء احتمال الخلاف كما هو الحال في الاحتمال الثالث، يعني أنّ غرض كلٍ منهما هو إدراك الواقع والحصول على الملاكات الواقعية، فكما أنّ لسان الأخبار التي تصرّح بإبداء احتمال الخلاف لا يناسب جعل الحجّية أيضاً لا يناسب جعل الاحتياط؛ لأنّ كلاً منهما حكم طريقي غرضه الوصول إلى الواقع، فلا يكون مناسباً له أيضاً.
لكن الظاهر أنّ الأمر ليس هكذا، فهناك فرق بين الاحتمال الثالث وبين الاحتمال الخامس؛ لأنّ عدم مناسبة لسان الأخبار في الاحتمال الثالث إنّما هي باعتبار أنّ الحجّية المفروضة في الاحتمال الثالث تعني إحراز الواقع، تعني جعل الشيء طريقاً للواقع وإلغاء احتمال الخلاف وتتميم الكشف، وهذا المعنى ليس موجوداً في الاحتمال الخامس، هذا المعنى الذي على أساسه وردت المناقشة السابقة على الاحتمال الثالث، ليس موجوداً في الاحتمال الخامس، ففي الاحتمال الخامس لا يوجد جعل شيءٍ طريقاً إلى الواقع، إنّما الاحتمال الخامس هو مجرّد احتياط من قِبل المولى للتحفّظ على الملاكات الواقعية التي يهتم بها، لكنّه لم يجعل شيئاً كاشفاً عن الواقع، ولم يجعل شيئاً محرزاً للواقع حتّى يقال لا معنى لأنْ يقول هذا يحرز الواقع وإنْ لم يُصب الواقع، هذا يُحرز الواقع ويبدي احتمال مخالفته للواقع، هذا لا يناسبه، هذا الشيء ليس موجوداً في الاحتمال الخامس، الاحتمال الخامس احتياط، بمعنى أنّ الشارع لكي يتحفّظ على الملاكات الواقعية المهمّة في نظره يأمر المكلّف بأنْ يأتي بكل عمل بلغه عليه الثواب، أو بلغه استحبابه من دون أنْ يكون هناك كاشف عن الواقع محرز للواقع، ومن دون جعل شيءٍ طريقاً ومحرزاً للواقع حتّى يقال بأنّ هذا لا يتناسب مع التصريح بإبداء احتمال الخلاف، الأمر ليس هكذا في الاحتمال الخامس، الاحتمال الخامس هو عبارة عن طريقة يتحفّظ بها المولى على إدراك الملاكات الواقعية، فالاحتمال الخامس إنْ لم نقل أنّه يناسب التصريح بإبداء احتمال الخلاف، فأنّه لا ينافيه؛ لأنّه يقول أنا أجعل لك الاحتياط وآمرك بأنْ تأتي بكل عمل بلغك عليه الثواب وإنْ لم يكن مطابقاً للواقع، وبهذا يتحفّظ المولى على الملاكات الواقعية. لو كان الاحتياط والإتيان بالعمل يقتصر على خصوص ما يكون مطابقاً للواقع، لما وصل إلى مقصوده وإلى غرضه، وإنّما يصل إلى مقصوده عندما يوسّع من دائرة الاحتياط، فيجعل الاحتياط في موارد العلم، وفي موارد الاحتمال، وفي موارد الشكّ، وفي موارد الظنّ، حتّى يصل إلى مطلوبه وهو الوصول إلى الملاكات الواقعية، إنْ لم نقل أنّ هذا الاحتمال الخامس يناسب التصريح بإبداء احتمال الخلاف، وإن كنت تحتمل المخالفة، أنا أجعل لك الاحتياط ؛ لأنّ غرضي هو الحفاظ على الملاكات الواقعية، والحفاظ على الملاكات الواقعية لا يكون إلاّ بجعل الاحتياط، وإنْ كنت شاكّاً في الإصابة، أو كنت تحتمل الإصابة، فإذا لم نقل أنّ هذا مناسب، فهو لا ينافيه بشكل واضح، ويناسبه، ولا نستطيع أنْ نقول أنّ إبداء احتمال الخلاف الذي هو مضمون الأخبار لا يناسب الاحتمال الخامس كما كان يقال في الاحتمال الثالث، فعدم المناسبة في الاحتمال الثالث واضحة، بينما عدم المناسبة في الاحتمال الخامس ليست هكذا.
نعم، يمكن أنْ يُناقش في الاحتمال الخامس ويُستبعد هذا الاحتمال بأنْ يقال:
أوّلاً: لا يوجد في أخبار الباب ما يمكن اعتباره قرينة على الاحتمال الخامس، فيكون احتمالاً ثبوتياً صرفاً، والظهور الأوّلي للأخبار ليس هذا الاحتمال، الظهور الأوّلي للأخبار هو الاحتمال الأوّل الذي كان هو الإرشاد إلى حكم العقل بحُسن الاحتياط، أو الاحتمال الرابع الذي كان هو مجرّد الوعد الإلهي، وأنّ المصلحة هي في نفس الوعد(من بلغه ثواب على عمل، فعمله، أنا أعطيه هذا الثواب) بلا جعل استحباب، ولا حجّية للخبر الضعيف؛ لأنّ هذا هو المناسب لشأن المولى(سبحانه وتعالى)كما نقلنا عن السيد الخوئي(قدّس سرّه)، أنّه إذا أُسند إليه ثواب، فأنّه يعطيه ولو لم يكن ذلك الثواب ثابتاً، وهذا هو المناسب لشأنه وعظمته، فالظهور الأوّلي ليس هو الاحتمال الخامس، وإنّما هو الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الرابع، أو مُلفّق بينهما.
ثانياً: نرجع إلى ما هو موجود في بعض هذه الأخبار من تقييد العمل بأنْ يؤتى به برجاء ذلك الثواب، والتماس ذلك الثواب كما هو موجود في بعض الأخبار. هذا التقييد أيضاً لا يناسب الاحتمال الخامس، كما كان لا يناسب الاحتمال الأوّل، أو الاحتمال الثالث حيث قلنا أنّه لا يناسب الحجّية، ترتّب الثواب على الإتيان بالعمل برجاء ثبوت الثواب، هذا لا يناسب الحجّية، الحجّية تعني الثبوت، ولا معنى حينئذٍ لأنْ يقال بأنّ ترتّب الثواب يتوقّف على أنْ يأتي به برجاء ذلك الثواب، هذا يناسب عدم الثبوت، كما قلنا ذلك، هنا أيضاً نقول في الاحتمال الخامس بأنّ تقييد العمل بالإتيان به رجاءً، هذا أيضاً لا يناسب الاحتمال الخامس، حيث لا علاقة للاحتياط بالإتيان بالعمل برجاء ذلك الثواب، الاحتياط والغرض منه وهو إدراك المصالح الواقعية والملاكات الواقعية المهمّة لا يتوقّف على الإتيان بالعمل برجاء ذلك الثواب إطلاقاً، إذا قال له(إذا بلغك ثواب على عمل، فعملته، كان لك ذلك الثواب) والغرض من هذا نفسّره بالاحتياط، لغرض إدراك المستحبّات الواقعية، وبهذا يدرك المستحبّات الواقعية، إذا ابتلى المكلّف بذلك وجاء بما يعلم أنّه مستحب، وما يحتمل أنّه مستحب، وما بلغه أنّه مستحب، بذلك يدرك المستحبّات الواقعية، سواء جاء به لأجل التماس ذلك الثواب، أو جاء به لا لأجل التماس ذلك الثواب، تقييد العمل بالإتيان به برجاء ذلك الثواب ليس دخيلاً في الاحتياط الذي يكون الغرض منه هو الحفاظ على الملاكات الواقعية؛ لأنّ الحفاظ على الملاكات الواقعية يتحققّ بالإتيان بالعمل الذي بلغه عليه ثواب، فإذا جاء به فقد أدرك الملاكات الواقعية. أمّا أنْ نقيّد ذلك بالتماس الثواب، فهذا لا يتناسب مع الاحتمال الخامس الذي هو عبارة عن الاحتياط كما هو الحال في الاحتياط في الأحكام الإلزامية، الاحتياط في الشبهات التحريمية لا يقيّد بأنْ يترك الفعل لاحتمال الحرمة، وإنّما هو إذا ترك الفعل في الشبهات التحريمية، فقد تحقق الغرض من الاحتياط وهو اجتناب المفاسد الواقعية، ونفس الكلام أيضاً يقال في الشبهات الوجوبية، الاحتياط المجعول في الشبهات الوجوبية، إذا فسّرناه بأنّ الغرض منه هو الحفاظ على المصالح الواقعية بالواجبات الواقعية، فيأمر بالاحتياط في كل شبهة وجوبية، يتحققّ الغرض بلا حاجة إلى التقييد بأنْ يأتي بالفعل لاحتمال وجوبه، وأنْ يأتي بالفعل التماس ذلك الوجوب المحتمل، لا يتوقّف على ذلك، بينما الروايات تصرّح بذلك، يعني تقول بأنّ ترتّب الثواب وتحققّ الغرض يتوقّف على الإتيان بالعمل الذي بلغه عليه الثواب التماس ذلك الثواب، أو رجاء أنْ يكون الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قاله، وأمثال هذه التعبيرات. هذا أيضاً لا ينسجم مع الاحتمال الخامس.
أورد على الاحتمال الأوّل الذي هو الإرشاد، يعني حمل الروايات على أنّها في مقام الإرشاد إلى حكم العقل بحُسن الانقياد، أورد عليه بأنّه خلاف ظاهر الخطاب الصادر من المولى في أنّه صادر منه بما هو مولى لا بما هو عاقل. الظهور الأوّلي للخطاب الصادر من المولى هو أنّه صادر منه بما هو مولى، أمّا أنْ نحمل هذا الخطاب على أنّه صادر منه بما هو عاقل، فهذا خلاف الظهور الأوّلي للخطاب الصادر منه، من دون فرق بين أنْ يكون هذا الخطاب بلسان الطلب، أو الترغيب في الفعل، أو أنْ يكون بلسان الوعد على الثواب، كلٌ منهما مولوي، فالظهور الأوّلي يقتضي أنْ يكون المولى طلب الفعل بما هو مولى، ووعد بالثواب أيضاً بما هو مولى، هذا ما يقتضيه الظهور الأوّلي للخطاب، فحمله على الإرشاد يكون خلاف الظاهر.
هذا المطلب وإن كان صحيحاً، فالظهور الأوّلي للخطاب هو أنّه صادر من المولى بما هو مولى، لكن قد تكون هناك قرينة يمكن إبرازها في نفس هذه الروايات تقتضي أنّ الخطاب الصادر من المولى لم يصدر منه بما هو مولى، وإنّما صدر منه بما هو عاقل. قالوا: أنّ التماس ذلك الثواب هو الانقياد الذي يحكم العقل بحُسنه، هذه هي القرينة، أنْ يأتي بالفعل لاحتمال أنّ الشارع يريده، هذا معنى رجاء ذلك الثواب، أو رجاء الاستحباب، أو التماس أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قاله، هذا انقياد للمولى(سبحانه وتعالى)، هذا الانقياد الذي يُفترض في هذه الرواية بقرينة التماس ذلك الثواب، أو رجاء ذلك الثواب، وأمثال هذه التعبيرات، هذا ممّا يحكم العقل بحُسنه بقطع النظر عن الشارع، فالعقل يستقل بحُسن الانقياد للمولى(سبحانه وتعالى)، والروايات هي إرشاد إلى ذلك وليس أكثر من هذا، وليس فيها إعمال مولوية، بقرينة أنّها واردة في مورد يحكم العقل بحُسنه، وهذا يكون قرينة على أنّ الخطاب الصادر من المولى لم يصدر منه بما هو مولى، وأنّ المولى هنا لم يعمل مولوية، وإنّما حكم وأرشد إلى ما يحكم به العقل من الحسن وليس أكثر من هذا.
أقول: يمكن جعل هذه قرينة على صرف الخطاب المولوي عن ظهوره الأوّلي كما قالوا، ولا يحتاج إلى تأمّل في هذه القرينة. الشيء الآخر هو أنّ استبعاد هذا الاحتمال لمجرّد أنّ الظهور الأوّلي للخطاب المولوي هو أنّه صادر منه بما هو مولى لا بما هو مرشد وعاقل، استبعاد الاحتمال الأوّل لمجرّد ذلك هذا فيه نوع من الاستعجال؛ لأننّا لابدّ أنْ نلحظ سائر الاحتمالات الثبوتية المحتملة في تفسير هذه الأخبار، فإنْ أمكن إثبات واحدٍ منها بدليل وقرائن؛ فحينئذٍ نلتزم به ونقول أنّ الاحتمال الأوّل خلاف الظهور الأوّلي، فلا نستطيع أنْ نلتزم به ــــــ فرضاً ــــــ لعدم وجود قرينة عليه، فلا يمكن الالتزام به، فنلتزم بما دلّ الدليل عليه من سائر الاحتمالات الأخرى. أمّا إذا فرضنا فرضاً أننّا لم نصل إلى نتيجة في الاحتمالات الأخرى، بحيث لا يمكن إثبات الاحتمال الثاني، ولا الاحتمال الثالث، ولا الرابع ولا الخامس، كل هذه الاحتمالات لا يمكن إثباتها بدليل وبقرائن واضحة؛ حينئذٍ تكون الأخبار مجملة من هذه الناحية، أي أنّها تصاب بالإجمال، والإجمال يعطي نفس النتيجة التي يعطيها الاحتمال الأوّل؛ لأنّ الاحتمال الأوّل يقول: ليس هناك حكم مولوي في هذا المورد، فلا نستطيع أنْ نستفيد حكماً مولوياً، وإنّما هناك فقط حكم عقلي، وما صدر من الشارع هو مجرّد إرشاد إلى الحكم العقلي، ليس هناك حكم مولوي صادر من المولى بما هو مولى، فإذا وصلنا إلى الإجمال في الأخبار، فأنّه يؤدي إلى هذه النتيجة أيضاً، يعني ليس هناك حكم مولوي، في موارد بلوغ الاستحباب لا يوجد حكم مولوي، فنبقى نحن والحكم العقلي بحسن الانقياد؛ لأننّا لا نستطيع أنْ نستفيد حكماً مولوياً صادراً من المولى بما هو مولى من هذه الأخبار لكونها مجملة ـــــ مثلاً ـــــ فاستبعاد هذا الاحتمال لمجرّد أنّه خلاف الظهور الأوّلي للخطاب الصادر من المولى، كأنّه لا يخلو من شيء.
نعم، الشيء الذي ذُكر، ونوقش به الاحتمال الأوّل هو مسألة أنّه يخالف ظاهر الأخبار من جهة أنّ الأخبار تكاد تكون صريحة في إعطاء نفس الثواب الذي بلغه، بهذا المضمون(كان له ذلك الثواب)، يعني هذا الثواب الذي بلغه من حيث الكم، ومن حيث الكيف، ومن حيث النوع، هذا يُعطى له، هنا لا نستطيع أنْ نقول أنّ هذا حكم إرشادي من قبل الشارع؛ لأنّ العقل لا يستقل بتحديد كمية الثواب، أو نوعيته، العقل إنّما يستقل باستحقاق الثواب، أمّا كميّة الثواب ونوعيته، ويستقل بأنّه يستحق ذلك الثواب الذي بلغه، وطبعاً هو يختلف باختلاف الأخبار واختلاف الموارد، فهذا ممّا لا يستقل العقل بإدراكه، ومن هنا يكون ما يدركه العقل يختلف عن ما يُستفاد من الأخبار، الأخبار فيها إعطاء ذلك الثواب بكمّه ونوعه، إعطاء نفس ذلك الثواب، وهذا لا يمكن تفسيره إلاّ على اساس إعمال مولوية، يعني أنّ الشارع أعمل مولويته، فقال أنّ الثواب الذي بلغك أنا أعطيه لك، هنا لا يمكن أنْ يكون مرشداً، لا يمكن أنْ يكون هذا صادراً منه بما هو مرشد، وإنّما هو صادر منه بما هو مولى.
إذن: الاحتمال الأوّل يقول نحمل الأخبار على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل، وإنْ كان صحيحاً بالنسبة إلى حكم العقل بأصل استحقاق الثواب، لكن بلحاظ أنّ الروايات لا تحكم بأنّ له ثواب، فلو قالت الروايات(له ثواب) حينئذٍ يكون هناك تطابق بين ما في الروايات وما في الحكم العقلي، لكنّها لا تقول ذلك، وإنّما تحددّ الكم والنوع كما يُفهم من الأخبار، وهذا ممّا لا يدركه العقل، فلا معنى لحمل الأخبار على الإرشاد.
ومن هنا قد يقال: نحن نختار احتمالاً جديداً غير ما تقدّم، وهذا الاحتمال ملفّق من الاحتمال الأوّل والاحتمال الرابع الذي هو الوعد المولوي بإعطاء الثواب، يعني نلتزم بإعمال المولوية بمقدار تحديد كميّة الثواب ونوعية الثواب المعطى، هنا نلتزم بالمولوية، وأمّا في الباقي، فنلتزم بأنّ ما صدر من الشارع إنّما هو إرشاد إلى حكم العقل.